وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فها نحن مع سورة النجم المكية، ومع هذه الآيات، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى * أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى * أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى * وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا * وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى * وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى * وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى [النجم:33-54].
لهذه الآيات سبب في نزولها, وهو: أن الوليد بن المغيرة من طغاة ورجال مكة سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن وهو يقرأ، فانجذب ورغب في الإسلام، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره، ففي الظاهر أسلم, فسمع به أحد شياطين المشركين وطغاتهم فأتاه وقال له: كيف تتخلى عن دين الأشياخ وتخرج عن ملتك وملة آبائك وتتبع هذا الرجل؟
فقال: إني أخاف عذاب النار إذا ما أسلمت، إذا بقيت على الشرك والكفر سأُعذّب في جهنم! فقال له هذا الطاغية: أعطني راتباً شهرياً أو سنوياً وأنا أقيك عذاب النار، أنا أعذب بدلك، فجعل له راتباً إما أسبوعياً أو شهرياً أو سنوياً على أنه يُعذّب بدله وهو لا يُعذّب.
فالله تعالى يقول: أَفَرَأَيْتَ [النجم:33] أيها الرسول الكريم الَّذِي تَوَلَّى [النجم:33] وهو الوليد بن المغيرة , وَأَعْطَى قَلِيلًا [النجم:34] من المال؛ لأنه رتبه وبعد ذلك مل وكل، قال: ما عندي، لا أخرج مالي كاملاً، وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى [النجم:34] وقف, كالذي يقف على كدية -صخرة- وهو يحفر.
أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى [النجم:35] هل هو يعرف أن هناك من ينقذ أخاه من نار جهنم؟ من أين له هذا العلم؟
وهنا يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به, أو ولد صالح يدعو له ), ومعنى هذا: أن هذا من عمله، فالوقف أليس هو الذي وقفه؟ الولد أليس هو الذي ولده ورباه وعلمه؟ العلم أليس هو الذي تعلمه وعلم غيره؟ هذا عائد إلى أنه من عمل الإنسان، فتبقى الآية على ما هي عليه: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39] فقط، الذي سعاه غيره لا يؤاخذ به ولا يعطى الأجر والمثوبة عليه.
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى [النجم:40] ويشاهده ويجزى به، كم صلى من ركعة, فهي محسوبة معدودة، كم كلمة قالها, فهي مكتوبة.
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى [النجم:40-41] سوف يريه الله أعماله في عرصات القيامة وسيجزيه بها الجزاء الكامل, ما هناك نقص أبداً، لا ينقصك حسنة ولا يزيد عليك سيئة.
ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى [النجم:41] الكامل التام، أي: كل من مات.
وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ [النجم:42] يا عبد الله الْمُنْتَهَى [النجم:42] ليس إلى غير الله أبداً، فلا بد إذاً من أن نشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن نعبد الله تعالى بما شرع لنا من أنواع العبادات وبين لنا رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا نزيد فيها ولا ننقص منها، ولا نقدمها عن وقتها ولا نؤخرها؛ لأنها أداة تزكية النفس وتطهيرها, أليس كذلك؟
هذه العبادات هي أداة تزكية النفس البشرية وتطهيرها، فإن أنت ما أديتها كما بينها الرسول صلى الله عليه وسلم فلن تنفعك, كالماء حين لا يطهر ثوبك ولا جسمك، فلا بد أن نؤدي هذه العبادات التي شرعها الله في كتابه وبينها الرسول صلى الله عليه وسلم كما فعلها الرسول صلى الله عليه وسلم، وبذلك تزكو نفوسنا وتطيب وتطهر، وقد علمتم حكم الله العام: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10], فمن يرد على الله؟ هذا حكم الله، أقسم عليه بأحد عشر يميناً: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس:1]، ثم قال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9] سواء كان أباً لنبي أ وابناً له، سواء كان في كذا أو كذا، من زكى نفسه أفلح، ومن دساها وأخبثها ولوثها بأوضار الشرك والكفر والمعاصي فهو هالك مع الهالكين.
وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى [النجم:42] ننتهي إلى من؟ إلى الله، نقف بين يديه في عرصات القيامة، ويجري الحساب والجزاء.
سبحان الله! كيف أضحك وكيف أبكي؟ هل نملك ذلك نحن؟ والله! لولا أن الله أراد هذا لما عرفنا كيف نضحك ولا كيف نبكي، فهل الحيوانات تبكي؟ هل الحيوانات تضحك؟ الجمل قالوا عنه: يبكي ولكن لا يضحك، والقرد قالوا عنه: يضحك ولكن لا يبكي، فلا يجمع بين الصفتين إلا الإنسان، من جعل هذا؟ اللات أو العزى أو مناة الثالثة الأخرى؟ ليست المخلوقات هي التي تفعل هذا، هذا فعل الله عز وجل.
وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى [النجم:45] هذا ذكر وهذا أنثى, زوجان وصنفان؛ لحكمة عالية وإرادة عظيمة؛ حتى تنتشر البشرية وتعبد الله عز وجل بذكره وشكره، فتكمل وتسعد أو تكفر بذكر الله وشكره فتشقى وتهلك أبد الآبدين.
وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى [النجم:45] من أين خلقهما؟ قال تعالى: مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى [النجم:46], إذا صب المني نبتت هذه النبتة، سواء البنت أو الولد, من نطفة إذا أمنيت وصبت في الرحم، نطفة المني قطرة، لكن إذا أمنيت وصبت في الرحم كان الولد.
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: تقرير ربوبية الله تعالى وإثبات ألوهيته بالبراهين والحجج التي لا ترد بحال ].
من هداية هذه الآيات التي تدارسناها: تقرير الربوبية لله والألوهية له ليس لسواه؛ إذ هو خالق كل شيء ومالك كل شيء، وبيده كل شيء وهو رب كل شيء، فكيف يُعبد معه غيره، والله الذي لا إله إلا هو لو تطير في السماء وتغوص في الماء تبحث عن وجود خالق مع الله فلن تجد إلا الله، إذاً: فتقرر أنه لا إله إلا الله، ويجب أن يُعبد بما شرع للناس أن يعبدوه به، وهذه العبادة ثمرتها هل تعود على الله؟ تعالى عن ذلك علواً كبيراً، هذه العبادة ثمرتها في الدنيا تعود على العبد كمالاً وطهارة وسعادة، وثمرتها في الآخرة الجنة دار الخلد والبقاء الأبدي في النعيم المقيم.
[ ثانياً: تقرير عدالة الله تعالى في حكمه وقضائه ].
إي والله, لا أعدل من الله، الله هو العادل والعدل منه، فلا ظلم ولا جور ولا حيف أبداً، فلم يظلم وهو أقوى الأقوياء وبيده كل شيء ويملك كل شيء؟ فحاشاه تعالى أن يجور ولا يعدل.
[ ثالثاً: مظاهر قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته ].
مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته في هذه الآيات التي تلوناها، هذه الآيات هي مظاهر تظهر فيها قدرة الله وحكمته وتدبيره في خلقه.
[ رابعاً: تقرير حقيقة علمية, وهي: أن العمل الذي يزكي النفس أو يدنسها هو ذاك الذي يباشره المرء بنفسه وباختياره وقصده ونيته ].
من هداية هذه الآيات: تقرير أن عمل الإنسان هو الذي يزكي نفسه أو يدسيها، عملك يا ابن آدم إن كان عملاً صالحاً زكى نفسك وطيبها، وإن كان عملاً فاسداً سيئاً فهو الذي يدسيها ويخبثها.
والعمل الصالح من يشرعه، من يقننه، من يبينه سوى الله؟ فالعبادات ضمها كتاب الله وحواها، وبينتها سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فهي موجودة في الكتاب والسنة، هذه العبادة بها تزكو النفس وتطيب وتطهر وتصبح أهلاً للسماء والنزول بها في رياض الصالحين، وإن عملت بالكفر والفسوق والفجور والشرك -والعياذ بالله تعالى- اسودت وأظلمت وتعفنت وكانت في أسفل سافلين والعياذ بالله تعالى.
[ خامساً: تحذير الظلمة والطغاة من أهل الكفر والشرك من أن يصيبهم ما أصاب غيرهم من الدمار والخسران ].
يحذرنا الله أن نأوي إلى المجرمين, إلى الفاسقين، إلى المشركين الظالمين، فإننا لا نعتز بهم ولا ننتصر ولا نراهم أبداً إن أمكننا ذلك، نبتعد عنهم ونكون مع الصالحين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر