إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [75]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لم يزل المسلمون يدعون لموتاهم ويتصدقون عنهم، ويعملون أعمال البر المختلفة يقصدون بها وصول الثواب إليهم، وهم في ذلك مستندون إلى الأدلة الصحيحة الصريحة من الكتاب والسنة.

    1.   

    عظيم فضل الله علينا يوجب علينا شكره

    أحمد الله سبحانه على ما أولانا من النعم ودفع من النقم، نسأله سبحانه أن يوزعنا شكر نعمه التي أنعمها علينا وعلى والدينا، وأن يعاملنا بفضله، ولا يعاملنا بعدله، فإنه سبحانه هو المنعم بكل أنواع الإنعام، فهو الذي أعاننا على ذكره وشكره، وهو الذي هدانا لطاعته وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43].

    فالهداية فضل منه ونعمة، وكذلك الإعطاء والمنة والإلهام.. كل ذلك محض فضله على عباده؛ حتى عباداتهم هي إلهام منه وتوفيق، فهو الذي أعانهم ووفقهم وسددهم وقواهم، وجعلهم مطيعين له، ولو شاء لأضلهم جميعاً، ولو شاء لهداهم جميعاً، وله المشيئة النافذة، وله الحكمة البالغة، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] ونعمه على عباده لا تحصى، وأياديه عليهم لا تستقصى، فإذا مسهم بالسرور فهو محض فضله، وإذا مسهم بضر فهو ابتلاء منه وامتحان، وفي الصبر على ذلك أجر عظيم، ولذلك يقول بعضهم في بيان الشكر:

    إذا كان شكري نعمة الله نعمة علي له في مثلها يجب الشكر

    فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله وإن طالت الأيام واتسع العمر

    إذا مس بالسراء عم سرورها وإن مس بالضراء يعقبها الأجر

    فالعبد إذا قال: الحمد لله، فهذه نعمة ألهمه الله وأعانه عليها، فهذه النعمة التي هي الإلهام تحتاج إلى نعمة أخرى يشكرها بها، فإذا قال: أشكر الله، أو: الشكر لله، فهذه نعمة أخرى تستدعي أن يشكر الله عليها، فإذا قال: رب! لك الحمد، فهذه نعمة أخرى تستدعي أن يشكرها، وكذلك إذا ذكر الله وكبره وسبحه واستغفره، كل ذلك نعم منه، وكل نعمة فلها حق أن تشكر ولا تكفر، ولأجل ذلك كانت له النعمة على عباده، وله الفضل عليهم، كما مر بنا أنه لو عذب أهل سماواته لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم؛ وذلك لأنه لا يظلم أحداً، فلا يعذبهم إلا على تقصير منهم في شكر ربهم، ولو حاسبهم على أعمالهم ولو كانت أمثال الجبال، لم تقاوم أصغر نعمة عليهم، سواء كانت نعمة حسية كأسماعهم وعقولهم وألسنتهم وقواتهم، أو نعماً معنوية: كهدايتهم وتعليمهم وفطرتهم الحسنة.. ونحو ذلك، فإنه لو حاسبهم على هذا العطاء لعذبهم، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [الانشقاق:8]: (إن ذلك حساب العرض)، أن تعرض عليهم أعمالهم دون أن يناقشوا فيها؛ ولذلك يقول: (إن من نوقش الحساب عُذِّب)، أي: من ناقشه الله الحساب على دقيق النعم وجليلها، وعلى دقيق الأعمال وجليلها، وصغيرها وكبيرها، فإنها وإن كانت حسناته أمثال الجبال لا تقوم أمام أصغر نعم الله عز وجل عليه، فإذاً لابد إذا حاسبهم حساباً شديداً عسيراً أن يعذبهم.

    ومر بنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا؛ إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل)، هذا وهو سيد الخلق وسيد العاملين، الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، والذي كان يقوم الليل حتى تفطرت قدماه، ويقول: (أفلا أكون عبداً شكوراً) ، ومع ذلك أخبر أنه بحاجة إلى رحمة الله!

    إذاً: فنحن أولى بأن نحتقر أعمالنا، نحن أولى بأن نظهر فقرنا وفاقتنا، نحن أولى بأن نصغر أنفسنا، نحن أولى بأن نظهر الضعف.. نظهر الفقر.. نظهر الفاقة.. نظهر العجز.. نظهر الذل الذي نحتاج معه إلى التقوية، والذنوب التي نحتاج معها إلى المغفرة، والتقصير الذي نحتاج معه إلى العفو، فإذا لم يتلاف عباده بعفوه فإنهم هالكون، ولذلك لا ينبغي لنا أن نزكي أنفسنا، ونمدحها بكثرة أعمالنا، ونقول: نحن أكثر عملاً، نحن أكثر حسنات من هذا وهذا، نحن الذين عملوا وعملوا، فإن هذه التزكية قد تكون سبباً لحبوط العمل وبطلان ثوابه، ولأجل ذلك يقول الله تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ [النجم:32] أي: لا تمدحوها وتفتخروا بأعمالكم، بل الله يزكي من يشاء، فهو الذي يمدح من يشاء أو من يستحق المدح، وعلى هذا فليحتقر المسلم عمله حتى يحصل له مضاعفة الله له، وليطلب من ربه المغفرة، وليدخل عليه من باب الذل والافتقار، وربنا سبحانه عند المنكسرة قلوبهم من أجله.

    1.   

    مسألة: انتفاع الأموات بسعي الأحياء

    قال المؤلف رحمه الله تعالى:

    [قوله: (وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات).

    اتفق أهل السنة أن الأموات ينتفعون من سعي الأحياء بأمرين:

    أحدهما: ما تسبب إليه الميت في حياته.

    والثاني: دعاء المسلمين واستغفارهم له.

    والصدقة والحج على نزاع فيما يصل إليه من ثواب الحج، فعن محمد بن الحسن : أنه إنما يصل إلى الميت ثواب النفقة، والحج للحاج، وعند عامة العلماء: ثواب الحج للمحجوج عنه، وهو الصحيح.

    واختلف في العبادات البدنية: كالصوم والصلاة وقراءة القرآن والذكر:

    فذهب أبو حنيفة وأحمد وجمهور السلف إلى وصولها.

    والمشهور من مذهب الشافعي ومالك عدم وصولها.

    وذهب بعض أهل البدع من أهل الكلام إلى عدم وصول شيء البتة، لا الدعاء ولا غيره. وقولهم مردود بالكتاب والسنة، لكنهم استدلوا بالمتشابه من قوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39]، وقوله: وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [يس:54]، وقوله: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة:286].

    وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به) ، فأخبر أنه إنما ينتفع بما كان تسبب فيه في الحياة، وما لم يكن تسبب فيه في الحياة فهو منقطع عنه.

    واستدل المقتصرون على وصول العبادات التي لا تدخلها النيابة بحال، كالإسلام والصلاة والصوم وقراءة القرآن، وأنه يختص ثوابها بفاعله لا يتعداه، كما أنه في الحياة لا يفعله أحد عن أحد، ولا ينوب فيه عن فاعله غيره- بما روى النسائي بسنده، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مداً من حنطة)].

    هذا موضوع آخر، بعدما انتهى الكلام على ما يتعلق بالقضاء والقدر وما أشبهه، أتى الطحاوي رحمه الله بهذه العبارة رداً على بعض المبتدعة، في مسألة: هل ينتفع الأموات بشيء من أعمال الأحياء أم لا؟

    صحيح أن الأموات قد طويت صحف أعمالهم، وقد ختم عليها، فلا يستطيعون زيادة في الحسنات، ولا نقصاً من السيئات؛ وذلك لأنهم أنهوا حياتهم، ودخلوا في عالم البرزخ الذي هو أول منازل الآخرة، فكأنه ختم على أعمالهم، ولكن الأحياء قد يهدون إليهم بعض الأعمال.

    انتفاع الأموات بدعاء الأحياء وبما تسببوا به من أعمال

    هذه الأعمال التي يهديها إليهم الأحياء إما أن تكون أعمالاً بدنية، أو أعمالاً قولية، أو أعمالاً مالية، فالأعمال البدنية: كالصلاة، والصوم، والطواف.. وما أشبهها، والأعمال المالية: كالصدقات، والنفقات، والأضاحي.. وما أشبهها، والأعمال القولية: كالدعاء، والذكر، والاستغفار.. وما أشبهها.

    ولا شك أنهم ينتفعون بدعاء الأحياء لهم، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [الحشر:10]، نحن ندعو بهذا للذين سبقونا بالإيمان ولو لم نعرفهم، ولو كان بيننا وبينهم مائة سنة أو مئات أو ألوف السنين، فدل ذلك على أنه مشروع، وأنه ينفعهم، وسيأتينا أنهم ينتفعون بالصلاة عليهم، فالصلاة على الميت هي أول شيء يزود به الميت، ولو لم يكن له أجر ونفع فيها لم تشرع، إذاً هذا من الذي ينتفعون به، وهو الدعاء لهم.

