أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ [السجدة:18-22].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا [السجدة:18]. إن المؤمن هو من آمن بالله ولقائه ورسوله وكتابه وقضائه وقدره وبكل ما أخبر الله عنه. وأخبر عنه رسوله صلى الله عليه وسلم. ولا يمكن أن يكون هذا المؤمن.
وقوله: كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا ، أي: خارجاً عن طاعة الله بالكفر والشرك، والذنوب والآثام. وهو من فسقت الفأرة: إذا خرجت من جحرها فهو خارج عن حدود الله بالكفر والشرك، والذنوب والآثام.
فهم لا يَسْتَوُونَ [السجدة:18] والله. بل هذا حي وذاك ميت وهذا طاهر وذاك خبيث وهذا كافر وذاك مؤمن وهذا سعيد وذاك شقي، فلا استواء بينهما أبداً ومعنى هذا: الترغيب في الإيمان، والتحذير: من الفسق والفجور، والكفر والشرك والمعاصي.
ثم قال: فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا ، أي: جزاؤهم جنات المأوى التي يأوون إليها، ويسكنون فيها، ويقيمون بها، فهي مأواهم ومكان إيوائهم والنزل: ما يعد للضيف إذا نزل بالبيت من طعام وشراب وفراش فالجنة نزل وضيافة للمؤمنين العاملين للصالحات؛ إذ فيها طعامهم وشرابهم وفراشهم. اللهم اجعلنا منهم.
والجنات: جمع جنة والجنة: هي البستان العظيم الذي فيه الأشجار والأنهار والقصور.
وقوله: نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:19]، أي: بسبب عملهم الصالحات. وفي هذا إشارة إلى أن الإيمان وحده لا يكفي ولا يعتق من النار ولا يحقق السعادة فلا بد إذاً من العمل الصالح. اللهم إلا من كان آخر كلامه لا إله إلا الله فإنه يثاب عليها، ويدخل الجنة ولو بعد حين، وإن كان في العذاب الأليم.
فالعمل الصالح نتائجه وثماره وحقائقه هي: أنه يزكي النفس البشرية ويطهرها وينظفها، فتصبح أهلاً لجوار الله في الملكوت الأعلى. والكفر والشرك والمعاصي تدسي النفس وتخبثها، وتلوثها وتعفنها، فتصبح غير أهل للملكوت الأعلى وللجنة دار السلام ولكن تكون أهلاً للنار دار البوار في أسفل سافلين.
وقوله تعالى: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا ، أي: كلما هموا بالخروج والهروب منها يعادون إليها فهم يهمون بأبواب النار ليخرجوا، أو ليعلوا فوقها والزبانية من الملائكة الموكلون بعذابهم يردونهم، ويمنعونهم من الخروج من النار، كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا أبداً بلا نهاية. والزبانية تسعة عشر ملك لا يعرف قدرهم ولا وصفهم إلا الله.
وقد دل هذا على أن الفسق هنا كفر، وأنهم كافرون؛ إذ كذبوا بالدار الآخرة، وما فيها من نعيم، أو عذاب أليم ولقد كانوا ملاحدة دهريين علمانيين كافرين مشركين لا يؤمنون بالدار الآخرة، ولا بما فيها من نعيم مقيم، أو عذاب أليم. والآن البلايين من اليهود والنصارى والمشركين لا يؤمنون بالدار الآخرة واليهود هم الذين حولوا الناس من نظرية الإيمان بالله واليوم الآخر إلى لا إله والحياة مادة والمشركون في مكة ما كانوا يؤمنون بلقاء الله ولا بالدار الآخرة.
يقول تعالى: وعزتنا وجلالنا لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى . وهو عذاب الدنيا من القحط والجدب، والمرض والقتل، والحروب والمجاعة، والخوف وغيرها، وكلها عذاب دنيوي قبل عذاب الآخرة وهو يصنع بهم هذا لعلهم يرجعون إلى الحق، ويتوبون إلى الله ويستقيمون على منهجه.
فقريش قد أصابها الله بقحط وجدب ست سنوات، حتى أكلوا العهن والدم من الجوع. والآية عامة، فالعرب والمسلمون لما فسقوا وفجروا سلط الله عليهم الكفار فاستعمروهم واستغلوهم، وعذبوهم وأهانوهم، ثم رفع الله ذلك عنهم؛ لعلهم يرجعون، فلم يرجعوا، فهم معرضون عن كتاب الله، لا يطبقون شرع الله ولا تجتمع كلمتهم ولا دولتهم وهم مقسمون إلى ثلاثٍ وأربعين دولة ووالله إنهم لمعرضون للدمار وما يصيبهم الله به من فقر أو ذل أو هون أو عذاب إنما هو لعلهم يرجعون ولكن أبوا أن يرجعوا.
