إسلام ويب

تأملات في سورة الكهفللشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن المتأمل في قصة موسى عليه السلام مع الخضر يجد الأدب الجم من موسى عليه السلام مع الخضر، مع أن موسى عليه السلام أفضل من الخضر، فهو من أولي العزم من الرسل، بينما اختلف أهل العلم في نبوة الخضر، فموسى عليه السلام لم يستنكف أن يأخذ العلم ممن دونه، بل ويرحل في طلبه المسافات الطويلة، ويلقى المتاعب والمشاق من أجل تحصيله، وهناك فوائد كثيرة في هذا القصة الممتعة الشيقة، وكل قصص القرآن فيها من العبر والعظات الشيء الكثير.

    1.   

    قصة موسى عليه السلام مع الخضر وما فيها من العظات والعبر

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    وبعد:

    فقد خرج موسى عليه السلام مع غلامه قاصداً ملاقاة الخضر ليتعلم منه، فلما وصلا إلى جنب صخرة نام موسى ونام غلامه، وكانت عند هذه الصخرة عين تنضح ماءً يسمى ماء الحياة، وكان لا يصيب هذا الماء شيئاً ميتاً إلا أحياه الله، فأصاب ذلك الماء الحوت الذي كان مع موسى وغلامه، فنفخ الله تعالى فيه الروح، فاضطرب في المكتل حتى نزل البحر، وسلك فيه طريقاً سرباً، وحينئذ أمسك الله تعالى عليه جارية الماء، فكان مثل الطاق في البحر، ماء جامد كالطريق المسلوك في البحر، فلما استيقظ موسى عليه السلام أخذ فتاه وانطلقا، فسارا ليلتهما حتى أصبحا، وبلغه الجهد، فقال موسى لغلامه: آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا [الكهف:62].

    ولم يبلغ النصب والتعب بموسى إلا بعد أن تجاوز المكان الذي أمر أن يصل إليه وهو لا يدري.

    فقال له الغلام: هل لنا أن نرتد على آثارنا، فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره، وكان هذا الغلام قد أدرك أن الحوت المالح الذي اتخذه موسى عليه الصلاة السلام؛ ليكون زاداً وطعاماً له في الطريق، قد رد الله تعالى إليه روحه، ونزل البحر، ولكنه قال: إذا استيقظ موسى أخبرته بذلك، ولكنه نسي ذلك؛ ليتم ما أمر الله عز وجل به، فرجعا وارتدا على آثارهما قصصاً، يعني: كل واحد منهما رجع وهو يتحسس الطريق ويتتبعه، حتى يرجعا إلى نفس المكان ولا يخطئانه.

    قال موسى عليه السلام: فلما رجعنا إلى الصخرة وجدت عبداً عندها مسجىً، طرف ثيابه عند قدمه، والطرف الآخر عند رأسه، قلت: السلام عليكم. فرد علي السلام، ثم قال: وأنى بأرض السلام -أي: وكيف عرفتم السلام؟ كأنه لا يعرفه إلا نبي- قال: أنا موسى قال: أنت موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم. قال: إنك على علم علمكه الله عز وجل لا أعلمه، وأنا على علم علمنيه ربي أنت لا تعلمه، ما شأنك؟ قال: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:66] قال: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا [الكهف:68].

    أي: أنك لا تصبر على هذا العلم، قال موسى: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا [الكهف:69-70].

    فانطلقا في رحلتهما على ساحل البحر، فكلما مرت سفينة مرت دون سؤال، حتى مرت أجمل وأزين سفينة في البحر، وكانت لمساكين، فعرفوا الخضر فقالوا: ذاك العبد الصالح، فحملوهما بغير أجرة، خدمة للعلماء وأصحاب الفضل، وذوي الوجاهات، ولا حرج في ذلك ألبتة، فحملوهما بغير نول، فلما كانا في السفينة فوجئ موسى عليه الصلاة والسلام بأن الخضر اقتلع لوحاً من السفينة، وصار يعالج مكان اللوح، إما بقارورة دكها في الموضع، وإما بالقار وهو المعروف بالزفت.

    فقال موسى عليه السلام للخضر حينئذ: قوم حملونا بغير نول، وأكرمونا ثم تفسد لهم السفينة، لقد جئت شيئاً إمراً؟!

    أي: هذا أمر عجيب، ويكاد يكون منكراً، قال الخضر : قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا [الكهف:72-73].

    قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فكانت الأولى من موسى عليه الصلاة والسلام نسياناً).

    و البخاري عليه رحمة الله لما أخرج هذا الحديث في بعض مواطن الصحيح تحت (باب العذر بالجهل والنسيان) وأغنى عن ذلك قول الله تعالى: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286].

    وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه) وهو حديث حسن.

    فحينئذ اعتبر الخضر عليه السلام العذر في حق موسى لأجل النسيان، فلما نزل من السفينة وجدوا غلماناً يلعبون، وفيهم غلام هو أجملهم وأظرفهم وأحسنهم منظراً، فامتدت إليه يد الخضر ، فاقتلع رقبته من بدنه وألقاها.

    وهذا الموقف موقف مهول، لا يقدر عليه أحد، ولذلك لم يصبر عليه موسى قال: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ [الكهف:74] أي: ما جريمة هذا الغلام حتى تقتله يا خضر ؟ ماذا فعل؟ بل إنه أجمل الغلمان وأحسنهم: قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:75] قال له موسى: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا [الكهف:74]، أي: هذا أمر لا يصبر عليه أحد، ولكن الخضر أعطاه فرصة ثالثة حتى يبلغ منه العجب، قال موسى عليه السلام: إن سألتك شيئاً بعدها فلا تصاحبني، وقد شرط على نفسه، والعمل هنا بمقتضى الشرط، ولذلك البخاري أفاد وأصاب حينما أورد هذا الحديث كذلك في كتاب الشروط والإجارة، قال:

    (وللمرء أن يشارط غيره بغير يمين ولا كتابة ولا إشهاد، كالذي حدث من موسى عليه السلام.

    وفيه العمل بمقتضى الشرط، لما خالف موسى الشرط، فماذا قال الخضر ؟ قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الكهف:78]؛ لأنك الذي شرطت: قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا [الكهف:76]).

    أي: قد نفد صبرك علي يا خضر، ثم نزلا قرية على ساحل البحر عند مجمع البحرين كذلك.

    منهم من يقول: إن هذه القرية هي (أنطاكية).

    ومنهم من يقول: إن مجمع البحرين هو ملتقى بحر الروم مع بحر العرب، وهو الخليج العربي مع بحر الروم وهو البحر المتوسط.

    والذي يغلب على ظني من أقوال بعض أهل العلم المعاصرين أن هذه القرية التي أبت أن تضيف موسى والخضر إنما هي المعروفة الآن بقرية (دمياط)، وأن مجمع البحرين عند رأس البر هناك، وأبحاث عديدة أثبتت أنه ليس في مصر مجمع البحرين إلا رأس البر.

    إذاً: فتكون القرية التي أبت أن تضيف موسى والخضر هي (دمياط).

    وأخلاق الشعوب باقية دون غضب من أحد، فلا يزال الجفاء في أهل مكة إلى يومنا هذا، كما سمعناه وقرأناه في سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، وما فعله قومه به، ولا زالت النصرة والتأييد والحب لكل قادم عليها من أهل المدينة، فأوصافهم المذكورة في سنة النبي عليه الصلاة والسلام لا تزال أوصافهم إلى يومنا هذا.

    وأهل دمياط ما زالوا إلى اليوم يعرفون بالشح والبخل، ولا يزال الناس يعرفون ذلك منهم إلى يومنا هذا، ويلتمسونه، فيترجح لدي أن القرية التي أبت أن تضيفهما هي قرية دمياط، وأن مجمع البحرين هو رأس البر، والله تعالى أعلم.

    فلما دخلا القرية طلبا الضيافة من أهلها، فأبوا أن يضيفوهما، وكان الجوع قد بلغ مبلغه من الخضر وموسى عليهما السلام، فوجد الخضر جداراً طوله في السماء ستون ذراعاً، وقيل: مائة ذراع، وقد آل للسقوط، فقال الخضر عليه السلام بيده إليه هكذا فأقامه.

    يظن بعض الناس أن الخضر إنما بناه لبنة لبنة، وهذا ظن خاطئ، فقد جاء في الصحيحين أن موسى عليه السلام لما أنكر عليه، نظر إلى الخضر ، فإذا به يلوح بيده على زاوية من الجدار، فإذا بالجدار يستجيب لإشارة الخضر حتى قام واستقام، فحزن موسى للمقارنة بين موقف البلدة التي أبت أن تطعمهما، وبين إكرام الخضر وحسن خلقه، فقال: لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا [الكهف:77] أي: أجرة مقابل عملك هذا.

    لا حرج من أخذ الأجرة مقابل أي عمل مباح، سواء كان عملاً شرعياً، أو عملاً دنيوياً، وإن كان الأصل في العمل الشرعي الحسبة لله عز وجل، لكن إذا تفرغ المؤمن للعمل الشرعي لا مانع من أن يأخذ نوالاً وأجرة مقابل عمله، وهذا أمر قد جاء في كتاب الله عز وجل، وجاء في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله عز وجل).

    وهذا لمن تعين عليه ذلك، بحيث تضيع الأمة بغير تفرغه، فحينئذ له أخذ النوال والأجرة مقابل التفرغ وبذل الوقت، لا مقابل التعليم والتعلم، وإلا فلا يصلح أن يكون المرء داعية لله عز وجل.

    ومن أدلة جواز أخذ الأجرة على التعليم: (أن امرأة أتت النبي عليه الصلاة والسلام وقالت: يا رسول الله، إني وهبت نفسي لك، نظر إليها عليه الصلاة والسلام ولم يتكلم، فلما أدرك أحد أصحابه أنه لا يريدها قال: يا رسول الله، إن لم يكن لك بها حاجة، فزوجنيها، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أصدقها، قال: لا أجد، قال: اذهب والتمس ولو خاتماً من حديد، فذهب الرجل ورجع إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: يا رسول الله، ما وجدت شيئاً، قال: ماذا تحفظ من القرآن؟ قال: أحفظ سورة كذا وكذا، قال: أنكحتكها بما معك من القرآن).

    قال الحافظ ابن حجر : وفي هذا دليل على جواز تعليم القرآن بأجرة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جعل الصداق لتلك المرأة هو تعليمها القرآن.

    وغير ذلك من الأدلة الكثيرة.

    وبعد أن فرغ الخضر من إقامة الجدار قال لموسى عليه السلام: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف:82] أي: ذلك مما علمني ربي.

    يقول الحافظ ابن حجر ، والقاضي عياض وغير واحد من أهل العلم: وهذا يدل على أن الخضر عليه السلام نبي، ليس ولياً فحسب، وهذا مذهب جماهير العلماء، واستدلوا بقول الله تعالى في هذا الحديث على لسان الخضر : (إنك على علم علمكه الله لا أعلمه، وأنا على علم علمنيه ربي لا تعلمه).

    وهذا العلم هو الوحي، وسماه في هذا الحديث العلم اللدني؛ أي: الذي تعلمه الخضر من لدن الله عز وجل مباشرة.

    فقوله: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف:82] أي: فعلته بأمر الله.

    وهذا يدل على تعليم الله له، وعلى وحي الله تعالى إليه، ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يرحم الله تعالى موسى لو صبر لنقل إلينا من العلم شيئاً كثيراً).

    وهذا يدل على أن عُدَّةَ طالب العلم الصبر، وأن عليه ألا يتعجل ولا يعترض على الشيخ، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من تعلم العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو ليتخطى به المجالس، فالنار، النار) أي: جزاؤه النار.

    وقال عليه الصلاة والسلام في الصحيحين من حديث عمر : (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه).

    1.   

    الفوائد والفرائد من قصة موسى مع الخضر عليهما السلام

    في قصة الخضر وموسى من الفوائد والفرائد التي ربما لا توجد في قصة أخرى.

    التأدب في طلب العلم والحرص عليه

    من فوائد الأحاديث التي ذكرناها في هذه الخطبة: التأدب في طلب العلم، والحرص على طلب العلم، والرحلة في طلب العلم، وركوب البحر في طلب العلم، وأنه لا حرج في ذلك، وما ورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لا تركب البحر إلا غازياً، أو حاجاً) فهو حديث ضعيف.

    ولا بأس بركوب البحر مطلقاً بشرط أن يكون البحر هادئاً، وأن يغلب على الظن سلامة المركب، أو يتيقن ذلك، حتى لا يتحقق فينا قوله سبحانه وتعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195].

    وهذا جار في ركوب البر والبحر والجو على حد سواء.

    وقول موسى عليه السلام: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:66]، فيه من الملاطفة والموادعة والمؤانسة والتأدب الشديد في عرض المسألة على العالم، قال: ( هل أتبعك ) فجعل نفسه تابعاً للخضر ، ومع أن موسى عليه السلام بالإجماع أفضل من الخضر .

    وفيه: جواز أخذ الفاضل الفائدة من المفضول، ولا حرج في ذلك.

    وكم من العلماء الكبار الأفهام تعلم من تلاميذه، ولذلك بوب العلماء في باب المصطلح والرواية: باب رواية الأكابر عن الأصاغر، وباب رواية الآباء عن الأبناء، ولا حرج في ذلك.

    وينبغي أن يلزم العالم وطالب العلم الأدب والتواضع والذل والانكسار بين يدي المعلم والأستاذ، فهذه عدة لابد أن يتسلح بها طالب العلم، هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:66].

    والإجماع منعقد على أن موسى عليه السلام رسول ونبي، لكن وقع النزاع هل الخضر رسول ونبي أم لا؟ والذي يترجح من أقوال أهل العلم أن الخضر نبي من أنبياء الله؛ بدلالات كثيرة ذكرنا بعضها، ولا مجال لذكر البعض الآخر، ولكن نحيل على هذه الدراسات المتخصصة التي ظهرت في الآونة الأخيرة في بيان حقيقة الخضر عليه السلام.

    فبعضهم ذهب إلى أنه ولي، وهو ضعيف.

    والبعض الآخر: ذهب إلى أنه نبي، وهو قوي.

    أما كونه رسولاً، فلا، وإذا كان رسولاً فإنه لم يبعث إلى موسى عليه السلام، كما أن موسى بعث في بني إسرائيل، وبنو إسرائيل كانوا في ذلك الوقت من سكان مصر، وهذا يقوي الرأي الذي قلناه: إن أحداث القصة لم تكن في أنطاكية، ولا في الخليج العربي، ولا في بحر الروم، وإنما كانت على أرض مصر، وأن مجمع البحرين كان برأس البر، وأن القرية هي قرية دمياط.

    الرحلة في طلب العلم

    من فوائد هذه القصة: الرحلة في طلب العلم، والحفاظ على ذلك والإكثار منه، وبلوغ المشقة في ذلك، فقد ركب موسى وهو من هو عليه السلام إلى رجل لا يعرفه، ليأخذ منه العلم، وبلغ المشقة والنصب والتعب في ذلك، ثم إنه بعد أن لقيه تأدب بين يديه، وتلطف أيما تلطف.

    والرحلة في طلب العلم هي نهج سلفنا رضي الله عنهم.

    قال رجل للإمام أحمد بن حنبل: (هل ألزم رجلاً عالماً غزير العلم حتى آخذ العلم كله، أو أرحل في الطلب؟ قال: بل الرحلة أحب إلي).

    وهذا مسروق بن الأجدع طاف البلاد مراراً على قدميه في طلب العلم.

    وهذا جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، وهو من هو في العلم والفضل والفقه، وهو من أكابر أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام علماً وفقهاً وأدباً، يرحل من المدينة إلى مصر، ليسأل عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه وهو من الصحابة، وكان أمير مصر لـمعاوية رضي الله عنه، رحل إليه ليسأله عن حديث واحد، وهو حديث المحشر، قال: (بلغني أنك سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً لم أسمعه، قال: سمعته يقول عليه الصلاة والسلام: يحشر الناس حفاة عراة غرلاً).

    فقوله: (حفاة): أي: ليس في أقدامهم شيء، (عراة) أي: ليس على أبدانهم شيء، (غرلاً): أي: غير مختونين. يعني: يحشرون إلى ربهم عز وجل على الهيئة التي خلقهم عليها من غير نقصان.

    ثم رجع جابر بن عبد الله الأنصاري دون أن يحل رحله إلى المدينة.

    وفي رواية: أن جابراً طرق الباب فقال الخادم: من؟ قال: جابر بن عبد الله الأنصاري ، ثم قال: أعقبة في الدار؟ قال: نعم. انتظر فصعد الخادم إلى عقبة ، وقال: إن جابراً الأنصاري بالباب، فنظر إليه عقبة وقال: ابن عبد الله ؟ قال: نعم، قال: اصعد، قال: والله لتنزل ولا أصعد، إنما أتيتك لأسمع حديثاً ليس عندي، فأخبره عقبة بالحديث، فانطلق ولم ينزل من على دابته.

    رجل يأتي من المدينة إلى مصر مسيرة شهر، ثم يرجع مرة أخرى شهراً آخر؛ لأجل حديث واحد، ونحن كتاب الله تعالى بين أيدينا، وربما لا نفكر مرة أن نمر عليه مرور الكرام، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم واضحة بين أيدينا، وربما لا نفكر أن نطلع عليها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

    1.   

    بيان موضوع مؤتمر القدس السليب ونتائجه

    الحمد لله وكفى، وصلاة وسلام على عباده الذين اصطفى.

    وبعد:

    ففي حديث قصة موسى مع الخضر فوائد كثيرة ومتعددة، وقد أخرجه البخاري في صحيحه في أكثر من عشرة مواطن، ويأتي في كل موطن بفائدة ليست في غيره، فهو حديث غزير بالفوائد والفرائد، ولكنا دندنا حول ما نريد أن نبلغه لإخواننا طلبة العلم، ونذكر بهذه المناسبة أننا اخترنا أن يكون هذا الحديث هو عنواننا، خاصة وأننا سنبدأ في الأسبوع القادم بإذن الله تعالى ذاك المؤتمر الذي يعقد سنوياً في هذا المكان المبارك، وموضوع هذا المؤتمر: القدس الحبيب السليب، الذي اغتصبه اليهود أبناء القردة والخنازير منذ عشرات الأعوام، وهم يطمحون ويطمعون أن تكون لهم دولة مستقرة آمنة في هذه البقعة من أرض الله، لكن هيهات هيهات، الحرب دائرة، والجهاد ماض في الأمة إلى قيام الساعة رغم أنف الحاقدين، واغترار المغترين.

    والطريق الوحيد لإفناء اليهود وزوالهم من على وجه الأرض ليس السلام، وإنما هو رفع راية الجهاد في سبيل الله عز وجل، ولذلك ستكون الحرب بين معسكرين لا ثالث لهما: معسكر الإيمان والكفر، وستكون ساحة المعركة في أرض فلسطين حتى ينادي الحجر والشجر: يا مسلم، خلفي يهودي تعال فاقتله، وسيكون الجنود من المؤمنين ومن الحجارة والأشجار، إلا شجر الغرقد فإنه من شجر اليهود.

    وأخبركم أن أرض الشام كلها قد كثر فيها شجر الغرقد، فهذه أمارات وعلامات؛ استعداداً للمعركة الحاسمة الفاصلة بين الإيمان والكفر، بين اليهود وبين المسلمين، والله تعالى سيكتب فيها النصر لأهل الإيمان، وسيورثهم الأرض من بعد ذل وهوان، لكنهم ما وقعوا في هذا الهوان إلا بتفريط منهم في اتباع كتاب الله تعالى وسنة النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا أفاقت هذه الأمة من كبوتها ورقدتها مكن الله تعالى لها، وهذه سنن كونية، فالنبي عليه الصلاة والسلام أوذي، والخلفاء أوذوا، وكان في قدرة الله عز وجل أن ينصر نبيه وهو نائم في بيته، لكن السنن الكونية أثبتت أنه لا نتيجة بغير سبب، ولذلك يقول العلماء: الاعتماد على الأسباب شرك بالله عز وجل، وترك الأسباب قدح في التوحيد؛ لأنه مخالف للسنن الكونية الربانية.

    إذاً: فلابد من إعلان راية الحرب، ولا طريق إلى القدس إلا بهذا، ومن أراد صلحاً وسلاماً وأماناً مع اليهود، فإنما يمشي خلف سراب خادع، إذا أتاه لم يجده شيئاً، ووجد الله عنده فوفاه حسابه.

    وأبشركم أن الدائرة والغلبة لأهل الإيمان، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن هذا الدين سيدخل كل بيت حجر أو مدر، بعز عزيز يعز الله تعالى به الإسلام وأهله، وبذل ذليل يذل الله تعالى به الكفر وأهله).

    والحمد لله تعالى أن الإسلام الآن دخل في كل بيت حجر ومدر، ومن من الناس لا يسمع بالإسلام، ولا بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام؟ لا أحد، ولكن النصر والتمكين والتأييد بشروطه وواجباته، إنما مآله إلى أهل الإيمان والإسلام في آخر الزمان، ولعلنا اقتربنا من هذه اللحظة، ومن ساحة الصدق، فما علينا إلا أن نعد العدة للمواجهة، والمواجهة هي مسئولية الحكام، لا مسئولية الشعوب؛ لأن مسئولية رفع راية الجهاد هي مسئولية الحكام، وهي في أعناقهم سيسألون عنها يوم الحساب، أما السلام مع اليهود فلا؛ لأن اليهود على مر التاريخ هم أهل غدر وخيانة، وغش وخداع، ولا سلام معهم، ولو كان منهم سلام لسالمهم النبي عليه الصلاة والسلام.

    وكم سالمهم عليه الصلاة والسلام وهو يعلم أنهم أهل غدر وخيانة، وأهل بهت وزور، وغش وخداع.

    ولذلك لم يثبت في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، ولا في تاريخ الإسلام أن أحداً سالم اليهود وهو لا يحذر منهم بعد عقد معاهدة السلم والسلام؛ لأنه يعلم طبيعة اليهود.

    فالشخصية اليهودية كلها ظلمات بعضها فوق بعض، وطريق أسود من الكحل، ولذلك لا عهد لهم ولا ميثاق، ومن واثقهم أو عاهدهم واطمأن إلى ذلك، فسرعان ما كان الغدر من قبل اليهود حليفه، وسرعان ما يتجرع المرّ نتيجة علاقته باليهود.

    المقفو باليهود عريان، تظهر عورته للقاصي والداني، ولأجل ذلك وعقداً للولاء والبراء اخترنا أن يكون المؤتمر السنوي الذي سيعقد في الأسبوع القادم في الجمعة القادمة بإذن الله عن القدس، وسيكون عن قضية الولاء والبراء؛ لأن معظم الأمة ذابت شخصياتهم في شخصيات اليهود والنصارى، والنصارى لا يقلون عن اليهود في الشر.

    واخترنا أن تعالج المحاضرات كلها بعض جوانب الموضوع، وطلبنا من السادة المحاضرين أن يعالجوا بقية هذا الموضوع، ولو على مدار عام كامل في محاضراتهم العامة، وفي خطبهم المنبرية، في هذا المكان وفي غير هذا المكان، حتى يتم الموضوع، وهو أكبر من أن يستوعب في أسبوع واحد، ولأن الجمعة التي بعد المقبلة ندوة عامة للسادة المحاضرين المتخصصين في هذه القضية للرد على أسئلة الجماهير، حتى يعلم المستمع ماذا عليه من الواجبات؟ وبماذا يخرج من هذا المؤتمر من فوائد ونكات؟

    لابد أن يخرج الواحد منا وهو يعلم ما الذي عليه؟ وما هو الواجب الذي يثقل به كاهله؟ وكيف يسلك الطريق لتحقيق هذه الواجبات؟ وغير ذلك من الفوائد التي تتم إن شاء الله تعالى معالجتها في أثناء هذا الأسبوع.

    كما أنني أنبه أنه بمجرد الانتهاء من هذا الأسبوع، سيكون عندنا بإذن الله تعالى افتتاح المعهد العلمي للقرآن والحديث، وإننا نرحب بكل راغب، وإن لم يكن ممن حضر الدورة العلمية التي انعقدت، وكان آخرها بالأمس الخميس، فإننا نرحب بكل طالب راغب في هذا، حتى وإن كان من خارج الدراسات الشرعية، أو اللغوية، فلا بأس أن يتفضل ويلتحق بالمعهد، ومدة المعهد أربع سنوات بعد أن كانت عامين اثنين.

    والمحاضرات زادت عددها ونسبتها، كما أن المواد صارت كثيرة جداً، فهي ثمان وأربعون مادة على مدار أربع سنوات، بواقع أن تكون في كل سنة دراسية اثنا عشر مادة، بعد أن كانت خمساً أو ستاً.

    وهذا أمر يحتاج إلى تفرغ وجد، والمعهد ما هو إلا حلقة من حلقات بناء الشخصية الإسلامية، وتربية الشخصية الإسلامية تربية علمية، كما أراد الله عز وجل.

    ولقد أطلعنا بعض مشايخنا على المنهج المعد، وعلى الطريقة التي يدار بها المعهد، فبارك هذه الطريقة، وبارك إن شاء الله المعهد على هذا النحو، وقال غير واحد منهم: أتوقع أن يكون هذا المعهد أقوى جامعة شرعية عربية.

    فأرجو الله تعالى أن يكون كذلك، وأن يجزي القائمين عليه، والمساهمين فيه، والمحبين له، والدارسين فيه خيراً، وأن يرزقنا وإياكم جميعاً الصدق والإخلاص في القول والعمل.

    اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وكل ذلك عندنا.

    وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755998690