الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة غافر:
وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ * وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ * وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ [غافر:28-34].
عندما ذكر الله سبحانه وتعالى أن مؤمن آل فرعون دافع عن موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام عندما غضب فرعون من موسى وأراد قتله، قال تعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26]، فتعوذ موسى بربه، ولجأ إليه، واعتصم به سبحانه وتعالى، قال تعالى: وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ [غافر:27] فانبرى هذا الرجل المؤمن، وهو من قوم فرعون، أي: من أقباط مصر، وليس من قوم موسى، أي: ليس من بني إسرائيل، وكأن الرجل له مركز بحيث إنه يكلم فرعون ويكلم من معه وينصحهم، فقام هذا الرجل المؤمن، وكان يكتم إيمانه حتى أظهره بعد ذلك، فقال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ [غافر:28]، أي: أتحاسبون موسى -على نبينا وعليه الصلاة والسلام- على ما يتكلم به ولم يجرم في حقكم؟ فهل قوله: ربي الله يعتبر جريمة يستحق عليها أن يقتل؟ وليس فقط يقول هذا، ولكنه جاءكم ببينات وبأشياء تدل دلالة واضحة على صدقه فيما يقول، قال تعالى: وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ [غافر:28] أي: لنفرض أنه كاذب فهو يتحمل هذا الكذب، ولكن لو كان صادقاً فماذا يكون الأمر؟ قال تعالى: وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ [غافر:28] فإذا كان صادقاً فوافقتموه واتبعتموه أصابكم الذي يعدكم من بركات السماء والأرض، وأصابكم وعد الله سبحانه بأن يدخلكم جنات النعيم في الآخرة، وإن لم تتبعوه أصابكم بعض الذي يعدكم من عذاب الله في الدنيا وفي الآخرة. وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ [غافر:28] المسرف: هو من أسرف على نفسه بالمعاصي، والكذاب: هو الذي يكذب على الخلق ويكذب على الخالق سبحانه وتعالى.
فهذه الحجج العقلية التي قالها تقتضي أنه لا بد وأن يؤمنوا بما يقول، فقد جاءهم موسى بتسع آيات بينات، وكانوا يرونها ولا يقدرون عليها أبداً، وهي: يده التي أخرجها من جيبه فإذا هي بيضاء للناظرين، وألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين، فكذبوا واعرضوا فأرسل الله عز وجل عليهم الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم آية وراء آية، فكل آية تأتيهم من هذه الآيات يجأرون إلى موسى: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [الأعراف:134]، فهم عرفوا أنهم لا قبل لهم ولا طاقة لهم بهذه الآيات التي يأتيهم بها موسى من عند ربه سبحانه وتعالى.
وفرعون فهم ذلك، ومع ذلك استخف بمن معه، فملكه ورياسته جعلته لا يأبه لذلك، المهم أن يكون هو الغالب العالي على غيره، فطرد موسى وأظهره أمام الخلق أنه كذاب، فقال فرعون : مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى [غافر:29] فالإنسان الذي بيده القوة والمنصب والرياسة، إذا أقنعته بالعقل في أشياء معينة لا يعمل عقله فيها، فالرأي رأيه طالما أن القوة معه، وهذا في كل الأرض يحدث ذلك، فمهما تكلم البشر عن الحرية وعن المساواة وعن العدل وعن الديمقراطية وعن كذا وكذا، فإنهم يكذبون إذا لم تكن شريعة الله عز وجل تحكمهم، فلا بد من وازع في القلب، فالقلب يخاف من الرب سبحانه وتعالى، ويجعل الإنسان لا يعصي الله ويمتنع من أخيه الإنسان أن يؤذيه؛ لأنه يعلم أنه سيرجع إلى الله وسيحاسبه يوم القيامة.
أما الخوف من الحكومة أو من الشرطة أو من القوة فهذا خوف في الظاهر، وهذا في طبيعة البشر، فلذلك ربنا سبحانه نزل الشريعة التي فيها الحكم بالعدل، وفيها التخويف من الله سبحانه وتعالى بأنه سيجازي ويحاسب الناس يوم القيامة، وأنهم إليه راجعون ليحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، وفيها الحكم الذي يُحْكَم به العباد، فيأمر الله السلطان بأن يحكم بما أنزل الله، فيقطع يد السارق، ويرجم الزاني الثيب، ويجلد الزاني البكر، ويجلد من يقذف المحصنات المؤمنات.. وهكذا، فيقيم الحدود التي أمر الله عز وجل بإقامتها.
والمسلمون يحاربون ربهم بأفعالهم المخالفة، فترى النساء العاريات يحاربن الله سبحانه وتعالى، فإذا قلت لعارية منهن: اتقي الله، قالت لك: وأنت ما لك؟! هذا شأني وليس لك دخل بي! فتحارب ربها جهاراً نهاراً وتأبى أن تطيع الله سبحانه وتعالى، وإذا قلت لرجل: كيف تترك ابنتك عريانة هكذا؟ رد عليك: وأنت ما لك، اتركها حرة فإنها لا تزال صغيرة، يا أخي! أنتم تريدون أن تكتفوهن وتدخلوهن داخل الخيمة وتلبسوهن النقاب، وتعملوا لهن كذا وكذا.. فهؤلاء لا يستحقون النصر أبداً، ولا يستحقون إلا ما فعله الله ببني إسرائيل، الذين ضربت عليهم الذلة والمسكنة، فسلط بني إسرائيل على المسلمين، فإذا بهم يدوسونهم بالأقدام في كل مكان في العالم.
فإسرائيل تعلن للعالم أن الذي يتكلم عن اليهود فإنه يحارب السامية، ومن فعل ذلك فوفقاً للقانون أنه يسجن، أما هم فيتكلمون ويتبجحون والمسلمون قد أخرسوا وسكتوا؛ لأنهم حاربوا ربهم سبحانه؛ ولأنهم كذبوا على الله، وأكلوا السحت، وانتشر بينهم الفساد، وانتشرت فيهم الأخلاق الكاذبة، ولا يقبل أحدهم أن ينصح في الله أو يقبل النصيحة، فمن أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر يقول الناس عنه: فلان رمى بنفسه إلى المخاطر! فمنطقهم: أنا في حالي وأنت في حالك، واترك الإجرام ينتشر، والزنا يكثر، والفواحش تملأ الدنيا، وليس لك دخل في ذلك!
فكان منطقهم مثل منطق فرعون لما قال لقومه: ما أريكم إلا ما أرى، فأنا على الحق، وأنا المبصر وأنتم العميان، فقال لهم كما قص الله ذلك أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ [الزخرف:51]، أي: أليس أنا الملك؟ فهذه الأنهار التي تجري من تحتي هي من عملي، أفلا أستحق أن أكون رباً؟ فيجيب قومه: بلى أنت الرب، قال تعالى: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ [الزخرف:54] أي: لعب بعقولهم الخفيفة، ويبدو أن هذه كانت طبيعة المصريين في الماضي، وأن الذي يملكهم فإنه يقنعهم بمنطق العصا، فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [الزخرف:54]، ومعنى فاسقين: خارجين عن دين الله وطاعته سبحانه وتعالى.
وفرعون قال لقومه لما ناقشه الرجل المؤمن بالبينات وبالمنطق وبالعقل: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29]، أي: أنا وحدي فقط الذي أعرف سبيل الحق والرشاد! وموسى لا يعرفه ولا غيره، فأنا الذي أهديكم إلى الحق، فاعبدوني، والعياذ بالله!
فخوفهم بالعقوبة في الدنيا كما حدث للسابقين، قال تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا [العنكبوت:40] فالسابقون عاقبهم الله عز وجل في الدنيا قبل الآخرة، فاحذروا أيها القوم من عقوبة الله لكم في الدنيا ثم عقوبته يوم القيامة.
وقوله تعالى: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ [غافر:32] هذه الآية فيها قراءتان: قراءة ورش وابن وردان بوصل كلمة (التناد) بما بعدها، فيثبتان الياء، وعند الوقف عليها يحذفان الياء.
أما ابن كثير ويعقوب فيقرأان: (يوم التناد) وصلاً ووقفاً.
و يوم التناد: هو يوم القيامة، مأخوذ من النداء الذي هو الصراخ، فإنه يصرخ بعضهم على بعض، وينادي بعضهم بعضاً، فيقول أهل الجنة لأهل النار: فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا [الأعراف:44] وينادي أهل النار أهل الجنة، قال تعالى: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [الأعراف:50] فيرد عليهم أهل الجنة: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [الأعراف:50] .
وينادي أصحاب الأعراف أناساً يعرفونهم بسيماهم، قال تعالى: وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ [الأعراف:48] فأصحاب الأعراف ينادون المستكبرين من أهل النار: هل رأيتم عذاب رب العالمين؟ هل رأيتم وعد الله وقد تحقق بكم؟ ويتعوذون بالله أن يجعلهم معهم، والملائكة تنادي أهل الجنة وأهل النار فيرفعون أعناقهم إلى النداء، فيرون الموت ويقال لهم: أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، فيذبح الموت بين الجنة والنار، ويقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت.
وينادي أهل النار مالكاً، قال تعالى: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف:77].
وينادون ربهم سبحانه وتعالى فيقولون: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون:107] فيوم القيامة هو يوم التناد.
قال تعالى: وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ [غافر:[32-33] وهذه الآية مثل قوله تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37] فكل إنسان يهرب من الآخر، ويقول: نفسي نفسي، قال تعالى: يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ [غافر:33] أي: يعطي كل واحد منهم دبره للآخر، ويفر منه ويعطيه ظهره، ويمشي بعيداً عنه، فلا الزوج ينفع زوجته، ولا المرأة تنفع زوجها، ولا الابن ينفع أباه.. وهكذا، قال تعالى: مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ [غافر:33] أي: من منجٍ يعصمكم ويدافع عنكم أمام عقوبة رب العالمين سبحانه، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [غافر:33] أي: من أضله الله وختم على قلبه فمن الذي يهديه من بعد الله سبحانه وتعالى؟!
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر