إسلام ويب

تفسير سورة العنكبوت [1-7]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • سورة العنكبوت سورة عظيمة ابتدأها الله تعالى بذكر أنه يختبر الناس ويبتليهم، حتى يعلم الصادق من الكاذب، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بسيئاته.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الم)

    قال الله تعالى: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:1-2].

    هذه السورة اختلف فيها الصحابة هل هي مدينة أو مكية اختلافاً قل أن يوجد في غيرها من السور، فقال قوم: هي مدنية نزلت بالمدينة المنورة.

    وقال قوم: هي مكية، أي: نزلت على نبينا عليه الصلاة والسلام في مكة المكرمة.

    وقال الإمام علي رضي الله عنه: بل نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما بين مكة والمدينة.

    وهي 69 آية.

    وسميت بالعنكبوت لذكر العنكبوت فيها، قال تعالى: وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ[العنكبوت:41]، وهذا من باب تسمية الكل باسم البعض، وجميع سور القرآن على هذا المنوال وعلى هذا الطريق.

    والحروف المقطّعة الم فيها خلاف طويل عريض منذ عصر الصحابة والتابعين فمن بعدهم، ونحن نرجح ما قاله الإمام الزمخشري رحمه الله وأكده الإمام الشنقيطي المتوفى حديثاً رحمه الله: إن هذه الحروف تعني أن هذا الكتاب آخر الكتب المنزلة من الله على خاتم أنبيائه رسولنا ونبينا محمد صلوات الله عليه وعليهم أجمعين، وهو المهيمن عليها جميعاً، وهو الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

    ونحن اليوم نعيش معجزته، فهو بعد نزوله بألف وأربعمائة عام لم تزد فيه كلمة ولم تنقص كلمة، بل ولم تُنقص منه حركة من ضمة وفتحة وكسرة وسكون ولم تزد، بل أكثر من ذلك فلم تقدم سورة ولم تؤخر، ولم يختلف في وقت من الأوقات في آياته، وذلك كله من الأدلة القاطعة على صدق نبينا ورسالته صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وعلى أن هذا الكتاب هو كتاب الله الذي لم يغير ولم يبدّل.

    وأما الكتب السابقة جميعاً فبدّلت وغيّرت؛ لأن الله لم يتعهد بحفظها، وإنما عهد بحفظها للعلماء فلم يحفظوها ولم يراعوها، وأما القرآن الكريم فهو الذي تعهد بحفظه ولم يتركه لنبي ولا لصحابي ولا لأحد من الخلق، قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[الحجر:9].

    ونحن بعد نزوله بألف وأربعمائة عام نراه واقعاً ومطابقاً للواقع من الإعجاز والصدق والدليل القاطع على حفظ الله له. فنحن نقرؤه اليوم كما أنزله الله في الوقت الذي آمن به الأولون في عصر الصحابة والتابعين، فهم آمنوا به إيمان تصديق ونحن آمنا به إيمان شهود وواقع.

    قال تعالى: الم[العنكبوت:1] فهذا القرآن معجز أعجز الخلائق أولها وآخرها منذ نزوله، فهو معجز بلفظه وبمعناه، وقد تحدى الله الخلق أن يأتوا بمثله أو بسورة منه أو بآية فعجزوا كلهم رغم فصاحتهم. بل إن نبينا وهو سيد الفصحاء والبلغاء والمتكلم البليغ الأول بالعربية وقد أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم عندما توازن بين كلامه في السنة النبوية على فصاحتها وبلاغتها وبين كتاب الله وبلاغته وفصاحته تجد الفرق والبون شاسعين، وهو فرق ما بين الخالق والمخلوق، وبين كلام الله وكلام عباده.

    فقوله تعالى: الم[العنكبوت:1] كأنه يقول: هذا القرآن المعجز على إعجازه إنما نُظم ونزل باللغة العربية على محمد عليه الصلاة والسلام بواسطة جبريل عليه السلام، وهكذا يقال في جميع المواضع التي تذكر فيها الحروف المقطعة، مثل قوله: الم، وقوله: كهيعص[مريم:1]، وقوله: ص[ص:1]، وقوله: الر[يونس:1]، إلى جميع تلك الحروف في فواتح السور.

    ومن هذا كان نظم القرآن وكلامه، فاصنعوا إن قدرتم مثله، وهذه الحروف الهجائية هي بينكم، ولكن هيهات هيهات أن يفعل ذلك أحد أو أن يستطيعه.

    ولقد حاول الكذاب المتنبئ مسيلمة أن يأتي بشيء سماه قرآناً فأتى بما تضحك منه الثكلى، وأتى بما يستهزأ به وبمثله، وقالوا: إن المعري كذلك حاول أن يفعل مثل ذلك، فأتى بالهراء والسقط من القول.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون)

    قال تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا [العنكبوت:2].

    أظن الناس أن يتركوا وقد زعموا أنهم آمنوا بالله؟ والإيمان يكون بالتصديق بالجنان -بالقلب- وبالقول باللسان وبالعمل بالأركان.

    أي: أظن الناس أن يُتركوا وقد زعموا الإيمان وزعموا الإسلام وزعموا تصديق محمد في رسالته صلوات الله وسلامه عليه؟ أفظنوا أو حسبوا أن يقولوا ذلك ويعتقدوه ثم يتركوا بلا فتنة؟ أي: بلا اختبار ولا امتحان؟

    وهكذا يُبتلى الأطفال ويختبرون ويمتحنون في المدارس هل درسوا؟ وهل لازموا المدرسين والشيوخ؟ فإن أدوا الامتحان فعند الامتحان يُعز المرء أو يهان، إما أن يُعز فينجح، وإما أن يهان ويذِّل فيرسب. وهكذا من كان في الابتدائي أو الإعدادي أو الثانوي أو الجامعات أو التخصص، وهكذا البشر كلهم في الأرض، وهكذا الخلق كلهم، جنهم وإنسهم المكلفون منهم غير المعصومين، حاشا الملائكة فهم معصومون.

    الحكمة من ابتلاء الأنبياء

    وهكذا يُفتن الأنبياء ويُبتلى الرسل؛ ليُعلم صدق المؤمن في قوله: أشهد أن لا إله إلا الله أصادق هو في دعواه الإيمان أو كاذب؟ قال تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا [العنكبوت:2]، أي: وقد قالوا: لا إله إلا الله وادّعوا الإيمان بالله، أيحسبون أن يقولوا ذلك وهم لا يُفتنون؟ والفتنة: هي الامتحان والابتلاء والاختبار فلابد من الابتلاء؛ ليعلم الله الصادق من الكاذب، وهو يعلم جل جلاله، ولكن ليدرك الناس ذلك، وليتأكد المبتلى والمُفتتن بهذا حتى إذا أُحسن إليه علم أنه قدّم طاعة، وإذا أُسيئ إليه نتيجة إساءته فإنما نفسه هي التي أساءت إليه، وليعلم أن حجة الله بالغة، فلم يبتل بمحنة ولم يُبتل بعذاب إلا بعد أن أتته الرسل وأتته كتب الله تأمره وتنهاه.

    ولقد ابتلي الرسل والأنبياء بما فيهم أولو العزم الخمسة، فقد ابتلي إبراهيم خليل الله وأبو الأنبياء عندما قذف به النمرود في النار، ثم أُخرج من بلده وعُذّب العذاب النكر فصبر لذلك، وكان من أولي العزم، وبقي مبتلى إلى أن لقي الله ولم يوجد منه إلا الصدق، وكان مكان الأسوة لبنيه وسلالته والناس أجمعين.

    وابتلي موسى واستُعبد قومه وأُنذر وهُدد بالقتل وشُرّد وأُخرج من بلده وكان ما كان، فخرج من المحنة والفتنة مضفّراً منصوراً.

    وهكذا ابتلي خاتمهم نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقد قام قومه في وجهه قومة رجل واحد، فكذّبوه وقالوا: مجنون وساحر، وقاطعوه وهجروه ورموه بالحجارة وفعلوا به الأفاعيل إلى أن أخرجوه من بلده ومسقط رأسه، ثم اضطروه للحرب والقتال، فكُسِرت رباعيته صلى الله عليه وسلم ولقي ما لقي، فداه نفسي وأبي وأمي وولدي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فخرج من كل ذلك كالذهب الإبريز، وخرج القدوة البشرية العالمية لكل الخلق أجمعين، فإن كان هذا بالأنبياء وأفضل الخلق فكيف بغيرهم؟

    سنة الله في ابتلاء المؤمنين

    وهكذا كل من يزعم الإيمان أو الصلاح لن يُترك هكذا دون أن يُبتلى، وعند الابتلاء والصبر على الاختبار والامتحان يخرج وقد صُدِّق، ويخرج وقد أصبح على سنن المرسلين والصالحين، وهذا ما أكده النبي عليه الصلاة والسلام بقوله في الحديث الصحيح: (أشدكم بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل)، أي: الأصلح فالأصلح والأقرب إلى الدين والصدق وهكذا؛ فإن ابتلي وفتن واختبر فنجح وظفر وصبر كان من أولي العزم، سواء كان من عموم الناس أو من الأنبياء.

    ابتلاء الصحابة رضي الله عنهم

    وقد امتحن الصحابة في حياتهم بالقتال وبالقتل، وبالفقر وبالبؤس، وبالخروج من أرضهم وأموالهم، وبتخلل المنافقين بين أوساطهم، فمن ثبت نال وظفر وأصبح مع محمد صلى الله عليه وسلم في الآخرة كما كان معه في الدنيا، ومن لم يصبر فقد نافق وارتد، فمنهم من نافق في الحياة النبوية، ومنهم من ارتد بعد الوفاة النبوية فخسر الدنيا والآخرة، وذلك الذي اضطّر الخليفة الأول أبا بكر رضي الله عنه لقتال هؤلاء الذين ارتدوا وغيّروا وبدّلوا، ولقتال أولئك الذين بقوا على الإسلام ولكنهم حاولوا أن يمنعوا الزكاة، فقاتلهم قتالاً لا هوادة فيه إلى أن انتصر عليهم، فآمن من آمن تائباً عائداً، وقُتل من قُتل، فكان دمه هدراً وقتله سيف الإسلام.

    أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2]، أي: أظن الناس أن يُتركوا بلا امتحان ولا اختبار ولا ابتلاء ولا فتنة وقد قالوا: إنا مؤمنون؟ والإيمان عمل بالقلب، والقلب لا يعلم دواخله وحقائقه إلا الله؛ ولذلك اختُبر وابتُلي، فمن صدّق بالجنان، وقال باللسان، وعمل الصالحات بالأركان وما إليها، وصبر على الفتنة والبلاء فذاك هو المؤمن الصادق، ومن لم يصبر فقد ذهب بخزي الدنيا والآخرة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولقد فتنا الذين من قبلهم...)

    قال تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:3].

    أي: وليس هذا مما انفردتم به يا أتباع محمد، بل: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [العنكبوت:3].

    أي: لقد فتنت الأمم من قبل، وأعظم من فُتن بما لم يُفتن به نبي من الأنبياء نوح عليه السلام، فلم يبتل أحد مثل ابتلائه، فقد بقي ألف سنة إلا خمسين عاماً في غاية الفتنة والبلاء من قومه، وهو صابر يدعو إلى الله صباح مساء، حضراً وسفراً، فكانوا تارة يهزءون به، وتارة يكذبونه، وتارة يشتمونه، وهو مع كل ذلك صابر داع إلى الله، ومع هذه المدة الطويلة ما آمن به من قومه إلا قليل.

    قال تعالى: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ [العنكبوت:3].

    يعلم الله الشيء قبل أن يكون وبعد أن يكون، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، فهو العالم بكل شيء. والعلم هنا الرؤية، أي: سيرى الله من خلقه من الذي سيكون بعد الفتنة صادقاً، ومن الذي سيكون كاذباً، ومن الذي سيثبُت على الإيمان بالله جناناً ولساناً، ومن الذي ستتلاعب به الأهواء ويكون كريشة في مهب الريح، والسماء لا تكاد تستقر على حال.

    فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا [العنكبوت:3].

    أي: في إيمانهم؛ ليرى الصادق في إيمانه، وليرى الكاذب في إيمانه، وليجازي الصادق على صدقه، وليجازي الكاذب على كذبه، وما خُلقت النار والجنة إلا لأمثال هؤلاء؛ فللمطيع الصادق الجنة، وللكاذب المنافق المرتد المتردد النار. والعياذ بالله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أم حسب الذين يعملون السيئات...)

    قال تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [العنكبوت:4].

    أي: أم ظن هؤلاء المرتكبون للمعاصي والآثام والذين يعملونها أنهم يسبقونا ويفلتون من عقابنا وعذابنا لهم وامتحاننا لهم؟ إن كان ذلك كذلك أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [النحل:59]، أي: ما أسوأ أحكامهم، وما أسوأ ظلمهم، وما أشد بلادتهم وإعراضهم، فالله جل جلاله لن يترك أحداً من غير أن يُفتن؛ ليُعلم صدقه من كذبه.

    والله جل جلاله طالما ضرب لنا الأمثال وأعاد هذه المعاني في القرآن الكريم، قال تعالى: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:3]، وقال تعالى: وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة:214] فقد زلزل بالفتن والبلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه حتى أخذهم ضيق وتبرم وقالوا: متى نصر الله؟ أي: لقد طال البلاء.

    قال تعالى: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214] وإن مع الصبر الفرج، ومع الفرج النصر، وهذه سنة الأنبياء والمرسلين، قال تعالى: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر:43].

    قال تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا [العنكبوت:4]، أي: أظن هؤلاء المسيئون الآثمون أن يسبقوا نقمتنا وغضبنا عليهم؟ وهل ظنوا أنهم سيُفلتون من عذابنا؟ هيهات، سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [العنكبوت:4]، أي: ما أسوأ حكمهم وأسوأ فهمهم وبعدهم عن الحق وعن الفهم والإدراك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (من كان يرجو لقاء الله...)

    قال تعالى: مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [العنكبوت:5].

    أي: من كان يخاف لقاء الله وينتظر الموت، ويخاف العرض على الله يوم القيامة، ويخاف السؤال في القبر من منكر ونكير فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ [العنكبوت:5]، أي: الأجل الذي ضربه الله لوفاة كل إنسان هو في نفسه آت عما قريب لا محالة، وكأن الدنيا لم تكن، فيسأل كل فرد عن نفسه، فقد خرج من الرحم وحده، وسيدخل القبر وحده، لا أب معه ولا أم ولا قريب ولا خدم ولا حشم سواء كان سلطاناً أو مسكيناً، وسواء كان ذا جاه في الدنيا أو كان مجهولاً لا يعرفه أحد، فقد جاء وحده وسيعود وحده.

    فهذا الذي يرجو لقاء الله والعرض عليه بمجرد موته وبسؤال الملكين عن دينه وعقيدته، وعن حياته كيف قضاها؟ وعن إيمانه بالله وبنبي الله صلى الله عليه وسلم كيف هو؟ وعن عمله وما أمره الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم أقام به أم لم يقم؟ فهو عند الموت يلاقي الله ويلاقي الحقائق، فما كان إيماناً بالغيب يُصبح واقعاً ومشهوداً، ويُصبح وجهاً لوجه مع الحق ومع العرض على الله يوم القيامة ولقائه؛ ومن يرجو الآخرة ويرجو لقاء الله يجب أن يعمل لذلك اليوم.

    قال تعالى: مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ [العنكبوت:5]، وقال تعالى: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ [هود:81]. وأجل الله أي: من الوفاة ومن القيامة والعرض يوم الحساب على الله، فذلك اليوم هو آت لا محالة، ولا يشك فيه إلا منافق أو كافر.

    قال تعالى: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [العنكبوت:5] فالله يسمع، وهذه تتمة كما هي في كل الآيات، وهذه التتمة في كل آية تكون تارة لتمام المعنى وتمكينه ومطابقة له، وتكون تارة بشرى، وتارة نذارة، وهنا تشتملهما معاً، فالله سميع للمؤمن عندما يعلن إيمانه ويصدّق الجنان اللسان، فيسمع عبادته وتوحيده وما يصنعه من طاعات، وهو عليم بحاله إن كان من أهل الخير أو إن كان من أهل الشر، ويسمع من كل إنسان ما يقوله من شر، فيُجازى على الخير خيراً وعلى الشر شراً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه...)

    قال تعالى: وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [العنكبوت:6]. ومعنى ذلك: كل شيء يحتاج إلى جهاد.

    والجهاد يعني: أن تبذل من نفسك جهدها وطاقتها، فإن كان بالسيف فهو القتال، وإن كان باللسان فهو الجهاد باللسان، وإن كان بالعبادة فهو الجهاد بالعبادة، وإن كان بالدعوة إلى الله فهو بالدعوة إلى الله، وإن كان بالشكر فهو كذلك، وإن كان بالصبر على الفتن والبلاء فهو كذلك.

    والجهاد كما يقول الحسن البصري : لا يكون إلا بالسيف.

    فالجهاد كما قص الله وكما بين رسول الله عليه الصلاة والسلام يكون بالسيف، ويكون باللسان، ويكون بالعمل، ويكون بالمال، ويكون بالرأي، ويكون بكل ما يملكه الإنسان؛ فالطالب عندما يبذل من نفسه الجهد ويتعب في التعليم والدراسة؛ ليصل إلى درجة ينتقل بها من الجهل والأمية إلى درجة القراءة والعلم فما يبذله من نفسه من سهر وملازمة فذاك جهاده، والمدرس والعالم ما يدعو به إلى الله ويكتب به ويخطب به ويؤلفه؛ لنشر العلم ومعرفة الحقائق وتزييف الأباطيل ومحاربة الشرك والأوثان وإذلال الكفر والكافرين والنفاق والمنافقين فذلك جهاده، ومن هنا جاء الحديث: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر) وقد يصبر الإنسان على الجهاد الأصغر الذي هو بذل الحياة رخيصة في سبيل الله ولا يطيق الجهاد باللسان وبالعبادة وبالطاعات.

    فالجهاد هنا يعم كل أنواعه، فتجاهد في الله بأن تترك الفواحش جميعها ما ظهر منها وما بطن، وتبذل الجهد من نفسك لتلتزم طاعة الله وطاعة نبيه عليه الصلاة والسلام في جميع الأوامر والنواهي جهد طاقتك، وتبذل من نفسك الجهد لأن تكون مؤمناً حقاً ولأن تكون مسلماً صادقاً.

    فالمسلم مدة حياته إلى لقاء الله في جهاد، وهذا الجهاد قال الله عنه: وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ [العنكبوت:6]، فمآله وثوابه وأجره لن يعود إلى الله ولن يعود إلا للإنسان ولنفسه، كما قال تعالى: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37]، وكما في الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم لما نقص ذلك من ملكي شيئاً. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم لما زاد ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي! إنما هي أعمالكم أجمعهما لكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).

    وقال تعالى هنا: وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [العنكبوت:6]، فهو الغني المطلق ونحن الفقراء إليه، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15].

    فحياتنا ومعاشنا وقيامنا ووجودنا لولا الله ومدده لما كان لها أثر، ولولا الله لما بقيت حياة، فالله غني عن عبادتنا وعن كل ما نفعله في هذه الدنيا، ولا يضره كفرنا كما لا ينفعه إيماننا، ولكن مآل جهادنا في أنواع الطاعات والعبادات إلينا، وثوابها راجع لنا، وخيرها نحن الذين نتمتع به، كما قال هنا: وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ [العنكبوت:6]، واللام هنا لام التوكيد في الكلام، وهي تقوم مقام القسم، فالله غني عن العوالم الماضية ملائكة وجناً وإنساً، والعوالم الباقية واللاحقة ملائكة وجناً وإنساً وغير ذلك، فالله غني عن الكل غنىً مطلقاً، ونحن الفقراء إليه فقراً مطلقاً، ولا يستغني أحد عن الله في شيء، فهو الذي أوجدنا، وهو الذي أحيانا، وهو الذي يرزقنا، وهو الذي أصحنا، فإن شاء أبقى ذلك وإن شاء رفعه، لا يزيد ذلك في ملكه ولا ينقص منه، فهو الغني الغنى المطلق عن الكل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات...)

    قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ [العنكبوت:7].

    في الآية الماضية كان الكلام على الكافرين والمترددين والمنافقين، وسنة الله في كتابه أنه يتكلم عن الكفر بعد الإيمان، وعن الإيمان بعد الكفر، وعن العذاب بعد الرحمة، وعن الرحمة بعد العذاب؛ ليبقى الإنسان بين خوف ورجاء، وبين طاعة دائمة وتردد فيما إذا كان من المنافقين.

    فلأهل الجنة وللمطيعين آيات الرحمة والوعد بالجنة والرضا، وللكافرين والمنافقين التهديد والوعيد بالنقمة والعذاب والنار، قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [العنكبوت:7] فلابد مع الإيمان من عمل الصالحات. والإيمان: التصديق بالقلب والقول باللسان وعمل الصالحات بالأركان؛ ليؤكد الخُبر الخبر.

    قال تعالى: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [العنكبوت:7] أي: من القيام بالأركان الخمسة جميعها بالتزام الشهادتين وآدابها، والتزام الصلوات الخمس في اليوم والليلة، والتزام صيام شهر رمضان من كل عام، والتزام الحج مرة في العمر لمن وجد زاداً وراحلة، وأداء الزكاة لمن رزقه الله مالاً يؤدي زكاته، ويتبع ذلك ترك المنكرات والمحرمات جميعها، وفعل الطاعات حسب جهده وطاقته، وضابط ذلك وجامعه قوله عليه الصلاة والسلام: (ما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه) وقوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].

    فلا تزن ولا تسرق ولا تنافق ولا تكذب ولا ترتش ولا تراب ولا تظلم، فهذه النواهي جميعها لا بد منها؛ لأن السلب لا يتعلق إلا بالإرادة، بأن تكون إرادتك قوية وإيمانك صحيحاً، وأما الأفعال فعلى قدر الطاقة، مثل الأمر بالصلاة قياماً، فإذا عجز المريض فقد قال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، ومثل الأمر بالصيام فإن كانت حائضاً أو نفساء أو وجد مسافر أو مريض فـلا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]. ومثل الأمر بالحج فإن لم يجد هذا المأمور زاداً ولا راحلة فـلا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].

    أما ما لا تفعل فهي في إمكان كل أحد امرأة كانت أو رجلاً؛ لأنها لا تحتاج إلى قدرة، وإنما تحتاج إلى إرادة قوية وإيمان صادق يحقق هذه الإرادة القوية.

    قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ [العنكبوت:7]، فهنا يخبر الله جل جلاله ويتعهد باللام الموطئة للقسم ويؤكده بالنون الثقيلة: لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ [العنكبوت:7] والتكفير: الستر، أي: تستر وتزال، أي: لا يحاسب عليها المؤمن الذي يأتي بالصالحات.

    وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ [العنكبوت:7]:

    أي: يجازيهم الله عن الذي كانوا يعملون بأحسنه، والحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما لا حد له مما أراد الله، وقد تكون الحسنة الواحدة سبباً في دخول الجنة، وقد تكون السيئة الواحدة نوعاً من الكفر، قال صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم لينطق بالكلمة لا يلقي لها بالاً فيهوي بها في النار سبعين خريفاً)، أي: ولا يصل إلى القعر، كأن يقول كلمة يمزح بها وهي تتعلق بالذات العلية أو تتعلق بالنبوة الكريمة فيرتد بها ويكفر.

    وأما المسلم المؤمن الذي يقوم بالصالحات فمهما كان منه من سيئة فإنه يكفّر عنه سيئاته بهذا الشرط، ويجازيه على الحسنات أحسنها وأكرمها وأتمها وأسبقها، والحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف. هذا جزاء المؤمن الصادق العامل للصالحات والقائم بها: أن تكفّر سيئاته، وتسجّل حسناته بأحسنها.

    قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ [العنكبوت:7]، أي: يجازيهم الله ويكافئهم على أعمالهم بأعلى الحسنات والأجر والثواب.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756015909