إسلام ويب

تفسير سورة الأعراف [1-9]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور

    سورة الأعراف هي: (طولى الطوليين) والطوليان: هما الأنعام والأعراف. وقد أخرج أبو الشيخ عن قتادة قال: الأعراف مكية إلا آية: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ [الأعراف:163] فمدنية، وآياتها مائتان وست آيات. وقد افتتحت سورة الأعراف بقوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم: المص [الأعراف:1]. ولأننا نحتاج بين وقت وآخر إلى الكلام في فواتح السور، فسنقف هنا وقفة يسيرة مع فواتح سور القرآن، كي نحيل عليه بعد ذلك إن شاء الله تعالى.

    ذكر الحروف المقطعة في أوائل السور وأشكالها

    هذه الحروف المقطعة وردت في أوائل تسع وعشرين سورة من سور القرآن الكريم، وأخذت أربعة عشر شكلاً بعد حرف الفواتح المكررة وهي: ص [ص:1]، ق [ق:1]، ن [القلم:1]، حم [غافر:1]، طه [طه:1]، طس [النمل:1] ، يس [يس:1]، (( الم ))[البقرة:1]، (( الر ))[يونس:1]، المص [الأعراف:1]، المر [الرعد:1]، كهيعص [مريم:1]، حم * عسق [الشورى:1-2]. فجاءت: (ص)، (ق)، (ن) على حرف واحد. (حم)، (طه)، (طس)، (يس) على حرفين. و(حم) جاءت في غافر، وفصلت، والزخرف، والدخان، والجاثية، والأحقاف. و(طس) جاءت في النمل فقط. وأما (الم) ففي البقرة، وآل عمران، والعنكبوت، والروم، ولقمان، والسجدة. وأما (الر) ففي يونس، وهود، ويوسف، وإبراهيم، والحجر. وأما (طسم) ففي الشعراء، والقصص. وأما (المص) ففي سورة الأعراف فقط. وأما (المر) ففي سورة الرعد فقط. وأما (كهيعص) ففي مريم فقط. وأما (عسق) في سورة الشورى فقط.

    القول بأن الحروف المقطعة من المتشابه

    وقد قسم العلماء آيات الذكر الحكيم إلى قسمين: قسم المحكم والمتشابه، وهذا التقسيم قائم على أساس قوله تبارك وتعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ [آل عمران:7]. أما فيما يتعلق بالحروف المقطعة فقد انقسم العلماء في ذلك إلى فريقين: فريق توقفوا عن أن يدلوا فيها بأي رأي اجتهادي تورعاً، وفوضوا العلم بها إلى الله سبحانه وتعالى. أما الفريق الآخر: فحاولوا أن يؤولوا ليدركوا معانيها، ومع ذلك فلم تتفق كلمتهم على رأي قاطع في هذه المسألة، بل تعددت أقوالهم. فالفريق الأول اعتبروا هذه الفواتح من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فعلى هذا الأساس تكون هذه الفواتح من الأسرار المحجوبة التي لم يطلع الله عليها أحداً من خلقه، فهي: كالساعة والغيث وعلم ما في الأرحام وغير ذلك، فواجب المؤمن التصديق بها حتى ولو غاب عنه تأوليها، يقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (عجزت العلماء عن إدراكها)، أي: عن إدراك سر هذه الحروف المقطعة في أوائل كتاب الله عز وجل، فهي لها معنى بلا شك، وهناك حكمة من إيرادها، لكن العلم بالمراد منها موكول إلى الله سبحانه وتعالى. قال الشعبي والثوري وجماعة من المحدثين: هي -أي الفواتح- سر الله في القرآن، ولله في كل كتاب من كتبه سر، فهي من المتشابه الذي انفرد الله تعالى بعلمه، ولا يجب أن يتكلم فيها، ولكن نؤمن بها ونقرأ كما جاءت؛ ولذلك لما سئل الشعبي عنها قال: (سر الله عز وجل فلا تطلبوه). وقال أبو حاتم: (لم نجد الحروف المقطعة في القرآن إلا في أوائل السور، ولا ندري ما أراد الله عز وجل بها). وبعض العلماء جمع هذه الحروف، وحذف منها المكرر، وكوَّن منها جملة مفيدة، فخرجت هذه الجملة: (نص حكيم قاطع له سر!!). وهذه ليست طريقة علمية في الاستنباط، لكن هذا مما يستأنس به، ومما يستملح. وقال الربيع بن خثيم : (إن الله تعالى أنزل هذا القرآن، فاستأثر منه بعلم ما شاء، وأطلعكم على ما شاء، فأما ما استأثر به لنفسه فلستم بنائليه فلا تسألوا عنه، وأما الذي أطلعكم عليه فهو الذي تسألون عنه وتخبرون به، وما كل القرآن تعلمون، ولا بكل ما تعلمون تعملون). وعلق أبو بكر الأنباري على مقولة الربيع قائلاً: (فهذا يوضح أن حروفاً من القرآن سترت معانيها عن جميع العالم، اختباراً من الله وامتحاناً، فمن آمن بها أثيب وسعد، ومن كفر وشك أثم وبعد). وقال الشوكاني رحمه الله تعالى: (من تكلم في بيان معاني هذه الحروف، جازماً بأن ذلك هو ما أراده الله عز وجل فقد غلط أقبح الغلط، وركب في فهمه ودعواه أعظم الشطط، فإنه إن كان تفسيره لها بما فسره به راجعاً إلى لغة العرب وعلومها فهو كذب بحت، فإن العرب لم يتكلموا بشيء من ذلك)، فهذا هو الاحتمال الأول الذي ذكره الشوكاني في حق من يدلي بدلوه في هذه القضية. أنه: إن كان يزعم أن له سلفاً من العرب في هذا الفهم وهذا التفكير لهذه الحروف المقطعة، فنقول: هذا كذب بحت وافتراء محض؛ لأن العرب لم تعرف هذا الأسلوب على الإطلاق في الكلام من قبل.

    ذكر قول من جعل الحروف المقطعة أجزاء مختصرة من كلمات عربية

    وهنا نتوقف قليلاً -قبل أن نستطرد في ذكر بقية كلام الشوكاني رحمه الله تعالى- ونتعرض لشبه قد يقولها بعض الناس، وقد يطالعها بعض الإخوة في كتب التفسير: فإن الملاحظ أن بعض العلماء ذكروا عن بعض العرب الاقتصار على حرف أو حروف من الكلمة التي يريدون النطق بها، وهذا هو الذي دفع بعض الناس إلى أن يقولوا: إن هذا أسلوب -أي: فواتح السور- كان للعرب عهد به من قبل، فالقرآن خاطبهم بنفس العهد، ومن ثم بدءوا يقولون: إن هذه الحروف هي عبارة عن حرف من كلمة حذف باقيها، يستشهدون بقول شعراء العرب مثلاً: (فقلت لها قفي فقالت قاف) أي: وقفت، فاقتصر على التعبير عن كلمة (وقفت) بحرف قاف. وقال زهير : بالخير خيرات وإن شراً فا ولا أريد الشر إلا أن تا (بالخير خيرات) يعني: أجزيك بالخير خيرات (وإن شراً فا) بألف يعني: فشر، فحذف كلمة فشر أو اقتصر منها على حرف الفاء فقط ومده. (ولا أريد الشر إلا أن تا) يعني: إلا أنت تشاء، فاختصر كلمة تشاء إلى حرف التاء. وقال آخر: نادوهم ألا الجموا ألا تا قالوا جميعاً كلهم ألا فا (نادوهم ألا الجموا ألا تا) يعني: ألا تركبون، فاقتصر من كلمة تركبون على حرف التاء. (قالوا جميعاً كلهم ألا فا) يعني: فاركبوا. وكما قيل أيضاً: (كفى بالسيف شا)، يعني: شافياً أو شاهداً. ويبرزون في هذا حديثاً ضعيفاً، وينسبونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح: (من أعان على قتل مؤمن ولو بشطر كلمة لقي الله مكتوباً بين عينيه: آيس من رحمة الله)، لكن من ناحية اللغة قد يعتبره العلماء شاهداً بفرض صحته، على أساس أن الإنسان يعين على قتل أخيه بقوله: اقـ، بدل كلمة اقتل، فهي من هذا الباب. فعلى أساس هذا الاستعمال العربي ذهب بعض المفسرين إلى أن هذا الأسلوب في القرآن الكريم أسلوب معهود من ذي قبل، وممن انتصر لذلك الشيخ أبو الأعلى المودودي رحمه الله تعالى، فقد ذهب إلى أن هذه الحروف كانت شائعة الاستعمال في الأدب العربي في الحقبة التي نزل فيها القرآن، وقد استخدمها الشعراء والكتاب على السواء، ولأن معناها كان مفهوماً لديهم آنذاك لم يعترض عليه أحد قط، أي: لا أحد من الصحابة ولا من العرب اعترض على وجود هذه الحروف في أوائل السور، بل لم يستفهموا عنها ولا عن استعمالها إذ لم تكن عندهم ألغازاً ولا طلاسم يلزم حلها وتفسيرها.

    الرد على من جعل الحروف المقطعة أجزاء مختصرة من كلمات

    والجواب على كلام الإمام العلامة المودودي رحمه الله أو من ذهب إلى مذهبه هو: أن هذه الحروف المقطعة لم تأتِ إلا في فواتح السور، بخلاف استعمالات العرب، فإن الحرف يأتي في جواب كلام أو في سياق جملة، فيفهم معناه من السياق كله، فالقاف في قوله: (قلت لها قفي فقالت قاف)، تقدمها كلام دل على معناها. ومثلها: (بالخير خيرات وإن شراً فا) بل لو قلنا لتلميذ في الابتدائية أكملها فسيقول: فشر، لأن الشر جزاء الشر، وإن لم تذكر الفاء، وكذلك: (نادوهم ألا الجموا ألا تا قالوا جميعاً كلهم ألا فا). أو: (كفى بالسيف شا). فإذاً يوجد سياق للكلام قبل هذا الحرف يدلنا على المعنى المراد بهذا الحرف، لكن أين ذلك في آيات القرآن في فواتح السور؟ فليس من الصحيح أن نقول: إن فواتح السور هي من جنس استعمالات العرب لهذه الحروف، بل الصحيح منع هذه الشبه، وأن هذا الأسلوب لم يكن معروفاً عند العرب من قبل. قال الشوكاني رحمه الله تعالى: (ولا ينافي ذلك أنهم قد يقتصرون على حرف أو حروف من الكلمة التي يريدون النطق بها، فإنهم لم يفعلوا ذلك إلا بعد أن يتقدمه ما يدل عليه ويفيد معناه، بحيث لا يلتبس على سامعه، كما في الشواهد التي ذكرناها من قبل، ومن هذا القبيل ما يقع منهم من الترخيم) يعني كما في قولهم: (يا صاح!) والمقصود: يا صاحبي! (يا مال!) يعني يا مالك! وكذلك: (عم صباحاً) فيها حذف، وأصلها: أنعم صباحاً). وقال ابن قتيبة : وكما يحذفون من الكلام البعض، إذا كان فيما أبقوا دليل على ما ألقوا، كقول ذي الرمة : فلما لبسن الليل أو حين نصبت له من خذا آذانها وهو جانح يعني: من حين أقبل، ومن ذلك أن هذا النوع من الحذف، يعني: هذا النوع من الحذف موجود في القرآن الكريم، لكن ليس له علاقة بموضوع فواتح السور، وأنتم تلاحظون في التفسير أن كثيراً ما نجد السيوطي -رحمه الله- وغيره من المفسرين، يقول مثلاً: هذه الآية لم تذكر فيها النتيجة لأن النتيجة معروفة وهي كذا، أو هذا شرط والجواب محذوف، وكل هذا من أساليب العرب، فمثلاً قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى [الرعد:31]، جواب الشرط فيها محذوف تقديره: لكان هذا القرآن، فحذف الجواب. وكذلك يحذفون من الكلمة الحرف أو الشطر، والأكثر يرتجزون به، كما يقولون: في لجة أمسك فلاناً عن فل منه تظل إبلي في الهوجل يعني: فلاناً عن فلان. وقال العجاج: قواطناً مكة من ورق الحم. يعني: الحمام. إذاً هناك فارق كبير بين اقتصار العرب على حرف أو أحرف من الكلمة، وبين الفواتح في أوائل السور، وإذا كان الكلام العربي قد زخر بأدوات استفتاح وتنبيه كثيرة، لكنها لا تشبه هذه الفواتح التي أتى بها القرآن الكريم لأول مرة في تاريخ العرب، ولم يعثر أحد عليها لا في شعرهم ولا في نثرهم، فأين ألا مثلاً أو (أما) في قول لبيد بن ربيعة: ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل وقول صخر الهذلي : أما والذي أبكى وأضحك والذي أمات وأحيا والذي أمره الأمر نرى هنا أدوات الاستفتاح: ألا وأما، أين هي من (حم عسق) و(الم) و(الر)، لا شك أن هناك فارقاً شاسعاً بين هذه وتلك، فهذا هو الجواب على من زعم أن هذه الفواتح هي من نفس الأسلوب الذي استعمله العرب. يقول الشوكاني : وإذا تقرر لك أنه لا يمكن استفادة ما ادعوه من لغة العرب وعلومها، لم يبق حينئذ إلا أحد أمرين: الأول: إما أنهم يفسرون ما يفسرون بمحض الرأي الذي ورد النهي عنه والوعيد عليه، وأهل العلم أحق الناس بتجنبه والصد عنه والتنكب عن طريقه، وهم أتقى لله سبحانه وتعالى من أن يجعلوا كتاب الله ملعبة يتلاعبون بها. وإما أنهم يفسرون ما يفسرون بتوقيف عن صاحب الشرع، وهذا هو الطريق الواضح والسبيل القويم، بل الجادة التي ما عداها معدوم، فمن وجد شيئاً من هذا فغير ملوم أن يقوله بملء فيه، ويتكلم بما وصل إليه علمه، ومن لم يبلغه شيء من ذلك فليقل: لا أدري، أو الله أعلم بمراده، فقد ثبت النهي عن طلب فهم المتشابه ومحاولة الوقوف على علمه، مع كونه ألفاظاً عربية وتراكيب مفهومة، وقد جعل الله تتبع ذلك -المتشابه- صنيع الذين في قلوبهم زيغ، فكيف بما نحن بصدده؟! قال: وهذا في السور متشابه المتشابه -يعني: أشد الآيات تشابهاً- فهي أولى ما يمسك عن الخوض فيه بغير علم.

    دراسة نقدية للتأويلات العددية والتفسيرات الإشارية

    هنا دراسة نقدية للتأويلات العددية والتفسيرات الإشارية للدكتور/ محمد محمد أبو فراخ ، أستاذ التفسير والتجويد وعلوم القرآن المساعد في جامعة الإمام محمد بن سعود، يتكلم فيها على هذا الموضوع. وقد ذكر أن فريقاً من العلماء رأى أن هذا علم مستور ومحجوب عنا لا نستطيع إدراكه، وذكر الدكتور أن بعض العلماء ذهبوا مذهباً آخر، فاجتهدوا في محاولة تأويل فواتح هذه السور، فاتجه جمع كبير من العلماء إلى محاولة الكشف عن أسرار هذه الحروف والوقوف على معانيها ومدلولاتها والانتفاع بها، تحقيقاً للهدف الذي رمى إليه القرآن من ذكرها، قالوا: إن القرآن أنزل كي يتدبر: لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص:29]، فعلينا أن نعمل عقولنا في محاولة فهم ما وقف عنده الفريق الأول الذي فوض العلم في هذه الأحرف إلى الله سبحانه وتعالى، والذي يرى الوقف لازماً عند قوله تبارك وتعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ، ثم يستأنف الكلام: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا.. إلى آخر الآية، فالوقف التام في هذه الآية إنما هو عند قوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله) وما بعده استئناف لكلام آخر، وهو قوله تعالى: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به). فالعلماء آمنوا بالمتشابه الذي لا يعلم تأويله أحد غيره تعالى، ومن أجل ذلك الإيمان والتفويض أثنى الله عليهم. والفريق الثاني الذي ذهب إلى تفسير هذه الفواتح، جعل قوله تعالى: (والراسخون في العلم) معطوفاً على ما قبله، أي: (( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ )) يعني: لا يعلم تأويل هذه الآيات المتشابهة إلا الله سبحانه وتعالى والراسخون في العلم. فإذاً يكون الوقف على قوله تعالى: (والراسخون في العلم) يعني (( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ )) وقوله: (( يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ )) جملة جديدة. وقد روي عن ابن عباس : أن الراسخين معطوف على اسم الله عز وجل، وأنهم داخلون في علم المتشابه، وأنهم مع علمهم به: (يقولون آمنا به)، وقال بهذا الرأي: الربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير والقاسم بن محمد وغيرهم. وروي عن مجاهد أنه عطف الراسخون على ما قبله وزعم أنهم يعلمونه، واحتج له بعض أهل اللغة فقال: معناها: والراسخون في العلم يعلمونه قائلين: (آمنا به كل من عند ربنا)، وزعم أن موضع (يقولون) نصب على الحال. لكن القرطبي لا يقبل هذا الرأي ولا يقف على قوله تعالى: (والراسخون في العلم) ولا يجعل الواو للعطف، وينكر نصب جملة (يقولون) على الحال؛ لأن العرب لا تضمر الفعل والمفعول معاً، ولا تذكر حالاً إلا مع ظهور الفعل، فلا يجوز أن تقول: عبد الله راكباً بمعنى: أقبل عبد الله راكباً، وإنما يجوز ذلك مع ذكر الفعل، كقوله: عبد الله يتكلم يصلح بين الناس، فيصلح هنا إعرابها حالاً. فكان قول عامة العلماء بالابتداء بقوله تعالى: (والراسخون في العلم) مستقيم مع مذاهب النحويين، وهو أولى من قول مجاهد الذي جعل الواو للعطف وزعم أنهم يعلمونه.

    ذكر قول من جعل فواتح السور تدرك بحساب الجمل ونحوه

    ويزعم بعضهم أنه يعلم فواتح السور بحساب الجمل!! وهذه الطريقة تنسب لليهود، ومعنى حساب الجمل التي هي: أبجدهوز... إلخ: أن كل حرف منها يساوي عدداً معيناً، ويبدأ العد على حسب ترتيبها: واحد اثنين ثلاثة أربعة.. إلى حد العشرة، ثم بعد ذلك يقول: عشرة عشرين ثلاثين أربعين.. إلى حد المائة، ثم يقول: مائة مائتين.. إلى آخرها. فكل حرف من الكلمة يساوي عدداً معيناً، فيجمعونها ويحاولون أن يستخلصوا منها بعض المعلومات، فهذه طريقة يهودية ليست من الإسلام في شيء. ومن هذه الضلالات ضلالة فرسان خليفة الذي ذهب إلى عمل حسابات معينة بالكمبيوتر أو الحاسب الآلي الجديد، ومن خلال إعطاء أوامر للكمبيوتر يعطيه العلاقات، وما أدري رقم تسعة عشر يتكرر كم مرة في القرآن؟! وتقديسٌ للرقم تسعة عشر بصورة تذكرنا تماماً بمنهج الباذيين والبهائيين!! وهذا موضوع يستحق في الحقيقة الكلام عليه، لكنه هنا أمر عارض فلن نفصل فيه.

    القول بأن الحروف المقطعة ليست من المتشابه

    على أي حال من الأحوال فهذا الفريق الثاني من العلماء رأى أن الفواتح ليست من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، قالوا: لو كانت هذه الحروف من المتشابه لجاز أن يرد في كتاب الله ما لا يكون مفهوماً للناس، والله تعالى يقول: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، فكيف يأمرنا الله بتدبر القرآن كله وبعضه غير مفهوم؟! قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]، وقال تعالى: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النحل:64]، فالقرآن نزل ليفهمه الناس ويتدبروه؛ ولذلك نزل بلسان عربي مبين، كما قال تعالى: قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الزمر:28]. وعن عمرو بن مرة قال: ما مرت بي آيات لا أعرفها إلا أحزنني؛ لأني سمعت الله يقول: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]، وهكذا ذكروا عن بعض السلف آثاراً تدل على الحرص على فهم القرآن الكريم كله، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية : إن الله سبحانه وتعالى لم يقل في المتشابه: لا يعلم تفسيره ومعناه إلا الله، إنما قال: (( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ))، فالله سبحانه وتعالى أخبر أنه لا يعلم تأويله إلا هو. والوقف هنا على ما دلت عليه أدلة كثيرة، وعليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، على كلمة: (( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ))، فكان مذهب الصحابة وجمهور التابعين وجماهير الأمة.

    1.   

    ذكر أقوال الذين أولوا فواتح السور

    وهذا الفريق الثاني بعدما اتفقوا على ضرورة التكلم في فواتح السور لإدراك معانيها وتلمس فوائدها، بناءً على أنها ليست من المتشابه في مذهبهم، تشعبت آراؤهم واختلفت أقوالهم في بيان المعنى المقصود منها!

    قول من جعلها أسماء للسور

    فأول فريق: قالوا: إن هذه الفواتح هي أسماء للسور، وإن هذا الحرف هو عبارة عن اسم للسورة التي افتتح بها، وهذا منقول عن زيد بن أسلم، ونسبه صاحب الكشاف إلى الأكثر، ونقل القرطبي عن زيد بن أسلم قوله: هي أسماء للسور، يعني: أن كل سورة تعرف بما افتتحت به منها. قد يرد إشكال هنا: وهو أن هناك بعض السور افتتحت بنفس الحروف فكيف تميز؟ كـ (الم) مثلاً و(حم). قالوا: يمكن تمييزها بإضافتها إلى اسم آخر، كأن تقول: (حم السجدة) لتميزها عن (حم الدخان) مثلاً أو الزخرف أو غيرها، أو (الم البقرة)، و(الم العنكبوت) و(الم تنزيل) وهذا يكون مثل ما يحصل من الوفاق في الأسماء، فلو أن أحداً اسمه محمد والثاني محمد والثالث محمد، فيمكن أن تقول مثلاً: محمد أبو علي، محمد أبو الحسن، محمد أبو بكر، فتميزه بالكنية أو باللقب. قال صاحب المنار: (الم) هو وأمثاله أسماء للسور المبتدأة به، ولا يضر وضع الاسم الواحد كـ الم لعدة سور؛ لأنه من المشترك الذي يعين معناه اتصاله باسمه، كأن تقول: الم البقرة، تقصد بذلك سورة البقرة، وقد نقل عن سيبويه مثل هذا الرأي، ويعتضد هذا بمثل ما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة (الم السجدة)، و(( هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ ))[الإنسان:1]). وذكر أبو السعود : أن الذي عليه الأكثر كونه أسماءً للسور المصدرة بها، وإليه ذهب الخليل وسيبويه، هذا هو المذهب الأول من مذاهب الذين قالوا بالخوض في تأويل هذه الفواتح.

    قول من جعل فواتح السور أسماء للقرآن

    المذهب الثاني: أن الفواتح أسماء للقرآن الكريم نفسه مثل: الفرقان ومثل الذكر والكتاب وغير ذلك. فقد نقل القرطبي عن قتادة في قوله: (الم) قال: اسم من أسماء القرآن. وعن قتادة قال: كل هجاء في القرآن فهو اسم من أسماء القرآن، وقوله: كل هجاء يعني به حروف التهجي التي تليت في أول السور.

    قول من جعل فواتح السور مأخوذة من أسماء الله وصفاته

    المذهب الثالث: أن الفواتح حروف مأخوذة من أسماء الله وصفاته, فبعضهم قال: إنها تدل على اسم الله الأعظم، فعن شعبة قال: سألت السدي عن (حم) و(طس) و(الم) فقال: قال ابن عباس: هي اسم الله الأعظم! ونحن نحتاج في مثل هذا إلى تحقيق الأسانيد؛ لأن ابن عباس قد كذب عليه، وكثير من الأقوال روِّجت بنسبتها إلى ابن عباس. وروي أيضاً عن فاطمة بنت علي بن أبي طالب أنها سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: يا كهيعص! اغفر لي، ومن هنا استنبطوا أو ادعوا أن هذه الفواتح هي أسماء لله عز وجل، وهذا أيضاً مما يحتاج إلى أن يثبت بسند صحيح. ومن ذلك أيضاً ما روي عن الربيع بن أنس في قوله: (كهيعص) قال: يا من يجير ولا يجار عليه! وأخرج ابن أبي حاتم عن أشهب قال: سألت مالك بن أنس أينبغي لأحد أن يتسمى بيس؟ قال: ما أراه ينبغي لقول الله: يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس:1-2]، يعني: بناءً على أن الحروف أسماء لله عز وجل، فمن ثم لا يجوز لأحد أن يتسمى باسم الله، فهذا الفريق قال: إن (يس): اسم من أسماء الله، (طه): اسم من أسماء الله، (الم): اسم من أسماء الله. وعن ابن عباس وغيره (الم) حروف استفتحت من حروف هجاء أسماء الله. ونلاحظ أن من الممكن بسهولة جداً أن نجد في أغلب المذاهب من ينسب قوله إلى ابن عباس، وذلك لأن علوم القرآن ما خدمت الخدمة الواجبة على الأمة إلى الآن، بخلاف السنة فإن الأمة ولله الحمد تيقظت لأهمية التحقيق فيها، ولكن ما زالت علوم القرآن تحتاج لكثير من التحقيق. وروي عن أبي العالية في قوله تعالى: (الم) قال: هذه الأحرف الثلاثة من التسعة والعشرين حرفاً دارت فيها الألسن كلها، ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه، وليس منها حرف إلا وهو من آلائه. وهذه طريقة أخرى تلتقي مع نفس الطريق، يقولون: إن كل حرف من هذه الحروف رمز لاسم من أسماء الله، أو جزء منه، كما قيل: الألف من الله، فالألف يعني: الله، واللام: مأخوذة من جبريل، والميم: من محمد عليه الصلاة والسلام. وعن ابن عباس في قوله: (كهيعص): أن الكاف من كافٍ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36]، والهاء: من هادٍ، والياء من: حكيم، والعين من: عليم، والصاد من: صادق، فهذه الفاتحة في مريم يجتمع بها صفات كثيرة؛ لأن كل حرف منها مفتاح اسم أو صفة من صفاته تعالى. ولا يبعد أن يستدلوا لهذا بما صدرنا به الكلام في موضوع استعمال العرب للحروف، وقد ذكرنا الفرق بين استعمالات العرب للحروف المقتصرة عليها وبين فواتح السور. وروي عن ابن عباس أنه قال: الم: أنا الله أعلم، ألف: أنا، لام: الله، ميم: أعلم، وكذا قال سعيد بن جبير، وقال السدي عن أبي مالك . وقيل: إنها صفات الأفعال، أي: (الم) مثلاً: الألف: آلاؤه، واللام: لطفه، والميم: مجده وملكه، نقل ذلك أبو السعود . وهذا الكلام غير منضبط من الناحية العلمية، فما الذي يمنع أن تكون الياء من حكيم، أو من خبير أو من لطيف أو من أي اسم من أسماء الله؟!

    قول من جعل فواتح السور أيماناً

    المذهب الرابع: أن الفواتح أيمان أقسم الله سبحانه وتعالى بها، فعن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: (الم) هو قسم أقسم الله به، فيجوز أن يكون الله سبحانه وتعالى أقسم بالحروف المقطعة كلها واقتصر على ذكر بعضها من ذكر جميعها، فقال: (الم) وهو يريد جميع الحروف، كما يقول القائل: تعلمت: ألف باء، وهو يقصد تعلمت الحروف الأبجدية، فبدل أن يقول: ألف باء.. إلى الياء يختصر ويقول: تعلمت (ألف باء)، فكذلك هنا، وكأن الله أقسم بجميع الحروف الهجائية، لكن اقتصر على أجزاء من هذه الحروف المقطعة، فلما طال أن يذكرها كلها اكتفى بذكر بعضها، والناس يدلون بأوائل الأشياء عندما يقولون: قرأت الْحَمْدُ لِلَّهِ [الفاتحة:2] يعني: قرأت فاتحة الكتاب، وإنما أقسم الله بحروف المعجم لشرفها وفضلها؛ ولأنها مبادئ في كتبه في المنزلة، ومباني أسمائه الحسنى وصفاته العلى، وأصول كلام الأمم، بها يتعارفون ويذكرون الله عز وجل ويوحدون. وقد أقسم في كتابه العزيز: بالفجر، وبالطور، وبالعصر، وبالتين، وبالقلم إعظاماً لما يسطرون، ووقع القسم بها في أكثر السور على القرآن، يعني: أقسم بهذه الحروف التي هي رمز للحروف الأبجدية. قالوا: إنه يلاحظ في أكثر سور القرآن أن هذه الحروف تأتي في فاتحة السورة، ثم يغلب وجود إشارة إلى القرآن الكريم: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة:2]، كأنه قال: أقسم بحروف المعجم إن هذا لهو الكتاب الذي لا ريب فيه.

    1.   

    بيان تناقض تفسيرات الحروف المقطعة وذكر الصواب في ذلك

    وهناك تفسيرات الصوفية لهذه الأشياء، لكن لا نريد أن نفصل في ذلك، ولا في ضلالات الباطنية وتأويلاتهم، وأنهم يستعملون القرآن في الناحية الرمزية التي توصلوا بها إلى أهوائهم ومآربهم. وقد استنكر الباقلاني وغيره من العلماء التفاسير المتناقضة التي لم تحدد المراد من الفواتح تحديداً دقيقاً، والمنسوبة للصحابة والتابعين، مثل الإشارة بهذه الحروف إلى اسم من أسمائه تعالى أو صفه من صفاته، أو اسم الله الأعظم، فلماذا لا تكون القاف مثلاً الحرف الأول من القاهر بدل من القدوس؟! ولماذا تدل النون على الناصر لا على النور؟! ويقولون: ص: الصمد، فلماذا لا تكون من الصادق؟!.. وهكذا، إلى غير ذلك من الأقوال المختلطة الفاسدة المتناقضة في التفاسير الإشارية والباطنية في الفواتح، وكذا التفاسير العصرية ذات الأرقام العددية، والتي لا يجوز الأخذ بها في تفسير كلام الله رب العالمين. ولذا قال بعضهم: من ظهر له بعض الأقوال بدليل فعليه اتباعه، وإلا فالوقف حتى يتبين هذا المقام. يقول الشوكاني : إن المروي عن الصحابة في الفواتح مختلف متناقض، فإن عملنا بما قاله أحدهم دون الآخر، كان تحكماً لا وجه له، وإن عملنا بالجميع كان عملاً بما هو مختلف متناقض ولا يجوز. ثم هاهنا مانع غير هذا المانع، وهو أنه لو كان شيء مما قالوه مأخوذاً عن النبي صلى الله عليه وسلم لاتفقوا عليه ولم يختلفوا فيه، كسائر ما هو مأخوذ عنه. أي أنه لو صح هذا الكلام عن الصحابة، فهو من الأقوال المختلفة، فلا يمكن أن يكونوا قد تلقوها عن النبي عليه السلام وهي متناقضة، إذ لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي علمهم ذلك لما اختلفوا ولا اتفقت كلمتهم، فلما اختلفوا في هذا علمنا أنه لم يكن مأخوذاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لو كان عندهم شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا لما تركوا حكايته عنه ورفعه إليه، لاسيما عند اختلافهم واضطراب أقوالهم في مثل هذا الكلام الذي لا مجال للغة العرب فيه ولا مدخل لها. يقول الشوكاني : والذي أراه لنفسي ولكل من أحب السلامة واقتدى بسلف الأمة، ألا يتكلم بشيء من ذلك، مع الاعتراف بأن في إنزالها حكمة لله عز وجل لا تبلغها عقولنا، ولا تهتدي إليها أفهامنا، فكم في الكون من أسرار تنقضي الدنيا ولا ندركها! وكم في التكاليف والعبادات من أسرار لا يملك العبد أمامها إلا أن يمتثل أمر ربه! ولم يكتشف العلم إلا قطرة من بحر خلق الله الذي لا يعرف مداه سواه: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لقمان:27]. ليست الحروف المقطعة في أوائل السور القرآنية سوى حروف قرآنية موحىً بها من عند الله عز وجل، ويجب ألا نقول فيها شيئاً من عند أنفسنا، أو ندخل في تفسيرها بظن لا يستند إلى دليل صحيح من كتاب أو سنة، فلا نرمز بها إلى أعداد معينة كأصحاب الحاسب الآلي، أو نشير بها إلى معاني الباطنية الفاسدة كأقوال بعض الصوفية، إننا لسنا أمام تاريخ حادثة حربية، أو تقليد نظرية فلكية، أو مناقشة قضية مدنية، ليتذكر الجميع أننا نقف أمام كتاب رب العالمين الذي لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]؛ ولذا يجب الوقف في هذه الفواتح على الظاهر منها، وهو أنها حروف من حروف المعجم، تنطق بأسمائها ويمد كل حرف منها مداً مثقلاً إذا كان هجاؤه ثلاثة أحرف: أوسطها مد وآخرها حرف ساكن مدغم فيما بعده، ويمد كل حرف منها مداً مخففاً إذا كان هجاؤه ثلاثة أحرف: أوسطها مد وآخرها ساكن غير مدغم. فليست لهذه الحروف المقطعة معان غير مسمياتها حتى يتكون منها الكلام. أما من حيث القطع في معانيها الحقيقة في أنفسها وبيان المراد منها في أوائل السور، فلم يرد في ذلك شيء صحيح من كتاب أو سنة؛ لذا نقول: الله أعلم بمراده، ومن الكف عن الخوض فيما لا سبيل إلى علمه إذا لم يرتبط بذلك حكم أو تكليف، فيكفي تدبر هذه الفواتح على الأسلوب الذي جاءت به في المصحف الشريف. نكتفي بهذا القدر فيما يتعلق بالكلام على الفواتح، وإنما أطلت النفس فيه، باعتبار أن هذا سنحتاجه فيما بعد إن شاء الله، فسنحيل على هذا البحث الذي ذكرناه هنا.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين)

    قال تعالى: كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:2]. ((المص)) تقدم الكلام عليه. ((كتاب)) أي: هذا الكتاب، ((أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه)) أي: لا يكن فيك ضيق صدر من تبليغه، مخافة أن يكذبوك، أو أن تقصر في القيام بحقه. فإنه صلى الله عليه وسلم كان يخاف قومه، وتكذيبهم له، وإعراضهم عنه وأذاهم له، فكان يضيق صدره من الأذى ولا ينبسط له، فأمنه الله ونهاه عن المبالاة بهم، لأن في الحديث: (وإن الله أمرني أن أحرق قريشاً قلت: يا رب! إذاً يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة). فهذا يدل على أنه عليه السلام كان يشفق من أذى قومه ويضيق صدره لذلك، ويشهد لهذا التأويل قوله تعالى: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ [هود:12]. والشنقيطي رحمه الله تعالى قال في تفسير قوله: ((فلا يكن في صدرك حرج منه)): قال مجاهد وقتادة والسدي : حرج أي: شك، أي: لا يكن في صدرك شك في كون هذا القرآن حقاً. وعلى هذا القول، فالآية كقوله تعالى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ [يونس:94] وقوله تعالى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ [يونس:94]، يقرن إثبات أحقية القرآن وأنه من عند الله بالنهي عن المراء. وعلى هذا التفسير لا يكون الخطاب حقيقة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ بل ظاهره للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد نهي غيره عن الشك في القرآن، كقول الشاعر: إياك أعني واسمعي يا جاره وكقوله تعالى: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [الإنسان:24]، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يطيع منهم آثماً أو كفوراً، لكن المقصود غيره، وقد يصرح به أحياناً في القرآن والمراد غيره مثل: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [الطلاق:1]. وقوله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65]، فالرسول عليه السلام معصوم من الذنوب ومن الآثام، فكيف لا يعصم من الشرك عليه الصلاة والسلام؟! فهو لا يمكن أبداً أن يصدر منه شرك، وكذا قوله تعالى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ [البقرة:120]، وهو معصوم من ذلك أيضاً عليه الصلاة والسلام، ولكن الله يخاطبه؛ ليوجه الخطاب إلى غيره في ضمن خطابه صلى الله عليه وسلم. فهذا هو الاحتمالالذي ذكره الشنقيطي في قوله: (فلا يكن في صدرك حرج منه) أي: مرية أو شك. أما جمهور العلماء فمذهبهم أن المراد بالحرج في الآية هو: الضيق، كما بينه القاسمي رحمه الله؛ لأن تحمل عداوة الكفار والتعرض لبطشهم مما يضيق به الصدر، وكذلك تكذيبهم له صلى الله عليه وسلم مع وضوح صدقه بالمعجزات الباهرات، مما يضيق به الصدر، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ [هود:12]، وقوله: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ [الحجر:97]، وقوله: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف:6]، وقوله: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء:3]، ويؤيده أيضاً: أن الحرج في لغة العرب: الضيق، ومنه قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ [النور:61] وقوله: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78] أي: ضيق، وقوله: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125] حرجاً أي: شديد الضيق. إلى غير ذلك من الآيات. قال تعالى: (( لِتُنذِرَ)) أي تنذر المشركين، ((به)) يعني: بهذا الكتاب المنزل، ((وذكرى للمؤمنين)) أي: عظة لهم. ولا ينافي ما ذكرناه من أن الإنذار للكفار والذكرى للمؤمنين، أنه قصر الإنذار على المؤمنين دون غيرهم في قوله تعالى: إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [يس:11] لأنه لما كان الانتفاع بالإنذار مقصوراً على المؤمنين صار خصهم بالذكر؛ لأن ما لا نفع فيه فهو كالعدم، ومن أساليب العرب أنهم يعبرون عن قليل النفع بأنه لا شيء، فالذي لا ينتفع بالسمع يعتبره العرب أصم، والذي لا ينتفع بالنظر يعتبره العرب كالأعمى، وهذا سر نفي هذه الحواس عن هؤلاء الكفار. والإنذار يطلق في القرآن إطلاقين: أحدهما: عام لجميع الناس، كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:1-2] أي: كل الناس. وقوله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1]، وهذا الإنذار العام هو الذي قصر على المؤمنين قصراً إضافياً في قوله: إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ [يس:11]، وإنما قصر على المؤمنين لأنهم هم المنتفعون بالذكر دون غيرهم. النوع الثاني من الإنذار: إنذار خاص بالكفار؛ لأنهم هم الواقعون فيما أنذروا به من النكال والعذاب، فهو الذي يذكر في القرآن مبيناً أنه خاص بالكفار دون المؤمنين، كقوله: لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا [مريم:97]، وقوله هنا: (( لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ )). والإنذار في اللغة العربية هو: الإعلام المقترن بتهديد، فكل إنذار إعلام وليس كل إعلام إنذاراً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون)

    قال تعالى: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [الأعراف:3]. خطاب منه تعالى لكافة المكلفين باتباع ما أنزل وهو القرآن الكريم. وفي قوله تعالى: ((اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم)) عموم، فيشمل كلّ ما أنزل من الله سبحانه وتعالى في الوحي، والوحي وحيان: قرآن وسنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه). والأدلة على أن السنة وحي كثيرة جداً، وحيثما وردت الحكمة مقترنة بالقرآن في سياق الامتنان على هذه الأمة، فالمقصود بها السنة، ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [البقرة:142-143]. فهذه الآية يؤخذ منها أن الذي شرع استقبال بيت المقدس في الصلاة هو الله سبحانه وتعالى لكن بواسطة الوحي لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولم ينزله في القرآن؛ لأن ربنا يقول: ((وما جعلنا)) وليس المصدر الوحيد للتشريع هو القرآن، كما يقول ملحد ليبيا وأذنابه: إن المصدر الوحيد للتشريع هو القرآن!! والله المستعان، اللهم أرح المسلمين من هؤلاء الأشرار. فلنفترض إن المصدر الوحيد هو القرآن الكريم، فأين في القرآن الكريم الآية التي تأمر المسلمين باستقبال بيت المقدس في الصلاة؟! فتشوا فلن تجدوا هذا في القرآن، ولم يوجد هذا إلا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم. ويقول سبحانه وتعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4]، وهنا لم يقل: (وما ينطق بالهوى)، وإنما قال: ((وما ينطق عن الهوى)) لتنزيه المصدر نفسه، فدل على أن كلّ ما يتكلم به النبي صلى الله عليه وسلم في أمور الدين وحي من الله عز وجل. قال السيوطي في الإكليل: استدل به بعضهم على أن المباح مأمور به؛ لأنه من جملة ما أنزل الله وقد أمرنا باتباعه بقوله (( اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ )) قال: إن معناها أن المباح مأمور به؛ لأنه مما أنزله الله، وقد أمرنا الله باتباعه فهو مأمور به، يقول القاسمي : وهذا غلو في الاستنباط وتعمق بارد، وهذا من التكلف المرفوض، ويرحم الله القائل: إذا اشتد البياض صار برصاً، فينبغي عدم التنطع والتعمق في الاستنباط بهذه الصورة. (( وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ )) أي: لا تتبعوا أولياء غيره تعالى من الجن والإنس، فيحملوكم على عبادة الأوثان والأهواء والبدع. (( قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ )) أي: ما تتعظون إلا قليلاً، حيث لا تتأثرون ولا تعملون بموجبه، وتتركون دينه تبارك وتعالى وتتبعون غيره.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا... إنا كنا ظالمين)

    قال تعالى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ * فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ [الأعراف:4-5]. ((وكم من قرية أهلكناها)) أي: أردنا إهلاكها ودليل ذلك سياق الآية: ((فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون)) فلو كانت كلمة (أهلكناها) تعني أن قد أهلكناها؛ لكانت أهلكت بالفعل وانتهت، لكن المقصود هنا: أردنا إهلاكها بسبب أنهم خالفوا ما أنزل إليهم من ربهم، وهو المشار إليه في الآيات السابقة. ((فجاءها بأسنا)) أي: فجاء أهلها عذابنا. ((بياتاً)) أي بائتين في الليل، والبيتوتة: الدخول في الليل، يعني أهلكناها ليلاً قبل أن يصبحوا. ((أو هم قائلون)) يعني: نصف النهار، لأن هذا وقت القيلولة، كقوم شعيب، والمعنى: فجاءها بأسنا غفلة وهم غير متوقعين له، ليلاً وهم نائمون، أو نهاراً وهم قائلون وقت الظهيرة، وكل ذلك وقت الغفلة، والمقصود أنه جاءهم العذاب على حين غفلة منهم، من غير تقدم أمارة تدلهم على وقت نزول العذاب، وفي هذا وعيد وتخويف للكفار، كأنهم قيل لهم: لا تغتروا بأسباب الأمن والراحة، فإن عذاب الله إذا نزل نزل دفعة واحدة، ونظيرها قوله: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأعراف:97-98] .. إلى آخر الآية ثم بعد ذكره تعالى لعذابهم الدنيوي أتبع ذلك ببيان عذابهم الأخروي، فقال عز وجل: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف:6]. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ [الأعراف:4]: خوف الله تعالى في هذه الآية الكريمة الكفار الذين كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه أهلك كثيراً من القرى؛ بسبب تكذيبهم الرسل، فمنهم من أهلكها بياتاً يعني: ليلاً، ومنهم من أهلكها وهم قائلون، أي: في حال قيلولتهم، والقيلولة: الاستراحة وسط النهار، يعني: فاحذروا تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا أنزل بكم مثلما أنزلت بهم. أوضح هذا المعنى في آيات أخر كقوله تعالى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [الأنعام:10]، وقال عز وجل: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج:45]، وقال عز وجل: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ [القصص:58]، وقال أيضاً: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [محمد:10] فقوله تعالى بعدها: (وللكافرين أمثالها) بيان للغاية التي من أجلها سيق هذا الأمر، أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [محمد:10]، فبعد أن يبين أنه يريد من هذا تهديدهم قال: وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [محمد:10] يعني: إن فعلتم مثلهم كانت لكم نفس العاقبة. وقد هدد تعالى أهل القرى بإتيان عذابه ليلاً في حالة النوم، أو ضحىً في حالة اللعب، قال عز وجل: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأعراف:97-98] وهدد أمثالهم من الذين مكروا السيئات بقوله تعالى: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [النحل:45-47]، ومعنى (معجزين): فائيتن، أي: لن تفوتوا ولن تهربوا من عذاب الله سبحانه وتعالى. وقوله: فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ [الأعراف:5]، فهذه القرى الكثيرة التي أهلكها الله في حال البيات أو في حال القيلولة، لم يكن لهم من الدعوى إلا اعترافهم بأنهم كانوا ظالمين، أوضح هذا المعنى في قوله عز وجل: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ [الأنبياء:11-12]، يركضون: أي يحاولون أن يهربوا منها لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ [الأنبياء:11-15]: يعني: جعلوا يقولون: يا ويلنا إنا كنا ظالمين، يا ويلنا إنا كنا ظالمين، حتى استأصلهم العذاب. قال الحافظ ابن جرير رحمه الله تعالى: في هذه الآية دلالة واضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم)، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم)، قال الراوي: قلت لـعبد الله بن مسعود : كيف يكون ذلك؟ قال: فقرأ هذه الآية: ((فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين)) يعني: هذا العذاب نحن نستحقه عن جدارة واستحقاق، وليس ظلماً من الله سبحانه وتعالى، بل نحن الظالمون، فلا يهلكهم الله حتى يصرحوا هم بأنفسهم أن هذا بسبب ظلمهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين)

    قال تعالى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف:6]. ((الذين أرسل إليهم)) المرسَل إليهم وهم الأمم، يسألهم عما أجابوا به رسلهم، كما قال تعالى: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص:65]. ((ولنسألن المرسلين)) عما أجيبوا به، كما قال سبحانه: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ [المائدة:109]، والمراد بالسؤال: توبيخ الكفرة وتقريعهم. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف:6]، لم يبين هنا الشيء المسئول عنه المرسلون ولا الشيء المسئول عنه الذين أرسل إليهم؟ وبين في مواضع أخر أنه يسأل المرسلين عما أجابتهم به أممهم، ويسأل الأمم عما أجابوا به رسلهم، قال في الأول: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ [المائدة:109]؟ وقال في الثاني: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص:65]، وبين في موضع أخر أنه يسأل جميع الخلق عما كانوا يعملون يقول عز وجل: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92-93]. وهنا إشكال معروف وهو أنه تعالى قال هنا: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف:6] وقال أيضاً: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر:92] وقال: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات:24]، وهذا صريح في إثبات سؤال الجميع يوم القيامة، مع أنه قال: وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص:78]، وقال: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن:39]. فهذه من الآيات الكريمة التي توهم الاضطراب في ظاهرها، فما الجواب عن هذا؟ يقول: اعلم أولاً أن السؤال المنفي في الآيات المذكورة، أخف من السؤال المثبت فيها، فالسؤال المنفي السؤال عن الذنب: ((ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون)) ((فيومئذ لا يسأل عن ذنبه أنس ولا جان)) فيتضح من ذلك أن سؤال الرسل ليس عن ذنب فعلوه، فلا مانع من وقوعه، وكذلك الموءودة فإنها كانت مظلومة، فستسأل لكن لا عن ذنب والمنفي إنما هو خصوص السؤال عن ذنب، مع أنه ورد في أدلة عامة عن السؤال؛ لكن لا عن الذنوب. ويزيد ذلك إيضاحاً قوله تعالى: لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ [الأحزاب:8]، وبعد سؤاله لعيسى المذكور في قوله: أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة:116]، قال سبحانه وتعالى: قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة:119]. والسؤال عن الذنوب المنفي في الآيات المراد به: سؤال الاستخبار والاستعلام، لأن علمه جل وعلا محيط بكل شيء، ولا ينافي نفي هذا النوع من السؤال ثبوت نوع آخر منه، وهو سؤال التوبيخ والتقريع؛ لأنه نوع من أنواع العذاب، ويدل لهذا أن سؤال الله للكفار في القرآن كله توبيخ وتقريع، كقوله: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ [الصافات:24-25] فهذا سؤال المقصود به: التوبيخ، والتقريع، والتبكيت، والإيلام، والإهانة: مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ ومثله أيضاً قوله تعالى: أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ [الطور:15] فهذا سؤال مقصود به التوبيخ والتقريع.. إلى غير ذلك من الآيات.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين)

    قال تعالى: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ [الأعراف:7]. أي: نقص على الرسل والمرسل إليهم ما كان منهم، (بعلم) أي: عالمين بأحوالهم الظاهرة والباطنة. ((وما كنا غائبين)) أي: عنهم وعما وجد منهم. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ)) بين تعالى فيها اطلاعه عليهم في الدنيا، وأخبرهم بأنه جل وعلا لم يكن غائباً عما فعلوه في دار الدنيا، بل هو الرقيب الشهيد على جميع الخلق، المحيط بكل ما فعلوه، من صغير وكبير، وجد هزل، وهذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة:7]. وقوله تعالى: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4]، وقوله: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ [يونس:61] إلى آخر الآية. وفي هذه الآية الكريمة الرد الصريح على المعتزلة، القائلين إنه تعالى عالم بذاته لا بصفة قامت بذاته وهي صفة العلم. وهكذا في قولهم: قادر ومريد وحي وسميع وبصير ومتكلم، فيقولون: إنه تعالى عالم بذاته، قادر بذاته، دون أن يتصف بصفة العلم أو القدرة أو السمع أو الحياة أو التكلم إلى آخره، ففي هذه الآية يثبت الله سبحانه وتعالى لنفسه صفة العلم، فيقول عز وجل: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ [الأعراف:7]، ونظيره قوله: أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء:166]، وهي أدلة قرآنية صريحة في بطلان مذهبهم الذي لا يشك عاقل في بطلانه وتناقضه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والوزن يومئذ الحق... بما كانوا بآياتنا يظلمون)

    قال تعالى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ [الأعراف:8-9]. ((والوزن يومئذ الحق)) أي: وزن الأعمال والتمييز بين راجحها وخفيفها، وذلك يوم يسأل الله الأمم ورسلهم. ((فمن ثقلت موازينه)) أي: من ثقلت حسناته في الميزان. ((فأولئك هم المفلحون)) أي: الناجون من السخط والعذاب. ((ومن خفت موازينه)) يعني: من خفت حسناته في الميزان. ((فأولئك الذين خسروا أنفسهم)) يعني: بالعقوبة ((بما كانوا بآياتنا يظلمون)) أي: يكفرون. قال السيوطي في الإكليل: في هذه الآية ذكر الميزان والإيمان به، هذه من العقائد التي يجب الإيمان بها، ووزن الأعمال، معناه في الميزان يوم القيامة، قيل: الأعمال نفسها هي التي توزن، وإن كانت الأعمال أعراضاً إلا أن الله سبحانه وتعالى يقلبها يوم القيامة أجساماً توزن. قال البغوي : يروى هذا عن ابن عباس كما جاء في الصحيح: (أن البقرة وآل عمران تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما يوم القيامة). ومن ذلك ما ثبت في الصحيح في قصة القرآن، عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجيء القرآن يوم القيامة كالرجل الشاحب يشفع لصاحبه فيقول: أنا الذي أسهرت ليله واظمأت نهاره). وفي حديث البراء في قصة سؤال القبر: (فيأتي المؤمن شاب حسن اللون طيب الريح فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح)، وذكر عكسه في شأن الكافر والمنافق. فالذنوب والمعاصي تتجسد هناك، وتتصور بصورة النار، وعلى ذلك حمل قوله تعالى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [التوبة:49]، وقال: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النساء:10]، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم في حق من يشرب من إناء الذهب والفضة: (إنه إنما يجرجر في بطنه نار جهنم)، ولا بُعد في ذلك، ألا يرى أن العِلْم يظهر في عالم المثال على صورة اللبن -لعله يقصد بذلك تأويل اللبن في المنام بالعلم، من حديث عمر حينما وسقاه النبي في المنام لبناً فأول ذلك بالعلم- فهذا هو القول الأول: أن الأعمال هي التي توزن. والقول الثاني: إن الذي يوزن هو صحائف الأعمال التي كتبتها الملائكة، ويبينه حديث البطاقة، وهو الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يستخلص رجلاً من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مد البصر،ثم يقول له: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمتك كتبتي الحافظون؟ قال: لا يا رب، فيقول: ألك عذر أو حسنة؟ فيبهت الرجل، فيقول: لا يا رب! فيقول الله: بلى إن لك عندنا حسنة واحدة، وإنه لا ظلم اليوم عليك، فتخرج له بطاقة مكتوب فيها: أشهد أن لا إله إلا الله فيقول: أحضروه، فيقول: يا رب! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة، قال: فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، ولا يثقل شيء بسم الله الرحمن الرحيم) فهذا دليل على أن الذي يوزن هو صحائف الأعمال؛ لأن هذا الرجل وزنت سجلاته التي فيها أعماله وفيها الشهادة. والقول الثالث: أن الذي يوزن هو صاحب العمل، فالإنسان نفسه هو الذي يوزن، كما في الحديث: (يؤتى يوم القيامة بالرجل السمين فلا يزن عند الله جناح بعوضة، ثم قرأ قوله تعالى: (( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ))[الكهف:105]). وفي مناقب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتعجبون من دقة ساقيه؟ والذي نفسي بيده لهما في الميزان أثقل من أحد)، فمعنى ذلك أن ساقي ابن مسعود رضي الله عنه ستوزنان في الميزان. قال الحافظ ابن كثير : وقد يمكن الجمع بين هذه الآثار بأن يكون ذلك كله صحيحاً، فتارة يوزن الأعمال، وتارة يوزن محلها، وتارة توزن فاعلها. والله تعالى أعلم. يقول الشيخ صديق حسن خان رحمه الله في فتح البيان راداً على الذين أولوا وقالوا: المقصود بالميزان الفصل في القضاء والحكم بالعدل إلى آخر هذه العبارات التي يقولها من استبعدوا هذه الأقوال المدعمة بهذه الأدلة؛ يقول: وأما المستبعدون لحمل هذه الظواهر على حقيقتها، فلم يأت في استبعادهم شيء من الشرع يرجع إليه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755807011