والمعنى الثاني: أن يكون المقصود مسامياً بمعنى "هل تعلم له مسامياً" أي: أحداً يساميه وما معنى المساماة في هذه الحالة؟
مر معنا في صحيح البخاري وصحيح مسلم أيضاً.
اللفظ نفسه مثلاً إذا قلنا: فلان يسامي فلاناً، أي: يعادله أو يقاربه أو ينافسه. ورد هذا اللفظ في حديث الإفك من كلام عائشة رضي الله عنها عن زينب أنها هي التي كانت تساميها تقول: [[وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم]] أي: تعادلني أو تقاربني.
فقوله تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [مريم:5] أي: معادلاً أو نظيراً أو مشابهاً، والمعنى: لا سمي له سبحانه لا في ذاته، وصفاته، ولا في أسمائه، وأفعاله.
وكذلك: هو نهي عن الشرك في الألوهية؛ بعبادة غير الله تعالى معه أو من دونه، فهذا هو التنديد أيضاً، وأعظم وأكثر شرك حصل في بني آدم هو الشرك في الألوهية بعبادة غير الله تعالى معه أو من دونه، ومن عبد غير الله فقد اتخذ نداً.
وكذلك: هو نهي عن الشرك في الأسماء والصفات، وهو أيضاً من التنديد؛ ولهذا جاء في المسند وغيره في قصة الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "ما شاء الله وشئت" قال له النبي صلى الله عليه وسلم: {أجعلتني لله نداً؟} إنكاراً له على أنه قرن بين اسمه واسم الله تعالى فقال له: "ما شاء الله وشئت" وكان الأولى أن يقول: ما شاء الله وحده أو نحو ذلك.
فالشرك في الأسماء والصفات بأن يعطي العبد صفة من صفات الله أو اسماً من أسمائه -التي لا تنبغي إلا له- ويعطيها لغيره، أو يشرك مع الله تعالى ولو باللفظ كقوله: "لولا الله وفلان أو ما شاء الله وشئت أو نحن بالله وبك" وما أشبه ذلك مما يسمى "بشرك الألفاظ" فالآية نهي عن ذلك كله فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22] أي: تعلمون أنه لا يستحق العبادة غيره ولم يكن له كفواً أحد، ولا تعلمون له سمياً، فهو المتفرد في ذاته وأسمائه وصفاته جل وعلا.
ووجه كونهم اتخذوهم أنداداً بينه وفسره جل وعلا بقوله: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ [البقرة:165] قوله: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165] لها أكثر من معنى ذكرها المفسرون منها:
أولاً: يحبونهم كحب المؤمنين لله، أي: كما يحب المؤمنون الله.. وهذا المعنى ليس بمستقيم؛ لأنه قال بعدها: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ [البقرة:165] فيكون في هذا تناقض.
إذاً: هذا المعنى ضعيف.
ثانياً: أنهم يحبون آلهتهم كما يحبون الله؛ وهذا فيه دليل على أن المشركين يحبون الله تعالى، ولكنهم -أيضاً- يحبون آلهتهم كما يحبون الله تعالى.
فلذلك اتخذوا آلهتهم أنداداً يحبونهم كما يحبون الله تعالى، ولهذا أنكر عليهم ذلك وقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ [البقرة:165] أي: أصدق في حبهم لله تعالى من هؤلاء المشركين، ومن المعاني الأخرى لهذه الآية:-
ثالثاً: أن يكون المقصود في قوله: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165] أي: كالحب الذي يُحَبُّ به الله عز وجل، أي يعطونهم الحب الذي لا ينبغي إلا لله؛ وكأنه يقول: إن المشركين اتخذوا من دون الله آلهة يحبونهم حباً شديداً؛ هو الحب الذي لا ينبغي ولا يصرف إلا لله جل وعلا.
فنفى سبحانه وتعالى ما ادعاه بعض المشركين أن لله ولداً، كما زعم اليهود أن عزيراً ابن الله، وكما زعمت النصارى أن المسيح ابن الله، وكما زعمت العرب أن الملائكة بنات الله، كما ادعوا أن لله سبحانه وتعالى زوجة من الجن تلد له الملائكة -كما في أساطير العرب والجاهلين- فنفى ذلك كله بقوله: وَقُلِ الْحمد لله الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً [الإسراء:111]؛ وذلك لأن الولد وإن كان بالنسبة للبشر كمال؛ إلا أنه بالنسبة للخالق نقص.
فبالنسبة للبشر: فإن من يكون له ولد أكمل عندهم من الذي يكون عقيماً لا ولد له، هذا بالنسبة للناس؛ وذلك لأن حصول الولد للإنسان، إنما هو لبقاء ذكره في الدنيا وعدم انقطاعه، ووراثته من بعده، ومساعدته على أموره إلى غير ذلك من المقاصد المنتفية في حق الله جل وعلا؛ لأن الله تعالى هو الذي يرث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، وهو الغني الغنى المطلق الذي لا يحتاج معه إلى شيء سبحانه؛ بل كل شيء مفتقرٌ ومحتاج إليه. فلهذا مجد الله نفسه بأنه لم يتخذ ولداً.
وقوله: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ [الإسراء:111]:
أيضاً نفى هنا ادعاء المشركين بأن لله شريك في الملك، إذ يدل صنيعهم في عبادتهم لغير الله تعالى؛ على أنهم يظنون أن لله تعالى شريكاً في ملكه يستحق العبادة معه، وقد نفى الله تعالى هذا في مواضع كثيرة.. نفى وجود شركة في ملكه -جل وعلا- على الإطلاق، قال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ:22-23] فنفى وجود الشرك له سبحانه وتعالى في الكون، أو أنهم يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض.
أما الملك البشري: فهو ملك مؤقت، وهو من الله تعالى وإليه، فلست خالقاً لهذا الشيء، ولا مالكه ولا متصرفاً به على الحقيقة؛ حتى جسدك إنما المتصرف فيه حقيقةً هو الله عز وجل.
وقوله تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ [الإسراء:111]:
أي ليس لله تعالى ولي يتعزز به من ذل؛ لأنه هو العزيز الذي من أراد العزة؛ التجأ إليه ولاذ به فعز، ومن تخلى عنه ذل، ولو كانت مقاليد الدنيا كلها بيده. فليس لله تعالى ولي من الذل.. له ولي؛ ولكن ليس من الذل، أي: ليست ولايته جل وعلا لمن والاه؛ يتعزز به من ذل، أو يتقوى به من ضعف، أو يتكثر به من قلة.
كيف والخلق كلهم طوع أمره! كيف وهو إذا أراد شيئاً قال له: "كن فيكون" فليس له ولي من الذل يتقوى به ويتعزز به من ذل، إنما له ولي برحمته لعباده؛ حيث يوالي منهم من يستحق الولاية، كما قال عز وجل: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:257] وقال سبحانه: وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ [الشورى:28].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {الله مولانا ولا مولى لكم} تبعاً لقول الله عز وجل: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ [محمد:11] فقال صلى الله عليه وسلم: {الله مولانا ولا مولى لكم} والولاية في أصل اللغة العربية، تعني: القرب.. تقول: فلان ولي فلان، يعني: قريبه الذي يليه، ومنه ابن العم يسمي ولي، وهكذا الزوج، والسيد، والقريب.. والجار.. ومنه: المطر، إذا نـزل المطر مرة تلو الأخرى متتابعاً يسمى "الولي" يقال: قطر الولي، أي: المطر المتتابع الذي ينـزل ثم ينـزل بعد ذلك مباشرة ولا يبطئ، فهذا يسمى ولياً؛ لأن بعضه يلي بعض، أي: يأتي بعده مباشرة.
والله عز وجل من أسمائه "الولي" وهو ولي للمؤمنين، ولي لهم، أي: أن المؤمنين في حفظ الله تعالى، فهو يحفظهم ويرعاهم ويكلؤهم، ويعينهم، ويعاقب من أراد بهم سوءاً أو شراً من عدوهم -عاجلاً أم آجلاً- ويحقق لهم سؤالهم.. وفي الآخرة أيضاً يكون الله سبحانه وتعالى وليهم بكل خير؛ فيخفف عنهم الحساب، ويجعلهم في الجنة، ويغدق عليهم النعم، فهذا كله من ولايته سبحانه لعباده المؤمنين.
وكذلك العبد المؤمن: هو ولي لله سبحانه كما قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63] وأولياء الله عز وجل: هم المتقربون إليه بعبادته وطاعته، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي في صحيح البخاري : {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب} أي: عبداً ولياً مخلصاً تعاديه وتحاربه، فمعناه: أن الله سبحانه وتعالى أعلن عليك الحرب أيضاً.
ولك أن تتصور حال عبد مخلوق محتاج إلى الله تعالى في كل نفس وفي كل حركة، وفي كل مكان، وفي كل نبضة قلب، وفي كل دفقه دم؛ ومع ذلك يعلن ربنا عليه الحرب، كيف يكون حال هذا الإنسان والعياذ بالله لا تسأل عن حاله: {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب} أي: أعلنت عليه الحرب، لو علم أحدنا أن مسئولاً قد أبغضه، أو كرهه، أو حاربه؛ لربما ضاقت عليه الأرض بما رحبت، ويقول: أين أفر؟
فكيف إذا علم أن دولة من الدول تحاربه! فكيف إذا علم أن الله جل وعلا يحاربه؟!
ولهذا الإنسان يحذر ويباعد -دائماً وأبداً- أن يعادي أهل الخير، أو يبغضهم أو يسيء إليهم أو يضرهم بشيء قل أو كثر، لماذا؟
لأنك لا تدرى! فيمكن أن يكون هذا ولياً وأنت لا تدري! لأن الولاية لا يوجد لها لافتة مكتوبة على جبين الإنسان.. قد يكون الإنسان مقصراً في أعماله الصالحة؛ ومع ذلك فهو في حقيقته ولي لله سبحانه وتعالى، وقد يكون الإنسان زاهداً عابداً، ولكنه ليس بولي؛ لأن قلبه فيه مرض، أو لأنه مُدِلٌّ بعمله معجب بطاعته.. فالولاية سر، فلا أحد يعلم أن هذا ولي لله أو ليس بولي كذلك، فهذا شيء لا يعلمه إلا الله، ومن ادعى الولاية؛ فهو كاذب.
فلو أن واحداً قال: أنا ولي، نقول له: أنت كاذب، لو كنت ولياً لما ادعيت هذا الأمر! لكن الولاية:- سر يعلمها الله سبحانه وتعالى، فكل مؤمن.. تَجَنَّبْ أن تعاديه أو تؤذيه بشيء -حتى لو كان شكلياً- خشية أن يعلن الله تعالى الحرب عليك، وقد جاء في حديث ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وأظنه في الطبراني: يقول الله سبحانه وتعالى: {إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب} إني لأثأر أي: أغضب وأنتصر وأنتقم لأوليائي، كما يثأر الليث الحرب، أي: كالأسد الجسور الذي ثار وغضب؛ فزمجر وهجم على عدوه، وهذا الحديث ولو لم يصح، فإن معناه صحيح من حيث: أن الله تعالى يغضب لأوليائه ويثأر لهم من عدوهم.
إذاً: فإن الله تعالى ولي للمؤمنين في الحفظ والنصر والتوفيق والتسديد والدفع، والمؤمنون الصادقون أولياء لله تعالى على الحقيقة لا على الادعاء، وإنما المنفي في الآية هو: الولي من الذل وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ [الإسراء:111] لكن له وليٌ يعبده ويدعوه، والله سبحانه تعالى يحفظه وينصره.
وقوله: وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً [الإسراء:111]:
التكبير: هو تعظيم الله تعالى بالقول والقلب والفعل. فأما التعظيم بالقلب: فأن يكون الله تعالى في قلبك أكبر من كل كبير، فتعظم الله تعالى وإذا ذكرت الله تعالى؛ اطمأن قلبك، فتحبه وتغضب لانتهاك حرماته. وأما التكبير باللسان: فهو أن تقول: (الله أكبر).
وأما التكبير بالفعل: فهي العبادات التي يكون فيها التعظيم لله عز وجل؛ كالسجود -مثلاً- والركوع. فإن هذه الأشياء فيها معنى التكبير والتعظيم لله عز وجل وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً [الإسراء:111].
ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى يسبح له كل شيء كما قال الله تعالى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [التغابن:1] كل شيء؛ من الجمادات والحيوانات، والرطب واليابس، والصغير والكبير، والعاقل وغير العاقل؛ كلها تسبح.. فهذا الكون كله مهرجان يضج بالتسبيح لرب العالمين، ولو قدر لأذن أن تسمع لما سمعت إلا زجلاً لتعظيم ذي الجلال في كل ما تقع عليه العين في هذا الكون.. فالله تعالى يسبحه كل شيء ويعظمه كل شيء، قال تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً [الإسراء:44] وقال: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ [الحج:18] إلا بعض عصاة بنى آدم، فإنهم تمردوا وأبوا أن يعظموا الجلال والإكرام سبحانه.
والتسبيح المذكور في هذه الآيات ونحوها على الراجح أنه تسبيح حقيقي، أي: أنها تسبح حقيقة لله عز وجل.. أما كيف تسبح، فهذا أمر لا ندري؛ لأن الله تعالى ما أطلعنا عليه، ولا كشف لنا من أمره؛ لكننا آمنا بما أخبرنا الله به من أن كل شيء في الكون يسبح بحمد الله سبحانه وتعالى، دون أن يفقه الناس تسبيحه أو يعلموا كيف يسبح؛ وجزء من ذلك بينه الله تعالى، أو بينه الرسول صلى الله عليه وسلم، فلقد ذكر الله تعالى عن داود عليه السلام إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ [ص:18-19] فكانت الجبال والطيور تسبِّح مع داود، فيسمع تسبيحها لله عز وجل. ومنه حركة الكون: فإنها جزء من التسبيح والطاعة لله عز وجل.. فطلوع الشمس وحركتها وغروبها، واختلاف مراحل القمر؛ كل ذلك من التسبيح والطاعة لله عز وجل، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر لما قال: {أتدري أين تذهب هذه الشمس؟ فقال: الله ورسوله أعلم! قال: فإنها تذهب فتسجد تحت العرش، وتستأذن في الطلوع، فيؤذن لها لا ينكر الناس من أمرها شيئاً، ويوشك أن تستأذن ولا يؤذن لها، ويقال لها: اطلعي من حيث غربت
فهاهنا قال: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [التغابن:1]
كل شيء! حتى ذرات التراب، وقطرات الماء، وأوراق الأشجار وحتى الدواب الصغيرة، كلها تسبح الله.. ولهذا من بديع ما ذكره لنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء السابقين: {أن نبياً نام تحت شجرة فقرصته نملة، فقام فأحرق بيت النمل كله، فأوحى الله تبارك وتعالى إليه أمن أجل نملة قرصتك؛ أهلكت أمة من الأمم تسبح الله تعالى} أي: أن المسألة ليست هينة! هذه القرية من النمل التي أحرقتها؛ قرية يسبحون الله.. كيف تهلكهم بدون سبب ولا ذنب؟
لو قتلت الواحدة التي قرصتك وتركت الباقي! فعاتبه الله عز وجل على ذلك. فانظر كيف يربي الإسلام في نفس المؤمن النظر إلى هذا الكون، والتذكر بأن الكون كله يسبح لله عز وجل.. إذا كان الكفر يملك قوة وإمكانية وتقدماً في العلم والصناعة والحضارة والماديات وفي غيرها، فتذكر أن هذا الكون كله بما فيه ومن فيه -حتى مصنوعاتهم وحتى إمكانياتهم- فهي تسبح لله عز وجل وتنتظر أمره؛ فيكون عند المؤمن حينئذ من عظيم الثقة بالله والتوكل عليه ما ليس عند غيره.
تَبَارَكَ الَّذِي نـزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ [الفرقان:1] والفرقان: هو القرآن، وإنما سمي فرقاناً؛ لأنه يفرق بين الحق وبين الباطل.
وقوله: تبارك الذي نـزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان:1].
وصف الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالعبودية؛ لأنها أشرف الصفات، فأشرف الصفات أن تصدق عبودية العبد لله سبحانه وتعالى؛ ولهذا ذكر الله تعالى العبودية لنبيه عليه الصلاة والسلام في مواضع التنـزيل، كما في قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نـزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [البقرة:23] وقال: تَبَارَكَ الَّذِي نـزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ [الفرقان:1].
كما ذكر العبودية في مقام الدعاء، قال تعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً [الجن:19] فالمقصود أن العبودية أشرف صفة يوصف بها إنسان؛ ولهذا وصف الله تعالى بها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وقد أدرك هذا المعنى القاضي عياض رحمه الله! فكان يقول:
ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا |
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبياً |
وقوله: لِيَكُونَ [الفرقان:1] هذا القرآن لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان:1]، والنذارة: هي الإخبار مع التحذير؛ بخلاف البشارة: فهي الإخبار بما يسر.. فقوله: نذيراً أي: محذراً لهم عقوبة المعصية والمخالفة.. فهذا معنى النذارة، والرسول صلى الله عليه وسلم بعث مبشراً ونذيرا، فالنذارة تكون أولى للعاصين، كما في قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنـزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً [الكهف:1-2] فذكر النذارة للكافرين، وذكر البشارة للمؤمنين.
قوله تعالى: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الفرقان:2].
أي: أنه أحسن كل شيء خلقه فخلقه بقدر، وهذا له أكثر من معنى:
المعنى الأول: أن كل ما خلقه الله سبحانه وتعالى فهو مكتوب مقدر عنده في اللوح المحفوظ، كما هو معروف في مراتب القضاء والقدر.. هذا من معاني قوله: فَقَدَّرَه تَقْدِيراً [الفرقان:2].
المعنى الثاني: أن معنى قوله (قدره) أي: أحكمه وأتقنه وأحسنه، فجعله ملائماً مناسباً، كما في قوله: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ [الملك:3] أي: هل ترى في السماء من شقوق؟
من صدوع؟
من نقص؟
ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ [الملك:4] وقال سبحانه: لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4] وقال: يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [الانفطار:6-7] فهو سبحانه أحسن كل شيء خلقه، كما قال عن نفسه: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ [السجدة:7] فهذا هو المعنى الثاني من معاني قوله: فَقَدَّرَه تَقْدِيراً [الفرقان:2].
وقوله تعالى: إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [المؤمنون:91].
أي: أنه لو كان هناك أحد شارك الله تعالى في خلق هذا الكون وإيجاده؛ لكان الأمر لا يخلو من حالتين: إما أن يكون هذا الشريك الذي خلق مع الله شيئاً يكون مساوياً لله تعالى وفي مقامه، فحينئذٍ كل يستبد بما خلق، ويتفرد في خلقه، ومعنى ذلك أن الكون سوف يكون مدبراً من آلهة عديدة، وهذا قطعاً خلاف ما يشهد به الواقع؛ لأن الواقع يشهد بأن الكون كله لخالق واحد، كم له من شمس؟
كم له من سماء؟
نظام الكون واحد، حتى في دراسات العلماء لنظام الكون تجد غاية العجب! فيما يسمونه: بالذرات وتكوين الذرة وما أشبه ذلك، والتي هي أصل ويقال: إنها أقل جوهر للأشياء الموجودة.. فالمقصود: أن نظام الكون واحد، فمعناه: أن خالق الكون ومدبره واحد، ولو كان للكون آلهة مختلفون؛ فما الذي كان سيحدث؟
كل إله منهم سيذهب بما خلق، أي سينفرد بخلقه، فيتصرف فيه تصرفاً آخر، مثلما يفعل ملوك الدنيا، مثلاً، فإن كل واحد منهم إذا انفرد في ملكه؛ تصرف فيه بغير ما يتصرف فيه الآخر، فتجد هذا له طريقة واحدة، وذاك له طريقه أخرى، والثالث له طريقة ثالثة، ولا يتفقون على طريقة واحدة أبداً؛ ولهذا قال: وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ [المؤمنون:91] أي: لو كان مع الله إلها آخر؛ لذهب هذا الإله الآخر بما خلق، واستقل به!
وقوله تعالى: وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [المؤمنون:91].
أي: حاول أحدهم أن يتغلب على الآخر -إن استطاع- كما يفعل ملوك الدنيا، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس:18].
إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [المؤمنون:91] أي: ينـزه الله تعالى عما يصف به المشركون من ادعاء الولد أو الشريك أو الصاحبة، وقد نـزه الله تعالى نفسه عما وصفه به المشركون في مواضع كثيرة جداً من القرآن الكريم.
قوله تعالى: عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [المؤمنون:92]:
لأن من ادعى أن لله تعالى ولداً؛ فقد أشرك مع الله تعالى غيره قال تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ [الزخرف:81] فنفى الله تعالى عن نفسه الولد والشريك، ونـزه نفسه عما وصفه به المشركون والضالون.
فمثلاً: العلم في الإنسان هل هو نقص أم كمال؟ كمال، وهل في العلم نقص بوجه من الوجوه؟
ليس فيه نقص فنقول: الله سبحانه وتعالى أولى بالعلم أيضاً، مع أن إثبات العلم لله سبحانه ثابت في النصوص القرآنية أيضاً. ومثله: القدرة، فكلما كان الإنسان أقدر؛ كان هذا أكمل.. فكذلك الله عز وجل.
أما ضرب الأمثال لله تعالى، وقياسه بخلقه؛ فإن هذا لا يجوز بحال من الأحوال قال تعالى: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [النحل:74].
وقوله: مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأعراف:33]، أما الظاهر: فكما ذكرت، وأما الباطن: كالفواحش المتعلقة بالقلب، وهذا قد يخفى على كثير من الخلق، فهي موجودة.
فالحسد -مثلاً- والحقد، وبغض المؤمنين من الفواحش القلبية، والعجب والغرور والكبر، من الفواحش القلبية، وهكذا...: حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأعراف:33].
قوله: (والإثم) قيل: إن المقصود بها الخمر، فإن الخمر جماع الإثم، وكانت العرب تسميه: الإثم كما قال شاعرهم:
سقوني الإثم ثم تكنفوني |
يعني سقوه الخمر ثم أحاطوا به، فالعرب كانت تسمي الخمر إثماً، وقيل: إن المقصود من الإثم: هو كل معصية لله عز وجل، فلهذا تكون أعم من الفواحش.
قوله تعالى: وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:33] فالبغي: هو الاعتداء على حقوق الناس، وهو لا يكون بحق؛ وإنما للتنفير والتقبيح منه، قال: وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:33] أي: أن تبغي على الناس، كأن تبغي عليهم في أموالهم بغير حق فتظلمهم.. أو في أعراضهم؛ كأن تتكلم في أعراضهم بغير حق وتسبهم وتؤذيهم سراً أو علانية.
والبغي: من الذنوب التي يعجل الله سبحانه وتعالى عقوبتها في الدنيا كما قال صلى الله عليه وسلم: {ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى له العقوبة في الدنيا مع ما يدخره لصاحبه يوم القيامة من البغي وقطيعة الرحم} فالبغي مما حرمه الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [يونس:23] أي: بغي الناس بعضهم على بعض.
وقوله: وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنـزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً [الأعراف:33]
فالله تعالى ما أنـزل لأحد سلطاناً أن يشرك معه، إنما أنـزل سلطاناً بالتوحيد وإفراده بالعبادة.
وقوله تعالى: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]
أي: أن تتكلموا في دين الله تعالى ما لا تعلمون -ونستغفر الله تعالى ونتوب إليه من ذلك- فإن في هذه الآية وعيد شديد على من تكلم في الشرع بما لا يعلم، حتى قرنه سبحانه مع الشرك: وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنـزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33] فكثير من الجهلة والعوام تجد الفتوى على طرف لسانه: حرام.. حلال! وكذلك كثير من السفهاء الذين اتبعوا أهواءهم وشهواتهم، بمجرد أن تخبرهم عن منكر وقع فيه، يقول: لا شيء ولا حرج في ذلك! لم لا شيء فيه؟
هل أخبرك الله بهذا؟
هل عندك آية أو حديث أو كلام لأهل العلم؟
يقول: لا. لكن لو كان هناك شيء، لقبل في فلان وفلان، قال تعالى: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33] كونك واقع في معصية، هذا شيء يمكن أن يغفره الله لك، لكن هناك معصية أخرى عظيمة قد لا تغفر وهي وقوعك في المعصية وأنت تستحلها، أو تتكلم على الله تعالى بغير علم؛ بالحلال والحرام والدين، فهذا من أعظم الذنوب قال تعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36] فلا تتبع شيئاً ليس لك به علم، ولا تتكلم بغير حق، فكل أولئك سوف تكون عنه مسئولاً.
وأحياناً أخرى: يأتي الاستواء غير معدى بحرف من حروف الجر، كما في قوله: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى [القصص:14] في مواضع كثيرة، وهذا أيضاً ليس داخلاً في المقصود، وفي أحيان ثالثه: يأتي الاستواء معدى بحرف الجر (على) ولكن ليس في حق الله سبحانه وتعالى ولكن في حق مخلوقاته، كما في قوله تعالى: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ [هود:44] يعني: سفينة نوح التي نجا الله تعالى فيها نوحاً ومن معه، فإنها رست واستقرت على جبل الجودي.
وإنما المقصود بالمواضع السبعة: المواضع التي ذكر فيها استواء الله سبحانه وتعالى على عرشه، هذه سبعة مواضع سردها المصنف رحمه الله تعالى:
الموضع الأول: في سورة الأعراف، والثاني: في سورة يونس، والثالث: في سورة طه، والرابع: في سورة الفرقان، والخامس: في سورة السجدة، والسادس: في سورة الحديد، والسابع: في سورة الرعد.
وهو على كل حال استواء حقيقي يليق بالله تعالى، ولا يلزم منه ما يلزم من استواء المخلوقين على شيء من المخلوقات، بل لله تعالى المثل الأعلى، ولا يشبه أو يمثل بخلقه، ولا يلزم من استوائه على عرشه ما يلزم من استواء الإنسان -مثلاً- على الأرض أو على الكرسي أو على غيرهما من اللوازم الباطلة؛ بل نحن نثبته كما جاء في النص دون أن ندخل في تكييفه، ولا نشبهه بأحد من خلقه، ولا يلزمنا تلك اللوازم الباطلة التي أشار إليها أهل البدعة.
قد استوى بشر على العراق من غير سيف أو دم مهراق |
ويرويها بعضهم: " قد استولى بشر " وهذا ليس بالصحيح؛ بل الصواب: " قد استوى بشرُ على العراق ولاشك أن هذا التفسير يلزم أيضاً منه لوازم باطلة.
منها: أن الله تعالى لم يكن مالكاً للكون متصرفاً فيه، ثم استولى عليه بعد ذلك.. وهذا لازم باطل يلزمهم لا مفر لهم منه، ومثلهم أو قريب منهم: من يفسرون الاستواء بالهيمنة والغلبة والسيطرة أو نحو ذلك من العبارات التي يرددونها، ويفسرون بها معنى (الاستواء) وذلك هروباً منهم -بزعمهم- من إثبات صفة لله يرون أن في إثباتها تشبيه له بخلقه، أو أنه يلزم فيها حلول الحوادث فيه جل وعلا، أو يلزم منها مماسة، أو يلزم منها شيء من ذلك وهذا كله ليس بلازم.
بل نحن نقول: إن المسلك الأسلم في الأسماء والصفات هو أن تثبت كما جاءت في نصوص الكتاب والسنة دون أن ندخل في تكييفها؛ وما دمنا لم ندخل في تكييفها، فإننا لسنا بملزمين بشيء من تلك اللوازم التي يزعمون ويدعون.
بل نقول: الله تعالى أعلم بنفسه من خلقه، وما دام أخبرنا بذلك؛ فنحن نقرؤه ونثبته، كما دل عليه ظاهر النص، دون أن ندخل في تكييفه، ولا أن نشغل عقولنا ولا قلوبنا بالبحث عن معانٍ أخرى له، غير ظاهرة، وكذلك لا نعتقد بأنه يلزم من إثباته؛ إثبات تشبيه الله تعالى أو تمثيل له بخلقه.
وخلقه عز وجل السماوات والأرض في ستة أيام، الكلام فيه ليس هذا موضعه؛ لكن فيه إثبات خلقهما وما بينهما أيضاً -كما جاء في الآيات الأخرى-: الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الفرقان:59] ففيه إثبات خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، والمقصود بقوله: وَمَا بَيْنَهُمَا [الفرقان:59] -والله تعالى أعلم-: الأجرام التي تكون بين السماء والأرض وهي كثيرة.
ومثل ذلك هذا الهواء الذي يكون بينهما، فإن الله تعالى خلق ذلك كله والسماوات والأرض في ستة أيام، وجاء تفصيل هذا الخلق في قوله تعالى: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ [فصلت:9] فذكر أن الأرض خلقت في يومين إلى قوله: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [فصلت:11-12] فذكر تفصيل خلق السماوات والأرض وخلق ما بينهما في ستة أيام، وهذه الأيام مما يعلمه الله سبحانه وتعالى.. فقد يجوز أن تكون بقدر أيامنا المعهودة، أي: في ستة أيام بقدر أيامكم المعهودة ويجوز أن يكون الأمر غير ذلك، وأن تكون أياماً يعلمها الله سبحانه وتعالى؛ خاصة ونحن نعلم: أنه عند خلق السماوات والأرض لم يكن هناك ليل ونهار وشمس، بحيث يتميز هذا من ذاك؛ وإنما خلق الله الليل والنهار بعد ذلك، ثم استوى على العرش.
والظاهر من قوله: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54] يدل على أن " ثم " هاهنا للترتيب الزماني؛ ولذلك تكررت في المواضع السبع كلها ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54] وقد سبق في صحيح البخاري قوله صلى الله عليه وسلم: {كان الله ولا شيء معه}.
فلا شك أن الله تعالى خلق العرش بعد أن لم يكن، ثم استوى عليه، فالعرش مخلوق لله عز وجل، خلقه الله تعالى ثم استوى عليه -كما ذكر هاهنا أو في بقيه المواضع السبعة.
ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54] وكل ما يخطر ببال العبد من صفه الاستواء أو من كيفيه الاستواء، فإنه يدفعه: بعلم أنه لا يعلم كيف هو إلا هو سبحانه، وكذلك لا يعلم كيفية صفاته إلا هو (وكل ما خطر ببالك، فالله ليس كذلك) -كما قال بعض أهل العلم- فكلما قفزت إلى ذهن الإنسان صورة كيفية للاستواء أو لغيره من الصفات؛ تذكَّر أن هذه الصورة صورة مخلوقة محدثة، وأن الله ليس كذلك؛ فيندفع عنه وينقطع عنه الوسواس والشبهات والخواطر، التي قد تخطر في قلبه أو تمر في ذهنه.
من أهل العلم من ضعفوا هذا الحديث بحجة معارضته لظاهر القرآن الكريم، وقد نقل هذا عن جماعة من العلماء المتقدمين نذكر منهم البخاري والبيهقي وغيرهما، ومنهم من صحح الحديث وحمله على محمل آخر غير المحمل الذي تحمل عليه الآيات، وهذا المسلك أحسن؛ لأن الحديث ظاهره الصحة والسلامة وقد صححه جماعة كبيرة من العلماء وأخرجه مسلم في صحيحه.. والمحامل التي حمل عليها الحديث كثيرة.
لعل من أحسنها ما أشار إليه الذهبي رحمه الله! في كتابه العلو للعلي الغفار، واختاره جماعة من المحققين: أن الأيام السبعة التي ذكرها النبي محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث هي غير الأيام الستة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى.. فإن الله تعالى ذكر السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، أما الحديث فذكر تفصيل بعض المخلوقات، كالتربة -مثلاً- والتربة ليس المقصود بها الأرض فالأرض، أشمل من التربة.
أما التربة فهي: خاصة بتربة الأرض الظاهرة وقشرتها القريبة.. فتكون التربة هنا: غير الأرض المذكورة في الآية، وكذلك ذكر في الحديث تفصيل الجبال والشجر والماء والشر أو المكروه، فذكر تفصيل خلق أشياء؛ ومما يدل على صحة هذا المعنى أنه ذكر خلق آدم في آخر ساعة من الجمعة، يعنى: آخر يوم من الأيام السبعة.
ومن المعلوم أن خلق آدم متراخٍ جداً عن خلق السماوات والأرض وبعيداً عنه فليس خلق آدم هو بعد خلق السماوات والأرض مباشرة، كلا! بل خلق آدم عليه السلام متراخ جداً عن خلق السماوات والأرض.
ومن المعلوم أن الله تعالى خلق السماوات والأرض، وأنه -كما جاء في روايات كثيرة- أن الجن كانوا في الأرض ففسقوا فيها وأفسدوا وسفكوا الدماء، فقال الله سبحانه وتعالى لملائكته: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30] فهذا أحسن الأقوال، وقد جاءت روايات صحيحة أشار إلى شيء منها الذهبي في كتابه القيم الذي يمكن مراجعة مختصره للألباني وهو العلو للعلي الغفار وهو في مجلد لطيف.
والمعنى الثاني: أن المقصود بغير عمد مرئية، وعلى هذا يكون وجود عمد لا ترى أمراً وارداً، فكأن المعنى يختلف، فإذا قيل: بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا [الرعد:2] أي: خلق السماوات ترونها بغير عمد، فيكون في ذلك استئناف "خلق السماوات ترونها بغير عمد" أو يكون المعنى خلق السماوات بغير عمد ترونها بغير عمد مرئية لكم، فيحتمل أن يكون المعنى وجود عمد لا ترى.
وعلى كل حال فالإعجاز في الخلق ظاهر في الحالين، فهذه السماء العظيمة إن كان خلقها واستقرارها وثباتها وبقاؤها بغير عمد؛ فهو معجزة للخلق دال على الخالق، ولذلك أمر الله تعالى بالنظر فيها فقال: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [يونس:101] وقال: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ [الملك:3-4] وإن كان ثَمَّ عمد موجودة وإنها لا ترى؛ فهذه -أيضاً- معجزة أخرى تدل على عظمة الخالق وبديع صنعه، وكلا الأمرين له ما يؤيده.
وأما زعم بعضهم: من أنه يلزم من إثبات الاستواء؛ القول بأن الله تعالى في مكان، ويقول بعضهم: كان الله ولا ما كان وهو الآن على مكان قبل خلق المكان، أي يريدون أن ينفوا أن يكون الله تعالى في مكان فيقول بعضهم كان الله ولا مكان وهو الآن على ما كان قبل خلق المكان، أي: يروجون نفي المكان، فيقولون: في غير مكان، أو لا في مكان، فهو على ما كان عليه.
فنحن نقول لهم: إن المقصود بالمكان يختلف؛ فإن قصدتم المكان الوجودي المخلوق الحادث كالأمكنة الموجودة في هذه الدنيا؛ فإننا لا شك ننـزه الله سبحانه وتعالى عن أن يكون حالاً فيها، ولا يقول بوجود الله سبحانه وتعالى في هذه الأمكنة إلا الحلولية، وهم فئة من الصوفية الملاحدة.
وأما إن أرادوا بالمكان: المكان العدمي الذي هو خلاء محض؛ فإن هذا لا يتعلق به خلق أصلاً، ولا يمنع أن نقول: إن الله تعالى في مكان بهذا الاعتبار، باعتبار الخلاء العدمي الذي لا يتعلق به خلق أصلاً.
وأما قولهم: وهو على ما كان قبل خلق المكان؛ فإننا نقول: إن الله عز وجل ذكر أنه خلق السماوات، والأرض، والعرش، ثم استوى على العرش، فنثبت له ما أثبته لنفسه، دون أن يلزم من ذلك أيُّ لازم باطل مما يدَّعونه، أو مما يلزم من استواء المخلوقات بعضها على بعض.
ولعل من حماية العقل البشري من الضياع والعبث والتشتت، وحماية عقيدة المؤمن من أن تتلاعب بها الأهواء والأقيسة المنطقية، التي لا تستقر على حال؛ أن يؤمن العبد بما أخبر الله تعالى، وبما يقرؤه في كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ويطمئن قلبه بذلك، دون أن يسمح للعقل -أصلاً- أن يتيه في هذه البيداء، التي لا هادي فيها ولا مرشد إلا كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الميزة الأولى: أن فيها تعظيم النصوص وإقرارها وإمرارها كما جاءت، دون الاشتغال بتحريفها وتصريفها عن معانيها، مما يهون من شأن النص ويجعل الإنسان -ربما- يكره هذه النصوص، أو يكره أن يوردها أو يضيق صدره إذا مرت عليه؛ بل يكون في ذلك تعظيم للنصوص وحماية لجانبها؛ وهذه هي الميزة الأولى العظيمة.
الميزة الثانية: حماية العقل البشري من أن يضيع في بيداء ليس فيها هادٍ ولا دليل، بعد ما ترك النص الشرعي، فأصبح يضرب يميناً وشمالاً في تيه بعيد، ليس مأجوراً به في الآخرة ولا محموداً به في الدنيا.
فأما في الآخرة: فلن يؤجر أولئك الذين اشتغلوا بصرف النصوص عن معانيها، بل هم أولى بالإثم على ما تجرءوا عليه من النصوص.
وأما في الدنيا: فإن في ذلك إضاعة للعقل، وصرف له عن مهماته الحقيقية، التي تتمثل في: فهمه للكتاب والسنة فهماً ظاهراً بعيداً عن التكلف، ومعرفة ماذا أراد الله تعالى منا، وما يجب أن نعمله، والبحث عن السبل لإعزاز هذا الدين؛ بتقوية جانبه وشد ركنه وقتال أعدائه وما أشبه ذلك من المجالات التي تأخر المسلمون فيها كثيراً؛ بسبب إغراقهم في البحث في الإلهيات بطريقة لم تبق للنصوص حرمة وتعظيماً، ولا توصل القلوب ولا العقول إلى هداية صحيحة، فأسلم طريقة يهتدي إليها المهتدون؛ هي قراءة القرآن كما أنـزله الله تعالى، والسنة كما جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإمرارهما وإقرارهما والإيمان بهما على ظاهريهما، دون الدخول في تأويل أو تعطيل أو صرف لهما عن معانيهما.
وقد ذكر أهل العلم من أسرار اختيار هذه السورة بالقراءة في يوم الجمعة؛ ما اشتملت عليه من خلق السماوات والأرض، واستواء الله سبحانه وتعالى على عرشه، وخلق الإنسان ونشأته وأطواره ومراحله وبدايته ونهايته، فضلاً عما فيها من العبر وأخبار بعض الأمم السابقة إلى غير ذلك، ومثلها سورة الإنسان، فإنها مشتملة أيضاً على خلق الإنسان بدءاً وانتهاءً، وما يكون عليه الناس في الدار الآخرة حينما يصل أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار.
ومن ضمن ما اشتملت عليه هذه السورة العظيمة " آلم تنـزيل " (السجدة) ذكر خلق الله تعالى للسماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم ذكر استواؤه على العرش؛ ومع ذلك فإنه مع علوه وأنه مستوٍ على عرشه، فوق سماواته بائن من خلقه كما يقول أهل العلم؛ مع ذلك فإنه قريب منهم، عالم بأحوالهم وتقلباتهم، سميع لدعائهم مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السجدة:4-5] فهو مع استوائه وعلوه؛ قريب من خلقه؛ سامع لدعائهم؛ رحيم بهم؛ مطلع على أحوالهم.
ولهذا يقول بعض أهل العلم هو: (قريب في علوه عالٍ في دنوه) أي: أنه لا تعارض بين علوه -جل وعلا- فوق سماواته واستوائه على عرشه، وبين قربه من خلقه بعلمه وإحاطته وخبرته بهم ورحمته وإحسانه وعطفه وجوده للمؤمنين منهم، فلا تعارض بين هذا وذاك ولهذا قال عز وجل في مواضع كثيرة من كتابه: وَهُوَ مَعَكُمْ [الحديد:4] وإِلَّا هُوَ مَعَهُمْ [المجادلة:7] وقال: وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ العنكبوت:69] إلى غير ذلك من المواضع التي فيها إثبات المعية؛ معيته بعلمه وبإحاطته وبرحمته ونصره وتأييده للمؤمنين.
وقال سبحانه في سورة الحديد: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الحديد:4] وهذا كالمواضع السابقة سواء؛ ففي هذه المواضع السبعة كلها ذكر (الاستواء) معدات بحرف "على" ومسبوقاً بلفظ "ثم" الذي يدل على الترتيب الزمني المتراخي، وهذا كله حق كما أخبر الله تعالى عنه.
ومنهم من ساق هذه المواضع على أنها داخلة في مواضع الاستواء على العرش؛ لكن صنيع المؤلف رحمه الله في هذا الموضع وغيره يدل على الأول، وأن المقصود بالاستواء المعدّى بـ (إلى): هو القصد بإرادة تامة، وهو غير الاستواء على العرش المذكور في هذه المواضع السبعة.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر