إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [90]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من عقائد أهل السنة سلامة صدورهم للصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمة، ويعذرون من أخطأ في المسائل الاجتهادية ويعتقدون أن له أجراً على اجتهاده، بخلاف الرافضة المخالفين للعقل والنقل في كل مسالكهم.

    1.   

    لا يبغض الصحابة إلا منافق

    نسأل الله أن يرزقنا تحقيق الإيمان به، والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم وما جاء عنه، ونعوذ بالله من الشقاق، ونعوذ بالله من النفاق، ونعوذ بالله من سيئ الأخلاق، ورد عن بعض السلف أنه قال في النفاق: ما أمنه إلا منافق، وما خافه إلا مؤمن.

    من علامات الإيمان محبة الصحابة، ومن علامات النفاق بغض الصحابة، ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الأنصار: (لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق)، وورد أن علياً رضي الله عنه قال: (عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق)، ويقال كذلك في بقية الصحابة جميعاً، فحبهم إيمان، وبغضهم نفاق، كما ذكر ذلك الطحاوي رحمه الله.

    ذكر الشارح أن أول من دعا إلى مذهب الرافضة رجل من المنافقين يقال له ابن السوداء عبد الله بن سبأ ، وهو يهودي دخل في الإسلام متستراً، وأراد أن يفسد على المسلمين عقيدتهم ودينهم، وقلده -مع الأسف- هؤلاء الرافضة، الذين سموا أنفسهم شيعة، فهم أتباع ذلك المنافق، وسيرته مشهورة، وقد ذكر بعضها الشارح رحمه الله، وتوسع المؤرخون في ذكر نفاقه وما دعا إليه.

    نفاق الباطنية الذين يظهرون الرفض ويبطنون الكفر

    ورث الرافضة والسبئية من هم أشد كفراً ونفاقاً، وهم الباطنية أو القرامطة، فرقة ظهرت في آخر القرن الثالث، وتمكنت في أول القرن الرابع، وظهر لهم فساد كبير، ومقالات شنيعة، يقول فيهم بعض السلف: ظاهرهم الرفض، وباطنهم الكفر المحض.

    ويذكرون أن الذي حملهم على الدخول في الإسلام إخراج الأمة من عقيدتها وإفساد عقيدتها من الإيمان بالله والإيمان بالبعث وما أشبه ذلك، وعقائدهم كفرية، وقد تمكنوا مع الأسف في آخر القرن الثالث، في حدود سنة مائتين وسبعين إلى حدود سنة ثلاثمائة وثلاثين، فتمكنوا من البحرين والأحساء والقطيف والخليج كله، ووصلوا إلى حدود العراق، وأغاروا على العراق مراراً، وقتلوا وسبوا، وفي سنة ثلاثمائة وسبعة عشر قتلوا الحجاج، وقلعوا الحجر الأسود، وبقي عندهم إلى أن ضعف أمرهم في سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، ولا شك أنهم كفرة فجرة، فكيف تمكنوا؟

    رأوا أن أهل العراق وأهل إيران وأهل تلك البلاد قد تمكن من قلوبهم حب علي وأهل بيته، فقد كانوا على مذهب الرافضة، فدخلوا عليهم من هذا الجانب، وبدءوا بادعاء أنهم رسل للمهدي المنتظر، الذي هو عند الرافضة محمد بن الحسن العسكري ، الذي دخل سرداب سامراء، ولا يزالون ينتظرونه، فهؤلاء القرامطة ادعوا أنهم رسله، وأنهم كمقدمة بين يديه، وأنه سيخرج قريباً، فقالوا: نحن نؤلف من يكون عوناً له، حتى إذا خرج يكون له أعواناً، حتى يقضي على الدولة العباسية، وعلى دولة كذا وكذا، حتى لا يبقى أحد ضده، هذا تفكيرهم، فانخدع بهم خلق كثير، وفعلوا الأفاعيل، وظهر للناس فسقهم وكفرهم، فذكر المؤرخون أنهم حجوا مرة، ولما كانوا في أثناء الطريق على حدود الضريبة التي هي محرم ميقات أهل العراق أو قبل ذلك بقليل؛ اتفقوا بحجاج العراق، فقتلوا الحجاج، وكان أميرهم من بني العباس، ولم يبقوا منهم إلا من شذ، قتلوهم وأخذوا ما معهم من النساء والرواحل، وهرب من سلم منهم، والذين هربوا راجلين مات أغلبهم ظمأً وجهداً، فهذه من أفعال هؤلاء المنافقين الباطنية الذين ورثتهم في القطيف وما حوله، وقد سماهم أهل السنة بالباطنية؛ لأنهم يبطنون الكفر، ويظهرون أنهم يحبون أهل البيت، وأنهم يوالونهم، وأنهم أتباع علي ، يقولون لدعاتهم: ادعوا الناس إلى محبة الآل، ادعوهم إلى محبة أهل البيت، ادعوهم إلى محبة آل المصطفى، فإذا أجابوكم فقولوا لهم: لا نقبل منكم حتى تتبرءوا من بني العباس، وحتى تتبرءوا من الخلفاء، وحتى تتبرءوا من الصحابة، وحتى تتبرءوا من بني أمية، ومن كذا ومن كذا، فإذا تبرءوا منهم، واعتقدوا كفرهم وخروجهم من الملة، عند ذلك يقدحون أيضاً في إمامهم الذي يتبعونه وهو علي ، ويذكرون لهم عيوبه ومثالبه، وما نقم عليه، فعند ذلك يبقون مذبذبين، لا إلى المؤمنين ولا إلى الشيعة، لا سنيين ولا شيعة، فيكونون منهم، يبطنون ما يبطنون، فغروا الخلق الكثير بهذه الحيلة.

    من مبادئ الرافضة النفاق ويسمونه: التقية

    نحلة الشيعة مبناها على النفاق، وقد اشتهر أن الرافضة من مبادئهم النفاق الذي يسمونه التقية، ويقولون: من لا تقية له لا دين له، فتجدهم يتبرءون من الرفض، ويشتمون الرافضة إذا كانوا مع أهل السنة، فيقولون: كيف تزعمون أننا نبغض الصحابة؟! بل نحن نحبهم، نحب أبا بكر ، ونحب عمر ، والرسول تزوج بنت أبي بكر ، وتزوج بنت عمر ، ولكن يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14]، أليس هذا هو النفاق؟! وقد اشتهر هذا عنهم.

    كلمتُ أنا كثيراً من شيعة البحرين فقلت لهم: إنكم تسبون الصحابة، ولكن تبرءوا، وقالوا: لا نقول بذلك، وأخذوا يترضون عن الشيخين، ويقولون: أليس كذا وكذا؟ ولكن عندما جاءهم بعض من أخفى نفسه، وشتم في ظاهر الأمر الشيخين، وافقوه على ذلك، وأخذوا يذكرون مثالب وعيوب الصحابة رضي الله عنهم، إذاً: هذا هو النفاق، فالذين يحبون الصحابة من قلوبهم بريئون من النفاق، والذين يبغضونهم أو يبغضون أحداً منهم لم يسلموا من النفاق.

    1.   

    محبة أهل السنة لعلماء السلف

    قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه:

    [وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين، أهل الخير والأثر وأهل الفقه والنظر، لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل.

    قال الله تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115]، فيجب على كل مسلم بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين كما نطق به القرآن، خصوصاً الذين هم ورثة الأنبياء، الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم يهتدى بهم في ظلمات البر والبحر، وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم؛ إذ كل أمة قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم علماؤها شرارها إلا المسلمين فإن علماءهم خيارهم، فإنهم خلفاء الرسول من أمته، والمحيون لما مات من سنته، فبهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، وكلهم متفقون اتفاقاً يقيناً على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه، فلا بد له في تركه من عذر، وجماع الأعذار ثلاثة أصناف:

    أحدها: عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله.

    الثاني: عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول.

    والثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ.

    فلهم الفضل علينا والمنة بالسبق، وتبليغ ما أرسل به الرسول صلى الله عليه وسلم إلينا، وإيضاح ما كان منه يخفى علينا، فرضي الله عنهم وأرضاهم: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10]].

    هذا الكلام يتعلق بأئمة المسلمين، وعلماء الدين، وعباد الأمة، وهداتها، الذين هداهم الله، وسددهم، وأرشدهم، وبصرهم بالحق، الذين ورثوا النبوة، وحملوا العلم، ونقلوه عمن قبلهم، ولقنوه وعلموه لمن بعدهم، قولاً وعملاً.

    فضل أهل القرون الأولى

    قد شهد النبي صلى الله عليه وسلم لسلف الأمة بالخير وبالفضل فقال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، وروي عنه أنه قال لأصحابه: (أنتم خير من أبنائكم، وأبناؤكم خير من أبنائهم)، فهذه شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم لصدر هذه الأمة بالخير، ولا شك أنهم يتفاوتون؛ وذلك لأن فيهم العلماء، وفيهم العباد، ولا شك أن العلماء أفضل من العباد، ففي حديث أبي الدرداء المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب)، ويقول بعضهم: لعالم أشد على الشيطان من ألف عابد، فالعلماء هم ورثة الأنبياء، وعلماء هذه الأمة الذين تحملوا العلم، نشهد أنهم لم يكتموه، وأنهم عملوا به، وأنهم طبقوه، فمن الصحابة علماء أجلاء، عاملون بما قالوا، ومن تلامذتهم علماء مشهود لهم بالخير كالفقهاء السبعة الذين نظمهم بعض العلماء بقوله:

    إذا قيل من في الدين سبعة أبحر رواياتهم ليست عن العلم خارجة

    فقل: هم عبيد الله عروة قاسم سعيد أبو بكر سليمان خارجة

    الأول : عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ابن أخي عبد الله بن مسعود الصحابي.

    الثاني: عروة بن الزبير بن العوام خالته عائشة رضي الله عنها.

    الثالث: القاسم بن محمد بن أبي بكر عمته عائشة رضي الله عنها.

    الرابع: سعيد بن المسيب بن حزن العالم المشهور التابعي العابد، وهو من أفاضل قريش.

    الخامس: أبو بكر بن الحارث بن هشام من بني مخزوم من قريش.

    السادس: سليمان بن يسار مولى مملوك، ولكن منّ الله عليه بالعلم.

    السابع: خارجة بن زيد بن ثابت .

    هؤلاء من أجلاء علماء التابعين، ولهم من يروي عنهم، اشتهروا بالعلم، ثم اشتهر بعدهم من صغار التابعين من لهم مكانة في العلم ومكانة في الدين، فمن علماء المدينة:

    محمد بن مسلم الزهري المعروف بـابن شهاب .

    وربيعة بن عبد الرحمن ويعرف بـربيعة الرأي .

    ومن علماء مكة:

    عطاء بن أبي رباح مولى عتيق، ولكن منّ الله تعالى عليه بالعلم.

    وكذلك أيضاً في سائر البلاد، ورثهم أيضاً تلامذتهم، مثل: عبد الملك بن جريج وشعبة بن الحجاج وسفيان الثوري والأئمة الأربعة المشهورون، المشهود لهم بالإمامة: في العراق أبو حنيفة ، وفي المدينة مالك ، وفي بغداد الإمام أحمد ، وفي مكة ثم في مصر الإمام الشافعي ، وفي مصر أيضاً الإمام الليث بن سعد ، وفي الشام الإمام الأوزاعي، وأتباعهم وأشباههم.

    فنقول: إن هؤلاء الأئمة في الدين، لا يقدح فيهم إلا من هو ضال مضل، وقد شهد لهم أتباعهم، وكذلك شهدت لهم الأمة، بأنهم علماء هذه الأمة، حملهم الله العلم، ولما تحملوه لم يبدلوا ولم يبتدعوا ولم يغيروا، بل كانوا على السنة، محاربين للبدعة، كلما ظهرت بدعة أنكروها، وأنكروا على أهلها، وشنعوا بهم وحاربوهم وطردوهم، والبدعة في زمانهم مندحرة.

    مذهب السلف في العقيدة واحد

    ابن المبارك عالم من علماء خراسان، وكان في الري المعروف الآن في إيران، قيل له: بماذا نعرف ربنا؟ فقال: بأنه على عرشه، فوق سماواته، بائن من خلقه. ولا شك أن هذا تصريح بعقيدة أهل السنة في زمانه، ورداً على المبتدعة، لأنه ظهر في زمانه كثير من المبتدعين، مثل: بشر بن غياث المريسي ومحمد بن شجاع الثلجي وأحمد بن أبي دؤاد المبتدع المشهور، وأشباههم، فخافوا على الأمة أن يقلدوهم، أو يكونوا مثلهم في الضلال؛ فأظهروا السنة، وأظهروا الأحاديث، وأظهروا الاستدلال بها، وبينوا المعتقد السليم الصحيح، حتى لا يبقى لمسلم شبهة يتبع بها هؤلاء المبتدعة، وأكثروا من الرواية للأحاديث التي تتعلق بالعقيدة السلفية السليمة الصحيحة؛ لئلا ينخدع بعض من يموّه له أولئك المبتدعة بأنهم على حق وعلى صواب، فهدى الله بهم من أراد هدايته، وسلمت عقيدتهم وعقيدة أتباعهم، فأقوالهم في العقائد واحدة، فهم متفقون في العقيدة، لم يتنوع مذهبهم فيها، لا يقال: مذهب أحمد في العقيدة كذا، ومذهب أبي حنيفة كذا، ولما كتب شيخ الإسلام ابن تيمية عقيدته الواسطية، وحصل جدال فيها مع أهل زمانه، وكان السلطان حاضراً المناظرة بينهم، فأراد أن يفصل بينهم فقال: إنه على مذهب أحمد، ومذهب أحمد معتبر ومعترف به، فاتركوه على مذهبه، وأنتم على مذهب أئمتكم شافعية أو حنفية أو نحو ذلك، فقال شيخ الإسلام رحمه الله: معاذ الله أن يكون للإمام أحمد مذهب خاص في باب العقيدة، بل هذه العقيدة مذهب الأئمة كلهم، ثم صنف رسالة أخرى تسمى الفتوى الحموية، وتوسع فيها، وذكر أنها قول الأئمة كلهم، فنقل عن أبي حنيفة من كتابه (الفقه الأكبر) الموجود الآن، ونقل عن الشافعي ، ونقل عن مالك ، ونقل عن الليث ، ونقل عن الثوري ، ونقل عن ابن عيينة ، ونقل عن ابن أبي ذئب ، ونقل عن الأوزاعي ، ونقل عن فلان وفلان من أئمة السلف، ثم نقل عن أتباعهم؛ فبين أنهم متفقون في باب العقيدة، لا يوجد بينهم أي اختلاف، أما المذاهب التي تفاوتت، فإنما هي في الفروع الاجتهادية، الفروع التي هي الأعمال.

    ذم التعصب للأئمة في المسائل الاجتهادية

    هناك أتباع للأئمة في الفروع اجتهدوا كما اجتهد الشافعي واتبعوه، وهناك أتباع لـأبي حنيفة اتبعوه، وأتباع لـمالك اتبعوه، وأتباع للأوزاعي ، وأتباع للثوري ، وأتباع لليث ، وأشباههم، ولكن هذا فيما يتعلق بالفروع التي طريقها الاجتهاد، وإذا قلت: لماذا حصل التفاوت؟ ولماذا حصل التمذهب، حتى أدى ذلك إلى التعصب، فنحن نرى أن الحنفية يتعصبون لمذهبهم، وأن الشافعية كذلك، وكذا الحنابلة والمالكية ونحوهم؟ فلماذا هذا التعصب وهذا التمذهب؟ أليس الدليل واحداً؟ أليس القصد والهدف واحداً؟

    نقول: نعم، الهدف واحد، ولكن هذه الأشياء حدثت بسبب الاجتهاد، فهؤلاء اختاروا قولاً، وصار لهم مشايخ، ولهم كتب يرجعون إليها، فصار بعضهم يتمحل في رد الأدلة التي يستدل بها خصومهم، ويتعصب لمذهبه ومذهب إمامه، ونحن ننكر عليهم هذا التعصب، ورد الأحاديث التي هي صريحة في مخالفة مذهبهم، وهذا التعصب حدث للمتأخرين، ولعل بعضكم قرأ في كتاب البيهقي السنن الكبرى التي طبع في ذيلها رد عليها اسمه: الجوهر النقي في الرد على البيهقي ، فـالبيهقي رحمه الله عالم جليل محدث حافظ، ولكنه شافعي المذهب، فإذا جاء إلى المسألة التي فيها المذهب الشافعي استوفى الأحاديث التي فيها، ولا يزيد على الاستيفاء، وإذا خالفه مذهب أبي حنيفة ، فإن صاحب الجوهر النقي يتعصب تعصباً شديداً، ويرد تلك الأحاديث، ونحن نعذر الإمام أبا حنيفة في مخالفته لتلك الأحاديث أو تلك الأدلة، ونقول: إما أنها لم تبلغه، وإما أنها لم تثبت عنده لما بلغته، ولم يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها، وإما أنها بلغته ولكن ثبت عنده ما ينسخها أو ما يخالفها، وإن لم يثبت ذلك عند غيره، فهو معذور، ولكن لا يعذر أتباعه الذين تعصبوا له، وتشددوا في نصرة مذهبه، بل ردوا الأحاديث كما فعله صاحب الجوهر النقي هذا، وهو: ابن التركماني ، وهو متأخر في حدود القرن الثامن.

    أما المقتصدون منهم فإنهم لا يتعصبون، فمثلاً صاحب نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية حنفي يقال له: الزيلعي ، وهو عالم بالحديث منصف، يذكر أحاديثهم التي تدل على مذهب الحنفية، ثم يذكر أحاديث من خالفهم، ولا يتشدد في ردها ولا في تعقبها، وهذا بلا شك من الإنصاف.

    وبكل حال نقول: إن الأئمة والعلماء من هذه الأمة هم خير هذه الأمة، وفضلهم ظاهر؛ وذلك لأنهم حفظوا على الأمة دينها، ومن نصحهم للأمة أنهم دونوا ما حفظوه وكتبوه، فكتبوا فقههم وأحكامهم، وكتبوا الأحاديث التي بلغتهم، وبينوا وجهتهم واجتهاداتهم، وذلك كله نصح وشفقة للأمة، فرضي الله عنهم وجزاهم عن هذه الأمة خيراً، فهم أفضل هذه الأمة، فأفضل هذه الأمة علماؤها، وقد ذكر الله عن الأمم السابقة أن علماءهم فيهم المخالفة الشديدة، فقال تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31] الرهبان: هم العباد، والأحبار: هم العلماء، ويقول الله تعالى في أهل الكتاب: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:78] فذمهم بأنهم يكذبون ويتقولون، وذمهم بأنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، وأنهم كتموا ما أنزل الله، وذمهم بقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [آل عمران:187]، أما هذه الأمة فإن علماءها نصحوا لأتباعهم، ونصحوا للأمة، وبينوا لهم طرق الصواب، فجزاهم الله عن الأمة خيراً، ونحن نقول كما أمرنا الله: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10].

    1.   

    الرد على من فضل الأولياء على الأنبياء

    قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ولا نفضل أحداً من الأولياء على أحد من الأنبياء عليهم السلام، ونقول: نبي واحد أفضل من جميع الأولياء).

    يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على الاتحادية وجهلة المتصوفة، وإلا فأهل الاستقامة يوصون بمتابعة العلم ومتابعة الشرع، فقد أوجب الله على الخلق كلهم متابعة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ.. [النساء:64] إلى أن قال: (..وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، وقال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31].

    قال أبو عثمان النيسابوري : من أمّر السنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة.

    وقال بعضهم: ما ترك بعضهم شيئاً من السنة إلا لكبر في نفسه، والأمر كما قال؛ فإنه إذا لم يكن متبعاً للأمر الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعمل بإرادة نفسه فيكون متبعاً لهواه بغير هدى من الله، وهذا غش النفس، وهو من الكبر، فإنه شبيه بقول الذين قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124]، وكثير من هؤلاء يظن أنه يصل برياسته واجتهاده في العبادة وتصفية نفسه إلى ما وصلت إليه الأنبياء من غير اتباع لطريقتهم، ومنهم من يظن أنه قد صار أفضل من الأنبياء، ومنهم من يقول: إن الأنبياء والرسل إنما يأخذون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء، ويدعي لنفسه أنه خاتم الأولياء، ويكون ذلك العلم هو حقيقة قول فرعون: وهو أن هذا الوجود المشهود واجب بنفسه ليس له صانع مباين له، لكن هذا يقول: هو الله، وفرعون أظهر الإنكار بالكلية، لكن كان فرعون في الباطن أعرف بالله منهم، فإنه كان مثبتاً للصانع، وهؤلاء ظنوا أن الوجود المخلوق هو الوجود الخالق كـابن عربي وأمثاله، وهو لما رأى أن الشرع الظاهر لا سبيل إلى تغييره قال: النبوة ختمت لكن الولاية لم تختم! وادعى من الولاية ما هو أعظم من النبوة، وما يكون للأنبياء والمرسلين، وأن الأنبياء مستفيدون منها، كما قال:

    مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي

    وهذا قلب للشريعة، فإن الولاية ثابتة للمؤمنين المتقين، كما قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63]، والنبوة أخص من الولاية، والرسالة أخص من النبوة، كما تقدم التنبيه على ذلك].

    ضلال الصوفية

    هذا الكلام في الرد على غلاة الصوفية من الحلولية والاتحادية، وهم مبتدعة نشأ أولهم في آخر القرون المفضلة، ثم توسعوا وانتشروا وكثروا في أواسط القرون، وصار لهم مذاهب ونحل، ولا يزال لهم أتباع يدعون إلى طرقهم مع الأسف، ويدعون إلى مذاهبهم، فمن مذاهبهم طريقة النقشبندية، وطريقة الشاذلية، وهي طرق مشتهرة، لها دعاة يدعون إليها، وهناك طرق أخرى لها أتباع، وأشهرها طريقة التيجانية، فهؤلاء ماذا نسميهم؟

    هم يسمون أنفسهم صوفية، ولهم أتباع، فالذين رئيسهم النقشبندي ينتسبون إليه، وهكذا أتباع الشاذلي ، وأتباع عبد القادر الجيلاني ، وأتباع الاتحادي ابن عربي ، وأشباههم، والكلام عليهم قد استوفاه الأئمة المتقدمون والمتأخرون، ومن أوسع من رأيته تكلم على طريقة الصوفية من المتقدمين ابن الجوزي في كتابه الذي سماه: تلبيس إبليس، فإنه لما تكلم على الصوفية جعل فيهم نحو نصف الكتاب أو قريباً منه، مع أن الكتاب في ذم كل من عنده بدعة أو نحلة في زمانه، ولكن حمل على الصوفية؛ ولعله حمل عليهم لكثرتهم في زمانه، وذكر أشياء كثيرة منتقدة من طرقهم، وفي زماننا كتب فيهم عالم مصري يقال له: عبد الرحمن الوكيل كتابين: الكتاب الأول بعنوان: صوفيات، والكتاب الثاني بعنوان: هذه هي الصوفية، وقد فضح مناهجهم وطرقهم، ولعله شاهد عبادتهم في بلاده، فإنهم منتشرون في مصر والسودان، وفي أكثر البلاد الإفريقية متمكنة طرقهم، ولهم مبادئ، ويمدحون أنفسهم، ويمدحون طريقتهم، ويدعون أنهم الذين حفظوا الإسلام، والذين كافحوا ونافحوا عنه، ويدعون أنهم الذين قاموا به أتم قيام، ودعوا إليه وبلغوه، وأنه هدى الله بهم من أراد هدايته، وأنقذ بهم من أراد به خيراً، هكذا يعبرون، ومع الأسف قد انتشروا في هذه البلاد، فيوجدون بكثرة في الحجاز، ويوجدون في الشرقية، أما في وسط نجد فإنهم قلة والحمد لله، لكن لأولئك من يؤيدهم ويتبعهم وإن لم يكن على نحلتهم.

    حدثت الصوفية في أول الأمر في نصف القرن الثاني، وكثروا في القرن الثالث، ولكن الصوفية الذين في القرن الثاني والثالث لم يكن عندهم بدع، وسماهم السلف رحمهم الله صوفية؛ لأنهم رضوا بالتخشن وبالتقشف وبالزهد، وصاروا يرتدون لباس الصوف الخشنة، أي: اللباس الذي ينتج من صوف الضأن، فكانوا يلبسونه مع خشونته، كل ذلك من باب التقشف والزهد، واشتهر منهم علماء وعبّاد في صدر هذه الأمة، فمنهم: إبراهيم الخواص وهو عابد مشهور متمسك، وإبراهيم بن أدهم ، الذي له حكايات وله وقائع مشهورة، والجنيد بن محمد وبشر الحافي ومعروف الكرخي وأشباههم، فهؤلاء كانوا يسمون صوفية في زمانهم، ولكن ليسوا على معتقد الصوفية المتأخرين، بل هم زهاد، واسمهم في الأصل زهاد وعباد، وهم مبتعدون عن شهوات الدنيا وزينتها، مقبلون على العبادة، لا يريدون الدنيا، يقنعون منها باليسير، ذكروا أن بعضهم سمي إبراهيم الخواص ؛ لأنه كان يأكل من كسب يده، يتتبع ما يلقيه الناس من الخوص، ثم ينسجه ويبيع منه بقدر ما يقتاته، وبقية وقته للعبادة، فجلّ أوقاتهم عبادة، فهؤلاء ليسوا مذمومين، خلافاً لبعض المتأخرين الذين أدخلوا كل من أطلق عليه صوفي في الذم، منهم علماء معتبرون دخل عليهم شيء من البدع المتأخرة، ولعلكم قرأتم للحارث المحاسبي شيئاً من رسائله التي تتعلق بالتصوف ومحاسبة النفس وما أشبهها، والحارث هذا معه علم ومعه زهد، ولكن دخل عليه بسبب قلة علمه شيء من بدع المتصوفة ونحوهم، فصار معه بدع، ولكن لم تصل بدعته إلى بدعة المتصوفة المتأخرين، فلأجل ذلك أُنكر عليه بعض الأشياء، ولكنها قليلة، وهو على طريقة الصوفية المتقدمين الذين هم أهل الزهد وأهل التقلل.

    وفي آخر أو في وسط القرن الثالث ظهر منهم بعض المشتهرين بالعبادة مثل الشبلي وهو عابد من العباد، وله أشعار منقولة في الزهديات، ولكن حفظ عليه بعض الأشياء انتقدت عليه، ومنهم أبو يزيد البسطامي وقد نقل عنه بعض الأشياء التي فيها شيء مما يفهم منه أنه على طريقة أهل الاتحاد، فقد نقل عنه ابن الجوزي في تلبيس إبليس أشياء مستنكرة، منها أنه سُمع يقول:

    سبحاني سبحاني ما أعظم شاني

    ومنها أنه كان مرة يمشي، فالتفت إلى أناس وراءه فقال لهم: إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدون! ومقالات نحو هذه، وبعضهم حملها على أنه زاد به الوجدان فصار إلى هذه الحال، وتأولها بعضهم بأنه يحكي عن الله، أو ما أشبه ذلك، ولكن أكثر من أنكر عليه رجل في آخر القرن الثالث يسمى الحسين الحلاج فيحكون عنه عجائب، ويحكون عنه وقائع عظيمة بشعة شنيعة وقد قتل في سنة ثلاثمائة وتسعة، ومن قرأ ترجمته في تاريخ ابن كثير يرى عجائب مما نقل عنه، حيل كان يحتال بها ويوهم الناس أنه ولي، وأنه.. وأنه..، وأجمع أهل زمانه على أنه محكوم بكفره، فقتل لذلك، ولو أنكر قتله من أنكره. فهذا أساس مبدأ الصوفية.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756386343