وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل.
وها نحن مع سورة المائدة المباركة المدنية الميمونة، وقد تساءل بعض المستمعين وقالوا: ما تأكدنا من صحة ما فهمنا من آيتي البارحة، فإليكم معاشر المستمعين والمستمعات بيان تلك الأحكام مرة أخرى.
هذه الآية الكريمة أولى الآيتين، وقد روي أن عدي بن حاتم الطائي وزيد الخير سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أحل لهم من الصيد، فأجابهم الله تعالى بقوله: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ [المائدة:4]، فكل طيب لذيذ ما فيه جراثيم ولا ميكروبات ولا تعفن ولا أذى فهو حلال، كل وسم الله تعالى.
أما العشرة المحرمات فهي خبيثة، وهي المذكورة في الآية التي قبلها: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [المائدة:3]، هذه العشر محرمات، وما عداها طيبات.
وَمَا عَلَّمْتُمْ [المائدة:4] على شرط أن تعلم هذا الحيوان، وعلامة أنه تعلم أنك إذا أرسلته ينطلق، وإذا دعوته يرجع إليك، أما إذا قلت له: ائتني بكذا وما تحرك، أو يمشي ثم يرجع، فمعناه أنه ما تعلم، هذا لو صاد لا يحل أكل صيده إلا إذا وجدته حياً وذكيته.
أما الذي علمته فتعلم وأصبحت إذا أرسلته ينطلق، وإذا دعوته رجع فهذا قل: باسم الله عند إرساله فقط، فإذا هو صاد غزالاً أو ظبياً أو حيواناً وأكل منه فلا يحل لك؛ لأنه ما صاد لك، صاد لنفسه، والله يقول: مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [المائدة:4] لا عليهن، فإن فرضنا أنه جرح هذه الغزالة، وأدركتها حية مستوفية الحياة كما تقدم فذكها وكل، أما إذا أدركتها قد ماتت وقد أكل منها فهي جيفة منتنة لا تحل لك: مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [المائدة:4].
فحيوانات الصيد أبرزها الكلاب المعدة لذلك، يقال فيه: الكلب السلوقي، نوع خاص، هذا الكلب السلوقي إذا علمته يوماً بعد يوم أصبح طوع يدك، إذا قلت له: اذهب ذهب، إذا قلت له: ائت أتى، إذا قلت له: قف وقف! وهذا كله ممكن وواقع.
هذا الذي علمته وأصبح مكلباً معلماً إذا أرسلته على حيوان تريد صيده ينبغي أن تقول: باسم الله اذهب، لا بد من ذكر اسم الله، فإذا كان معلماً وسميت الله عز وجل ولم يأكل من ذاك الحيوان حل لك أكله، فإن أكل منه فقد صاده لنفسه لا لك، فإن فرضنا أنه وجدت الحياة مستقرة فيه وذكيته فلك ذلك، فإن وجدته قد مات فلا يحل أكله.
أما إذا كان معلماً وسميت الله تعالى وأرسلته فانطلق وأخذ الحيوان وقتله، ولكن ما أكل منه، فهذا إن وجدته ميتاً فهو حلال لك، وذلك لحديث الصحيحين، ففي البخاري ومسلم : ( إذا أرسلت كلبك المعلم فاذكر اسم الله عليه ) عند الإرسال ( فإن أمسك عليك فأدركته حياً فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله فإن أخذ الكلب ذكاة ).
يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم معلماً كما في البخاري ومسلم: ( إذا أرسلت كلبك المعلم ) بهذا الشرط، ثانياً: ( فاذكر اسم الله عليه عند إرساله، فإن أمسك عليك ) لأنه إذا أمسك علي صاحبه فإنه يقف عند الصيد، أو يمسكه ويبقى ينتظرك، أو يحمله ويأتي به إليك، لكن إذا أمسك على نفسه هو فسوف يأخذ في أكله، ( فإن أمسك عليك فأدركته حياً ) فلا تنتظر حتى يموت، تقول: آكله، لا يجوز؛ لأنك أدركته حياً فذكه، لكن لو أدركته ميتاً وبالشروط الثلاثة فهو حلال.
قال: ( فأدركته حياً فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله )، أما إذا أكل فمعناه: أنه ما صاده لك، ما هو بمعلم، ( فإن أخذ الكلب ذكاة )، قتل الكلب له ذكاته.
وَمَا عَلَّمْتُمْ [المائدة:4] أي: وأحل لكم ما أحل لكم مِنَ الْجَوَارِحِ [المائدة:4]، الجوارح: جمع جارحة وهي التي تجرح، أي: تكتسب، الكلاب السلاقية والبازات والفهود وبعض الحيوانات التي يصيدون بها، مرنوها وروضوها وأصبحت تستجيب لهم.
مُكَلِّبِينَ [المائدة:4]حال كونكم مكلبين، أي: معلمين، تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ [المائدة:4] ما الذي علمنا الله؟ علمنا كيف نعلم الحيوانات، فَكُلُوا [المائدة:4] إباحة وإذن، فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [المائدة:4] أما الذي أمسكنه عليهن فلا يحل لكم، وكيف نعرف أنها أمسكت لها؟ إذا وجدتها تأكل من الصيد فقد صادت لنفسها، ما هي بمعلمة، أما إذا ضربتها ووقفت عندها ولو ماتت فهي حلال بإذن الله عز وجل وإذن رسوله صلى الله عليه وسلم.
فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ [المائدة:4] متى؟ عند إرسال الكلب، أو إرسال الرصاصة، أو إرسال الآلة التي تصيد بها، فإن أدركت ذلك الحيوان حياً فاذبحه، لا تقل: أنا صدت وضربه الكلب وتتركه يموت، لا بد من تذكيته لأنه حي، لكن إن أدركته قد مات فكله.
وقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ [المائدة:4] أي: فيما أحل لكم وحرم عليكم، في هذه التعاليم الدقيقة راقبوا الله، وائتوا بها على الوجه المطلوب، فلا يحل لك أن تأكل حيواناً إلا إذا توافرت شروط الإذن من الله عز وجل.
أما الأربعة الأولى: الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح لغير الله وذكر عليه اسم غير اسم الله؛ فهذه لا خلاف فيها، فهي بالإجماع محرمة، يبقى الصيد له أهله ورجاله، فالذي تعلم وتدرب وأصبح يعرف كيف يرسل البازي أو العقاب أو الفهد من الطيور، وكيف يأتي له بالأرنب أو بالطير، إذا علمه وعرف أنه متعلم فحينئذ يقول: باسم الله ويرسله، فإن وجده أكل مما صاده فلا يحل أكله، فإن أدركه حياً كامل الحياة ذبحه وأكله، فإن أدركه ميتاً والكلب ما أكل منه أكله وإن وجدته ميتاً.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى، وهي قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ [المائدة:4].
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ [المائدة:5] فاحمدوا الله، وكذلك وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ [المائدة:5]، يجوز أن يستدعيك يهودي أو نصراني على غداء أو عشاء فتأكل، لكن إن قدم لك لحم خنزير فقل: أنا مسلم لا آكل، أو قدم لك خمراً فقل: لا، أعطني لبناً أو عصيراً، وكل ذلك الطعام، أو دعاك نصراني مسيحي فكذلك، جاءك نصراني مسيحي فقال: الغداء عندكم اليوم؛ فكذلك تطعمه، وقدم له اللحم المشوي، ولكن إن قال: نريد خمراً فقل: لا، نحن مسلمون لا نشرب الخمر، قال: أرأيت لو طبخت لنا شيئاً من لحم الخنزير، فقل: هذا فيه مرض، وهو خبيث وحرام.
ودل على جواز أكل طعامه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أكل في بيت اليهودي الذي استدعاه لضيافة.
وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ [المائدة:5]، هذا بشرط: أن يكون اللحم الذي طبخه مذكى، اليهود إلى اليوم يذكون كما يذكي المسلمون، لكن النصارى غلبت عليهم البلشفة الشيوعية والكفر فما أصبحوا يذكون، فإذا علمت أن هذا اللحم شاته ما ذبحت أو بقرته ما ذبحت أو بعيره ما ذبح فلا يجوز أكله، لا تقل: أذن الله لي! أذن لك إذا كان مذكى ما هو بجيفة، فهل لو قدم لك اليهودي في الضيافة جيفة يجوز لك أكلها؟ لا يجوز.
وكذلك وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة:5] اليهود والنصارى، يجوز أن تتزوج مسيحية أو يهودية، ولا تقل: هي أفضل، إن وجدت المؤمنة فهي أفضل وخير، لكن أن لم تجد مؤمنة، أو وجدت هذه تنتفع بها، وترجو أن يهديها الله ويدخلها في رحمته فلا بأس، أو تكون في بلادها، فيجوز أن تتزوج الكتابية المحصنة الحرة، فإن كانت أمة مملوكة لواحد فلا يحل نكاحها وهي كافرة، وإن كانت حرة ولكنها غير محصنة غير عفيفة -أي: زانية- فلا يصح نكاحها.
قال تعالى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة:5]، والمحصنة: العفيفة الطاهرة، التي لم يسمع عنها زنا، ولم تعرف به أبداً، فإن كانت مشهورة بذلك معروفة فلا يحل نكاحها ولو كانت مسلمة -فضلاً أن تكون كتابية- حتى تتوب فيتوب الله عليها.
قال تعالى: إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ [المائدة:5] غير زناة، لا أن تعطيها مليوناً وتقول: قال الله تعالى: إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [المائدة:5]، فخذي الأجر! بل لا بد من القيد الأول: حال كونكم محصنين أعفاء غير زناة.
فالله تعالى يقول: إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ [المائدة:5] أي: النساء العفيفات أو المحصنات من المؤمنات وأهل الكتاب، إذا آتيتموهن أجورهن حال كونكم محصنين غير زناة، لا أن تأتي إلى امرأة وتزني بها، وتقول: أنا أعطيت أجرها! فأنت لست بمحصن في هذه الحال، أنت زان وعاهر، لا بد أن تكون حال كونك محصناً عفيفاً طاهراً.
مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ [المائدة:5] والسفاح الزنا، فالذي يأتي دور بغاء في العالم ويزني ويعطيها المال فهل يكفي هذا المال في الحل؟ لو أعطاها ملياراً لا يحل له نكاحها؛ لأنه زان، فالقيد الأول: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ [المائدة:5].
وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ [المائدة:5] ثانياً، والمتخذ الأخدان: رجل يظهر أنه عفيف ما يعرف بالفاحشة، ويتخذ له خليلة من الصغار أو الكبار، ويلازمها ويأتيها في الخفاء على أنها صديقته، فهذه حرام ولا فرق، ما هناك فرق بين الزنا العلني وبين السري، لا تقل: هذه تحبني وأحبها منذ كذا وكذا!
وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ [المائدة:5]، وفي النساء: وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ [النساء:25] أي: هن كذلك. هذا الذي أراد الله عز وجل.
إن الذي يستبيح الزنا والعهر معناه: أنه كفر بالإيمان، الذي يستبيح ما حرم الله مرتد وكافر بالإجماع! بخلاف ما إذا كان يعرف أنه حرام ويفعله، فهذه كبيرة من كبائر الذنوب، أما أن يقول: أيش فيه؟ ولا يبالي فهو مرتد كافر، وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المائدة:5] الذين يخسرون أنفسهم وأهليهم، وهذا هو الخسران المبين.
الجواب: اسأله، وإذا غلب على ظنك أنه لحم غنم أو بقر فلا تسأله، وإذا شككت فـ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك )، والغالب أنه يقول من أول مرة: هذا اللحم حلال ما هو بخنزير أو كذا.
الجواب: إذا لم يخف من أنهم يقتلونه أو يضربونه إذا سكروا له فأن يأكل معهم، وإذا خاف أن يضرب على رأسه على رأسه فليترك.
ولو كنت مع مسلمين يضعون الخمر على المائدة فلا يحل لك أن تجالسهم ولا أن تأكل معهم، بل غَيِّر المنكر، لكن هذا يهودي أو نصراني يستبيح الخمر، فليشرب، وأنت لا تشرب، تقول: أنا مؤمن، لكن إذا خفت أنه إذا سكر يؤذيك فاجتنبه، أو تجالسه في الطعام على شرط ألا يقدم خمراً في المائدة.
الجواب: لا بد من قطع الأوداج والحلقوم، ولو ذبحها من قفاها فلا يصح أبداً.
الجواب: ورد هذا في القرآن بلفظ: المخلَصِين، وبلفظ: المخلِصِين، والمخلِصِين باسم الفاعل أنا وأنت إن شاء الله والسامعون، كل من يعمل عملاً لوجه الله فقط لا رياء ولا سمعة ولا شهرة، أخلص فيه فهو مخلِص.
وأما المخلَصِين فهم الذين استخلصهم الله واصطفاهم، وأغلب ما يطلق لفظ المخلَصِين على الأنبياء والرسل الذين عصمهم الله واصطفاهم لعبادته، وغيرهم يقال فيه: مخلِص، بدليل أنه يخلص عمله لله، فهو من المخلِصِين، وإذا قلت: أنا أريد أن أرقى إلى مستوى أن أكون من المخلَصِين فالسلم موجود، أسلم لله وجهك وقلبك وأعرض عن كل أسباب الحياة يستخلصك الله له، ما يقوى عليك الشيطان.
يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:6] لبيك اللهم لبيك. هل نادانا نحن؟! إي والله! فنحن مؤمنون أم لا؟ إذاً: لبيك اللهم لبيك! مر نفعل، انه نترك، هذا استعداد المؤمنين لحياتهم الكاملة.
أي: يا من آمنتم بالله رباً، وبمحمد رسولاً، وبالإسلام ديناً، أيها الأحياء! يأمركم ربكم فيقول: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة:6] أي: إذا أردتم أن تدخلوا في الصلاة، فماذا تفعلون؟ قال: توضئوا. وبين لنا كيف الوضوء؟
تبقى السنن: غسل اليدين ابتداء ثلاث مرات قبل إدخالهما في الإناء إن قمت من نومك، والمضمضة ثلاثاً، والاستنشاق والاستنثار ثلاثاً، هذه سنن بينها الحبيب صلى الله عليه وسلم، لا بد منها، ومسح الأذنين داخل في مسح الرأس.
إذاً: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ [المائدة:6] بعد أن تغسل كفيك، وتتمضمض، وتستنشق الماء بأنفك وتنثره تطهيراً له وتطييباً، بعد ذلك تغسل وجهك، وحد الوجه: من منبت الشعر إلى منتهى الذقن طولاً، ومن شحمة الأذن إلى شحمة الأذن عرضاً، فإن كانت اللحية خفيفة فاغسلها مع البشرة، وإن كانت كثيفة فيكفي أن تمسح فوقها، وتخليلها مستحب، وغسل اليدين مع شيء من العضدين أحسن، لكن لا توصل الماء إلى كتفك، فقط اغسل المرفق وأدخله في هذا؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء ).
ثم امسح رأسك مرة واحدة، اذهب بيديك من الأمام إلى الوراء، ثم عد بهما هكذا لكامل الرأس، ابدأ بمقدمه وقد بللت يديك بالماء، لا تغترف الماء، بلهما فقط بالماء وامسح رأسك، وامسح أذنيك ظاهراً وباطناً، فإذا بقي بلل ماء في كفيك كفى، وإذا جف الكفان فلا بد أن تبل يديك وتمسح أذنيك، ثم اغسل رجليك، ابدأ بالرجل اليمنى؛ لأن الله يحب التيامن في كل شيء، وفي غسل اليدين أيضاً تبدأ باليد اليمنى، فتغسل الرجل اليمنى إلى الكعبين، والكعب هو هذا العظم الناتئ عند ملتقى الساق بالقدم، والكعب تغسله أيضاً احتياطاً، والأفضل أن تخلل أصابع رجليك، وتخليل أصابع اليدين ضروري لا بد منه. هذا هو الوضوء، سواء لفريضة أو لنافلة، أو للطواف أو لمس المصحف، لا بد من هذه النية.
ولا يشترط الوضوء لقراءة القرآن، الوضوء يشترط لمس المصحف الكامل، أما أن يقرأ القرآن عن ظهر قلب، أو يقرأ في جزء من أجزاء المصحف فما قال أحد بالوضوء، وإذا أراد أن يتوضأ فليتوضأ حتى لذكر الله، إنما أمرنا الله عز وجل إذا قمنا لأداء الصلاة أن نتوضأ، والطواف بين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا بد له من الوضوء، ومس المصحف يقول الله تعالى فيه: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79] وهكذا.
والجنب هو الذي تلبس بجنابة، وهي إيلاج رأس ذكره في فرج امرأته، ولو لم ينزل ولم يخرج منه ماء: ( إذا التقى الختانان وجب الغسل ) تعاليم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: إذا خرج منه المني في يقظة أو منام، من أفرز تلك المادة البيضاء الثخينة في منامه أو بلذة في يقظته فهو جنب، يجب أن يغتسل، وإن كان نائماً في المسجد واحتلم يجب أن يخرج فيغتسل ويرجع، هذا هو الجنب، إذا أولج رأس ذكره في فرج امرأته وإن لم يمن فقد وجب الغسل؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إذا التقى الختانان ) أي: موضع الختانين ( فقد وجب الغسل ).
ثانياً: أن يفرز مادة المني بلذة، سواء بتفكر أو بلمس أو بكذا أو في منامه، رأى نفسه يجامع امرأة، إذا أفرز منياً وجب الغسل بلا تردد، هذا معنى الجنب: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا [المائدة:6] ماذا عليكم؟ فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6] أي: فتطهروا، فأدغمت التاء: فاطهروا، أي: اغتسلوا.
الغسل الصحيح الذي ما نعدل عنه هو الذي علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيفيته -أيها الجنب- أن تغسل كفيك ثلاث مرات وأنت ناو رفع الجنابة، ثم تستنجي فتغسل فرجيك وما حولهما غسلاً حقيقياً، ثم تتوضأ وضوءك للصلاة، فإذا فرغت من الوضوء فاغمس يديك في الماء وخلل أصول شعرك ليستأنس بالماء ولا تصاب بالزكام، هذه حكمة من حكم محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا خللت شعرك فخذ غرفة بكفيك وضعها على يمين رأسك واغسل رأسك كله، زد الثانية بكفيك وضعها على الجهة اليسرى واغسل كامل الرأس، ثم ثالثة تضعها على الوسط واغسل رأسك مع أذنيك ظاهراً وباطناً ثلاث مرات، فإذا غسلت رأسك مع أذنيك فحينئذ اغسل شقك الأيمن من رقبتك إلى كعبك، هذه هي الجهة الأولى، والجهة الثانية اليسرى بعدها من عنقك إلى كعبك، وتعهد المغابن: تحت الإبط، فإذا ما تعهدته لا يبتل، وتحت الركبة، فإذا لم تمد رجلك لا يبتل ما تحت الركبة، وكذلك السرة إذا كان فيها تجاعيد، فإذا لم تتبع لم تبتل، لأنك مأمور أن تغسل كل جسمك، ولا تبقى لمعة، والظهر تدلكه بيديك، وإذا أتممت تصب بالماء حتى تطمئن إلى أن الماء قد عم جسمك، هذا هو الغسل الذي أراد الله تعالى.
وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا [المائدة:6] فماذا تفعلون؟ فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6] رجالاً ونساء، المرأة إذا كان عندها ضفائر الشعر فما تحل ضفائرها، تجمعها فقط وتصب الماء وتخللها رحمة بها، إذ قد يشق عليها النقض والبرم مرة ثانية، هذا هو الغسل من الجنابة، وغسل الجمعة هكذا، وغسل الإحرام هكذا، وغسل دخول مكة هكذا، وغسل العيد هكذا، إلا أن النية تختلف، غسل الجمعة سنة، غسل الإحرام كذلك، لكن غسل الجنابة واجب.
ومن أراد أن يغتسل بالصابون والليف فإنه أولاً يغتسل الغسل الواجب، وبعده يغسل بالصابون، هذا أحوط له، وإذا خاف من الماء أن ينفد فإنه يغسل بالصابون، وبعد ذلك يغسل بالماء.
وغسل الميت هكذا إن أمكن، ويجوز أن تغسل جسمك كاملاً وبعد ذلك تتوضأ، فذلك يجزئك، لكن الطريقة الأولى هي السنة النبوية.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر