إسلام ويب

عبر من الحب والكراهيةللشيخ : أحمد القطان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الإنسان بقلة علمه وضعف إدراكه، لا يستطيع معرفة المستقبل وما تئول إليه الأمور، فالله جل وعلا هو الذي يعلم الغيب، وقد يحرمنا من أشياء نظن أن فيها خيراً، ولكن الحقيقة أن فيها شراً، وكذلك قد تكتب علينا أشياء نكرهها -مثل القتال- ولكنه جل وعلا يضع فيها خيراً كثيراً، وهنا أمثلة واقعية لذلك.

    1.   

    وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم

    الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

    اللهم ربنا لك الحمد أنت الذي خلقتنا من عدم، وأسبغت علينا وافر النعم، كبرتنا من صغر، وأطعمتنا من جوع، وسقيتنا من ظمأ، وعلمتنا من جهالة، وهديتنا من ضلالة، وحببت إلينا الإيمان وزينته في قلوبنا، وكرهت إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وعلمتنا قراءة القرآن، وكثرت حولنا الأحباب والإخوان، اللهم لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.

    وأصلي وأسلم على قدوتي وقرة عيني محمد بن عبد الله، وعلى أصحابه وخلفائه ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين.

    اللهم ألف على الخير قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، اللهم اجعلنا هادين مهديين، غير ضالين ولا مضلين، سلماً لأوليائك، حرباً على أعدائك.

    اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، واجعل جمعنا هذا مرحوماً، ولا تجعل فينا شقياً ولا محروماً، اللهم حقق بالصالحات آمالنا، واختم بالطاعات أعمالنا، واجعل بلدنا هذا وسائر بلاد المسلمين في أمن وإيمان، اللهم من أراد بنا سوءاً فأشغله في نفسه، ومن كادنا فكده، واجعل تدميره في تدبيره، اللهم اجعلنا وبلدنا في أمن وإيمان، في ضمانك وأمانك وبرك وإحسانك، احرسنا بعينك التي لا تنام، واحفظنا بركنك الذي لا يرام، وارحمنا بقدرتك علينا، ولا نهلك وأنت رجاؤنا يا أرحم الراحمين.

    اللهم أنت ملاذنا ومعاذنا ومصيرنا وظهيرنا، وحسبنا ومولانا، فنعم المولى ونعم النصير، نسألك اللهم لنا ولأولادنا وأرحامنا علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وشفاء من كل داء، اجعل لنا في عامنا هذا في أوله صلاحاً وفي أوسطه فلاحاً، وفي آخره نجاحاً، وعتقاً من النار برحمتك يا أرحم الراحمين.

    أمــا بـعـد:

    أيها الأحباب الكرام: أشهد الله وملائكته والناس أجمعين أني أحبكم في الله، وأسأل الله أن يجمعنا وإياكم في مستقر رحمته وفي ظل عرشه، وأن يسمعنا نداءه على رءوس الخلائق: (أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي).

    أيها الأحبة الكرام: يقول تعالى في كتابه الكريم: كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216] هذه الآية الكريمة -أيها الأحباب الكرام- أعتبرها حلالة المشاكل، وهي التي تدفع الرضا في قلب العبد المؤمن، كم من أمر حدث لنا تضايقنا منه في أول الأمر وتبرمنا وشكونا وتمنينا ألا يحدث، ثم نفاجأ في نهايته أن فيه الخير كل الخير.

    كم من إنسان تزوج امرأة ولكنه في شهوره الأولى لم يجدها على حسب ما اشتهى، كان يظن أن الزواج كما يشاهد في التلفزيون والمسرحيات والسينما؛ أنها تختار العبارة، وتختار الكلمة والحركة، وتتغنج وتتدلع، ويظن أن الزواج يكون بحركات السينمائيين والفنانين، فلما تزوج وجدها امرأة شريفة عفيفة حيية، ذاكرة لله عارفة لدينها عارفة لربها، لا تعرف من فنون وخبث وبدع هؤلاء السينمائيين والمسرحيين؛ فلهذا فوجئ وقال: أهذا هو الزواج الذي يذكر؟ ولكن لما صبر عليها ومر العام الأول فإذا به يراها كنـزاً لا تنتهي عجائبه ولا خزائنه، وجد عندها الصدق والإخلاص والأمانة والوفاء والكرامة، وكانت نعم الأم لنعم الأولاد والبنات، وظل يردد على مسامعها: إنني أحمد الله كثيراً أن كنت زوجتي، ولم تكن تلك المرأة التي في خيالي وكنت أرسمها من خلال شاشة التلفزيون أو السينما.

    كثير من الشباب -أيها الإخوة الكرام- كان يظن أن الزواج كما يقرأ أو يشاهد في الجرائد والصحف، ولم يعلم أن الزواج عالم آخر فيه مودة ورحمة، وفيه آيات الله: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21].

    لم يجعل بين المتزوجين العشق السينمائي والغرام المسرحي والفن التلفازي، وإنما جعل بينهم شيئاً آخر يدوم ولا ينقطع، لا كما يقولون: الحب من أول نظرة، إنما هي علاقة قلب من قلب وروح بروح، ولهذا يدوم الزواج القديم أكثر من الزواج الحديث، آخر إحصائية قرأتها يقول لك: (75%) من العقود تتعرض للطلاق، لا حول ولا قوة إلا بالله! ما السبب؟ مع أن الزواج القديم كل مائة حالة زواج تسعين أو خمسة وتسعين تثبت وخمسة في المائة فقط هي التي تتزعزع، السبب في ذلك: أن الزواج الحديث -مع الأسف الشديد- دفع أهلُ الفن والفنانون في نفوس الشباب نموذجاً خاصاً للمرأة، يريدها خفيفة الظل، خفيفة العبارة، كثيرة الحركة، تغمز وتلمز وترقص وتتدلع، ويظن أن هذه الذي يراها في الفيلم هي الزوجة المثالية، أما الصامتة الهادئة الحيية فيظهرها الفن أنها غبية ساذجة بليدة، ولا بد أن يأخذ عليها أو يطلقها، ولما كان هذا المفهوم المعكوس المنكوس يحل في نفوس الناس تعرضت تلك الزواجات إلى الانهيار والتمزق ولا حول ولا قوة إلا بالله.

    إذاً: عندما يقول الله: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:216] نعم ورب الكعبة! كم واحد جاء إلي وقال لي: يا أخي! أنا عازم على طلاقها.

    يا أخي! لماذا؟

    قال: لا أحبها.. رضي الله عن عمر، لما جاءه رجل وقال: [إني أريد أن أطلق زوجتي، قال: ولم؟ قال: لا أحبها يا أمير المؤمنين. دائماً يريد أن يكون قيساً وهي تكون ليلى ! فقال عمر: أوكل البيوت تبنى على الحب يا رجل؟ أين الوفاء والعهد والتذمم؟ أين هذا كله؟ ] فلما سكن الرجل رأى زوجته بعد مدة أنها هي المرأة التي يجب أن تكون له.

    مواقف كرهها الصحابة وجعل الله فيها خيراً

    أيها الأحبة: هذه الآية كم فيها من العلم وكم فيها من الفهم! وسأذكر لكم مواقف من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن حياة أصحابه والتابعين وفي واقعنا اليوم؛ لتروا كيف تكون هذه الآية فعلاً كما ذكرت لكم أنها حلالة المشاكل.

    الرسول صلى الله عليه وسلم كان كارهاً أشد الكره أن يتعرض أصحابه إلى الفتنة والإيذاء في مكة ، ولكن الله ابتلاه بالفتنة والإيذاء في مكة؛ فتعرضوا إلى الهجرتين إلى الحبشة ، فكانت هذه الهجرة إلى الحبشة (الأولى والثانية) سبباً في هداية ملك من ملوك النصارى وهو النجاشي، الذي دخل في الإسلام والتوحيد، إذاً كما يقول الله: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:216].

    وكم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كارهاً أن يترك مكة ، حتى أنه كان يلتفت إلى جبالها ويقول: (يعلم الله أنك أحب البقاع إليَّ وأحب البقاع إلى الله، ولكن أهلك أخرجوني) كان صلى الله عليه وسلم لا يحب الخروج من مكة لحبه لـمكة ، ولكن كم انطوى في هذا الخروج من خير.. قامت دولة الإيمان والإسلام على يثرب ، وجاءت المدينة المنورة تنشر راية التوحيد والجهاد.

    وأصحابه لما قضى الله لهم القتال في بدر كانوا قد خرجوا معه من أجل القافلة، والقافلة كم فيها؟ ليتخيل كل واحد منكم لو أن الصحابة فازوا بالقافلة ماذا سيكتب التاريخ؟ سيقول أعداء الدين والمستشرقون: خرج محمد وعصابته وقطعوا الطريق على قوافل آمنة وسرقوها، هكذا يقول المستشرقون، وهكذا يقول العلمانيون من أبنائنا الذين درسوا في الغرب وتتلمذوا على أساتذة الغرب، يطعنون في محمد صلى الله عليه وسلم، ويتهجمون بأقلامهم في صحفنا التي نشتريها بأموالنا ونقرؤها، كل يوم، والله كل يوم أقرأ تهجماً على الدين وتهجماً على الإسلام، عندما أقرأ الجرائد في كل خمس أو ست جرائد لابد أن أجد واحدة أو اثنتين فيهما تهجم على الإسلام؛ لهذا لا تعجبوا يوم أن فتح الله بغزوة بدر ولم يفتح بالقافلة، القافلة فيها أرز أو قمح كم فيها؟ لكن انظر فتح بدر ولكن الصحابة كانوا كارهين .. كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ [الأنفال:5] سبحان الله! كرهوا الخروج، وأبو أيوب الأنصاري يقول: [كأنها نزلت فينا] ولهذا الله سبحانه وتعالى جعل الخير كل الخير فيما كرهوا رضي الله عنهم وأرضاهم، انتصر معسكر الإيمان على معسكر الشيطان، وكانت لدولة الإيمان مهابة عظيمة، حتى إن المنافقين أخذوا يهابون الرسول صلى الله عليه وسلم، واليهود يحسبون ألف حساب للجيش الإسلامي، كل ذلك كان بفتح الله بغزوة بدر الذي كان يكره بعض الصحابة أن يخوضوها ولا حول ولا قوة إلا بالله!

    حادثة أخرى: كم تضايق الصحابة لما عادوا من الحديبية ولم يدخلوا مكة في عمرتهم، حتى كاد يقتل بعضهم بعضاً، عندما حلق الرسول صلى الله عليه وسلم رأسه ونحر هديه وفعل الصحابة بأنفسهم حتى كاد يقتل بعضهم بعضاً من شدة التنفيذ للهم والغم الذي كان في قلوبهم، وعمر بن الخطاب يقول: (ألسنا بالمسلمين؟ ألست أنت برسول الله؟ لماذا نعطي الدنية في ديننا؟ لماذا تعاهد الكافرين على أنه إذا فر مسلم من المدينة لا يعاد إلى المدينة، وإذا فر مسلم من مكة إلينا في المدينة نعيده إليهم لكي نفتن يا رسول الله؟ لماذا هذه الذلة؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: يا عمر! إن الله لن يضيعني ولن أعصي الله).

    وما إن عادوا من الحديبية إلا والقرآن ينزل والنبي تسير به الناقة حتى كاد فخذ أسامة بن زيد ينكسر رضي الله عنه، وكان تحت فخذ الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن ينـزل عليه: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الفتح:1] يقول عمر: (أهو فتح يا رسول الله؟ قال: بلى إنه الفتح، فجثا عمر على ركبتيه يستغفر الله على ما فعل، وهو يقول: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً) ثم أخذ يصوم كثيراً، ويعتق كثيراً، ويتصدق كثيراً، حتى يكفر خطيئته تلك.

    أرأيتم يا أحبابي في الله! كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216] لهذا لو تتبعنا قصص القرآن لوجدنا العجائب، حيث إن هذه الآية تعبر عن أحداث قصص القرآن.

    قصة موسى عليه السلام موقف أمه

    وهذا الشعب المؤمن الذي كان فرعون يسومه سوء العذاب، يذبح أبناءه ويستحيي نساءه، والشعب إذا ذبح فيه الذكور وترك الإناث أصبح الشعب ضعيفاً، أصبح مهزوزاً؛ لأن المرأة إذا كبرت وليس عندها رجل ينفق عليها ويسعى عليها، سوف تمد يدها إلى الأنذال، سوف تمد يدها إلى المجرمين، فيبدءون يساومونها على عرضها ولا حول ولا قوة إلا بالله! كما يحدث في بعض البلاد العربية والإسلامية، يذبح شباب الدعوة الإسلامية ويدخلون في السجون والمعتقلات وتنصب لهم المشانق، ويتركون نساءهم حتى إنهم يمنعون كل من يتصدق عليهن، ويخرجون أولادهم من المدارس ولا يعالجونهم في المستشفيات، كل ذلك تضييقاً عليهم حتى يصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر، ولكن أين الخير في هذه القضية؟

    اسمعوا: لما ولدت أم موسى موسى احتارت فيه أين تذهب به؟ كل امرأة محسوبة في الحساب متى حملت، ومتى ستلد، وما نوع ولدها، ويذبح على صدرها وهي تنظر! وإذا بالله جل جلاله يجعل مكان الخوف أمناً، ومكان الكره خيراً، ومكان الشر رحمة... وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص:7] لا إله إلا الله! وهل تحتاج الأم في رضاعة ولدها إلى وحي؟ كل أم في قلبها رحمة تجاه ابنها ترضعه بدون وحي، ولكن هذه الرضعة رضعة خاصة، هذه الرضعة بأمر الله رب العالمين؛ لأن موسى إذا ذاق طعمها سيرفض جميع أنواع الحليب والرضاعة حتى يعود إلى آخر رضعة رضع أمه فيها، فالله يقول: أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ [القصص:7] كان الواحد يتوقع عنده الخوف والوجل أن يقول: إذا خفتِ عليه فاهربي به، إذا خفتِ عليه فأخفيه في البيت، إذا خفتِ عليه فغيري اسمه وملامحه حتى لا يظنوا أنه ولد، غيري ملابسه مثلاً، ولكن ميزان البشر غير ميزان الله أيها الإخوان، مقاييسنا نحن البشر غير مقياس الله وسنته فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ [القصص:7] ضعيه في البحر، مكان التماسيح والأسماك والوحوش، والأمواج التي تغرق، والتيارات الجارفة، هذا كله شر في شر، الله يجعل فيه كل خير: فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7] وإذا وعد الله فالله لا يخلف الميعاد، فكان الخير في مكان الشر، إذ نشأ موسى في بيت فرعون؛ يأكل من طعامه، ويشرب من شرابه، ويلبس من لباسه.

    إن الله يمكر ويكيد بفرعون الطاغية المتجبر، حتى إذا بلغ موسى أشده ابتلاه الله وفتنه الله فتوناً عظيماً، ثم أرسله مرة ثانية إلى فرعون وقال الله سبحانه وتعالى: قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46] فأعطاه الرسالة وأعطاه المعية: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46] والقصة باقيها معروف من طفل وليد صغير مطارد في تابوت يجرفه النهر إلى اللقطة الأخيرة وفرعون تتقاذفه الأمواج وهو يصيح صيحته الأخيرة، وجبريل عليه السلام يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: (لو تراني -يا محمد- وأنا آخذ من طينة البحر وأحثو فم فرعون حتى لا تدركه رحمة) انظر رحمة الله الواسعة، هذا حديث صحيح يرويه السيوطي في صحيح الجامع الصغير ، جبريل أعلم مني ومنك ومن كثير من الناس برحمة الله، ولهذا لشدة ما ينتقم لله ويثأر لله قبل أن يصدق فرعون في توبته ألجمه بالتراب حتى مات كافراً والعياذ بالله.

    فرضية الفتال وما فيه من الخير الكثير

    أيها الأحبة: هذه الآية العظيمة كم تواسي القلوب المجروحة والنفوس المكلومة والعيون المحزونة.

    الإسلام -أيها الأحباب- دين الفطرة لا يصطدم مع فطرة الناس؛ الإسلام يعترف بأن القتل والقتال مكروه عند جميع الناس سوءاً كان هؤلاء الناس أنبياء أو صحابة أو تابعين، ليس هناك أحد يحب القتل والموت، فطرة البشر كلها تكره القتل والموت، والله يقرر هذه الحقيقة ويقول: كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة:216]، الإسلام لا يقول: القتال جيد وأنتم تحبونه، لا. أولاً يقرر هذه الحقيقة وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ فإذا أكد هذه الحقيقة التي تتمشى مع فطرة الناس جميعاً، أعطى الله دوافع أخرى تجعل هذا المكروه محبوباً، وتجعل هذا المتعب راحة، وهي دوافع الإيمان والثواب ودوافع العقيدة، لهذا كان بلال يعذب، فيقولون: [كيف تصبر يا بلال ؟ قال: أخلط حلاوة الإيمان بمرارة العذاب، فتطغى حلاوة الإيمان على مرارة العذاب فأصبر]، والناس اليوم -مع الأسف الشديد- عندما يخوضون القتال مع عدوهم لم تكن عندهم تلك الحوافز.

    كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:216] أين الخير؟ الخير يوم كان الجهاد في سبيل الله، وراية الإسلام عزيزة.

    إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاءت امرأة تشتري ذهباً من يهودي في المدينة ، فقال لها اليهودي: لا أبيعك الذهب حتى تكشفي عن مواضع حسنك وجمالك، فقالت: أنا امرأة مؤمنة وقد نزل الحجاب، وكان يهودي آخر خلفها، فربط طرف ثوبها بطرف خمارها، فلما قامت ارتفع الثوب وانكشفت عورتها، فصاحت: وا سوأتاه! وا إسلاماه! ومر رجل من المسلمين سمع هذه المرأة تصيح فما سأل: ما هو السبب؟ التفت يميناً وشمالاً فنظر يهودياً يضحك بجوارها، فسل السيف وأطاح برأسه، انظر غيرة المسلم والمؤمن، فاجتمع اليهود على هذا المؤمن وقتلوه، ولما وصل الخبر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ضرب حصاراً على بني قينقاع وأجلاهم عن المدينة ، وقد هم بإبادتهم لولا تدخل بعض المنافقين، وأخرجهم ونفاهم إلى خارج المدينة ، ثم قضى عليهم بعد ذلك، إنهم مرض عضال فتك بهم.

    انظروا إلى عزة الإيمان والإسلام، امرأة واحدة تصيح، أي مسلم بدون تحديد يستجيب لندائها ويحفظ ماء وجهها، الآن كم امرأة في عالمنا تصيح في فلسطين وفي لبنان وفي آسان وفي أفغانستان وفي الفليبين؟ كم من امرأة الآن تصيح ولا مجيب؟ والسبب: القتال والجهاد الذي كان كرهاً وفيه الخير الكثير، أصبحت الحرب الهجومية محرمة، هذا مكتوب في كل الدساتير، الحرب الهجومية محرمة، أي: الجهاد حرام إلى يوم القيامة، محمد صلى الله عليه وسلم يقول: (الجهاد ماض إلى يوم القيامة) والدساتير تقول: الجهاد حرام إلى يوم القيامة، الواحد منا يقول: يا شيخ! أين الجهاد وأين دنياه؟ من تريد أن تجاهد؟ أمريكا أو روسيا؟ نحن فينا شدة أمريكا أو روسيا أو الكفار هؤلاء الذين اجتمعوا علينا، أقول: الأفغاني المسكين الحافي العاري الجائع لماذا الآن يجاهد خمس سنوات وهذه السنة السادسة، السبب: إن العقيدة والإيمان عنده غير الإيمان عند كثير من الناس، فلهذا أقول: إننا بأمس الحاجة إلى هذا الإيمان وهذه العقيدة التي ذكرتها في الأسبوع الماضي.

    1.   

    من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه

    اسمعوا إلى هذه القصة وهي تترجم حقيقية هذه الآية: أحد العلماء والمجاهدين وكان من الصحابة اسمه فروخ ، يقول: خرجت أجاهد في سبيل الله وتركت زوجتي وهي حامل، فقلت لها: يا امرأة! إن رزقت بولد فهذه ثلاثون ألف درهم أنفقيها عليه وعليك حتى أعود، فقالت: يا هذا! تحر الرزق الحلال، فما عهدناك إلا آكلاً، فإن ذهب الآكل بقي الرازق. انظر إلى المرأة كيف توصي زوجها، يقول: فانطلقت في أرض الله، ووصل إلى حدود الهند والسند وهو يجاهد في سبيل الله، عبر الجزيرة وعبر أرض العراق وأرض إيران، وذهب يفتح بلاد الله، ثم عاد بعد خمس عشرة سنة، وإذا به يدخل مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويدخل المسجد النبوي على ساكنه أفضل الصلاة والسلام، ويصلي فيه ركعتين، وبعد صلاة المغرب وإذا بشاب قد نصب له كرسي وحوله الناس، فلما نظر إليه تعجب.. كل الناس مجتمعة إلى هذا الشاب الصغير الذي لم يخط شاربه ولا لحيته! وإذا الناس سكوت كأن على رءوسهم الطير من الاحترام لهذا الشاب، يقول: فجلست، مع أنه كان مشتاقاً إلى زوجته، فمنذ خمس عشرة سنة ما لقيها! يقول: فجلست لأنظر هذا الأعجوبة، فتكلم في التفسير فلم أر مثله، وتكلم في الحديث فلم أر مثله، وتكلم في الشعر والأدب فكأن كلامه حبات اللؤلؤ الرطب يتناثر بين الناس، فقلت: عجباً ليت لي ابناً مثله! انظر الدعوة، يقول: فأذن العشاء علينا ونحن لا نعي في الوقت، وصلينا العشاء وذهبت إلى بيتي، ولم يكن هناك كهرباء مثل زماننا يسهرون إلى الساعة الثانية عشرة، بل من بعد صلاة العشاء تعشى الناس وناموا ليس عندهم أنوار ولا كشافات، يقول: فجئت إلى بيتي فإذا الباب مردود، فدفعته فدخلت، فإذا بي أرى شخصاً ينام بجوار زوجتي، فقلت: وي! وسللت السيف لأضربهما معاً، فسمعت الزوجة حسيسي، فقالت: على رسلك يا رجل إنه ابنك، قم يا بني وسلم على أبيك، يقول: فلما اقترب مني ونظرت إليه فإذا هو ذلك الغلام الذي يحدث الناس.. ما ترك عبد لله شيئاً إلا أخلفه الله خيراً منه، وما نقص مال من صدقة، يقول: فلما رأيته قلت: الحمد لله، أهذا هو ابني؟ قالت: بلى. إنه ربيعة الرأي، كبير علماء المدينة، أفتى وهو في هذا العمر، قال: كيف حدث له ذلك؟ قالت: أما تركت فينا ثلاثين ألف درهم؟ قال: بلى. قالت: أنفقتها كلها على تعليمه وتأديبه.

    الأم مدرسة إذا أعددتها     أعددت شعباً طيب الأعراق

    هذه الأم تخرجت من مدرسة هاجر أم إسماعيل لتخرج أمهات المسلمين عبر الدهور والعصور، وهكذا كان اليهود والصليبيون يخافون من أرحام المسلمات أن تنتج لهم رجلاً كـصلاح الدين أو رجلاً كـالظاهر بيبرس وقطز الذين دوخوا التتار والمغول والصليبيين، ما دام هذا القرآن موجوداً وهذه السنة موجودة والأرحام تدفع من يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله فإن اليهود والغرب والشيوعيين لا يقر لهم قرار.

    والناس ألف منهم كواحد     وواحد كالألف إن أمر عني

    نعم يا أحبابي! التربية هي الأصل.

    واحذر مؤاخاة اللئيم فإنه     يعدي كما يعدي السليم الأجرب

    واحذر عدوك إن أتى متبسماً     فالليث يبدي نابه إذ يغضب

    لا خير في ود امرئ متملق     حلو اللسان وقلبه يتلهب

    يعطيك من طرف اللسان حلاوة     ويروغ منك كما يروغ الثعلب

    واحذر من المظلوم سهماً صائباً     واعلم بأن دعاءه لا يحجب

    فكم كره هذا الرجل عند فراق أهله! وكم فرح عندما عاد ووجد ابنه من كبار العلماء يعلم الكبار والصغار. وصدق الله: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:216] وفي آية: فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء:19].

    قصة أخرى تبين أن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه

    قصة أخرى تتكلم عن واقع هذه الآية العظيمة:

    كان هناك رجل صياد يذهب إلى البحر فيلقي بشباكه في البحر فلا يخرج فيها شيء، حتى أخذه الفقر والجوع، فتذكر أخاً له في الله، يقول: فذهبت إلى أخي وكان اسمه بشر ، فقلت له: يا أخي! كلما ذهبت إلى البحر وألقيت شبكتي لا يخرج إليَّ شيء، ألا تدعو لي دعوة صالحة، فدعاؤك لي في ظهر الغيب مجاب، يقول: فابتسم وكان بيده منديل، فقرأ الفاتحة وآيات وأحاديث للرسول صلى الله عليه وسلم على هذا المنديل، ثم قال: خذه وضعه في شبكتك وادع الله أن يرزقك، يقول: فأخذته وألقيته وألقيت الشبكة، فأخرجتها وقد امتلأت بالصيد الوفير، يقول: فأخذت أبيع منه وأتصدق منه وطبخت منه وأكلت، فلما شبعت تذكرت صاحبي الذي دعا لي ولم يبق من الصيد إلا سمكتان ورغيفان، يقول: فأخذت السمكتين المشويتين والرغيفين وذهبت إلى صاحبي وقرعت عليه الباب، فقال: من؟ قلت: فلان، قال: ادخل وضع ما في يدك في الدهليز، علم أنه ما جاءه إلا ليعطيه هدية من الصيد، فقلت له: اتق الله فأنت أحوج مني لهاتين السمكتين، كلهما، قال: لا، لو أكلنا السمكة ما صادت الشبكة، نحن ما دعونا إلا لله رب العالمين لا نريد منك أجراً، شعاري شعار الأنبياء: إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ [يونس:72] ولكن احملهما إلى أحوج مني.

    يقول: فحملتهما وخرجت، وإذا بي أرى أخاً لي في الله اسمه أحمد بن مسكين ، وقد اصفر وجهه، فقلت له: ما الذي أخرجك؟ قال: والله ما أخرجني إلا الجوع، فقال: هذا رزقك ونصيبك خذه، يقول: ابن مسكين: فما إن حل الرغيفان والسمكتان في يدي حتى كأني رأيت كنوز الدنيا بين يدي، فلما استدرت وإذا أمامي عجوز تحتها يتيمتان تمدان يديهما إليَّ!!

    فتنة ومحنة وابتلاء، المؤمن مبتلى، يقول: فهممت أن أمشي فلم أستطع، وهما ينظران إليَّ هكذا، يقول: فلم أتمالك حتى أخرجت الرغيفين والسمكتين وأعطيتهما اليتيمتين، يقول: فخرجت دمعة من عين العجوز واليتيمة، ثم توليت وانكفأت على وجهي في بيتي من الجوع.

    يقول: فنمت من الإعياء، وإذا بي أرى في المنام كأني أرى القيامة قد قامت، وإذا السماء تتشقق، والبحار تفجر، والقبور تبعثر، والناس يزحم بعضهم بعضاً في عرصات يوم القيامة، والكل يقول: نفسي نفسي لا يلتفت أحد إلى أحد، حفاة عراة غرلاً، لجمهم العرق وأصابهم كرب عظيم، يقول: وأنا من بينهم ألتفت يميناً وألتفت شمالاً أريد أن أعرف أحداً فلا أعرف، وإذا بصائح يصيح: انصبوا لـابن مسكين ميزانه، فوضع الميزان أمامي، ثم قال: زنوا أعماله، فوزنوا أعمالي فتعادلت كفة السيئات بكفة الحسنات، وقلت: ويحي هلكت، واندفع الزبانية ليأخذوني إلى النار، فصاحت ملائكة الرحمة: انظروا لعلكم تجدون له عملاً، فجاء ملك يصيح: انتظروا، فإذا به يحمل بيديه الرغيفين والسمكتين، فوضعهما في كفة الميزان فتحرك قليلاً، فدخلت الفرحة والأمل في قلبي، فصاح ملك آخر: لقد جئنا بالإيثار، فقد آثر اليتيمتين على نفسه، يقول: وجيء بالإيثار شيء يحمل ما أدري ما هو، شيء محمول اسمه الإيثار فوضع، فنـزلت الكفة، فلما هموا أن يأخذوني قال ثالث: انتظروا بقية دمعة اليتيمتين والعجوز، فجيء بها تفور، ووضعت في الكفة فرجحت رجحاناً عظيماً وطاشت كفة الذنوب، يقول: فأفقت من نومي وقلت: لا إله إلا الله! فدخل السرور على قلبي، ونسيت همي وغمي وجوعي، يقول: وإذا بالباب يقرع، وإذا بأخي قد صاد صيداً ثميناً فأعطاني نصيبي منه، فقلت: الحمد لله الذي وفقني إلى تلك الصدقة.. وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:216] انظر لو كان يعلم الخير.

    لهذا -أيها الأحباب- هذه الآية العظيمة اعرضوها على كل موقف تقفونه، الطالب إذا لم يستطع أن يدرس في أمريكا ووقعت أمامه عقبات، أنت لا تدري -يا أخي- لو ذهبت إلى أمريكا لربما تفتن هناك، وتعود -والعياذ بالله- مدمناً للخمر أو المخدرات، فكانت رحمة الله بك أن منع عنك ذلك وجعلك تدرس هنا، أليست هذه رحمة من الله؟ الحديث القدسي يقول: (وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك) أي: لو جعلته غنياً لطغى والعياذ بالله! إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:5-6].

    صليت مرة في المسجد، وكان رجل من المصلين بجواري يدعو ويرفع صوته بالدعاء، وكان يقول: يا ألله أنا من متى أدعوك؟ يا ألله إخواني كلهم أحسن مني، إخواني أغنى مني، إخواني ... يا ألله على الأقل مثل إخواني، قلت له: اذكر الله يا أخي، قال: لا إله إلا الله. فالظاهر أن إخوانه أغنياء وهو عنده دكان صغير يبيع ويشتري فيه على قدر الحال، ويمكن الجهد الذي يبذله هو أكثر من الجهد الذي يبذله إخوانه، قد يكون إخوانه جالسين على المكتب والتلفون ويوقع الواحد توقيعاً واحداً ويقع له مائة ألف، لا يتعب فيها، وهو مسكين يجلس من الصبح إلى الليل ويبيع دفتراً أو قلماً أو غير ذلك، لكن الله سبحانه وتعالى أعلم وأرحم بهذا من أبيه وأمه وإخوانه.

    لو أن الله سبحانه وتعالى أعطى هذا مالاً كثيراً فقد لا يصلي، فيبدأ يصلي في البيت ثم يترك الصلاة، وقد يذهب ويتعامل مع البنوك والعياذ بالله! لكن الله سبحانه وتعالى يرحمه .. (وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك، هم عبادي وأنا ربهم).

    اذهب إلى المستشفيات وسترى واحداً له ثمانية أشهر ورجله في الجبس وأنا متأكد أنها رحمة من رحمات الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول للملائكة: (اكتبوا ما كان يعمل عبدي حتى أشفيه) فيكتبون جميع أعماله الصالحة وهو على فراشه، لكن لو عافاه الله سبحانه وتعالى الذي يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، لو أطلق رجله كان -والعياذ بالله- في معاصي الله يسعى ولا حول ولا قوة إلا بالله.

    وهكذا -يا أخي المسلم- كل قضية وكل مشكلة وكل حادثة، وكل ما لا يرضيك.. احترق المصباح، توقفت الثلاجة عن العمل، تعطل التلفزيون، البنت لا أحد تزوجها، كل هذه الأمور تؤكد أن الله أرحم بك وبأولادك منك ومن والديك؛ لأنه الرحمن الرحيم سبحانه وتعالى، يجب أن نقتنع بهذه الكلمة حتى نرضى، فإذا رضينا توكلنا على الله، فإذا توكلنا على الله فوضنا الأمر إلى الله .. وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44] فيحميك الله من جميع الأذى والشرور.

    فصة لمالك بن دينار

    اسمعوا هذه القصة وهي تتحدث عن هذه الآية العظيمة التي هي محور هذا الدرس:

    رجل يقول: كنت حارساً للأسواق، وذات يوم دخلت السوق وإذا برجل طويل عريض وفقير تحت قدميه يتوسل إليه، ويقول: رد عليَّ دراهمي الثمانية، لا تترك بنياتي يبتن هذه الليلة طاويات من الجوع وأنت ترى البرد شديداً، ارحمني يرحمك الله، وكلما تذلل الفقير تجبر الغني ورفع أنفه إلى السماء، يقول هذا: فجئت إليه وقلت: يا هذا! إني أراك رجلاً ميسوراً فأعطه الثمانية الدراهم، فقال: ما شأنك أنت؟ إنك لا تعرف هؤلاء المحتالين، يقول: فلم أتمالك إلا أن أدخلت يدي في جيبه وأخرجت الدراهم الثمانية ووضعتها في يد الفقير وقلت: انطلق، ولكن إذا تعشت بنياتك تلك الليلة فليدعين لـمالك بن دينار ، فلما أصبحت الصباح وإذا بي أحس أن قلبي فيه شيء، قذف الله في قلبي حب الزواج، انظر بداية الخير، يقول: فبحثت أخطب إلى الناس فلا يزوجوني؛ لأنهم يعرفونني فظاً غليظاً، فذهبت فاشتريت جارية من السوق مؤمنة وأعتقتها وجعلت مهرها عتقها وتزوجتها فكانت نعم الزوجة، ورزقني الله منها بنية كانت سعادتي في دنياي تلعب بين يدي، فلما بلغت الرابعة من عمرها خرت بين يدي ميتة، فقلت: ويحي! وناديت أمها وجلست تبكي معي، أنظر يميناً فلا أرى إلا بقايا طعامها وألعابها وأصدائها تتردد بين الجدران، وقد ماتت باردة بين يدي وركبني حزنٌ عظيم وهم كبير.

    يقول: فلما أخذ بي الحزن مأخذه، وإذا بي أفكر أن ألجأ إلى الخمر فأشربه.. انظر ابن آدم كيف يضعف ولكن لا يحفظه إلا الله! يقول: فخررت على وجهي، وإذا بي كأني في عرصات يوم القيامة أجري وخلفي ثعبان يخرج من فمه نار يريد أن يحرقني، كلما جريت اقترب، وإذا بجبل فيه نوافذ تطل منه بنيات المسكين ويصحن: يا فاطمة ! أدركي أباك، وإذا ببنيتي تشير إلى الثعبان فيقف، وتشير إلي فأصعد إليها وأجلس بين يديها وأنا أبكي، فتقول: يا أبتاه: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ [الحديد:16] يا أبتاه: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ [الحديد:16] يقول: فكانت ترددها علي في المنام، حتى أفقت على أذان الفجر وكأني أسمع صوتها وهي تردد هذه الآية، فاستغفرت وتوضأت وذهبت أصلي خلف الإمام الشافعي ، فقرأ في أول ركعة: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ [الحديد:16] وكأني أنا المعني بها والمراد.. انظر القدر الإلهي إذا أراد الخير بالعبد، يقول: فلما استدار من الصلاة أخذ يفسرها للناس وكأنه يحدثني أنا، ويقول: يا عباد الله! إن الله استبطأ الخشية من قلوب المؤمنين فأنزل إليهم هذه الآية: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد:16]، و(يأن): مستقطب من الآن، أي: الآن الآن توبوا قبل أن تفوت الفرصة، فذهبت إلى أهلي وقلت: هيا بنا نشد الرحال إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسافرنا من العراق إلى المدينة ، وهناك طلبت العلم في المدينة المنورة. فأصبح العالم مالك بن دينار ، قال: فإن حرمني الله الولد فقد ساق إلي أبناء الدنيا يجلسون بين يدي يطلبون مني العلم.

    أيها الأحباب: كما يقول الإمام ابن القيم رحمة الله عليه: إن الله رحيم رحمان، عدل رءوف لطيف ودود، لا يأتي منه إلا ذلك، أما رأيت إلى الجنين في رحم أمه يغذوه من طريق واحد، فإذا ولد وانقطع الطريق أبدله بطريقين لبناً طاهراً سائغاً، فإذا فطم وانقطع الطريقان أبدله بأربعة: طعامان وشرابان من النبات والحيوان واللبن والماء، فإذا مات وكان من المؤمنين أبدله بثمانية (طرق أبواب الجنة من أي باب شاء دخل) فالله سبحانه ما أخذ منك إلا ليعطيك، وما ابتلاك إلا ليعافيك، وما أمرضك إلا ليشفيك، ولكنك تشكو الذي يرحم إلى الذي لا يرحم، إذا جاءك عوادك شكوت الله إليهم، فعل بي كذا وكذا وكذا، فتشكو الذي يرحم إلى الذي لا يرحم.

    فلهذا -أيها الأحباب الكرام- الشكوى إلى الله رب العالمين في كل أمور حياتنا، لهذا نتدبر هذا الدعاء العظيم الذي دائماً أصدر به خطبي فتفكروا فيه: اللهم إني أبرأ من الثقة إلا منك، ومن الأمل إلا فيك، ومن التسليم إلا لك، ومن التفويض إلا إليك، ومن التوكل إلا عليك، ومن الرضا إلا عنك، ومن الطلب إلا منك، ومن الذل إلا في طاعتك، ومن الصبر إلا على بابك، ومن الرجاء إلا لما في يديك الكريمتين، ومن الرهبة إلا لجلالك العظيم، اللهم تتابع برك، واتصل خيرك، وكمل عطاؤك، وعمت فواضلك، وتمت نوافلك، وبر قسمك، وصدق وعدك، وحق على أعدائك وعيدك، ولم تبق حاجة لنا إلا قضيتها برحمتك يا أرحم الراحمين.

    اللهم إنا نسألك برد الرضا، ونور اليقين، وحلاوة الإيمان، وبر الصدق، أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم رضنا بقضائك، وبارك لنا في قدرك، حتى لا نحب تعجيل ما أخرت ولا تأخير ما عجلت، واكفنا كل هول دون الجنة.

    اللهم إنا نسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، ونسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مظلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755949288