ثم قال: دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ . وهو عذاب يوم القيامة وهو النار وما فيها من ألوان الشقاء، والعذاب. وهذا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السجدة:21]. والمؤمن التقي بمجرد ما يصاب بمرض يعرف أنه بسبب ذنبه، فيبكي ويتوب إلى الله عز وجل فإذا أصيب بأي شيء في بدنه أو ماله فإنه يقول: هذا بسبب ذنبي وإعراضي عن ربي، فيتوب إلى الله ويستغفر ويرجع ولكن الكافر الميت القلب الذي لا روح له لا يرجع. وهذه علة فيهم. والله سبحانه وتعالى إنما يعذبهم في الدنيا لعلهم يتوبوا ويرجعوا إليه؛ فيستقيموا على منهج الحق، فيكملوا ويسعدوا.
ثم يقول تعالى مهدداً متوعداً: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ [السجدة:22]. فوالله لينتقمن الله من هذا العالم من أمريكا إلى اليونان بنقم عجيبة، وسيبتليهم ويصيبهم بعذاب في الدنيا، وعذاب في الآخرة أعظم من ذلك كله فنحن من المجرمين المفسدين لمنتقمون.
قال: [ معنى الآيات:
قوله تعالى: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا ، أي: كافراً، ينفي تعالى استواء الكافر مع المؤمن، فلذا بعد الاستفهام الإنكاري أجاب بقوله تعالى: لا يَسْتَوُونَ [السجدة:18]. ثم بين تعالى جزاء الفريقين، وبذلك تأكد بُعد ما بينهما ] أي: ما بين الكافر والمؤمن [ فقال: أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا ، بالله ربّاً وإلهاً، وبمحمد نبياً ورسولاً، وبالإسلام شرعاً وديناً، وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بأداء الفرائض والنوافل في الغالب بعد اجتنابهم الشرك والمحارم، فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا ، أي: ضيافة لهم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:19].
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا عن أمر الله فلم يوحدوا ولم يطيعوا، فعاشوا على الشرك والمعاصي حتى ماتوا، فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ، أي: مقرهم ومحل مثواهم وإقامتهم، لا يخرجون كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا ، أي: هموا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها من قبل الزبانية، تدفعهم عن أبوابها. وَقِيلَ لَهُمْ إذلالاً لهم وإهانة: ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [السجدة:20]. إذ كانوا مكذبين بالبعث والجزاء، وقالوا: أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السجدة:10].
وقوله تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى ، وهو عذاب الدنيا بالقحط والغلاء، والقتل والأسر دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ ، وهو عذاب يوم القيامة، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السجدة:21]. يخبر تعالى أنه فاعل ذلك بكفار قريش؛ لعلهم يتوبون إلى الإيمان والتوحيد فينجوا من العذاب، وينعموا في الجنة وفعلاً قد تاب منهم كثيرون.
وقوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا ، أي: وعظ بها وخوِّف، كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ عليهم القرآن وكان بعضهم يعرض عنها فلا يسمعها، ويرجع وهو مستكبر ] والعياذ بالله [ فمثل هؤلاء لا أحد أشد منهم ظلماً.
وقوله تعالى: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ [السجدة:22]، يخبر تعالى أنه لا محالة منتقم من أهل الإجرام، وهم أهل الشرك والمعاصي وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ثلاثة أصناف من أهل الإجرام الخاص، وهم:
أولاً: من اعتقد -أي: عقد- لواء في غير حق، أي: حمل راية الحرب على المسلمين، وهو مبطل غير محق ] هذا أول المجرمين.
[ ثانياً: من عق والديه أي: آذاهما بالضرب ونحوه ومنعهما برهما، ولم يطعهما في معروف ] هذا الثاني.
[ الثالث: من مشى مع ظالم ينصره ] فهو أيضاً من المجرمين أهل الإجرام الخاص. نجانا الله تعالى وإياكم منهم.
[ من هداية الآيات:
أولاً: بيان خطأ ] وجهل وضلال [ من يسوي بين المؤمن والكافر، والبار والفاجر، والمطيع والفاسق ] والفاسق والتقي والمستقيم والمعوج، والجائر والعادل.
[ ثانياً: بيان جزاء كل من المؤمنين والفاسقين ] فجزاء المؤمنين الجنة، وهي مأواهم وجزاء الكافرين النار، وهي مأواهم.
[ ثالثاً: بيان أن الله تعالى كان يأخذ قريشاً بألوان من المصائب؛ لعلهم يتوبون ] وقد رجع منهم الكثير ودخلوا في الإسلام.
[ رابعاً : بيان أنه لا أظلم ممن ذكر بآيات الله فيعرض عنها مستكبراً جاحداً معانداً ] كأن يقال له: اتق الله فيعرض عن الآيات، ويستمر على ذنوبه ومعاصيه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر