إسلام ويب

تفسير من سورة الفيل إلى سورة الكوثرللشيخ : عبد الحي يوسف

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من عظمة هذا القرآن أن سرد الله فيه مواقف تجلو الهم والغم عن فؤاد من يقرؤه، وقد ذكر الله قصة أصحاب الفيل الذين أهلكهم الله -مع القوة التي كانوا يملكونها- وكأنه يقول: إن الذي أهلك أصحاب هذه القوة العظيمة قادر على أن يهلك من هو أضعف منهم من أعداء الله. ومن التناسب بين سور القرآن الكريم أن الله عز وجل أظهر امتنانه على قريش بأن أسبغ نعمة الأمن عليهم بعد حادثة الفيل، وأمرهم أن يشكروه على هذه النعمة ويفردونه بالعبادة وحده.

    1.   

    تفسير سورة الفيل

    قصة محاولة هدم الكعبة

    سورة الفيل سورة مكية فيها خمس آيات، وثلاث وثلاثون كلمة، وثلاثة وتسعون حرفاً.

    وهذه السورة المباركة تحكي قصة معروفة منقولة بالتواتر قد عرفها العرب كلهم أجمعون، وهذه القصة مفادها أن ذا نواس الملك الحميري تهود، فعمد إلى تهويد الناس بالقوة، وقتل خلقاً كُثر من النصارى كانوا بقيادة رجل صالح يقال له عبد الله بن التامر ، وهم الذين حكى الله خبرهم في سورة البروج: قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ[البروج:4-6].. الآيات.

    فتسلط النجاشي ملك الحبشة على بلاد اليمن، أرسل جيشاً إلى بلاد اليمن بقيادة رجل يقال له أرياط ، ثم نازعه رجل يقال له: أبرهة الأشرم ، فدانت بلاد اليمن لهذا الرجل، ثم لما حكم بلاد اليمن رأى أن أهل اليمن في موسم معين يذهبون جماعات جماعات، ويخرجون على حالة معينة وهيئة خاصة، فسأل: أين يريدون؟ وأين يذهبون؟ فقيل له: إنهم يحجون بيتاً في مكة يعظمونه، ويطوفون به، ويقبلون أركانه، ويصلون عنده، فقال لهم: ومن أي شيء بني؟ قالوا: من الحجارة، قال: وبأي شيء كسي؟ قالوا: بهذه الوصائل -الوصائل ثياب يمانية مخططة-، فقال: سأبني خيراً منه، وهذه عادة الطواغيت، فالطواغيت المعاصرون الذين يحكمون بلاد المسلمين كل واحد منهم يبني مسجداً، وتتحدث وكالات الأنباء والجرائد المسبحة بحمده بأن هذا المسجد سعته سعة المسجد الحرام، فبعضهم بنى مسجداً في البحر، فيصلي الإنسان والسمك أمامه، وما يدري ما يصلي.

    فـأبرهة لما كان طاغوتاً خبيثاً بنفس المنطق، ظن أن تعظيم البيت راجع للحجارة وإلى الكساء، فبنى كنيسة عظيمة تفنن فيها وحسنها وجملها وزخرفها وسماها القِلّيس أو القُلَّيس، وكتب إلى النجاشي كتاباً قال فيه: أيها الملك! إني ابتنيت لك بيتاً ما سمع الناس بمثله، ولست بمنته حتى أصرف حج العرب إليه، ولن تطيب نفسي إلا إذا تحول العرب من مكة إلى هذه الكنيسة التي في صنعاء.

    والعرب كانوا ذوي عصبية لدينهم الباطل، وقد ورثوا تعظيم البيت من دين الخليل إبراهيم عليه السلام، وهو من الحق القليل الذي بقي بأيديهم، فسمع واحد من بني كنانة بما قال هذا المسكين، فرد عليه رداً عملياً، فجاء إلى هذه الكنيسة وتغوط فيها ثم حمل من النجاسة ولطخ جدرانها، وبعض الروايات تذكر بأن جماعة من العرب جاءوا فأوقدوا نيراناً، وصنعوا طعاماً، فحملت الريح تلك النيران فأحرقت تلك الكنيسة، والله أعلم أي ذلك كان.

    فلما سمع أبرهة بذلك استشاض غضباً، وعزم على أن يسير جيشاً عظيماً لهدم الكعبة المشرفة زادها الله شرفاً، وظن أن الأمر يعود إلى القوة المادية وإلى الأمر الظاهر، فذهب إلى هناك، فتعرض له من أشراف العرب رجل يقال له: ذو نفر ، وكان من ملوك اليمن فهُزِم، فلما مر ببلاد خثعم تعرض له رجل يقال له نفيل بن حبيب الخثعمي ، وأراد أن يقاوم جيش أبرهة فهزم وأخذ أسيراً، وأراد أبرهة قتله فقال له نفيل : لا تقتلني وأنا دليلك، فاستبقاه، ثم استمر سائراً إلى أن وصل إلى الطائف وإلى بلاد ثقيف، فخرج له مسعود بن معقب ، وكان سيد ثقيف، وقال له: أيها الملك! هذا بيتنا، وكان عندهم صنم يقال له اللات، وأما البيت الذي تريده فهو بمكة، وسنبعث معك هذا الرجل أبا رغال يكون لك دليلاً يدلك على البيت، فلما كان ببعض الطريق قتله الله عز وجل فهلك، فرجمت العرب قبره.

    وما أكثر الرغالات في حكام المسلمين، أبو رغال هو دليل الأمريكان الآن ما أكثره في بلاد المسلمين!

    واستمر أبرهة ماشياً إلى أن وصل إلى مشارف مكة، فأغار على سرح كان فيه إبل لـعبد المطلب بن هاشم ، ثم بعد ذلك بعث مندوباً إليه، فجاء عبد المطلب وكان رجلاً قسيماً وسيماً عظيماً، عليه مهابة وجلالة ووقار، فكره أبرهة أن يجلسه على الأرض ويجلس هو على سرير الملك، وكره أن يجلس عبد المطلب إلى جواره، فنزل وجلس إليه، وقال له: أنا جئت لهدم هذا البيت، فإن خليتم بيني وبينه فلا حاجة لي في دمائكم، فقال عبد المطلب : أيها الملك! إن لي إبلاً قد أخذتموها، فردوها إلي، أما البيت فله رب يحميه.

    فصارت هذه الكلمة مثلاً، واستنكر أبرهة فقال له: لقد أعجبتني حين رأيتك، لكنك الآن لست بذاك المكان، تترك بيتاً هو دينك ودين آبائك وأجدادك، وتحدثني في شأن إبلك! فقال له عبد المطلب : أنا رب الإبل، وللبيت رب يحميه، فأمر بأن تعاد إليه الإبل.

    وعبد المطلب كان رجلاً عاقلاً راجحاً، وأمر أهل مكة أن يصعدوا إلى الجبال وأن يتركوا مكة ويخلوها، وكأنه كان يرى لفراسته بأن أمراً ما سيحدث، ثم ذهب عبد المطلب ومعه بعض كبار قريش، فأخذ بحلقة باب البيت وقال:

    اللهم إن العبد يمنع رحله فامنع رحالك

    لا يغلبن صليبهم ومحالهم غدواً محالك

    إن تركتهم وقبـ لتنا فأمر ما بدا لك

    إلى آخر ما قال، ثم خرجوا.

    ولما تمكن من أبرهة الغرور، ووجد أنه لا مقاومة، وليس هناك من يعترض سبيله، أمر بتسيير الجيش لإنفاذ ما يريد، فكانوا إذا وجهوا الفيل قبل مكة، برك وأبى، وإذا وجهوه قبل اليمن أو قبل المشرق أو قبل المغرب حيثما وجهوه فإنه يمضي ويركض، وهذا ثابت في الحديث الصحيح لما بركت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وقال الصحابة: (خلأت القصواء، فقال: ما خلأت وما هو لها بخلق، لكن حبسها حابس الفيل).

    فبعد ذلك تدخل الله عز وجل بقدرته التي لا مثيل لها في الوقت المناسب، فأرسل طيراً أبابيل، قالت عائشة : كالخطاطيف. وقال بعضهم: كالوطواط، وقال سعيد بن جبير : كانت طيراً لم ير قبلها ولا بعدها مثلها.

    وكانت مخصوصة مع كل طائر ثلاثة أحجار حجر في منقاره، وحجران في رجليه، وكانت هذه الحجارة تنزل على رأس الرجل من الأحباش فتخرق رأسه، ثم تخرج من دبره فتخلص إلى الفيل فتقتله، وكانت الطيور عجيبة تصيب المقاتل، وأصابت بعضهم في جسده، قال ابن عباس : فكان الواحد منهم إذا أصيب نفط جلده -أَيْ: انتفخ-، وكان ذلك أول ظهور الجدري من تلك الحادثة، والله أعلم.

    وقالت عائشة : لقد رأيت سائس الفيل وقائده أعميين بمكة يتكففان الناس.

    وقال أبو صالح : رأيت تلك الحجارة في بيت أم هانئ بنت أبي طالب -كأنهم جمعوا تلك الحجارة من أجل أن تكون دليلاً- رأيتها حجارة صغاراً سوداً فيها خطوط حمراء.

    وهذا صنيع الله عز وجل بمن تكبر وتجبر، وسنة الله أن يهلك المتجبر بأضعف خلقه، فمثلاً النمرود الذي قال: أنا أحيي وأميت، أهلكه الله بحشرة البعوضة، وكذلك يأجوج ومأجوج الذين يقولون: فرغنا من أهل الأرض وعلونا أهل السماء، أرسل الله عليهم النغف وهي دود في أنوفهم فتتركهم فرسى.

    تفسير قوله تعالى ( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل )

    يقول الله عز وجل: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ[الفيل:1] ألم تر بمعنى: ألم تعلم نبأ أولئك القوم وما صنع الله بهم، قاله أهل التفسير، فالله عز وجل خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم الذي كان يتأذى من طغيان المشركين وسوء أدبهم معه ومع الله، فقال له: يا محمد! أما علمت ما فعلت بـأبرهة الحبشي ، وجنوده الأقوياء وفيله العظيمة، أما هؤلاء المساكين أمثال: العاص بن وائل السهمي ، و الوليد بن المغيرة المخزومي ، وأبي بن خلف الجمحي و عمرو بن هشام وأمثالهم من الهمازين واللمازين فالله عز وجل يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: لا تحمل هماً، أنا سأنتقم لك منهم، كما انتقمت من أبرهة ! لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم على الله من بيت الله، بل المسلم الواحد أكرم على الله، وحرمته أعظم من بيت الله، كما قال عليه الصلاة والسلام حين طاف بالكعبة: (ما أعظمك وأعظم حرمتك، وما أطيبك وأطيب ريحك، والذي نفسي بيده! لحرمة المسلم أعظم عند الله من حرمتك، دمه وماله وعرضه، وألا يظن به إلا خيراً).

    وكلمة الرب في الآية مضافة إلى ضمير المخاطب، فربك الذي يتولاك هو الذي يرعاك، ويكلؤك ويحفظك، ولم يقل الله: ألم تر كيف فعل الله أو ألم تر كيف فعل رب العالمين، أو رب الناس، وإنما قال: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ، والفيل معروف، لكن المفسرون رحمهم الله ما تركوا شيئاً، فقالوا: إن الفيل حيوان من ذوات الأربع، وهو أضخم من البعير وأعلى منه، وبطنه أكبر، وهو ركوبة وحامل أثقال، ويوجد في البلاد الحارة ذوات الأنهار، كالصين والهند والحبشة والسودان، ويجمع على فِيَلة وفيول وأفيلة، وأنثى الفيل فِيْلة، وهو ضخم وله خرطوم طويل، يعدو به على ما يريد من حيوان، وهو غير مأكول ولحمه حرام؛ لأنه خبيث مستقذر، فهو داخل في عموم قول الله عزل وجل: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ[الأعراف:157].

    تفسير قوله تعالى ( ألم يجعل كيدهم في تضليل

    قال تعالى: أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ[الفيل:2]، هنا سؤال طرحه العلامة الشيخ الطاهر ابن عاشور في التحرير والتنوير، قال: سمى الله عز وجل حربهم كيداً، فهل أبرهة كاد سراً وخطط أم أنه جاء في حرب معلنة وهدف ظاهر، فالله عز وجل ما قال: ألم يجعل حربهم وإنما قال: أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ ))؟

    الجواب: أنه تعلل بعلة ظاهرة باطلة، وأخفى سبباً كامناً هو الحقيق بحمله على الحرب، أعلن أن سبب حربه الغضب من فعل الكناني الذي تغوط في الكنيسة، ولكن الحقيقة أنه أراد أن يصرف حج العرب من البيت الحرام إلى كنيسته ليتنصروا.

    وما أشبه الليلة بالبارحة، فالصليبيون الأمريكان ومن معهم يعلنون لافتة ظاهرة وهي القضاء على الإرهاب، ولكن حقيقة الأمر القضاء على الإسلام، وهذا -والله- ما يحتاج إلى دليل، فكل مسلم ببصيرته يراها رأي العين، إنهم يريدون أن يتدخلوا في المناهج، وأن يوجهوا الثقافات، وأن يفرضوا اتفاقيات، وأن يجعلوا نظماً خاصة بالمرأة تشابه ما عندهم من انحلال وفساد، وهذا كله تحت عنوان ظاهر وهو القضاء على الإرهاب.

    ومعنى قوله: فِي تَضْلِيلٍ )) أي: في تضييع وإبطال وخسار.

    تفسير قوله تعالى ( وأرسل عليهم طيراً أبابيل )

    قال تعالى: وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ[الفيل:3] قال الرازي رحمه الله في تفسيره : التنكير للتحقير، والمعنى: أي طير، فالله عز وجل قال لها: كوني، فكانت، وليست طيوراً ضخاماً كباراً، إنما طيراً أبابيل، جمع إبيل، على وزن سكين، أَيْ: مجموعات مجموعات، أو جماعات جماعات.

    تفسير قوله تعالى ( ترميهم بحجارة من سجيل )

    قال تعالى: تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ[الفيل:4] السجيل هو الطين المحترق، وهو الآجر المطبوخ بنار جهنم، من جنس ما أرسله الله على قوم لوط، والقرآن يفسر بالقرآن، قال تعالى: قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ[الذاريات:31-34]، وفي سورة هود قال الله عز وجل: جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ[هود:82].

    وقال بعض المفسرين: سجيل، أصلها سجين بالنون، وهي دركة من دركات جهنم وأبدلت النون لاماً.

    تفسير قوله تعالى ( فجعلهم كعصف مأكول )

    قال تعالى: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ[الفيل:5] أي: كتبن أكلته الدواب فراثته، والروث هو البعر الذي يتقطع عما قليل، ويصير قطعاً قطعاً، أو كطحين أكل ثم راثته الدواب، فالله عز وجل قتل بعض أصحاب الفيل قتلاً فورياً، وبعضهم كـأبرهة جعل لحمه يتزايل قطعة قطعة، ولما وصل إلى صنعاء مذعوراً مدهوشاً انصدع صدره عن قلبه فهلك.

    والسؤال الذي طرحه بعض المفسرين، ومنهم صاحب أضواء البيان رحمه الله، كيف ينصر الله عز وجل أهل مكة وهم وثنيون على أبرهة ومن معه وهم أهل كتاب نصارى؟

    فأجاب من وجوه وهي:

    الوجه الأول: أنهم كانوا ظلمة، والظلم مرتعه وخيم، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (اتق دعوة المظلوم ولو كان كافراً) أي: ولو كان وثنياً، وهذا الذي يجعلنا نستبشر بأن نهاية الأمريكان الظالمين قريبة وشيكة؛ لأنهم ظلمة، فتعديهم على أفغانستان ظلم، وتعديهم على العراق ظلم، وتعديهم على إخواننا في فلسطين ظلم، وتعديهم على بلاد السودان قبل سنوات كان ظلماً، فهم استمروا في الظلم واعتادوه، والظلم عاقبته وخيمة، قال محمد بن كعب القرظي رحمه الله: ثلاث -أي ثلاث خصال- من فعلهن عادت عليه، من بغى، ومن مكر، ومن نكث، أما من بغى فقد قال الله عز وجل: فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ[يونس:23]، وقال الله عز وجل: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ[الفتح:10]، وقال: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ[فاطر:43]، من بغى أو مكر أو نكث عاد عليه.

    الوجه الثاني: أن الوثنية كانت اعتداء على حق الخالق، أما فعل أبرهة فكان اعتداء على المخلوقين، والله عز وجل في حقه يمهل ويتسامح، لكن في حق المخلوقين يأخذ أخذ عزيز مقتدر.

    الوجه الثالث: أن البيت في أساسه بني على التوحيد، وأسس على تقوى من الله ورضوان، رفع قواعده الخليل إبراهيم أستاذ التوحيد العظيم وشيخ الأنبياء، ومعه ولده إسماعيل، وبقي البيت قبلة وكهفاً للموحدين ومثابة للمؤمنين زماناً طويلاً، والوثنية كانت شيئاً طارئاً، والحمد لله لم تستمر طويلاً فقد طهرها الله بمحمد صلى الله عليه وسلم وأعاد إلى البيت رونقه وبهاءه.

    فهذه القصة كما يقول أهل التفسير: كانت معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها صاحبت مولده المبارك، إيذاناً بأن الظلم قد انتهى، وأن عهده قد ولى، وأن مولده عليه الصلاة والسلام علامة وأمارة على رفع لواء العدل ورد الحقوق إلى أهلها.

    1.   

    تفسير سورة قريش

    مناسبة السورة بما قبلها

    سورة قريش مشتملة على أربع آيات، وتسع عشرة كلمة، وثلاثة وسبعين حرفاً.

    وهذه السورة المباركة متصلة بما قبلها، فقد ذكر الله عز وجل في سورة الفيل أنه صرف عن مكة ذلك الطاغية اللئيم، وأرسل عليه آية من آياته: طيراً صغاراً رمته بحجارة صغيرة فأهلكته وجعله الله عز وجل ومن معه من الأجناد كتبن أكلته الدواب ثم راثته.

    تفسير قوله تعالى ( لإيلاف قريش )

    يقول الله عز وجل: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ[قريش:1]، يقول العلامة الطاهر ابن عاشور رحمه الله: هذا افتتاح مبدع، وهو افتتاح بالجار والمجرور المقدم، وقد فصل بينه وبين متعلقه بخمس كلمات مما زاد الكلام تشويقاً، والإيلاف مصدر ألفه يألفه إلافاً وإيلافاً إذا اعتاده وزالت النفرة منه والغرابة عنه.

    والجار والمجرور -كما قال بعض المفسرين- متعلق بقول الله عز وجل: كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ[الفيل:5]، واستدلوا على ذلك بأنه ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ في ركعة بسورة الفيل وسورة قريش ولم يفصل بينهما.

    ومعنى الكلام أنَّ الله عز وجل أرسل على جيش الأحباش طيراً أبابيل أهلكتهم ودمرتهم، من أجل أن يألف القرشيون هاتين الرحلتين ويأمنوا من كل عادية ومن كل ضرر.

    وقال بعض المفسرين: الجار والمجرور متعلق بقوله سبحانه: فَلْيَعْبُدُوا[قريش:3] أي عليهم أن يعبدوا رب هذا البيت الذي أكرمهم، وأطعمهم، وأمنهم، وصرف عنهم كيد الأعادي؛ من أجل أن تبقى هذه النعمة، ويحفظ الله لهم ذلك الأمن، ويصرف عنهم شر الأشرار.

    وقال البعض الآخر: بل المتعلق محذوف، وتقديره: اعجبوا لإيلاف قريش، اعجبوا لصنع الله لهم وما أسبغ عليهم من نعمه ظاهرة وباطنة، ثم بعد ذلك هم ينصرفون عن عبادته إلى عبادة الأوثان والأصنام!

    وقريش: علم على القبيلة المعروفة من بني النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس، وهؤلاء هم القوم الذين كانوا يسمون أهل الله والحرم.

    وسميت قريشاً من التقرش وهو التجمع؛ لأنهم كانوا متفرقين فجمعهم قصي بن كلاب في الحرم.

    وقيل سميت قريشاً من التقرش الذي هو التكسب؛ لأنهم يتكسبون ويتجرون، وقيل: سميت قريشاً نسبة إلى دابة من دواب البحر يقال لها: القرش ، تأكل ولا تؤكل، والنسبة إليها قرشي وقريشي، كما قال القائل:

    وكل قريشي عليه مهابة سريع إلى داع الندى والتكرم

    وهذه القبيلة تشرفت ورفع الله قدرها وأعلى ذكرها بأن أخرج من بينها محمداً صلى الله عليه وسلم، جاء في الحديث الذي رواه الشيخان عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله اصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم فأنا خيار من خيار من خيار) عليه الصلاة والسلام.

    تفسير قوله تعالى ( إيلافهم رحلة الشتاء والصيف )

    قال تعالى: إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ[قريش:2] إِيلافِهِمْ ))، هذا المصدر قرر للتوكيد، أي: من أجل تأليفهم، ومن أجل أن يألفوا ما هم عليه، والرحلة اسم للارتحال، وهو المسير من مكان إلى مكان بعيد، ولذلك سمي البعير الذي يركب في تلك الرحلة راحلة، والشتاء هو أحد فصول السنة الأربعة المعروفة، والصيف كذلك، ورحلة الشتاء كانت إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام.

    ففي رحلة الشتاء إلى اليمن كانوا يجلبون ما يريدون من جلود وأدم ونحو ذلك، وفي رحلة الصيف إلى الشام كانوا يجلبون ما يريدون من أقوات وفاكهة.

    وكان أول من سن هذه الرحلة كما قال المؤرخون هو هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن مكة كانت وما زالت بلداً ليس فيها زرع، وجوها ليس ملائماً لإنبات نبات، فكان أهل مكة أحياناً تصيبهم خصاصة، وتنزل بهم مجاعة في ذلك، فكان الواحد من قريش إذا أصابته خصاصة فإنه لا يسأل الناس تعففاً وعزة، وإنما يجمع عياله وأسرته ثم يذهب بهم إلى مكان معين ويضرب عليه خيمة ويبقى فيه إلى أن يهلك هو وعياله جوعاً وعطشاً، هذه كانت طريقتهم، حتى قدر الله أن بيتاً من بني مخزوم أصابتهم تلك الخصاصة، وكان يوجد ولد من بني مخزوم ترباً لـأسد بن هاشم ، أي: لولد من أولاد هاشم يقال له أسد ، فقال له: غداً سنعتفر، نعتفر هو هذا المكان الذي يجلس فيه من أصابته المجاعة حتى يموت، فيسمى بيت الاعتفار.

    فذهب أسد بن هاشم إلى أبيه باكياً، وأخبره الخبر، فأرسل إليهم هاشم بسمن وأقط وخبز ولحم يكفيهم، وكان رجلاً جواداً ممدحاً، حتى قال فيه الشاعر:

    عمرو العلا هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسبتون عجاف

    كان اسمه عمراً وسمي هاشماً ؛ لأنه يهشم الخبز ويصنع منه الثريد، يعني: كان يصنع الثريد ويطعم الحجيج.

    فأرسل إليهم ما يكفيهم، لكن بعد حين رجعت الخصاصة كما كانت، وقال الصغير لتربه: غداً سنعتفر، سنذهب من أجل أن نجلس في بيت الاعتفار حتى نهلك، فأخبر أسد بن هاشم أباه، فقام في البيت الحرام خطيباً، فقال: يا معشر قريش! إنكم أحدثتم حدثاً به تقلون والعرب يزيدون، وبه تذلون والعرب يعزون، وأنتم أهل الله والحرم والناس لكم تبع، فبعدما بين لهم خطأ هذا الفعل، أخذ من كل رجلين من بني أب واحد، فحملهم على راحلة، وسار بهم تلك الرحلة، ومن اكتسب منهم مالاً تقاسمه بينه وبين أخيه الفقير الذي لم يكتسب، حتى قال مطرود الخزاعي :

    يا أيها الرجل المحول رحله هلا نزلت بآل عبد مناف

    الآخذون العهد من أطرافها والظاعنون لرحلة الإيلاف

    والخالطون غنيهم بفقيرهم حتى يكون غنيهم كالكافي

    فحصل نوع من التضامن والتكافل، وكان هاشم رجلاً ذا سياسة حكيمة وحيلة بارعة، فأقام عهوداً مع ملوك الروم، وملوك فارس، والملوك في نواحي الجزيرة العربية على أساس أنهم أهل الله والحرم فلا يتعرضوا لهم بسوء، ولذلك كانت الغارات تشن على القوافل، فإذا قيل: هذه قافلة قريش، قالوا: هؤلاء أهل الله والحرم فكفوا عنهم وتركوهم، فالله عز وجل امتن عليهم بهذه المنة: رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ )).

    تفسير قوله تعالى ( فليعبدوا رب هذا البيت )

    قال تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ[قريش:3] أي: يا أهل مكة! يا من أطعمكم الله وآواكم! يا من كفاكم وأغناكم! مع أن بلادكم بلاد جوع وسنة ومخمصة، الواجب عليكم أن تعبدوا هذا الرب الكريم.

    وهذه المنة قد تكررت، قال الله عز وجل: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ[القصص:57]، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ[العنكبوت:67] أي: من حولهم غارات سلب ونهب وحرب وقتل، وهم آمنون.

    فَلْيَعْبُدُوا )) وهذا هو الواجب عليهم أن يعبدوا هذا الرب الكريم؛ لأنه تأذن بالزيادة لمن شكر، قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ[إبراهيم:7]، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الله عز وجل هو رب البيوت كلها جل جلاله، لكن الإضافة هنا للتشريف، كما قيل في: نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ[الهمزة:6]، والنار كلها لله، وكما قيل: فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ[الشمس:13] والنوق كلها لله، لكن الإضافة للتشريف والتعظيم.

    فالبيت الحرام بيت جليل وعظيم، حرمه الله وسمى بلده مكة؛ لأنها تبك من ظلم فيها، وتدق عنقه، كما قال الله عز وجل: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ[الحج:25]، أعتق الله البيت الحرام من أن يتسلط عليه جبار، فلذلك سمي البيت العتيق، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، وما قال: فليعبدوا ربهم، أو فليعبدوا إلههم، أو فليعبدوا رب العالمين، وإنما قال: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، كأنه سبحانه ينبههم بأن شرفهم وعزهم وسؤددهم راجع إلى وجود هذا البيت، كما قال سبحانه: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ[المائدة:97]، ولولا البيت الحرام فما قيمة مكة؟! فهي ليست بمكان سياحي، أو ذات طبيعة خلابة، فليس فيها إلا الجبال والقيظ والفجاج الضيقة، والشعاب المتعرجة إلى يومنا هذا، ومع ذلك القلوب إليها مشتاقة، كما قال الله على لسان الخليل إبراهيم عليه السلام: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ[إبراهيم:37]، وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا[البقرة:125]، قال أهل التفسير: لا تشبع منه نفس المؤمن أبداً، يخرج منه وهو مشتاق إليه، نسأل الله أن يكرمنا بزيارته، والطواف به.

    قالوا: ومن حكمة الله عز وجل في هذا البلد الحرام أنه لا يدخله الطاعون، فإن من أطيب بلاد الله هواء، وأصحها جواً، يدخلها الطاعون، فبلاد الشام مثلاً الطاعون يدخلها والأوبئة تدخلها، وفي أيام الحج تكثر القاذورات في البلد الحرام، ولو كان في بلد آخر لنزل وباء وفتك بالناس كلهم أجمعين، ومع ذلك فالحجاج يزيدون على المليونين أحياناً، وهم في فجاج ضيقة، يأكلون ويشربون وكل شيء يحصل ومع ذلك يسلمهم الله عز وجل.

    تفسير قوله تعالى ( الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف )

    قال تعالى: الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ[قريش:4]، ثم ذكر سبحانه سبب هذه العبادة، كما قال في سورة البقرة: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ..[البقرة:21] إلى أن قال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ[البقرة:22]، وهنا أيضاً: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ[قريش:3-4].

    ومن هنا بدلية، والمعنى: الذي أطعمهم بدل الجوع، وآمنهم بدل الخوف، وفي الجمع بين النعمتين دليل على أن إحداهما لا تغني عن الأخرى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصبح آمناً في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) فلو كان الإنسان عنده أموال كثيرة، ولم يكن عنده أمن، فليس للأموال أي قيمة، ولو كان آمناً وليس معه شيء من القوت؛ فليس للأمن أي قيمة، فلابد من الجمع بين النعمتين، ولذلك من كفر بالله سلط الله عليه العذابين، الجوع والخوف قال تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ[النحل:112]، وقد فعل الله ذلك بأهل مكة لما أصروا على الكفر، وحاولوا أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما آذوه في بدنه وفي عرضه وفي أصحابه، فخرج صلى الله عليه وسلم مهاجراً، ودعا عليهم: (اللهم! اجعلها عليهم سنيناً كسني يوسف) أي: سبع سنوات عجاف، لا تنزل السماء قطرة، ولا تنبت الأرض حبة، فأكلوا الأدم وهي الجلود، وأكلوا البعر من شدة الجوع، وكان الواحد منهم ينظر إلى السماء فيخيل إليه أن بينها وبينه دخاناً مبيناً من شدة الجوع والجهد، فأرسلوا يستغيثون بالرسول صلى الله عليه وسلم: يا محمد! جئت تأمر بصلة الرحم، ادع الله أن يغيثنا، فدعا الله فرجعوا إلى الكفر، مثلهم مثل فرعون اللئيم عدو الله، الذي أرسل الله عليه الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، وكل مرة كان يقول لموسى: ادع لنا ربك، ومرات يستخدم ألفاظ تدل على شحة في الأدب فيقول: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ[الزخرف:49]، فكان موسى عليه السلام يدعو الله عليهم بالطوفان، فيقول فرعون: أنا ربكم الأعلى وقد أمرت النيل فهبط، وبعد قليل أرسل الله عليهم الضفادع، فكانوا يرونها في جيوبهم وفي غرفهم وفي فرشهم وفي أي مكان يتواجدون فيه، فكان الواحد من الفراعنة يطبخ طعاماً فيلقاه كله ضفادعاً، ويطبخ دجاجة فيلقاها ضفادع، فيدعو موسى الله عز وجل أن يرفع عنهم الضفادع فيستجيب الله له ويقول فرعون للناس: أرأيتم؟ حتى بلغ به السخف أنه لما فلق الله البحر لموسى، التفت إلى جنوده وقال: أرأيتم ما صنعت بالبحر من أجل أن أتبع عبيدي هؤلاء الآبقين؟ وهو دجل وكذب وضلال، فكانت النتيجة أن الله عز وجل لما خرج آخر واحد من قوم موسى كان آخر واحد من جنوده قد دخل، فأمر الله البحر فعاد كما كان، فأهلكهم الله جميعاً.

    وخلاصة القول أن الإنسان إذا أراد أن تدوم عليه نعمة الله، فالواجب عليه أن يعبد المنعم جل جلاله، لذلك قال ابن القيم رحمه الله:

    هب البعث لم تأتنا رسله

    وجاحمة النار لم تضرم

    أليس من الواجب المستحق

    حياء العباد من المنعم

    أي: افرض أنه لا يوجد بعث، ولا جنة ولا نار، وبعد هذا كله كان الواجب علينا أن نعبد الله، فإن الواحد من الناس لو أسدى إليك معروفاً، وهو لا يملك جنة ولا ناراً، فأنت تشعر نحوه بالامتنان وتستحي منه، وتدعو له، وتترفق معه في الكلام، فما بالكم بالله رب العالمين: الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ[قريش:4]، وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً[لقمان:20]، وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ[إبراهيم:32-34]، وجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً[النحل:72]، وجَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ)[النحل:80].

    فلو جلسنا نعدد نعم الله ما استطعنا عدها، فالإنسان صاحب الوجه الكالح الذي يتكبر، الذي لا يسجد لله ولا يركع له، الدواب العجماوات خير منه بنص القرآن: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ[الأنفال:22]، وإذا كان الإنسان يعيش فقط في هذه الدنيا من أجل أن يأكل ويشرب ويبول ويتغوط وينكح فإن الدواب خير منه؛ لأنها تعرف الله، أما هذا فهو يأكل وما سمى الله، ويشبع وما حمد الله، ولا يركع ولا يسجد لله عز وجل، فهو من أمثال أبي جهل ، و أبي لهب ، و عقبة ، و عتبة ، و الوليد ، و العاص بن وائل فإن الله عز وجل توعد أمثال هؤلاء في هذه السورة بالجوع والخوف.

    1.   

    تفسير سورة الماعون

    سبب نزولها

    سورة الماعون اختلف فيها أهل التفسير هل هي مكية أو مدنية أو أن بعضها مكي وبعضها مدني؟

    واختلفوا في سبب نزولها، قال مقاتل و الكلبي : نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي ، وقال عبد الملك بن جريج : نزلت في أبي سفيان بن حرب كان ينحر كل أسبوع جزورين، فجاءه يتيم مرة فقرعه بعصاه وطرده؛ فأنزل الله عز وجل: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ[الماعون:1-3].

    وقيل: بل نزلت في عمرو بن عائذ المخزومي ، وقيل: بل نزلت في رجل من المنافقين وعينه بعضهم بأنه عبد الله بن أبي بن سلول .

    يقول سيد قطب رحمه الله: هذا الدين ليس مظاهر وطقوساً، والعبادات فيه إذا لم تنعكس على إخلاص في القلب وسلامة في السلوك، فإنها لا قيمة لها، فالله عز وجل بدأ هذه السورة باستفهام في قوله: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ[الماعون:1]، والاستفهام المراد منه التعجب من حال هذا الإنسان الذي اتسم بست صفات هي من أخس صفات المخلوقين:

    الصفة الأولى: التكذيب بالبعث والجزاء.

    والصفة الثانية: دفع اليتيم، ومعاملته بالإيذاء.

    والصفة الثالثة: منع الخير عن المسكين.

    والصفة الرابعة: إهمال الصلاة، وتضييعها، والتهاون بشأنها.

    والصفة الخامسة: الرياء بالعمل.

    والصفة السادسة: منع ما لا يضره، ولو كان شيء ينقصه لكان للمنع وجه، لكنه يمنع ما لا يضره، ولو أنه بذله لا يضره.

    تفسير قوله تعالى ( أرأيت الذي يكذب بالدين )

    يقول الله عز وجل: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ[الماعون:1] الدين كما في قول الله عز وجل: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ[الفاتحة:4] أي الجزاء والحساب، وكما في قول الله عز وجل: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ[الذاريات:5-6]، فالدين هو الجزاء والحساب، وهذا معلوم من كلام العرب كما قال القائل:

    حصادك يوماً ما زرعت وإنما يدان الفتى يوماً كما هو دائن

    وقول الآخر:

    اعلم يقيناً أن ملكك زائل واعلم بأن كما تدين تدان

    وهذا الإنسان يكذب بيوم الدين، كما قال الأول: وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً[الكهف:36] وكما قال قارون ، وغيره من الناس الذين أنكروا يوم الحساب، ومثلما قالت العرب: أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا[الإسراء:49]، فكانوا ينكرون ما يعدهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتوعدهم من جنة ونار، وحساب وجزاء، وثواب وعقاب.

    تفسير قوله تعالى ( فذلك الذي يدع اليتيم )

    قال تعالى: فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ[الماعون:2].

    قال العلامة الطاهر ابن عاشور رحمه الله في قوله سبحانه فَذَلِكَ )): الإشارة من أجل أن يتخيل المخاطب صفة هذا المتكلم عنه، فكأنه حاضر أمامه يشار إليه.

    وقوله تعالى: يَدُعُّ الْيَتِيمَ )) أي: يدفعه، كما قال الله عز وجل: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا[الطور:13].

    تفسير قوله تعالى ( ولا يحض على طعام المسكين )

    قال تعالى: وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ[الماعون:3] أي: لا يحث غيره على أن يطعم مسكيناً، فالإحسان إلى الفقير لا يتأتى منه ذلك أبداً؛ لأن النفوس البشرية جبلت على أنها لا تبذل إلا بعوض، ولا تكف إلا من خوف، ولا تمتنع من شر إلا وهي تخاف عاقبته، واليتيم والمسكين العوض منهما غير مأمول، والخوف منهما أيضاً مندفع، ولذلك لا ينكر دفع الإساءة عنهما، ولا بذل المعروف لهما إلا من قبل إنسان يؤمن بالله واليوم الآخر.

    ولذلك فإن الله عز وجل أثنى على أهل الإيمان فقال: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا[الإنسان:8-9]، ثم قالوا: إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا[الإنسان:10]، فهم يطعمون اليتيم والمسكين لا لأنهم يرجون جزاء منهما، أو يخافون شراً متوقعاً من قبلهما، وإنما يخافون من ربهم يوماً عبوساً قمطريراً، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من ضم يتيماً من أبوين مسلمين حتى يستغني عنه وجبت له الجنة)ولما شكا إليه بعض الصحابة قسوة قلبه أمره بأن يمسح على رأس اليتيم، وآيات القرآن الكريم في الوصية باليتيم ووجوب الإحسان إليه ودفع الضرر عنه كثيرة جداً.

    وكذلك الإحسان إلى المسكين سبب للوقاية من حر النار، وللاستظلال تحت ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله، وسبب لتثقيل الميزان وتكثير الحسنات، ودفع مصارع السوء، ومداواة الجسد وغير ذلك من المنافع العظيمة، والكافر الذي لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر يؤذي المسكين، ولا يحض على طعام المسكين.

    تفسير قوله تعالى ( فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون )

    قال الله عز وجل: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ[الماعون:4-5] الويل: عذاب، أو هلاك، أو واد في جهنم.

    وقوله تعالى: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ[الماعون:5] قال مصعب بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما: قلت لـسعد : أهو الذي يسهو في صلاته؟ قال: لا، بل الذي يسهو عنها.

    وقال عطاء بن أبي رباح رحمه الله: الحمد لله الذي قال: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ، ولم يقل: الذين هم في صلاتهم ساهون؛ لأنه لا يسلم أحد من أن يسهو في صلاته حتى النبي الأكرم والرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم فإنه قام من اثنتين وسلم من اثنتين وقام إلى خامسة، وقال: (إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني).

    وهذه الآية تنطبق على المنافقين، فإذا كان أحدهم بين الناس فإنه يصلي؛ لئلا يقال عنه: أنه تارك الصلاة، وإذا كان وحده فإنه لا يركع لله أبداً؛ لأنه لا يرجو على فعلها ثواباً، ولا يخاف من تركها عقاباً، فهذا الإنسان ساه عن صلاته، إما أن يضيعها حتى يخرج وقتها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (تلك صلاة المنافق ينتظر حتى إذا كانت الشمس بين قرني شيطان، قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً).

    وفي القرآن الكريم: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا[النساء:142].

    أو أنه ساه عن صلاته بحيث إنه لا يحصل شروطها، كما يذكر عن بعض المنافقين أنهم كانوا يصلون بغير وضوء، وقد أفتى بعض أهل العلم بكفر من فعل ذلك؛ لأن هذا مستخف بالله عز وجل؛ أو لأنه لا يتم أركانها على الوجه المشروع، ولا يحقق الطمأنينة فيها، فهؤلاء جميعاً توعدهم الله بالويل، وعندنا في القرآن قول ربنا الرحمن: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا[مريم:59-60].

    من ثمرات الصلاة

    الصلاة قد جعلها الله عز وجل سبباً لكل خير في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فهي ناهية عن الفحشاء والمنكر، وهي عون على كل شديدة في الدنيا، قال الله عز وجل: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ[البقرة:45]، ولذلك فإن الإنسان المصلي لا يكون جزوعاً، كما قال ربنا سبحانه: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ[المعارج:19-23] فهو لا يفرط فيها، فليس جزوعاً عند الشر، ولا هلوعاً عند الخير، ولا منوعاً.

    والصلاة أيضاً سبب للنور يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)، وقال تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ[الحديد:12]، وفي الحديث أن الصحابة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: (يا رسول الله! كيف تعرف أمتك يوم القيامة؟ قال: أرأيت لو كان لك خيل بيض بين خيل بهم أما كنت تعرفها؟ قيل له: بلى، قال: فكذلك أمتي يبعثون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء).

    تفسير قوله تعالى ( الذين هم يراءون )

    قوله تعالى: الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ[الماعون:6] أي: يراءون الناس بأعمالهم، فهم يفعلون الطاعة لتحصل لهم المنزلة في قلوب الخلق، فلا يصلون لأجل الله، ولا يصومون ولا يتصدقون إلا من أجل أن يقال عنهم كذا وكذا، ويلبسون ثياباً خشنة إظهاراً للزهد في الدنيا، كما يفعل الآن بعض الناس فإنهم يلبسون المرقع، أو يلبسون ثياباً خضراء مكفوفة بكفة حمراء يخالفون ما عليه الناس، من أجل أن يظهروا أنهم من الزهاد الصالحين، فهذا هو الرياء.

    والرياء قد يكون بالأقوال، وقد يكون بالأفعال، كإظهار الصلاة أو الصدقة، قال الإمام القرطبي رحمه الله: ولا يكون الرجل مرائياً إذا أظهر العمل الصالح الذي هو فرض؛ لأن الفرض تلحق تاركه المذمة والإثم ويظن به السوء، فإذا دفع التهمة عنه بإظهار الفرض فلا حرج.

    يعني رحمه الله تعالى: أن الصلاة مع الجماعة ليس فيها رياء، فلا يتخفى المصلي ولا يتلثم إذا صلى مع الجماعة وإن رآه الناس، وكذلك الزكاة المفروضة، فإذا أخرجها علانية فلا حرج في ذلك، أما ما كان تطوعاً من صلاة أو صدقة أو صيام أو ما أشبه ذلك، فالأفضل أن يكون ذلك سراً بينه وبين الله عز وجل، كما قال لقمان لابنه: يا بني! ما كلفت إظهاره من العمل فلا تدخل فيه إلا بإخلاص، وما كلفت إخفاءه من العمل فأحب ألا يطلع عليه إلا الله.

    ولو أن إنساناً أظهر عمله الصالح ونيته أن يقتدي به غيره فهو على خير، ومأجور إن شاء الله، وكذلك لو أن الناس أثنوا عليه دون سعي منه وقصد وطلب، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تلك عاجل بشرى المؤمن).

    والرياء ما يكاد يسلم منه أحد، ومن خطورته أنه محبط للعمل، والنبي صلى الله عليه وسلم سماه الشرك الخفي، وأخبر (أن الشرك أخفى من دبيب النمل)، وأخبر صلى الله عليه وسلم بأن المرائي لا يقبل عمله، قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك، فيه معي غيري تركته وشركه).

    وأخبرنا صلى الله عليه وسلم أن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة عالم ومنفق وشهيد، والسبب أنهم كانوا مرائين، فالعالم تعلم وعلم ليقال عنه: عالم، والمنفق أنفق ليقال عنه: جواد، والشهيد قاتل حتى قتل من أجل أن يقال عنه: جريء وشجاع، وقد قيل ذلك في الدنيا فيسحب بهم إلى النار.

    ومن وفق إلى عمل صالح فليكتم ولا يتحدث به، فلا يقول: تصدقت أو اعتمرت ويكرر هذا بمناسبة أو بغير مناسبة، كأنه يمن على الله عز وجل، قال الله سبحانه: وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا[النساء:38]، فلا تنفعه نفقته، وهذا يدل حقيقة على حمق صاحب العمل وقلة عقله، كما ذكر عن بعض الحمقى أنه كان يصلي في المسجد، فقال بعض الناس الجالسين في المسجد: ما أحسن صلاته! وما أطولها! فالتفت إليهم، وقال لهم: وأنا مع ذلك صائم! أي: وأنا بعد هذا التعب كله صائم، فهذا لا صلى ولا صام، وما له عند الله عز وجل إلا البغض والبعد والمقت، نسأل الله العافية.

    تفسير قوله تعالى: ( ويمنعون الماعون )

    قوله تعالى: (( وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ )) قال عكرمة رحمه الله: الماعون هو: عارية الدلو والقدر والفأس والإبرة والمنخل وما أشبه ذلك، فهذه كلها يمكن أن تعار لفلان من الناس فينتفع بها مع بقاء عينها، فالمعير ليس متضرراً، وبعض الناس قد يبلغ درجة من الشر بأن يتكلم فيما لا يعنيه ويمنع ما لا يضره، فلو أعطى شيئاً لفلان من الناس يستعمله ثم يعيده فإنه لا يتضرر، لكنه لا يعطي؛ لأن قلبه قد خلا من الخير.

    وقال الموفق بن قدامة رحمه الله: أجمع أهل العلم على استحباب العارية، والعارية قد تكون واجبة عند الضرورة، فمثلاً: لو أن إنساناً عطشان، وسيموت لو أنه ما شرب الماء، ورجل عنده ماء فمنعه منه فمات، فيكون هذا الرجل هو القاتل، فالحكم العام للعارية أنها للاستحباب لكنها قد تكون واجبة.

    ولو أن إنساناً أعرته شيئاً فتلف عنده، فيجب عليه التعويض بالمثل إن كان مثلياً، فإذا لم يكن عنده المثل فتجب عليه القيمة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه)، والنبي صلى الله عليه وسلم لما استعار من صفوان بن أمية دروعاً يوم حنين قال صفوان : (أغصباً يا محمد؟ قال: بل عارية مضمونة)، وفعلاً ضاعت بعض هذه الدروع فعرض النبي صلى الله عليه وسلم عليه عوضاً عنها فقال: (لا يا رسول الله! أنا اليوم في الإسلام أرغب) أي: أنا رغبتي في الإسلام وفيما عند الله من الأجر والثواب.

    من فوائد السورة

    كلمة أخيرة نبه عليها العلامة الشيخ عطية محمد سالم رحمة الله عليه فقال: هذه السورة تعلم طالب العلم أن من آداب البحث جمع أطراف الموضوع والنصوص في الباب الواحد، ولا يقتصر على بعضها دون بعض، ومثال ذلك لو أنَّ إنساناً أخذ الآية: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ[الماعون:4] واقتصر عليها، لاستفاد منها فهماً مغلوطاً أن الله توعد المصلين بالويل، كما فعل بعض الشياطين حيث قال:

    دع المساجد للعباد تسكنها وسر بنا إلى حانة الخمار يسقينا

    ما قال ربك ويل للألى سكروا ولكن قال ويل للمصلينا

    فالشيطان الماجن قال هذا سخرية واستهزاء؛ لأنه أخذ جزءاً من الكلام.

    وبعض الشباب أفتى بأن المرأة لو باتت في مكان غير بيت زوجها يجب أن تبيت بحجابها كاملاً، واستدل بحديث: (أيما امرأة خلعت ثيابها في غير بيت زوجها كانت في سخط الله)، فهذا فهم الحديث على غير وجهه، وأشياء كثيرة ذكرها العلماء فيها التحريف والتصحيف.

    1.   

    تفسير سورة الكوثر

    سورة الكوثر هي أصغر سور القرآن عدداً في الكلمات والحروف، ويوجد في القرآن ثلاث سور كلها من ثلاث آيات وهي: سورة العصر وسورة الكوثر وسورة النصر: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ[النصر:1]، لكن سورة الكوثر أقصرهن من حيث عدد الكلمات والحروف، فكلماتها عشراً، وحروفها اثنان وأربعون حرفاً، أما سورة العصر فهي مشتملة على أربعة عشرة كلمة، وثمان وستين حرفاً، وسورة إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فيها ست وعشرون كلمة، واثنان وسبعون حرفاً، فسورة الكوثر هي أقصر سور القرآن.

    مناسبة السورة لما قبلها

    هذه السورة المباركة لها صلة بالسورة التي قبلها، كما يقول الفخر الرازي : إن الله عز وجل عاب على أولئك الكفار الفجار صفات قبيحة، ومن بين هذه الصفات أربع صفات قاتلة، وهي: البخل، وترك الصلاة، والمراءاة، ومنع الخير عن الناس.

    وذكر الله في هذه السورة أربع صفات مقابلة للصفات المذكورة في سورة الماعون: ففي مقابل البخل قال الله عز وجل: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ[الكوثر:1] أي: إنا أعطيناك الخير الكثير فأعط الكثير ولا تبخل، والكوثر هو الخير الكثير.

    وفي مقابل ترك الصلاة قال الله عز وجل: فَصَلِّ ))، وهذا الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وفي مقابل الرياء قال سبحانه: لِرَبِّكَ ))، فصل لأجل مرضاة ربك لا مراءاة للناس.

    وفي مقابل منع الخير عن الناس، قال الله عز وجل: وَانْحَرْ[الكوثر:2] أي: انحر الأضحية وقد قال الله في الأضاحي: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ[الحج:28]، فهذا بذل للخير تجاه الناس.

    سبب نزول السورة

    قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجاً من المسجد الحرام، و العاص بن وائل السهمي داخلاً إليه فوقفا عند الباب يتحدثان، وكان في المسجد الحرام بعض صناديد قريش، ثم افترقا، فلما دخل العاص بن وائل قال له المشركون: مع من كنت تتحدث؟ فقال الخبيث: مع هذا الأبتر -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- ثم قال لهم مطمئناً: لا عليكم، فإنه أبتر إن هلك هلك ذكره، ليس هناك من يحمل اسمه، ويقوم بدعوته من بعده، وظن المسكين أن القضية قضية وراثة يأخذها الأبناء عن الآباء، فإذا لم يكن للآباء أبناء فقد انقطع الأمر وذهبت الدعوة، وكانوا يعيرون رسول الله صلى الله عليه وسلم بموت ولده عبد الله وقبله موت ولده القاسم ققالوا: إن محمداً أبتر.

    يقول سيد قطب رحمه الله في الظلال: وكان هذا اللون من الكيد اللئيم الصغير يجد له في البيئة العربية التي تتكاثر بالأبناء صدى ووقعاً، يعني بذلك رحمه الله: أن هذه الدعاية كانت تجد لها رواجاً في البيئة العربية التي تتفاخر بكثرة الأولاد، وكانت هذه الوخزة اللئيمة تجد لها هوى وصدى في قلوب أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم وشانئيه، ولربما أصابه من ذلك شيء من الضيق والغم صلوات الله وسلامه عليه، فجاءت هذه السورة على قلبه بالروح والندى، جاءت لتغسل عنه كل هم وكل غم وكل ضيق، وقد فرح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    روى الإمام مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنهما قال: (بينا نحن في المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، إذ رفع رأسه إلى السماء ثم أغفى إغفاءة ثم تبسم، فقلنا: مم تضحك يا رسول الله؟ فقال: لقد نزل علي سورة آنفاً، بسم الله الرحمن الرحيم: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ[الكوثر:1]... إلى آخر السورة ، ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: إنه نهر في الجنة، وعدنيه ربي عليه خير كثير ترده أمتي فيختلج الرجل منهم، فأقول: يا رب! إنه من أمتي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدث بعدك).

    وفي صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما أنا أسير في الجنة أتيت على نهر حافتاه قباب الدر المجوف، فقلت: يا جبريل! ما هذا؟ فقال: هذا هو الكوثر الذي أعطاك ربك).

    ومجموع الروايات تذكر بأن هذا نهر في الجنة، عدد آنيته عدد نجوم السماء، ماؤه أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، وأبرد من الثلج، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً، نسأل الله أن يجعلنا منهم.

    تفسير قوله تعالى ( إنا أعطيناك الكوثر )

    قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ[الكوثر:1]إنا: ضمير العظمة، كما في قول ربنا تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ[القدر:1]، وقوله: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ[الدخان:3]، وقوله: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ[النساء:105] وهذا في القرآن كثير.

    يقول العلامة الطاهر ابن عاشور : وضمير العظمة هذا مشعر بالامتنان بعطاء عظيم، والكلام مساق البشارة بخير آت، لا مساق الإخبار بخير مضى. والكوثر كما فسره عكرمة و مقاتل بأنه القرآن، وقال أبو بكر بن عياش : إنه الإسلام، وقال الحسن البصري : النبوة، وقال الماوردي : الشفاعة، وقيل: كثرة الأمة، أي: كثرة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والصحيح أنَّ معنى الكوثر هو: الخير الكثير، الذي من جملته النهر، والحوض، والشفاعة، والنبوة، والقرآن، والإسلام، وكثرة الأمة والأتباع والأنصار وغير ذلك.

    وكلمة الكوثر على وزن فوعل، وفوعل في لغة العرب غالباً من الأسماء الجامدة كالكوكب والجورب والحوشب؛ وتكون أيضاً اسماً مشتقاً للشيء الكثير، فمثلاً من كان كثير الخير والنسل والعطاء يقال له: نوفل، وأحد أجداد الرسول صلى الله عليه وسلم اسمه: نوفل ، وكذلك من كان شجاعاً مقداماً يقال له: جوهر، ومنه قول الكميت يمدح عبد الملك بن مروان :

    وأنت كثير يا ابن مروان طيب

    وكان أبوك ابن الفضائل كوثراً

    أي: كثير الخير.

    والخير الذي وهبه الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم كما فيما مضى من السور كثير، فمثلاً: نجد في سورة الضحى قول الله عز وجل: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى[الضحى:5]، وفي سورة الشرح نجد من الخير شرح الصدر، ورفع الذكر، وحط الوزر، وتيسير الأمر، ونجد بعدها في سورة التين أن الله جعل بلده البلد الأمين، وجعل لأمته أجراً غير منون أي: غير مقطوع، ثم بعدها في سورة العلق: علمه الله ما لم يعلم، وأنزل عليه كتاباً لا يمحوه الماء، يقرؤه نائماً ويقظاناً، ثم بعدها سورة القدر، أعطاه الله ليلة خيراً من ألف شهر، ثم بعدها سورة البينة جعل الله أمته خير البرية، ثم في سورة الزلزلة بشرنا ربنا بأنه سيجعل في موازيننا مثقال الذر من الخير، ومثاقيل الشر يكفرها الله عز وجل بما يصيبنا مما نكره، من مرض أو ضيق أو نقص في الأموال والأنفس والثمرات، ثم في بعدها من السور امتن الله عز وجل امتن على نبيه صلى الله عليه وسلم بخير كثير، وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأوتيت جوامع الكلم، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة)، وهذا كله من الخير الذي أعطاه الله إياه والمذكور في قوله: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ.

    تفسير قوله تعالى ( فصل لربك وانحر )

    قوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ[الكوثر:2] الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم والأمة له تبع، وفي الآية إظهار في مقام الإضمار، قال تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ ))، فالمعطي هو الله جل جلاله، وفي غير القرآن يمكن أن يقال: فصل له وانحر، لكن قال: فَصَلِّ لِرَبِّكَوَانْحَرْ، والإتيان بالاسم الظاهر مقام الاسم المضمر من أجل الإشعار بأنه جل جلاله مستحق للعبادة؛ لكونه يربي الناس بنعمه لكون عطائه وإفضاله متواصلاً، ثم أضيف الاسم الظاهر لضمير المخاطب: فَصَلِّ لِرَبِّكَ ))، وهذا تشريف للرسول صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ[قريش:3]، وهو رب البيوت كلها، فالله عز وجل هو رب محمد صلى الله عليه وسلم ورب الناس جميعاً، ففي هذا تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم، وإيماء إلى أنه يربيه ويرعاه ويحوطه ويكلؤه صلوات الله وسلامه عليه.

    ومن عجائب التفسير أنَّ بعض المفسرين قال في قوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ))، المراد بالنحر وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة، وهذا تفسير بعيد، ففي الآية ترتيب وهو الصلاة ثم النحر ورسول الله صلى الله عليه وسلم رتب ذلك فقال: (إنَّ أول ما نبدأ به يومنا هذا -يوم العيد- أن نغدو فنصلي ثم نرجع فننحر نسكنا، فمن فعل فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل ذلك فإنما شاته شاة لحم ليست من النسك في شيء)، واتفق أهل العلم على أن من ذبح قبل الصلاة فذبيحته غير مجزئه، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما كان في طريقه للمصلى شم ريح شواء، فقال: (ما هذا؟ قالوا: أبو بردة -أحد الصحابة- ذبح فالرسول صلى الله عليه وسلم استدعاه، قال له: ما هذا؟ قال: يا رسول الله! اشتهيت اللحم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اذبح مكانها أخرى) أي: فهذه الذبيحة لا تنفع، لأن الله عز وجل رتب بينهما فقال: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ))، وفي سورة الأعلى قال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى[الأعلى:14-15]، فزكاة الفطر قبل صلاة العيد، أما في سورة الكوثر فصلاة العيد قبل النحر: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ )).

    تفسير قوله تعالى ( إن شانئك هو الأبتر )

    قوله تعالى: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ[الكوثر:3] شانئك اسم فاعل من الشناءة أو الشنئان، وهو البغض، فمعنى: إِنَّ شَانِئَكَ )) إن مبغضك وكارهك وعدوك سواء كان العاص بن وائل ، أو الوليد بن المغيرة ، أو أبأ جهل ، أو أبا لهب ، أو عقبة بن أبي معيط ، أو أمية بن خلف ، أو شيبة بن ربيعة أو غيرهم من صناديد الكفر، فإنه هو الأبتر، أي: المقطوع الخير والذكر.

    وكلمة الأبتر مشتقة من الحيوان الأبتر، وهو الذي قطع ذنبه، فالله عز وجل يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد! سأرفع ذكرك، وأخلد اسمك، وأما كارهك فإني سأطوي خبره وألغي ذكره، وإذا ذكر فلا يذكر إلا مشيعاً باللعنات.

    فهذه الآية نراها ظاهرة أكثر مما كانت في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان مذكوراً في الجزيرة العربية وما حواليها من بلاد الحجاز وتهامة واليمن، وربما في بلاد فارس وفي بلاد الروم، لكن الآن اسم محمد صلى الله عليه وسلم يتردد في الآفاق في المشارق والمغارب بالليل والنهار، في كل أرض وتحت كل سماء يوجد هناك من يشهد أن محمداً رسول الله، ومن يحب محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويصلي عليه بالليل والنهار، والواحد منهم غاية أمنيته ومنتهى أمله أن يكرمه الله بزيارة قبر محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يكرمه الله يوم القيامة بالاجتماع بمحمد صلى الله عليه وسلم.

    قال القرطبي رحمه الله: وقد دلت الآية على أن بغض رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر، وهذا لا شك فيه، فمن أبغض النبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر عدو لله، وبالمقابل دلت الآية على أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم أمر واجب، وأنه من الإيمان، كما قال عليه الصلاة والسلام -والحديث في الصحيحين من رواية أنس -: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)، والحديث الآخر: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين)، وهذه المرتبة حققها الصحابة الكرام، فمثلاً امرأة خرجت في غزوة أحد بعدما انجلى غبار المعركة، فكانت تمضي في الطريق نحو الميدان فمرت بقتيل فنعي إليها، قيل لها: هذا أبوك، فقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: هو بخير يا أم فلان! هو أمامك تلقينه، فمشت فمرت بقتيل فنعي إليها أخوها، فقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم سألت ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: هو أمامك يا أم فلان! فمضت فمرت بقتيل، فنعي إليها زوجها، ثم مرت بقتيل فنعي إليها ولدها، إلى أن وصلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نظرت إليه واطمأنت عليه، قالت: يا رسول الله! كل مصيبة بعدك جلل، والله! ما أبالي إذ سلمت بمن عطب، يعني: طالما أنك سالم فلا أبالي بمن هلك سواء كان الأب أو الأخ أو الزوج أو الولد، المهم أن تسلم أنت يا رسول الله! فهذه الدرجة من المحبة هي التي حققها الصحابة الكرام حتى قال بعض الكفار: لقد أتيت كسرى و قيصر فما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً -صلى الله عليه وسلم-، والله! ما تنخم نخامة إلا تلقوها بأيديهم، فدلك بها أحدهم وجهه وجلده، ولا توضأ وضوءاً إلا اقتتلوا على وضوئه -صلى الله عليه وسلم-، هذا كان حال الصحابة مع النبي عليه الصلاة والسلام.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755815967