الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فلا زلنا نتدارس الباب الرابع عشر من جامع الإمام الترمذي من أبواب الطهارة، وعنوان هذا الباب كما تقدم معنا مراراً: باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به، وقد روى الترمذي الحديث بسنده من طريق شيخه هناد بن السري إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تستنجوا بالروث ولا بالعظم، فإنه زاد إخوانكم من الجن)، قال أبو عيسى : وفي الباب عن أبي هريرة وسلمان وجابر بن عبد الله ، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين.
هذا الحديث يقرر أن الجن إخوان لنا، وأن طعامهم يختلف عن طعامنا، ولا يجوز لنا أن نستنجي بطعامهم، ومن باب أولى لا يجوز لنا أن نستنجي بطعام الإنس، قلت: وهذه القضية لا بد من البحث فيها، ولا بد من التعرف على أحوال عالم الجن الذي يقابل عالم الإنس، وقلت: سنتدارس هذا الأمر ضمن ثلاثة مباحث:
أولها: في خلق الجن ووجودهم، وقد تقدم معنا الكلام على ذلك.
والثاني: في تكليفهم وجزائهم، وأيضاً تدارسنا هذا الأمر وانتهينا منه.
والأمر الثالث: في أوجه الشبه والاختلاف بين الإنس والجن، وقلت: هذا الأمر سأقسمه إلى ثلاثة أمور:
أولها: ما يستوي الإنس والجن فيه، فيستوون معنا فيه، وذكرت لذلك أمثلة دارت على أمور أربعة قلت: يستوون معنا في الخلق والموت، خلقوا وهكذا خلقنا، يموتون ونحن نموت، يستوون معنا في التكليف، والأمر الثالث يستوون معنا في انقسامهم إلى مؤمن وكافر، وعاص ومطيع، ويستوون معنا على القول المعتمد في الثواب والعقاب عند الكريم الوهاب يوم الحساب، هذه أمور أربعة مضى الكلام عليها.
والأمور التي يختلفون فيها عنا قلت: سأقتصر على أربعة أمور أوضح اختلافهم عنا واختلافنا عنهم، وقلت: الأمر الأول: عنصر خلقهم يختلف عن عنصر خلقنا، فهم خلقوا من نار وخلقنا من طين.
والأمر الثاني: أعطاهم الله قدرة على أن يرونا ولا نراهم.
والأمر الثالث: تشكلهم بصور مختلفة.
والأمر الرابع: طعامهم يختلف عن طعامنا.
وقلت: سأختم المبحث بأمر ثالث يقوم على أربعة أمور أيضاً: صلتنا بهم وصلتهم بنا، وسأتكلم على حكم الاستعانة بهم، وعلى حكم مناكحتهم، وعلى حكم تلبسهم، وعلى كيفية التحصن منهم.
وآخر ما ذكرته مما يتعلق بهذا الأمر أثر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما من أن الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا ذكر ربه خنس الشيطان، وإذا غفل ابن آدم عن ذكر الله التقم الشيطان قلبه ووسوس فيه. وهذا الأثر تقدم معنا أنه رواه الطبري في تفسيره، والحاكم في مستدركه، وابن أبي الدنيا وابن مردويه ، كما رواه البيهقي في شعب الإيمان، والضياء المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة، ورواه سعيد بن منصور في سننه، وابن أبي شيبة في مصنفه، وقلت: رواه جعفر بن أحمد بن فارس في كتاب الذكر حسبما عزا إليه ابن حجر .
وهذا الأثر يوجد حوله كلام من ناحية تخريجه، ومن ناحية دلالته وإيضاح معناه.
أما من ناحية تخريجه فالإمام البخاري عليه رحمة الله علق هذا الأثر بصيغة الجزم في صحيحه في كتاب التفسير في تفسير سورة الناس.
وتمام أثر ابن عباس رضي الله عنهما: الوسواس إذا ولد -يعني المولود- خنسه الشيطان، فإذا ذكر الله ذهب عنه، وإذا لم يذكر الله ثبت على قلبه.
قوله: خنسه يخنسه بمعنى قبض عليه ويقبض عليه، وهذه تختلف عن المعنى الذي تقدم معنا إذا ذكر الإنسان ربه خنس الشيطان، هناك خنس بمعنى: ابتعد واندحر وذل وتوارى واختفى، وهنا خنسه الشيطان، أي: قبض عليه، قال ابن حجر : أي أخره وأزاله عن مكانه لشدة نخسه وطعنه بإصبعه، يعني: عندما يولد هذا المولود يؤخره الشيطان عن مكانه الذي خرج منه لشدة الطعنة التي يطعن في جنبيه، ثم بعد ذلك هذا الإنسان إذا وعى وذكر الله حصن نفسه من الشيطان، وإلا فالشيطان سيوسوس له.
وقد أشار نبينا صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى وأخبرنا أن كل مولود يولد ينخسه الشيطان، والحديث ثابت في المسند والصحيحين، ورواه عبد الرزاق في مصنفه، والطبري وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حميد في تفاسيرهم، ورواه الحاكم في المستدرك -مع أن أصل الحديث في الصحيحين- في الجزء الثاني صفحة أربع وتسعين وخمسمائة، وهذه الروايات أشار إليها في الدر المنثور السيوطي في الجزء الثاني صفحة تسع عشرة.
والحديث من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من بني آدم من مولود إلا نخسه الشيطان حين يولد، فيستهل صارخاً من نخسه إياه، إلا
وفي بعض روايات الطبري في تفسيره: (ما من مولود إلا وقد عصره الشيطان عصرةً أو عصرتين حين يولد، إلا عيسى بن مريم و
وفي رواية في الصحيح أيضاً: (ما من بني آدم من مولود إلا والشيطان يمسه حين يولد، فيستهل صارخاً من مس الشيطان إياه، إلا
وفي رواية للبخاري : (كل ابن آدم يطعن الشيطان في جنبيه بإصبعيه حين يولد غير عيسى بن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب)، أي: ذهب الشيطان يطعن عند ولادة نبي الله عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام فطعن في الحجاب، والحجاب هو المشيمة التي يكون فيها الولد، فطعن في المشيمة وما أصاب نبي الله عيسى ويمكن أن يكون المراد بالحجاب ما ذكره ابن حجر والعيني : أنه الملابس التي توضع على المولود ويستر بها، فطعن في ملابسه وما وصل إلى جسده وجسمه، انظر عمدة القاري، الجزء الخامس عشر صفحة ست وسبعين ومائة.
وفي رواية لـمسلم : (كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولدته أمه إلا
قوله: في حضنيه، أي: في جنبه وخاصرتيه، (يلكزه الشيطان في حضنيه إلا
ظاهر الحديث كما ترون أنه خصوصية، لكن أئمتنا في شرح الحديث نقلوا عن القاضي عياض أن هذا الأمر يشمل جميع الأنبياء، نقل العيني وغيره عن عياض أنه قال: جميع أنبياء الله يشاركون عيسى في هذا الأمر، فهم مباركون، والله ما جعل للشيطان عليهم سبيلاً.
قال القرطبي في المفهم: وهذا قول قتادة من أئمة التابعين، إذاً: يستثنى جميع أنبياء الله ورسله من مس الشيطان ونخسه، وليس هذا خصوصية لعيسى وأمه فقط.
أما استثناء نبينا عليه صلوات الله وسلامه فلا بد منه، وإذا ثبت هذا لنبي الله عيسى وهو دون نبينا في الفضيلة فهو ثابت للأفضل من باب أولى، وأمه آمنة عندما حملت به كما ثبت في طبقات ابن سعد ، ودلائل النبوة لـأبي نعيم ، ودلائل النبوة للبيهقي في الجزء الأول صفحة اثنتين وثمانين، والخصائص الكبرى للسيوطي في الجزء الأول صفحة اثنتين وأربعين: (أن
حصنت امرأة عمران ابنتها مريم، وما سيأتي لهذه البنت المباركة من ذرية حصنتها بالله من الشيطان الرجيم، فهذا دعاء من مخلوق للخالق استجابه الله، وأما في شأن نبينا فإيحاء من الخالق للمخلوق، فمن باب أولى أن يحصن نبينا صلى الله عليه وسلم وألا يقترب منه الشيطان في حال ولادته، وألا ينخسه، وإذا ثبت هذا لعيسى ولنبينا عليهما صلوات الله وسلامه، فالذي يظهر والعلم عند الله كما قال القاضي عياض ، ونقل عن قتادة : أن هذا عام لجميع أنبياء الله ورسله لاستوائهم في عصمة الله لهم، وحفظ الله لهم، وأما من عداهم فالذي يظهر أنه لا يستثنى.
فإن قيل: هذا النخس هل يضر الإنسان في دينه؟
والجواب: لا ثم لا، فهذا لا يلزم منه إضلال على الإطلاق، وإنما هذا نخس حسي فقط، لا يلزم منه أنه استولى عليه وأضله، والله جل وعلا يحفظ أولياءه من إغواء الشيطان ووسوسته، إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا [الإسراء:65].
هذا الأثر الذي روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما له حكم الرفع، وقد أشار إليه البخاري معلقاً بصيغة الجزم، ومعناه ثابت في حديث نبينا صلى الله عليه وسلم.
وهذا الأثر من رواية عروة بن رويم اللخمي ، وهو صدوق يرسل كثيراً، وتوفي سنة خمس وأربعين ومائة للهجرة، وحديثه في السنن الأربع إلا سنن الترمذي ، وكما قلت هذا الأثر مأخوذ عن أخبار أهل الكتاب، وابن حزم عندما يأتي إلى مثل هذه الآثار يقول: هذا أثر منقطع، فبين التابعي وبين نبي الله عيسى مفاوز، وليس هو منقطع، هو لا يرويه عن نبي الله عيسى بالإسناد، إنما أخذه عن أهل الكتاب، وهذا مما يباح لنا أن نحدث به عن أهل الكتاب مما ذكر عندهم، وليس في ديننا ما يثبته بهذا الوصف ولا ما ينفيه، فلا مانع إذاً من روايته وذكره.
ولفظ الأثر: أن نبي الله عيسى دعا ربه أن يريه موضع الشيطان من قلب ابن آدم ، فأراه الله جل وعلا مكانه -وجلا مقعده ومجلسه أين يجلس الشيطان من قلب ابن آدم- فرآه مثل رأس الحية -رأى الشيطان مثل رأس الحية -واضع رأسه على ثمرة قلبه- يعني: على وسط قلبه، وهو كرأس الحية- فإذا ذكر العبد ربه خنس الشيطان، وإذا ترك العبد ذكر الله مناه وحدثه.
إذاً: خبيث كأنه رأس حية، يجلس في وسط القلب، إن ذكرت الله خنس وما استطاع أن يتمكن منك، وإلا حدثك ومناك، والذي يدل على مثل هذا، وأن الشيطان يجري منا مجرى الدم من عروقنا، أن الوسوسة التي تحصل في صدورنا وفي نفوسنا لا تأتي من شيء خارج عنا؛ لأنها لو كانت من خارج جسمنا تطرأ علينا لكان لا بد من أن تنقلها الحواس إلى القلب، إما لمس، وإما شم، وإما سمع، وإما.. إلخ، وواقع الأمر أننا لا نرى ولا نلمس ولا نسمع هذه الوسوسة، وإنما نرى هذه الوسوسة تدور في القلب، ولذلك لا حيلة لنا إلا بالالتجاء إلى ربنا، فإذا كان الشيطان يرانا ولا نراه، فنسلط عليه من يراه، وهو لا يراه، فالله يرى الشيطان، والشيطان لا يرى الرحمن، والله جل وعلا أعز جنداً سبحانه وتعالى، فهو يكفينا شر هذا اللعين كما سيأتينا في آخر الأمور، كيف نتحصن من الشيطان الرجيم؟
هذا تمام ما يتعلق بالأمر الثاني من الأمور التي يختلف الجن بها عنا، وهو كونهم يروننا ولا نراهم.
وهذا فيه دليل عظيم على عظيم قدرة ربنا سبحانه وتعالى عندما خلق مخلوقاً يرانا ولا نراه، ثم بإمكان هذا المخلوق حسبما جعل الله له وأجرى سنته مع هذا الصنف أنه يتشكل، فيمكن أن يتشكل لنا الجني بشكل إنسان يكلمنا ونكلمه، وقد تخفى علينا هويته، فنظنه من بني آدم كما سيأتينا في قصة الشيطان الذي جاء في صورة شيخ كبير ليسرق من تمر الصدقة، ويقبضه أبو هريرة ثلاث مرات ويخفى عليه أمره، في أخبار كثيرة متواترة سأشير إلى بعضها إن شاء الله.
وسيأتينا النهي عن قتل حيات البيوت إلا بعد أن نؤذنها ونحرج عليها، خشية أن تكون هذه الحية ظهرت بهذه الصورة، فعندهم قدرة على التشكل، ولا يقع شيء إلا بمشيئة الله وتدبيره وإرادته سبحانه وتعالى.
ولفظ الحديث: عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الجن ثلاثة أصناف)، أي: أن الجن يتشكلون بثلاثة أشكال، وهذا ليس من باب الحصر، وإنما من باب ما يقع للجن من تشكل، ( صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء ). قد يتشكل الجني بصورة طائر يطير في الهواء، ( وصنف حيات وعقارب ) أي: يتشكلون بصورة الحيات وبصورة العقارب، ( وصنف يحلون ويظعنون )، يحلون أي: يسكنون ويستوطنون، ويظعنون أي: يسافرون وينتقلون، وفي بعض الروايات: ( وصنف حيات وكلاب ).
وورد شاهد لهذا الحديث من رواية أبي الدرداء عند الطبراني في معجمه الصغير، كما في جمع الجوامع في الجزء الأول صفحة عشر وخمسمائة، وعند ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان، وأبي الشيخ في كتاب العظمة، وابن مردويه في تفسيره، والديلمي كما في فيض القدير في شرح الجامع الصغير في الجزء الثالث صفحة ثمان وأربعين وأربعمائة، ومسند أبي يعلى كما في المطالب العالية في المكان المتقدم، ورواه أبو حاتم ابن حبان في كتاب المجروحين في الجزء الثالث صفحة ست ومائة، والحديث في إسناده يزيد بن سنان أبو فروة الرهاوي وهو ضعيف، توفي سنة خمس وسبعين ومائة للهجرة، وهو من رجال الترمذي وابن ماجه . ولفظ حديث أبي الدرداء : عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خلق الله الجن ثلاثة أصناف) أي: خلقهم -والله أعلم- يتشكلون بهذه الأصناف، وليس هذا من باب الحصر في هذه الصور والأشكال، (صنف حيات وعقارب وخشاش الأرض)، الخاء مثلثة خَشاش، وخِشاش، وخُشاش، وهي حشرات الأرض، (حيات وعقارب وخشاش الأرض)، وهذا هو الصنف الأول.
(وصنف كالريح في الهواء)، أي: يطير مع الهواء، (وصنف عليهم الحساب والعقاب)، من المعلوم أن الحساب والعقاب على الجميع بلا شك، وهذه الجملة الأخيرة فيها إشكال، والحديث إسناده ضعيف.
وبقية الحديث: ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والإنس ثلاثة أصناف: صنف كالبهائم لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها)، ومع ذلك هم مكلفون، لكن لا يستعملون هذه الجوارح لما خلقت له، (وصنف أجسادهم أجساد بني آدم، وأرواحهم أرواح الشياطين)، الصنف الأول في صور الآدميين لكن في حكم البهائم، وأما هؤلاء فشريرون مفسدون، صورهم كصور بني آدم، وأرواحهم خبيثة كأرواح الشياطين، (وصنف في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله)، والجميع مكلفون، لكن الصنف الأول في حكم البهائم ودون البهائم وأحط منهم منزلة، والصنف الثاني في حكم الشياطين في الخبث والفساد والإغواء، والصنف الثالث مؤمنون أتقياء موحدون في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله.
أورد أئمتنا في ذلك قولين، ولولا ورودهما لما تعرضت لهذه المسألة؛ لأن هذا من باب أمور الغيب، ومن أشنع العيب أن نتكلم عن الغيب بعقولنا، وإذا لم يرد نص يحدد كيفية تشكلهم فأثبت ذلك دون البحث في الكيفية فهي مما يعلمها رب البرية، ولا يعلمها خلقه.
وقد أورد أئمتنا قولين في كيفية تشكل الجن، وانتقالهم من صورة إلى صورة، وتطورهم من حالة إلى حالة:
الكيفية الأولى: نقلت عن أبي يعلى من أئمة الحنابلة الكبار، في آكام المرجان صفحة تسع عشرة، وفي لقط المرجان صفحة ثلاث وعشرين، قال أبو يعلى : لا قدرة للجن على تغيير خلقهم، والانتقال في الصور، أي: لا قدرة لهم من ذواتهم، وإنما يتطورون بسبب يحصل لهم، ما هو؟
قال: إنما يجوز أن يعلمهم الله كلمات، وضرباً من ضروب الأفعال، يكون تشكلهم موقوفاً عليها بجلب عادة الله فيهم، فإذا فعله الجني أو تكلم بها نقله الله من صورة إلى أخرى.
ثم قال أبو يعلى : وأما أن يصور الجني نفسه وأن ينتقل من صورة إلى أخرى فذلك محال لا شك فيه.
يعني: كما أنه لا يمكن للإنسي أن يتصرف إلا بما مكنه الله من التصرف فيه، فكذلك الجني لا يمكنه أن يتصرف إلا بما مكنه الله من التصرف فيه، فكون الإنسي يرى بعينيه، وينطق بلسانه، نجزم بلا تردد أنه ليس من وسع الإنسان، وإنما جعله الله في بني آدم، أي: جعله يبصر ويتكلم ويسمع، وكذلك جعل الله في الجني قدرة على التشكل، ليست من طبيعته وذاته، وإنما بتقدير الله وتمكين الله له، والله على كل شيء قدير سبحانه وتعالى.
وكما أن الإصبع لا تنطق وإذا أراد الله أن ينطقها نطقت، شهدت عليهم جلودهم وسمعهم وأبصارهم، وتكلمنا أيديهم، وتشهد أرجلهم، وهكذا جعل الله اللسان ينطق، فإذا أراد الله أن ينطق هذه الأعضاء نطقت، وهذا اللسان نطق، فهل أنت أنطقته؟ جعل الله فيك -كما قلت- هذه الخاصية، وجعل فيه هذا الأمر، وكون هذا التحول والتصور لا يقع للجني إلا بعد أن يقول شيئاً من الكلام، أو أن يفعل شيئاً من الأفعال، حقيقةً: مرد هذا إلى ذي العزة والجلال.
يقول أبو يعلى : أما أن الجني من نفسه يتحول ويتطور ويتشكل، فهذا محال؛ لأنه يحتاج إلى نقض البنية وتفريق الأجزاء، وإذا انتقضت بطلت الحياة، واستحال وقوع الفعل، نعم ليس في وسع مخلوق أن يتصرف من ذاته بنفسه في شيء من الأشياء إلا حسبما يخبره عليه رب الأرض والسماء سبحانه وتعالى، ويأذن له.
القول الثاني -حقيقةً: هو بعيد بعيد بعيد- قيل: إن الجن ليس عندهم قدرة على التشكل من حال إلى حال وبنيتهم لا تتغير، وإنما يحصل منهم تخييل للناس فقط، فتشكله في صورة ثعبان -مثلاً- هو تخييل، وكذا في صورة إنسان.. إلخ، وليست ذاته انقلبت إلى تلك الصور والأشكال؛ لأنه لا ينتقل أحد عن صورته الأصلية.
واستدل لهذا الكلام بما نقل عن سيدنا عمر رضي الله عنه عند ابن أبي شيبة في مصنفه، وابن أبي الدنيا ، وإسناده صحيح كما في فتح الباري للحافظ ابن حجر في الجزء السادس صفحة أربع وأربعين ومائتين، والأثر في آكام المرجان ولقط المرجان أيضاً، عن يسير بن عمرو، قيل: أصله أسير فسهلت الهمزة فصار يسير بن عمرو ، له رؤية للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرو عنه؛ لأنه رآه وهو صغير، وتوفي سنة خمس وثمانين.
ولفظ الحديث: عن يسير بن عمرو قال: ذكرنا الغيلان -جمع غول وهي الجن والشياطين التي تظهر للناس في الصحراء وفي الفلوات- أمام عمر رضي الله عنه فقال: إن أحداً لا يستطيع أن يتغير عن صورته التي خلقه الله عليها؛ ولكن لهم سحرة كسحرتكم، فإذا رأيتم ذلك -أي: الغيلان تراءت لكم لتخيفكم ولتفزعكم- فأذنوا.
كأن عمر رضي الله عنه يريد أن يقول: طبيعة الجن أننا لا نراهم، فإذا قدر أن الله جعلهم يتشكلون لنا، ويفجعوننا أحياناً، فبأي شيء نحصن أنفسنا منهم؟
قال: أذنوا وارفعوا صوتكم بالأذان، واذكروا الرحمن؛ لأن هذا الجن يخنس ويتوارى، فلا تفزعوا، فكما أعطاه الله قدرة على ذلك، فقد أعطانا الله سلاحاً نحصن أنفسنا منه ألا وهو الأذان، إذا رأيتم ذلك فأذنوا.
يكفينا أن نعلم من أمر الجن أنهم يتشكلون بصور مختلفة كما تواترت بذلك الأخبار والآثار، وأما كيفية ذلك التشكل فمرده إلى الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء سبحانه وتعالى.
ثبت الحديث بذلك من رواية عدة من الصحابة، أذكرها ثم أدلل على معناها العام لما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن نبينا عليه الصلاة والسلام.
قال الهيثمي في المجمع في الجزء العاشر صفحة أربع وثلاثين ومائة: رجال الإسناد ثقات إلا أن الحسن لم يسمع من سعد بن أبي وقاص فيما أحسبه، أي: فيما أعلم وأظن وأرى، وكذا قال البزار بعد أن روى هذه الرواية كما في كشف الأستار في الجزء الرابع صفحة أربع وثلاثين، قال البزار : لا نعلم أن الحسن سمع من سعد شيئاً، وعليه يوجد انقطاع بين الحسن وبين سعد رضي الله عنهم أجمعين.
ولفظ الحديث: عن سعد رضي الله عنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تغولت لنا الغولان ) -جمع الغول-، وفي رواية: (إذا رأينا الغيلان أمرنا أن ننادي بالأذان)، إذا تغولت لنا الغيلان، أي إذا رأيناها أن ننادي بالأذان.
ولفظ الحديث: عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا سافرتم في الخصب) أي: في وقت وجود المرعى والكلأ واخضرار الأرض ووجود الخيرات فيها (فأمكنوا الركاب من أسنانها)، (من أسنتها)، أي: اجعلوا هذه الرواحل وهذه الدواب تأخذ حظها من الأرض عندما تسافرون في الخصب، فدعوها تأكل من خيرات الأرض، وقد وضح هذا المعنى الرواية التي في صحيح مسلم وسنن الترمذي وأبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظها من الأرض)، (ولا تتجاوزوا المنازل)، أيضاً هذا أدب ينبغي أن ينتبه الإنسان له عندما يسافر على الدواب، فإذا وصلت إلى منزل، أي: محطة للاستراحة، فاجلس فيها، وخذ حظك من الراحة لتأخذ أيضاً الدابة حظها من الراحة، ولا تتابع السير فتؤذي نفسك وتؤذي دابتك، حتى لو كانت سيارة جماد فلا بد من أن تريحها من أجل أن تأخذ حظها، وألا ترتفع حرارة محركها كما يقع في كثير من السيارات، فإذا وصلت إلى محطة، إلى منزل استرح فيه قليلاً، (ولا تتجاوزوا المنازل)، فديننا قائم على الرفق.
(وإذا سافرتم في الجدب -الآن يختلف- فاستحثوا، أي: أسرعوا)، لأجل أن تريح هذه الدابة، ولأنها لن تحصل طعاماً في الطريق، فإذا طولت عليها المسافة تتعبها، (فاستحثوا)، وفي رواية: (فاستجدوا)، من الجد، يعني: ابذلوا ما في وسعكم من الجد في السير لتصلوا إلى المكان المطلوب، وفي بعض الروايات: (فاستنجوا)، (فانجوا)، لم؟ الإنجاء وهو الإسراع وليس هو من الاستجمار الذي يراد منه ما هو معلوم، فاستنجوا، فانجوا، فاستجدوا، فاستحثوا، أربع روايات، هذا إذا سافرتم في الجدب، (وعليكم بالدلج ) جمع دلجة وهي السير في الليل، (فإن الأرض تطوى بالليل، وإذا تغولت لكم الغيلان -وفي رواية- إذا تغولتكم الغيلان- تراءت لكم وبدأت تخرج الأصوات لتفزعكم في هذه المفاوز- فنادوا بالأذان)، وفي رواية ابن خزيمة : (فنادوا بالصلاة)، أي: فنادوا بالأذان الذي هو الصلاة، فكأن رواية ابن خزيمة تقول: إذا سمعتم هذا فافعلوا أمرين: أذنوا وصلوا لله جل وعلا ركعتين ليطرد الله هذه الغيلان التي تريد أن تفزعكم في ذلك المكان.
(وإياكم والصلاة على جواد الطريق)، يعني: على وسطه وفي وسطه؛ لأنك تؤذي الناس إذا مروا، ثم بعد ذلك هذا المكان يمر ما يمر فيه من الحيوانات والهوام، (والنزول عليها، فإنها مأوى الحيات والسباع، ولا تقضوا عليه الحوائج فإنها الملاعن)، وهي حاجة الغائط أو البول.
جادة الطريق لا تنزل فيها، ولا تصل فيها، وإذا أردت أن تصل فتنح عن الطريق جانباً، وخذ حظك من الراحة، وإياك إياك أن تقضي حاجتك على الطريق فهذا يسبب اللعن لك من قبل من يمر بالطريق ويتأذى.
هذه رواية ثانية كما قلت، والشاهد فيها: (إذا تغولت الغيلان، تغولتكم الغيلان، فنادوا بالأذان)، (نادوا بالصلاة).
ولفظ رواية أبي هريرة في معجم الطبراني الأوسط عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا تغولت لكم الغيلان فنادوا بالأذان، فإن الشيطان إذا سمع النداء)، وهذا الشطر الأخير من رواية أبي هريرة في معجم الطبراني الأوسط في صحيح مسلم بلفظ: (فإن الشيطان إذا سمع النداء أدبر وله حصاص)، والحصاص هو الضراط، وقيل: شدة العدو والسرعة والجري، أي: إذا سمع الشيطان الأذان يدبر مسرعاً فاراً وهو فزع ينخلع قلبه بحيث يتصف بهذه الحالة.
وقد زعم الدميري في حياة الحيوان: أن النووي رحمه الله روى هذا الحديث، أعني: أثر أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب الأذكار وصححه.
قال الحافظ ابن حجر : ولم يذكره النووي لا تخريجاً ولا تصحيحاً، ثم قال ابن حجر : وأنى له الصحة، وعدي تفرد به وهو متفق على ضعفه.
بل الذي ذكره النووي في الأذكار صفحة خمس وثمانين ومائة، وصفحة خمس وعشرين وثلاثمائة، وفي شرح الأذكار في المجلد الخامس، صفحة واحدة وستين ومائة: أنه إذا تغولت الغيلان أننا ننادي بالأذان، ولم يذكر رواية أبي هريرة رضي الله عنه.
إذاً: فقوله: تفرد به عدي بن الفضل ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه، عن أبي هريرة ، لعله يقصد بالتفرد أول الحديث، أما آخره فهو ثابت في صحيح مسلم وغيره، ورواه الإمام أحمد في المسند، والبغوي في شرح السنة، من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان إذا نودي للصلاة ولى وله حصاص).
وثبت في صحيح مسلم ، وشرح السنة للبغوي قصة لـسهيل مع أبيه أبي صالح عند رواية أبي صالح هذا الحديث لولده سهيل وهذه القصة هي: قال سهيل : أرسلني أبي -وهو أبو صالح - إلى بني حارثة ومعي غلام لنا أو صاحب لنا، قال: فناداه مناد من حائط، والحائط هو: البستان، قال: وأشرف الذي معي على الحائط، وبدأ ينظر ويتفحص ولم ير شيئاً، ولم يعرف من الذي يناديه، قال: فذكرت ذلك لأبي، وأنني كنت أمشي مع الغلام ونادانا إنسان من حائط ثم نظرنا فلم نر شيئاً، فقال أبي: لو شعرت أنك تلقى هذا لم أرسلك، يعني: أنك ستستمع هذا وسيعتريك ما يعتريك من الفزع ولكن إذا سمعت صوتاً، فناد بالصلاة، فإني سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الشيطان إذا نودي بالصلاة ولى وله حصاص).
إذاً: ورد (إذا تغولت الغيلان ينادي بالأذان) كما تقدم من رواية سعد بن أبي وقاص بسند فيه انقطاع، ومن رواية جابر بن عبد الله وفيه عنعنة الحسن ، ولكن صرح بالتحديث، ومن رواية أبي هريرة ، وفي إسناد الحديث عدي بن الفضل ، تفرد به عن سهيل ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي عليه الصلاة والسلام، لكن آخر الحديث ثابت في صحيح مسلم وغيره، وهذه الروايات المتقدمة معناها ثابت حق وارد في الأحاديث الصحيحة الكثيرة في الصحيحين وغيرهما.
فمن هذه الروايات ما ثبت في المسند والصحيحين وسنن النسائي وأبي داود ، ورواه عبد الرزاق في مصنفه، وابن أبي شيبة في مصنفه، وابن حبان في صحيحه، وابن خزيمة في صحيحه، والبيهقي في السنن الكبرى، والبغوي في شرح السنة، من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا نودي للصلاة) إذا أذن المؤذن (أدبر الشيطان وله ضراط -حتى لا يسمع التأذين- فإذا قضي النداء أقبل الشيطان) ليوسوس للناس (فإذا ثوب بالصلاة) أي: أقيمت الصلاة؛ لأن الإقامة أذان أيضاً (أدبر الشيطان) أي: هرب (حتى إذا قضي التثويب أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه ويقول: اذكر كذا، اذكر كذا لما لم يكن يذكر، حتى يظل الرجل فلا يدري كم صلى).
إذاً: إذا أذن المؤذن يدبر الشيطان وله ضراط، ولذلك إذا تغولت الغيلان واعترت الإنسان، وتراءت له في الصحراء وفي الفلوات، فليفزع إلى الأذان، وإلى ذكر الرحمن، وليتحصن بذي الجلال والإكرام.
المبحث الأول: ورد معنا الغيلان وأنها جمع غول، وأنها تتراءى للإنسان أحياناً وتريد إفزاعه، وقد ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام ما يشير إلى نفي الغول، فما المراد من ذلك النفي؟
ثبت في المسند، وصحيح مسلم ، من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار في الجزء الثالث، صفحة تسع وثلاثمائة من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، ولفظ حديث صحيح مسلم من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا عدوى، ولا طيرة، ولا غول، ولا صفر).
قوله: (لا عدوى)، أي: ليس شيء يعدي بنفسه، إنما المقدر لكل شيء هو رب العالمين سبحانه وتعالى، فلا يعدي شيء شيئاً، أي: بنفسه وذاته، وإذا وقعت العدوى فهذا بتقدير الله، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( فمن أعدى الأول؟! ).
فالمقصود من: (لا عدوى ولا طيرة) هو التشاؤم، أما قوله: (ولا غول)، مع قوله: (إذا تغولت الغيلان -أي: تراءت- لنا فلنفزع إلى الأذان)؟ فالذي يظهر والعلم عند الله جل وعلا أن المراد منه، كقوله هناك: (لا عدوى)، وهي وإن كانت ثابتة، لكنها ليست بنفسها إنما هي بتقدير الله، وهنا كأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إذا ظهرت لكم الغيلان وتراءى لكم الغول في أي مكان، فلا تظن أنه يملك من أمرك شيئاً، أو أنه يستطيع أن يفعل ما يريد بك، فهو أحقر من ذلك، لذلك قال أئمتنا: أحقر المخلوقات على الإطلاق الشيطان، قالوا: لأنه إن أطيع فما نفع، وإن عصي فما ضر، يعني: إن أطعته لا ينفعك، وإن عصيته لا يضرك، وليس بعد هذه الحقارة من حقارة، (فإذا تغولت الغيلان)، أي: فلا يعني أنه قد ملك الزمان، فإنه لا يفعل شيئاً، بل هو ذليل صاغر إذا ذكرت الله انخنس وتوارى، فكأنه قال: لا غول يؤذي إذا كنت تعتصم بالله جل وعلا، فانتبه ولا تبالي، فالغول لا يضر إلا من كان مبتعداً عن الله جل وعلا، وهذا هو الذي يتسلط عليه الغول، أما عباد الرحمن فلا سلطة للغول ولا للشيطان عليهم، فكأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: لا تفزعوا منه، فإذا تراءى الشيطان للإنسان فلا داعي للفزع، والجأ مباشرةً إلى الله جل وعلا، فإنه يكفيك شره وهو على كل شيء قدير.
وقوله: (ولا صفر) فسر بأمرين كل منهما يحتمله الحديث كما قرر ذلك النووي رحمه الله في الجزء الثالث عشر، صفحة خمس عشرة ومائتين:
المعنى الأول وهو المنقول عن راوي الحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال: الصفر دواب في البطن وهي الحشرات الداخلية، التي تكون في بطن الإنسان من ديدان، ودواب، تزيد عند الجوع، وكانت العرب تزعم أن الإنسان إذا جاع تتحرك الدواب التي فيه فتقتله، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا صفر)، هذا كله وهم، والإنسان إذا جاع لا سلطة لهذه الدواب والديدان عليه فلا يتوهم الإنسان ذلك فهي لا تؤذيه ولا تقتله.
أو أن المراد من صفر شهر صفر المعروف المعلوم، الذي يتشاءم الناس بحلوله فلا يزوجون فيه، ولا يسافرون، ولا غيرهما، وأحياناً كانت العرب تسلك فيه مسلك النسيء فتؤخره من شهر إلى شهر، وتجعل بدله شهراً آخراً مكانه؛ لأنهم سيفعلون شيئاً في صفر، ولا يمكن لهم أن يفعلوه؛ لأنهم يرون حصول الشؤم فيه، فينسئون الشهور ويؤخرون شهر صفر إلى غيره ويقولون: جاء مكان صفر شهر كذا، كشهر شعبان مثلاً، فيحل لنا أن نفعل فيه ما نريد.
فقوله: (لا صفر)، يعني: لا تشاؤم من هذا الشهر، ولا ينبغي أن نتشاءم بالأيام التي تقع في هذه الحياة فهي بتقدير رب الأرض والسموات.
إذاً: قوله: (لا غول)، ليس المراد بالنفي حقيقة الغول، أي: نفي الشيطان وأنه لا يتراءى للإنسان ولا يظهر، لكن المعنى اربط قلبك بالله جل وعلا فهي لا تضر ولا تنفع لا هي ولا غيرها.
وسأذكر الأمر الثاني في الموعظة القادمة.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر