إسلام ويب

وصية عمرو بن العاصللشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • آخر لحظة في الدنيا هي أصعب اللحظات، والموفق من ثبته الله فيها، فأحسن الظن بربه، ونطق شهادة التوحيد، ويمثل عمرو بن العاص رضي الله عنه مثالاً لذلك، ففي آخر لحظاته يلخص مراحل حياته من كفر وبغض للدين والرسول إلى حب وإعظام وإكبار للدين والرسول، ثم فتوحات وولايات في ميزان الحسنات، ثم هو على فراش الموت يرجو رحمة الله تعالى، ويوصي بألا يتبع بنار ولا نائحة، وأن يقفوا على قبره مقدار ما تنحر الجزور ليدعوا له بالثبات، وينظر ما يراجع به رسل ربه عز وجل ويستأنس بهم.

    1.   

    وصية عمرو بن العاص عند احتضاره وما فيها من العبر والعظات والمسائل والأحكام

    إن الحمد لله تعالى؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71] أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أخرج مسلم في صحيحه من طريق عبد الرحمن بن شماس المهري رحمه الله أنه قال: (دخلنا على عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت، فبكى حتى علا نحيبه، ثم استدار ناحية الجدار، فقال له ابنه عبد الله: يا أبت! ألم يبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ ألم يبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ فقال: يا بني! إن أفضل ما نعد: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإني لعلى أطباق ثلاثة، ولقد رأيتني وما أحد أبغض إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحب إلي أني استمكنت منه فقتلته، ولو أني مت على تلك الحال لدخلت النار، فلما شرح الله تعالى صدري للإسلام أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه فقبضت يدي، قال: مالك يا عمرو ؟ قلت: يا رسول الله! أشترط، قال: تشترط بماذا؟ قال: قلت: أشترط أن يغفر لي. قال: يا عمرو ! أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ أما علمت أن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ أما علمت أن الحج يهدم ما كان قبله؟ ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي من كل شيء، وما كنت أطيق النظر إلى وجهه، ولو أني سئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني من النظر إليه صلى الله عليه وسلم، ولو مت على تلك الحال لرجوت الله أن يدخلني الجنة، قال: ثم ولينا من هذا الأمر، ولا ندري ما الله صانع بنا فيها، فإذا أنا مت فلا تتبعني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب شناً، وامكثوا عند قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها كي أستأنس بكم، وأراجع رسل ربي).

    هذا حديث عظيم القدر، جليل الشأن، اشتمل على عدة مسائل في العقيدة والأحكام، حديث صاحبه إمام من أئمة المسلمين في زمن النبوة، إنه عمرو بن العاص ، صاحب مصر وواليها وفاتحها في العام الحادي والعشرين، وكان يلقب في الجاهلية بداهية العرب، كان سيداً ذكياً مطاعاً مجاهداً شجاعاً، أتى إلى مصر وفتحها سلماً أو حرباً، حتى يأتي كل مصري بعد ذلك إلى يوم القيامة في صحيفة حسنات هذا البطل المجاهد، صاحب واحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام يدخل بسببه ملايين الناس إلى الجنة، وهكذا كان دأبهم رضي الله تعالى عنهم، فقد باعوا أنفسهم وأموالهم بجنة عرضها السماوات والأرض.

    هذا البطل لما دخل عليه قومه وأصحابه وهو في لحظة الاحتضار، وفي آخر ساعات حياته قام يبكي؛ لأنه يعلم أنه قادم على الله عز وجل، وراحل عن هذه الدار التي لابد لكل حي أن يرحل عنها.

    لما رأى منه ذلك ولده عبد الله ذلك الابن البار والعالم النحرير، فقد كان عالماً عابداً ولا يزال طفلاً صغيراً في الثانية عشرة من عمره أثار إعجاب النبي عليه الصلاة والسلام، وإعجاب أصحابه بكثرة عبادته، وبحرصه على طلب العلم وكتابته، لما رأى ذلك من أبيه قال: يا أبت! لم تبكِ؟ ألم يبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا؟ ألم يبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا؟

    فقال له: يا بني. انظر إلى الملاطفة والموادعة: الابن يقول لأبيه: يا أبتِ، والرجل يقول لولده: يا بني. ملاطفة وموادعة، ومودة في الخطاب تفتح القلوب، وإنما فعل عبد الله ما قد أوجبه الشرع عليه من تذكير أبيه في هذا الموطن بعمله الصالح، وببشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم له، حتى يقدم الوالد على ربه وقد أحسن الظن به، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه مسلم في صحيحه: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه). وقال الله تعالى: (أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء) أي: إن ظن خيراً فهو خير، وإن ظن شراً في هذا الموطن فهو شر. وفي رواية: (فلا يظن بي إلا خيراً).

    من باب الإرشاد والنصح أن يحسن المرء ظنه بالله عز وجل وهو قادم عليه، ولذلك دخل النبي عليه الصلاة والسلام على رجل في سياقة الموت فقال له: (كيف تجدك يا فلان؟ قال: أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده! لا يجتمعان في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله الذي يرجو، وأمنه الذي يخاف).

    وقال النبي عليه الصلاة والسلام في أكثر من حديث في بيان البشرى وحسن الرجاء في الله عز وجل، قال: (قال الله تعالى: لا أجمع على عبدي أمنين ولا خوفين، من خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة، ومن أمنني - أي: أمن مكر الله - في الدنيا أخفته يوم القيامة).

    الخوف والرجاء لا يجتمعان في قلب عبد وهو قادم على ربه ذاهب عن هذه الحياة إلا وأعطاه الله رجاه، وأمنه مما يخاف، ولذلك ذكره ابنه بما له من أعمال صالحة، وبأن الرجاء ينبغي أن يغلب عليه في هذا الموطن.

    ثم قال له ذلك المجاهد العظيم: يا بني! إن أفضل ما نعد - أي: للقاء الله عز وجل - شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. تلك الكلمة الطيبة الفاصلة بين الإيمان والكفر، الفاصلة بين الجنة والنار إذا عمل صاحبها بمقتضاها، والتزم شروطها وأركانها.

    هذه الكلمة مجردة لا تكاد تنفع صاحبها، ولذلك لما علم العرب بعد بعثة النبي عليه الصلاة والسلام أنهم مطالبون بعد النطق بهذه الكلمة ما قد استوجبته والتزمته، امتنعوا عن قولها، وكثير من المسلمين اليوم يقولها لاعباً أو عابثاً، لا يعمل بمقتضاها، ولا يلتزم أحكامها ولا آدابها، فكيف له أن ينتفع بها؟

    1.   

    المرحلة الأولى من مراحل حياة عمرو بن العاص: مرحلة قبل الإسلام

    قال عمرو: (ولقد رأيتني على أطباق ثلاثة)، أي: على مراحل وحالات ثلاث:

    المرحلة الأولى والطبق الأول: قال: (لقد رأيتني وما أحد أبغض إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: قبل إيمانه وإسلامه، (ولا أحب إلي أني قد استمكنت منه فقتلته، ولو أني مت على تلك الحال لدخلت النار).

    انظر إلى القطع بدخول النار لمن بغض الناس إلى الله، ولمن بغض الناس إلى رسول الله وإلى شرع الله، وانظر إلى حكم من أبغض الله، وأبغض رسول الله، وأبغض شرع الله، وصار يتهكم عليه بالليل والنهار، ويهزأ من أهله، ويسخر بهم، كل ديدنه أنه لا يعجبه الإسلام، وإن تسمى بأسماء المسلمين، فإنه من أهل النار إلا أن يتوب إلى العزيز الغفار، وإلا فكل من استهزأ بدين الله عز وجل وسخر منه ومن أهله وأبنائه، فإنه من أهل النار إلا أن يرجع إلى ربه، ويستغفر الله تعالى مما بدر منه.

    قال: (ولو أني مت على تلك الحال لدخلت النار).

    انظروا إلى الربط بين حاله الذي كان يتمثل في البغض القلبي، وعمل الجوارح؛ لأنه قال: (لقد رأيتني وما أحد أبغض إلي من رسول الله عليه الصلاة والسلام). والبغض: أمر قلبي.

    قال: (ولا أحب إلي أني استمكنت منه فقتلته). هذا عمل من أعمال الجوارح، وهذا الذي يقرر عقيدة أهل الحق: أن الإيمان قول وعمل، قول: باللسان لمن قدر على ذلك، ومن لم يقدر على ذلك فتكفيه الإشارة، أو الكتابة إذا كان يحسنها.

    ثم العمل عمل الجوارح، وعمل القلب من الصدق والإخلاص والمحبة والتوكل والرجاء.. وغير ذلك من أعمال القلب، ولابد للقلب إذا آمن أن تنطلق الجوارح فتعبر بما أوجب الله عز وجل عليها، مما وقر في قلب صاحبها من صلاة وصيام وزكاة وحج.. وسائر الطاعات التي هي من أعمال الجوارح الظاهرة.

    فالإسلام يكمن في القلب، ويظهر على الجوارح، ولذلك جمع بين هذا وذاك عمرو بن العاص ؛ ليقرر ابتداءً في ذلك الزمان عقيدة أهل السنة والجماعة: أن الإيمان قول وعمل، قول باللسان، وعمل بالقلب والجنان، ولا يصلح عمل القلب بدون الأركان، كما أن عمل الأركان لا يصلح قط إلا إذا نطق صاحبها بلسانه بكلمة التوحيد، واستقر ذلك في قلبه، ودون ذلك خرط القتاد لا تنفع صاحبها لا في الدنيا ولا في الآخرة، اللهم إلا من نطق بها نفاقاً، فيثبت له حكم الإسلام ظاهراً وهو عند الله كافر.

    قال: (ولو أني مت على تلك الحال). لم يقل: لظننت أني من أهل النار، أو ربما دخلت النار، وإنما قطع بأنه من أهل النار.

    1.   

    المرحلة الثانية من مراحل حياة عمرو بن العاص: مرحلة بعد الإسلام

    قال: (فلما شرح الله صدري للإسلام أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! ابسط يمينك فلأبايعك). نظام البيعة على الإسلام، أو البيعة للنصح لكل مسلم.. وغير ذلك مما أخذ به النبي صلى الله عليه وسلم البيعة على أصحابه.

    طريق ذلك: أن الواحد منهم كان يأتي إليه صلى الله عليه وسلم ويبايعه يداً بيد، وكفاً بكف، ويذكر ما يبايع عليه، فقال: (يا رسول الله! ابسط يمينك فلأبايعك، فلما بسط النبي عليه الصلاة والسلام يمينه قبض عمرو بن العاص يمينه ولم يضعها في يمينه عليه الصلاة والسلام قال: ما لك يا عمرو! قال: يا رسول الله! أردت أن أشترط - إذا دخلت الإسلام فلي شرط - قال: تشترط بماذا؟ قلت: أشترط أن يغفر لي).

    انظروا إلى ذكاء هذا العاقل، وإلى فطنتنه، يريد أن يطمئن على نفسه قبل أن يدخل الإسلام، هل الإسلام يغفر له ما كان منه من بغض النبي عليه الصلاة والسلام وآله وأصحابه أم لا؟ أما إذا كان لا يغفر ذلك له فما قيمة أن يسلم حينئذ، ولذلك بشره النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (يا عمرو ! أما علمت) أي: من أصحابي ومن عموم الرسالة، ومن رحمة الله تعالى، ومن أجواء المسلمين في المدينة أو في مكة (أن الله يغفر لمن أسلم، أما علمت يا عمرو ! أن الإسلام يهدم ما كان قبله).

    ومعنى: ( يهدم ) يغفر ويمحو ويزيل كل المعاصي والذنوب السابقة على حياة المرء قبل دخول الإسلام، إذا كنت يا عمرو تعتقد أن الإسلام يجب الكفر ويبطل الكفر، فمن باب أولى أن يهدم ما دون ذلك، ولذلك قال له: (أما علمت) -أي: بعد أن استفاض ذلك في الناس- أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ أما علمت أن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ أما علمت أن الحج يهدم ما كان قبله؟)

    فحينئذ قال عمرو بن العاص : فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أحب الناس إلي، وأجلهم في عيني، وما كنت أطيق أن أنظر إليه إجلالاً ومهابة وتعظيماً، ولو أني سئلت أن أصفه ما أطقت ذلك؛ لأني ما كنت أقدر أن أملأ عيني منه عليه الصلاة والسلام.

    أما علمت أن الإسلام الذي هو الإذعان والخضوع والذل والانكسار بين يدي العزيز الجبار يهدم ما كان قبله؟

    أما علمت أن المرء إذا انقاد لله في أمره ونهيه، إذا عمل بالأمر واجتنب النهي أن ذلك يهدم ما كان قبله؟

    أما علمت أن الإسلام هو الصلاة والصيام والزكاة والحج، والشهادة أولاً؟ أما علمت أن الإسلام هو أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله، واليوم الآخر، والبعث والحشر والنشر.. وغير ذلك من سائر أركان وفروع الإيمان بالله؟

    أما علمت أن الإسلام هو هذا يا عمرو بن العاص ، وأن من التزم به دخل الجنة؛ لأنه يغفر له ما قد كان منه آنفاً؟

    هجرة عمرو وبيان أنواع الهجرة في الإسلام وبيان أحكامها

    أما علمت أن الهجرة يا عمرو بن العاص تجب ما كان قبلها، وتهدم ما كان قبلها، وتغفر ما كان قبلها؟

    والهجرة هجرتان: هجرة ظاهرة، وهجرة باطنة، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).

    وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية) أي: لا هجرة من مكة بعد فتحها؛ لأنها صارت دار إسلام وإيمان، فلا هجرة منها إلى قيام الساعة؛ لأنها لا تكون في يوم من الأيام بلد شرك ولا كفر، إشارة إلى أن مكة وساكنيها بلد إيمان وتوحيد وإسلام إلى قيام الساعة، لا يؤثر فيها كفر ولا شرك بالله تعالى، ولذلك قال: لا هجرة منها. فمن زعم الآن أو بعد الآن الهجرة من مكة بما وقع فيها من شرك أو كفر، فهذا غلو في دين الله عز وجل، ونقض للأدلة بالأهواء والآراء، وهيهات هيهات أن يصح له قول، أو يقبل منه زعم، فإن مكة بلد حرام إلى قيام الساعة، كما أن المدينة كذلك حرم ما بين عير إلى ثور، حرم ما بين لابتيها.

    لكن الهجرة الظاهرة باقية ما بقيت الدنيا إلى قيام الساعة من بلاد الكفر والشرك إلى بلاد الإيمان والتوحيد والإسلام.

    الهجرة باقية بقاء الزمن، وبقاء الدهر، فيجب على كل من خشي على دينه في بلد كفر أن يهاجر منها إلى بلاد الإيمان والإسلام، التي يأمن فيها على دينه، ولا يزال قوم يلهجون ويهرفون بما لا يعرفون، يقولون: نهجر بلاد الإسلام والمسلمين إلى بلاد أوروبا وأمريكا؛ لأننا نأمن على ديننا في تلك البلاد! الجواب: هذا قول بالهوى، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (أنا بريء ممن أقام بين ظهراني المشركين ثلاثاً).

    فإذا فتحت باب الهجرة إلى تلك البلاد التي هي بلاد كفر وشرك وعصيان لله عز وجل، فيحرم على أبناء المسلمين أن يدخلوا هذا الباب لطلب الدنيا، وطلب الدولار والدينار والدرهم فيها، فإن هذا لا يحل لهم بحال.

    أما من ذهب إلى تلك البلاد ليدعو الناس، وليكون سبباً لإخراجهم من ظلمات الكفر إلى نور التوحيد والإيمان فحسن، وقد أرسل النبي عليه الصلاة والسلام بعض أصحابه إلى اليمن وإلى الشام.. وغيرهما من البلدان يدعون الناس إلى التوحيد، وترك عبادة الأصنام والأوثان، ومن ذهب للدعوة يشترط ألا يستقر، ولا بأس أن يصحب معه زوجته حتى لا يفتن بالجميلات البيضاوات ذوات الشعور الصفراء، والعيون الزرقاء، فتن عظيمة تعرض عليك هناك بالليل والنهار، فينبغي أن تقضي مصلحتك، ثم تفر بدينك منها، تذكر الناس بين الحين والحين بما أوجب الله تبارك وتعالى عليهم، تدعو الناس إلى الدخول في الإسلام، تدعو المسلمين إلى الالتزام بأحكام شرعهم ودينهم. هذا الذي يجب على الدعاة إلى الله عز وجل.

    أما سائر الناس الذين ذهبوا ليطلبوا الدنيا، فما فيهم من خير قط إلا ما ندر، وإذا ذهبت إلى هناك وجدت أن أصحاب الالتزام أقل واحد منهم قد وقع في كبيرة إلا من رحم الله وقليل ما هم، لم؟ لأنه يحب الدنيا، ويكره الموت، يكره الآخرة ويكره بلاد الإسلام، بلاء عظيم جداً يقع فيه المرء، الهجرة الظاهرة من بلاد الكفر هناك إلى بلاد الإسلام، وبلاد المسلمين، يكفي أنك في بلاد الإسلام تصلي وتصوم، يكفي أنك في بلاد الإسلام تسمع الأذان الذي ربما لا تسمعه في بلاد الكفر أعواماً.

    ولقد التقينا برجل -وقس عليه آلاف- لم يصل الجمعة منذ سبعة عشر عاماً، أين هذا من الدين؟ والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من ترك الجمعة ثلاث مرات طبع الله على قلبه). أما يخشى من هذا الوعيد؟ هذه هجرة ظاهرة انقطعت من مكة بفتحها، ولم تنقطع من بلاد الكفر إلى بلاد الإيمان إلى قيام الساعة.

    جاء عند البخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه).

    وعند أبي داود : (والمهاجر من هجر ما حرم الله عليه).

    وعند أحمد في مسنده: (والمهاجر من هجر السيئات).

    وهذه هي الهجرة الباطنة، ربما تظاهر المرء بترك السيئات إذا اطلع عليه الناس، ويتظاهر بالورع والخشوع والإقبال، وإذا خلا بالله عز وجل انتهك محارمه.

    فالهجرة الحقيقية أن تصدق في ترك المعاصي وهجران السيئات فيما بينك وبين الله عز وجل، قال ذلك النبي عليه الصلاة والسلام حتى لا يتكل أصحابه الذين هاجروا مرة إلى الحبشة، ومرة إلى المدينة، لا يتكلوا على الهجرة الظاهرة، وليعلموا أن الهجرة لا تتم وتكمل إلا بهجر الذنوب والمعاصي.

    أو أن النبي عليه الصلاة والسلام قال ذلك تطييباً لخاطر أصحابه الذين لم يهاجروا من مكة إلى المدينة.. أو غيرها من بلاد الكفر إلى بلاد الإيمان، أن الهجرة الحقيقية الكاملة التامة هي أن تهجر المعاصي، وأن تهجر الذنوب إذا ما دعاك إلى ذلك الشيطان، أو النفس، أو الهوى، أو الدنيا الفانية. (إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وكن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) فلابد أنك راحل عنها اليوم أو غداً، فأعد لنفسك يا ذكي ما ينفعك ما بين يدي الله عز وجل من عمل صالح قلبي، أو من أعمال الجوارح.

    يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106] تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل الضلال والكفر والبدع على اختلاف أنواعها وأشكالها.

    هذه هي الهجرة، وكان الصحابة رضي الله عنهم يعدون الهجرة من أرجى الأعمال بعد التوحيد بين يدي الله عز وجل.

    تبشير عمرو بأن الحج يهدم الكبائر والصغائر من الذنوب

    (يا عمرو أما علمت أن الحج يهدم ويغفر ما كان قبله؟) أي: من الذنوب، ولذلك قال أهل العلم: الحج يكفر الصغائر دون الكبائر؛ لأن الكبائر تحتاج إلى توبة، أو إلى دخول في الإسلام على حسب الذنب الذي وقع من ردة، أو كفر أصلي، أو حد من حدود الله وقع فيه فيحتاج إلى توبة، أو إقامة حد، أو دخول في الإسلام، لكن مذهب جماهير العلماء: أن الحج يهدم الكبائر والصغائر، وهذا من رحمة الله عز وجل، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من حج فلم يرفث ولم يفسق ولم يصخب رجع من حجه كيوم ولدته أمه).

    والمعلوم يقيناً أن المولود يولد من بطن أمه لا ذنب له، وقد شبهه النبي عليه الصلاة والسلام بالمولود حديث الولادة الذي لا ذنب له، لم يبلغ الحلم ولم يجر عليه القلم، فأرجح الأقوال: أن الحج يهدم الكبائر والصغائر.

    والحج مفروض على الفور في أصح الأقوال كالصلاة لا يجوز لك أن تؤخرها، وكذلك الزكاة لا يجوز لك أن تؤخرها، والحج كذلك واجب على الفور لمن استطاع إليه سبيلاً، وذهب بعض أهل العلم إلى أن الحج واجب على التراخي، والصحيح الأول.

    والإنسان لا يدري حياته من مماته، فيجب عليه أن يعجل بما أوجبه الله تعالى عليه، والاستطاعة لما سئل عنها النبي عليه الصلاة والسلام قال: (الزاد والراحلة)، أي: زاده في الطريق، وزاد من يعولهم حتى يرجع، وأجرة الطريق الراحلة أو الدابة التي يركبها، وكم من ملايين الناس يملكون ملايين الدينارات والجنيهات وإذا سألته عن الحج اعتذر، وقال: أنا ما حججت إلى الآن، وما ذهبت إلى تلك الديار إلى الآن، لم؟ لشغله الذي لا ينتهي، وإذا سألته عن الشغل قال: الولد، البنت، الزواج، البيت، التجارة، الصناعة.. وغير ذلك من الأعذار التي لا تنفعه بين يدي العزيز الجبار، متى ملكت الزاد والراحلة وجب عليك الحج، ولذلك يجب على كل من ملك الزاد والراحلة أن يبادر من الآن بإدراك موسم الحج في هذا العام، فإن لم يكن فلا أقل من أن يكون في العام المقبل يسعى إلى ذلك جاهداً، كما يسعى للحصول على مغنم من مغانم الدنيا، فإنه يبذل الطاقة والوسع في سبيل الحصول على دنياه، فلأن يبذل ذلك في سبيل حصول دينه من باب أولى وهو الواجب، وإن فرط في الحصول على دنياه، فربما لا يأثم بذلك، أما إذا فرط في واجب وركن من أركان الإسلام، فلا يدري بعد ذلك ما النتائج، كما جاء عن بعض الصحابة رضي الله عنهم، منهم عمر : من ملك الزاد والراحلة فلم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً.

    وكان إذا أرسل عاملاً له على قرية أو مدينة قال: ومن ملك الزاد والراحلة فلم يحج فاقتله.

    فحمل بعض أهل العلم ذلك على الزجر الشديد، وحمل البعض الآخر ذلك على ظاهره، أي: أنه يستتاب ثلاثاً فإن تاب وبادر بهذه الطاعة، وإلا قتله الوالي بأمر أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه.

    الحج يجب ما كان قبله، وهو من أبر وأفضل الأعمال، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله، قال: ثم أي؟ قال: حج مبرور). وفي رواية: قدم عليه الجهاد، قال: (الجهاد في سبيل الله. قال: ثم أي؟ قال: حج مبرور) والحج المبرور: أي: الذي لا إثم فيه، لا فسوق ولا جدال ولا رفث ولا صخب يؤثر على الحج المبرور، ويجعله غير مبرور.

    فإذا حج الإنسان حجاً مبروراً غفر له ما تقدم من ذنبه من الكبائر والصغائر.

    أما قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس للحج المبرور جزاء إلا الجنة، والعمرة إلى العمرة مكفرات لما بينهما ما اجتنبت الكبائر). و(ما) هنا شرطية، وإذا تحقق الشرط تحقق المشروط، ولذلك ذهب أهل العلم إلى أن العمرة إلى العمرة، والوضوء إلى الوضوء، والصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، وسائر ما ورد في النصوص التي تكفر ما بينهما، تكفر بشرط إذا اجتنبت الكبائر.

    كأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: هذه الأعمال وهذه الطاعات تكفر الصغائر إذا اجتنب صاحبها الكبائر.

    ومذهب آخر يقول: إن هذه الأعمال تكفر الصغائر مطلقاً إذا اجتنب صاحبها الكبائر أو لا، فكأن السياق والتقدير: هذه الأعمال تكفر صغائر الذنوب دون الكبائر: ( ما اجتنبت الكبائر ) أي: دون الكبائر.

    واعتبروا أن (ما) زائدة، وليست شرطية، وهكذا اختلاف أهل العلم رحمة، فمنه ما كان تهديداً، ومنه ما كان بشارة. فأما التهديد فيدفع العاصي ليقف عن غيه وطغيانه وتعديه الحد، وأما الطائع فإنما تنفعه البشارة.

    وقد درج أهل العلم قديماً وحديثاً على أن الأمة إذا أخذت بالعزائم وسقط أحدها في رزية أو معصية بشروه؛ لأنه من أهل الطاعة ابتداءً، وإذا فرطت الأمة في دينها -خاصة في هذه الأزمان- فينبغي أن تؤخذ بالعزائم والتهديد والوعيد الوارد في الكتاب والسنة.

    أسأل الله تعالى أن يغفر لي ولكم، وأن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال والأقوال، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    1.   

    تتابع مواسم الطاعات في الإسلام

    الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:

    فلا تزال رحمات الله تعالى تنزل على هذه الأمة بالليل والنهار، فكلما انتهت عبادة بدأت أخرى بعدها، وكلما ذهب فرض دخل المسلم في الذي يليه، ولذلك سرعان ما انقضى رمضان، ولن ينتهي الصيام بل لا يزال الناس تهفوا قلوبهم إليه بصيام النوافل الذي هو شبيه برمضان.

    إن المرء إذا صام الإثنين والخميس، أو الأيام البيض، فلا يزال المرء يشعر أنه متعلق بالله، موصول برحمة الله، وهكذا إذا انتهى رمضان دخل الناس في عبادة أخرى وهي الحج، وهكذا نفحات الله تبارك وتعالى، نفحات ربانية تنزل بالأمة بالليل والنهار، ولولا هذه النفحات ما طاقت الأمة يوماً واحداً على ظهر هذه الأرض؛ فإن الكل يعيش ويحيا برحمة الله عز وجل وفضله، ولذلك شرع الإسلام لنا بعد الفراغ من العبادات عبادات أخرى، قال الله تبارك وتعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ [البقرة:199]. فشرع لنا الاستغفار بعد طواف الإفاضة، مع أن الحج كان قبل طواف الإفاضة وهو الوقوف بعرفة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (الحج عرفة). ومع هذا فقد بشرنا الشرع بأن من وقف بعرفة تم حجه، وغفر ذنبه، ومع هذا أمرنا بالاستغفار.

    وقال الله عز وجل بعد هذه الصلاة التي تصلونها: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10].

    فلست حراً في أن تنطلق من هذا الباب لتفعل ما يحلو لك، بل إذا خرجت من هذا المسجد فاعلم أنك في عبادة أخرى وهي ذكر الله تعالى.

    إن الإسلام لم يدع لحظة في حياة المسلم إلا وحكمها وقضى عليها، إما بصلاة أو صيام أو زكاة، أو حج أو ذكر أو استغفار، أو أمر بالمعروف، أو نهي عن المنكر، ما ترك الإسلام لك حرية قط أن تفعل ما تشاء، إلا ما كان طاعة لله عز وجل.

    النبي عليه الصلاة والسلام شرع لنا بعد الفراغ من الصلاة أن نقول: (أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)، فأنت في ذكر وعبادة في قومتك ونومتك ومماتك، كما قال الخليل إبراهيم عليه السلام: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162] ليس له منها شيء، وإنما كلها لله عز وجل حتى الممات لله عز وجل.

    ولذلك أمر الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام أن يكون كأبيه إبراهيم فقال له: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]. أنت يا محمد مطلوب منك العبادة في كل وقت وحين حتى تلقى الله عز وجل، حتى آخر نفس في حياتك، وهذا الذي كان منه عليه الصلاة والسلام.

    أما تذكرون أن النبي عليه الصلاة والسلام خرج بعد أن استخلف أبا بكر يجر إزاره حتى وقف عن شمال أبي بكر فائتم به الصديق ، وائتم المسلمون بـالصديق ، خلافاً لما يزعمه الصوفية الذين فقدوا عقولهم، وفقدوا ديانتهم: اليقين في الآية درجة ومنزلة إيمانية إذا بلغها العبد سقطت عند التكاليف الشرعية، فلم لم تسقط عن النبي عليه الصلاة والسلام؟ هل نقول: إنه لم يبلغ هذه المرتبة التي يزعمها مخرفو الصوفية؟!

    اتهام لجناب النبي عليه الصلاة والسلام، بل اتهام لجميع الأنبياء والمرسلين، وقول بالباطل في كتاب الله عز وجل.

    وقال العبد الصالح: ?وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [مريم:31].

    مطلوب مني العبادة ما دمت حياً، أي: طوال حياتي، (وأوصاني) أي: وأمرني: (بالصلاة والزكاة ما دمت حياً).. وغير ذلك من سير الأنبياء والصالحين فيها أنهم كانوا يعبدون الله في كل وقت وحين، حتى لقوا ربهم تبارك وتعالى.

    وهكذا ينبغي إذا كان رمضان قد انقضى ألا تنقطع صلتك بالله عز وجل، وألا تقطع حبل الطاعة والاعتصام بالله تعالى، لا ينقطع منك هذا، فإذا انقطع فقد انقطعت صلتك بالله، وأنت لا تستغني عن الله طرفة عين، أو أقل من ذلك، والله تعالى غني عن عباده وعن عبادتهم، فلا تنفعه طاعتهم، ولا تضره معصيتهم إنما ذلك لك أو عليك، وليختر العاقل لنفسه ما يبيض وجهه أو يسوده يوم القيامة.

    1.   

    المرحلة الثالثة من مراحل حياة عمرو بن العاص: مرحلة الإمارة والولاية والفتوح والفتن

    قال عمرو بن العاص في المرحلة الثالثة: (ثم ولينا أشياء) أي: من الإمارة والفتوح، أو الفتن التي وقعت في زمن الصحابة رضي الله عنهم، ولا يدري أمحسن هو فيها أم مسيء؟ أمخطئ فيها أم مصيب؟ قال: (ولا ندري ماذا يصنع بنا؟ قال: فإذا أنا مت فلا تتبعني نائحة ولا نار).

    أما النار فهي من شعار أهل الجاهلية، كانوا يفتخرون بذلك إذا مات لهم ميت يتبعونه بنار، وإن كان ذلك في رابعة النهار، فنهى عنها النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث عمرو بن العاص : ولا تتبعني نائحة، وهي التي تنوح وتضرب بالصوت خلف الميت.

    وفي صحيح مسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يدعونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والأنواء -أن يقال: مطرنا بنوء كذا- والنياحة، وإن النائحة إذا لم تتب قبل يوم القيامة أقيمت وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب).

    والأمة الآن تستأجر النائحات، وجعلت النياحة باباً من أبواب الكرم والضيافة، ترى المرأة إذا أتت لبيت الميت تأتي وهي تضحك وتلعب وتلهو في طريقها، فإذا ما اقتربت من بيت الميت ناحت على الميت وندبت، وفعلت ما كان من أمر الجاهلية، ثم إذا انطلقت راجعة إلى بيت أهلها رجعت بغير تأثر ولا حزن قلبي؛ لأنها مستأجرة، ولذلك قال العرب: ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة. المكلومة المجروحة هي صاحبة الهم حقيقة، أما من أتت لتساعد هذه المرأة، أو لتكرمها أو لترد لها الواجب إذا حل بها ما قد حل بأختها، فإن هذا ليس من دين الله، بل هو كبيرة من الكبائر إذا لم تتب النائحة، وما أكثر النائحات في هذا الزمان، ثم في يوم القيامة تُلبس سربالاً من قطران، ويكون عليها درع من جرب، أي عقوبة بعد هذا؟

    ثم قال عمرو بن العاص: (فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب شناً). أي: أهيلوا علي التراب، وصبوا علي التراب صباً، وهذه سنة كما قال عليه الصلاة والسلام: (اللحد لنا، والشق لغيرنا).

    حتى في القبر ميز النبي عليه الصلاة والسلام بين قبر المسلم وقبر الكافر، فجعل لأهل الإسلام اللحد، وجعل لغيرهم الشق؛ لأنه من عادتهم.

    ثم قال: (وامكثوا عند قبري قدر ما ينحر جزور ويقسم لحمه)، أي: وقتاً يتسع لذبح بعير وتقسيم لحمه.

    والناس الآن إذا ألقوا الميت في القبر انطلقوا مسرعين كما ينطلقون من بيوت الله بعد صلاة الجمعة، وقبل أن يقرءوا الأذكار، ينطلقون من مواطن العبادة، ومواطن الرحمات والمغفرة، كما لو كان الصحابة رضي الله عنهم في بيوت المعصية، الصحابة رضي الله عنهم كانوا يفرون من مواطن الشهوات فرارنا نحن من دور العبادات، ومواطن المغفرات والرحمات، ولذلك شتان ما بيننا وبين سالف هذه الأمة، وإن الأمة لا ترجع إلى عزها وشرفها وسيادتها إلا إذا رجعت إلى ما كانت عليه أولاً، كما قال مالك وغيره: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. أي: إلا بما كان عليه سلفها.

    قال: (وامكثوا عند قبري مقدار ما ينحر جزور ويقسم لحمه). وهذا المكث ينشغل كل واحد ممن شيع الجنازة بالدعاء للميت بالتثبيت، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لما دفن جعفر بن أبي طالب : (ادعوا لأخيكم فإنه الآن يسأل) ولم يدع عليه الصلاة والسلام ليؤمن أصحابه، ولو كان ذاك مشروعاً لكان أولى الناس بالدعاء، وهو الدعاء المجاب يقيناً منه عليه الصلاة والسلام، ولكنه عليه الصلاة والسلام إنما أمر أصحابه أن يدعو كل واحد بما تيسر له، بطريقته الخاصة، يدعو حتى لا يحرمهم من الدعاء، وربما أصابت دعوة ووافقت إخلاصاً في قلب الداعي انتفع بها الميت، وثبت حين السؤال.

    أما ما يفعله الناس اليوم من إقامة من يدعو وهم يؤمنون فهذا مخالف للسنة، ولا يلزم أن يكون في كل تشييع جنازة موعظة يسيرة يذكر الناس بخطورة هذا الموقف، وأن الكل قادم عليه لا محالة، حتى يذكروا العصاة، وما أكثر ما يشيع العصاة الجنائز من باب أداء الواجب! فربما أصابت الموعظة قلب واحد أو أكثر فرجع وتاب إلى الله عز وجل وقام وصلى.

    لو أن واحداً الآن نصلي عليه بعد الجمعة لوجدت أن أولياءه وأقرباءه وجيرانه يقفون خارج المسجد لا يصلون الجمعة، ومن باب أولى فإنهم لا يصلون عليهم جنازة، (أفندية) لا دين لهم، ولا خلق لهم، وهم أحوج الناس إلى مثل هذه الصلاة إذا ماتوا، ولا يدرون أنه من جنس عملهم يسلط عليهم، ويكون لهم بشرى، فإذا قدموا طاعة وصلوا على الميت أجرى الله تبارك وتعالى وطوع لهم قلوب العباد ليصلوا عليهم إذا ماتوا، وإذا كان هذا موقفهم، فلا يبعد أن يصرف الله تعالى قلوب العباد عن الصلاة عليهم، وأنتم تعلمون أن الميت ينتفع بصلاة الموحدين.

    النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ما من ميت يصلي عليه أربعون لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعوا فيه). وقال عليه الصلاة والسلام: (ما من أمة تبلغ مائة يصلون على ميت إلا كانوا له شفعاء يوم القيامة).

    قال عمرو بن العاص : (امكثوا عند قبري مقدار ما ينحر جزور، ويقسم لحمه) ثم بين العلة فقال: (لكي أستأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع رسل ربي).

    أمران اثنان: استأنس بكم. وهل يستأنس الميت بمن يشيعه؟ نعم، هل يسمعهم؟ نعم في هذا الموطن الموتى لا يسمعون عموماً إلا في مواطن معينة منها وأعظمها هذا الموطن، حتى يسمع الميت في ذلك الموطن خفق نعال من يشيعه في الذهاب أو الإياب، يسمع خفق نعالهم، وينتفع بدعائهم، وربما كان سبباً في تثبيته إذا سئل: من ربك؟ وما دينك؟ ومن الرجل الذي بعث فيكم؟ ربما انتفع بذلك.

    وفي هذا إثبات لعذاب القبر الذي أنكره الملاحدة قديماً وحديثاً.

    قال: (وأنظر ماذا أراجع رسل ربي)، عقيدة راسخة أن القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، وأن المرء يفتن في قبره، ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يستعيذ دائماً في صلاته وبعد تشهده وقبل التسليم من فتنة المحيا والممات.

    (فتنة الممات) بعد أن يموت المرء يفتن في قبره بمنكر ونكير، فيسألانه: ما دينك؟ فإن كان من أهل الإيمان والإسلام العاملين به قال: ديني الإسلام.

    من ربك؟ قال: ربي الله.

    ومن الرجل الذي بعث فيكم؟ قال: هو محمد صلى الله عليه وسلم، وأما من كان دون ذلك فيقول: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون كذا فقلت كما يقول الناس. فهذا لا ينفعه بين يدي الله عز وجل، فيضرب ضربة بمرزبة من حديد يغوص بها في الأرض سبعون خريفاً.

    اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، اللهم ثبتنا على الإيمان والعمل الصالح، اللهم ثبتنا على الإيمان والعمل الصالح. اللهم انصر عبادك الموحدين في أفغانستان، وانصر عبادك الموحدين في الشيشان، وانصر عبادك الموحدين في فلسطين. اللهم أيدهم بمدد من عندك، اللهم أنزل عليهم جنداً من جندك، اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وكل ذلك عندنا. وصلى الله على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755977771