    كذلك الأعمال التي كانوا سبباً فيها، يبقى لهم أجرها، فإذا تصدق أحدهم بصدقة، واستمرت تلك الصدقة، فإن الأجر مستمر، وذلك مثل: الأحباس والأوقاف التي ينتفع بها، فهذه يصل أجرهم إليهم، وهكذا البيوت التي ينتفع بها كالمساجد، فإذا بنى مسجداً فإنه يأتيه أجره ولو بعد موته بمائة سنة أو أكثر، ما دام يصلى في هذا المسجد، وهكذا إذا بنى مدرسة لتحفيظ القرآن، أو لطلب العلم النافع؛ فإن ذلك -أيضاً- يجري عليه أجره، وهو معنى قوله: (صدقة جارية).

    وكذلك غلات الأوقاف، فإذا جعل غلة هذا الوقف في صدقات أو في جهاد -يعني: في أسلحة للمجاهدين ونحوهم- كان ذلك من النفقة النافعة التي يأتي إليه أجرها بعد موته، وكذلك إذا كان قد ورث علماً ينتفع به، إذا ألف كتباً كتبها، وجعل فيها علوماً نافعة، فإنه ما دام يُقرأ فيها، ويدعى لمن ألفها وكتبها، فلا شك أن ذلك مما يستمر أجره عليها.

    وهكذا إذا نشر علماً: فكتب أو طبع مصاحف ونشرها، أو كتب علم طبعها وأنفق عليها ونشرها، وصارن ينتفع بها وتقرأ، ويدعى لمن نشرها، لا شك أن ذلك من النفقات المالية التي يستمر أجرها له بعد موته.

    وكذلك كل إنسان كان متسبباً في عمل من الأعمال النافعة، ذكروا من ذلك الأحباس التي في الطرق ينتفع بها، كالمياه التي يشرب منها أبناء السبيل ونحوهم، وحفر الآبار التي ينتفع بها المارة ونحوهم، وإجراء الأنهار، وإصلاح الطرق التي يمر بها المسلمون وينتفعون بها، وإضاءتها -مثلاً- إذا احتاجت إلى إضاءة وتنوير، وجعل المرافق فيها كالمياه وما ينتفع به... كل ذلك من الأعمال الخيرية التي إذا فعلها احتساباً كان له أجر.

    وهكذا إذا جعل غلته في تجهيز الأموات، وحفر القبور، وتحنيط الميت وتغسيله، وقيمة الأكفان وما أشبهها، فإن ذلك من الأعمال الصالحة، فيستمر له أجر ذلك ولو بعد موته بعشرات السنين؛ وذلك لأن هذا مما أنفق فيه.

    معنى حديث: (لا يصومن أحد عن أحد)

    أما الأعمال البدنية فقد اختلف فيها، وقد تقدم الحديث الذي قال فيه: (لا يصومن أحد عن أحد، ولا يصلي أحد عن أحد) ، ولكن ذلك محمول على الأحياء، فالأحياء القادرون لا يجوز لأحدهم أن ينوب عن أحد، فلا تقل لولدك: صل عني الظهر أو العصر، أو نحو ذلك؛ لأن هذه العبادة تتعلق ببدنك، فلا ينوب فيها عنك أحد، وكذلك لو أحرمت بنفسك فلا تقل لولدك أو لعبدك: طف عني طواف الإفاضة، أو قف عني بعرفة أو نحو ذلك، فإن هذا عمل بدني لا يقوم فيه أحد عن أحد، وكذلك إذا كنت قادراً فلا تقل -مثلاً-: صم عني هذا اليوم من رمضان، أو صم عني هذا الشهر.. لأنه لا يجوز التوكيل في مثل هذه الأعمال؛ لأنها متعلقة بالبدن؛ ولأن الحكمة فيها أن يخضع ذلك العامل ببدنه، وأن يشعر بذله واستضعافه بين يدي ربه، فإذا كان المتذلل غيره لم يتأثر بذلك.

    فإذاً: الحكمة في شرعية الصلاة أن يخضع المصلي ويخشع ويتواضع، ولا يحصل له أجر إذا تواضع غيره، بل ذلك التواضع يحصل للمتواضع، ولا يحصل له.

    ولو قال: أهديت صلاتي لك، لم يجز؛ وذلك لأنه لابد أن يكون عمله من نفسه، وكذلك الحكمة من الصيام حصول ألم الجوع والجهد والظمأ، والصبر على ذلك، أما إذا كان يأكل ويشرب ويتمتع، والذي صام غيره، لم تحصل المصلحة التي هي تأثره بهذا الصيام، فيكون أجر الصيام لمن صامه لا له، وإن كان في ذلك استثناء كما سيأتي.

    الدليل على انتفاع الميت بغير ما تسبب فيه

    قال رحمه الله: [والدليل على انتفاع الميت بغير ما تسبب فيه: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس الصحيح.

    أما الكتاب: فقال تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [الحشر:10]، فأثنى عليهم باستغفارهم للمؤمنين قبلهم، فدل على انتفاعهم باستغفار الأحياء.

    وقد دل على انتفاع الميت بالدعاء إجماع الأمة على الدعاء له في صلاة الجنازة، والأدعية التي وردت بها السنة في صلاة الجنازة مستفيضة، وكذا الدعاء له بعد الدفن، ففي سنن أبي داود ، من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: (استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل) . وكذلك الدعاء لهم عند زيارة قبورهم، كما في صحيح مسلم ، من حديث بريدة بن الحصيب ، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية) وفي صحيح مسلم -أيضاً- عن عائشة رضي الله عنها: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: كيف أقول إذا استغفرت لأهل القبور؟ قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) .

    وأما وصول ثواب الصدقة: ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها، ولم توصِ، وأظنها لو تكلمت تصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم) . وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (أن سعد بن عبادة توفيت أمه وهو غائب عنها، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن أمي توفيت وأنا غائب عنها، فهل ينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: نعم. قال: فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها) .. وأمثال ذلك كثيرة في السنة.

    وأما وصول ثواب الصوم: ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) وله نظائر في الصحيح، ولكن أبو حنيفة رحمه الله قال بالإطعام عن الميت دون الصيام عنه، لحديث ابن عباس المتقدم، والكلام على ذلك معروف في كتب الفروع.

    وأما وصول ثواب الحج: ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن امرأة من جهينة جاءت الى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فماتت قبل أن تحج، أفأحج عنها؟ قال: نعم، حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين، أكنت قاضيته؟ قالت: نعم. قال: فاقضوا الذي لله، فإن الله أحق بالوفاء) ونظائره أيضاً كثيرة.

    وأجمع المسلمون على أن قضاء الدين يسقطه من ذمة الميت، ولو كان من أجنبي، ومن غير تركته، فقد دل على ذلك حديث أبي قتادة ، حيث ضمن الدينارين عن الميت، فلما قضاهما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الآن بردت عليه جلدته) ، وكل ذلك جار على قواعد الشرع، وهو محض القياس، فإن الثواب حق العامل، فإذا وهبه لأخيه المسلم لم يُمنع من ذلك، كما لم يُمنع من هبة ماله في حياته، وإبرائه له منه بعد وفاته.

    وقد نبه الشارع بوصول ثواب الصوم على وصول ثواب القراءة ونحوها من العبادات البدنية، يوضحه: أن الصوم كف النفس عن المفطرات بالنية، وقد نص الشارع على وصول ثوابه إلى الميت، فكيف بالقراءة التي هي عمل ونية؟].

    هذه أدلة لمن قال بأنه ينتفع الميت بأعمال الحي التي يهديها له، وانتفاعه بالأقوال كالذكر إذا أهدي له، وكذلك الاستغفار له والدعاء وما أشبه ذلك، دليله الأحاديث التي تحث على الاستغفار للأموات والدعاء لهم؛ وذلك لأن دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، وقد ورد أنه إذا دعوت لأخيك الغائب يقول الملك: آمين، ولك بمثل، وسواء كان ذلك الذي دعوت له حياً أو ميتاً.

    وكذلك أخبر الله تعالى بأن الملائكة تستغفر للمؤمنين، فدل على أنهم ينتفعون بأعمال غيرهم؛ وذلك لأن هذا العمل الذي يهدى إليهم يعتبر تبرعاً من ذلك العامل.

    مناقشة المانعين في معنى آية: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)

    استدل المانعون من المبتدعة، بقول الله تعالى في سورة النجم: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39]، وكثيراً ما يستدل بهذه الآية بعض المتأخرين، الذين يمنعون من الإهداء إلى الأموات، ويمنعون الأضحية عنهم، ويمنعون القراءة لهم.. أو نحو ذلك. ولا شك أن الآية إنما فيها الملكية، أي: لا يملك الإنسان إلا سعيه، أما سعي غيره فلا يقدر عليه، فلا يقدر الميت أن يأخذ من أعمال أولاده، ولا يقدر أن يأخذ من أعمال زوجاته، ولو كانوا يحبونه.

    ولعل هذا في الدار الآخرة، فقد ورد في تفسير قول الله تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37] أنه يلقى الرجل ولده فيقول: يا بني! أنا خير أب لك، أنا الذي أعطيتك، أنا الذي نفعتك وربيتك. فيقول: صدقت ونعم الأب! فيقول: إني بحاجة إلى حسنة أو حسنات ليثقل بها ميزاني، فيقول الابن: وأنا بحاجة إلى ما أنت بحاجة إليه، نفسي.. نفسي! ويأتي إلى زوجته، فيذكرها صحبته، فيسألها حسنة أو حسنات، فتمتنع وتقول: أريدها لنفسي، أخشى أن يخف ميزاني.. وهكذا، ففي الدار الآخرة لا ينتفع أحد إلا بعمله، وأما في الدنيا فلا مانع من أن يهدي الحي للميت، ومن أن يعطيه، ومن أن يتصدق عنه ويدعو له، لا مانع من ذلك؛ حيث إنه تبرع بذلك.

    الصلاة على الجنازة دليل على انتفاع الميت بعمل الحي

    وتقدمت الأدلة في الدعاء للميت، فمنها: الدعاء في الصلاة عليه، ففي سنن أبي داود بسند صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء) أي: ادعوا له وأنتم صادقون بالدعوات الجامعة.

    وفي صحيح مسلم وغيره حديث عوف بن مالك : (أنه صلى الله عليه وسلم صلى على ميت، يقول عوف : فحفظت من دعائه قوله: اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله. يقول عوف : حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت؛ لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم له) ، وهذا تعليم منه لأمته أن يدعوا بمثل هذه الدعوة وإن لم تكن معينة مخصصة، بل يدعون بها وبما يماثلها، ولو كان ذلك لا ينفع الميت لم تشرع هذه الصلاة التي هي صلاة الجنازة.

    وكذلك بعد الموت وبعد الدفن، فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر أصحابه أن يسألوا له التثبيت، ويقول: (إنه الآن يسأل)، فيقولون: اللهم ثبته بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، أو اللهم ثبته عند اللقاء، وما أشبه ذلك، فدل على أنه ينتفع بذلك.

    دعاء زيارة المقابر دليل على انتفاع الميت بعمل الحي

    كذلك ما ورد من الدعاء للأموات عند زيارة المقابر، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يسلموا عليهم والسلام دعاء، يقولون: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم) ، فهذا دعاء لهم بالمغفرة، ودعاء لهم بالعافية، فدل على أنهم ينتفعون بذلك، وأنهم محتاجون إليه.

    ولا شك أنه يأتيهم من دعوات الأحياء حسنات كثيرة ينتفعون بها، وتزداد بها حسناتهم، والقصص في ذلك كثيرة مشهورة، أشار إليها كثير من العلماء، ومن أراد الاطلاع والتوسع فليقرأ كتاب الروح لـابن القيم رحمه الله، فإنه استوفى ما يتعلق بهذه المسائل، ولعل الشارح لخص هذا منه، وكذلك لتلميذه ابن رجب كتابه الذي سماه: أهوال القبور في أحوال أهلها إلى النشور.

    الكلام على انتفاع الميت بأعمال الحي البدنية

    وأيضاً ما تقدم فيما يتعلق بالأعمال البدنية التي يعملها الحي عن الميت كالصيام، وفيه خلاف، فذهب الإمام أحمد -في المشهور عنه- إلى أنه لا يصوم عنه إلا النذر، فلا يصوم عنه أيام رمضان؛ وذلك لأن في الحديث (أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ قال: نعم -ثم شبه ذلك بالدين- وقال: لو كان على أمك دين فقضيته، أيجزئ ذلك؟) فشبه الصوم الذي عليها بالدين، ولما ذكر في الحديث صوم النذر خصه أحمد بالنذر ، ومنع صيام الفرض، واستدل بالحديث الذي تقدم، وهو قوله: (لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد).

    وقد عرفنا أن هذا الحديث محمول على الأحياء، بمعنى: لا يصوم حي عن حي، ولا يصلي حي عن حي، فأما الأموات فقد صح لنا هذا الحديث، وصح لنا -أيضاً- حديث عائشة وفيه: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) ، ولم يخص ذلك بنذر ولا بفرض، فدل على أنه من المشروع أن يصام عنه القضاء ونحو ذلك، وإذا أطعموا عنه أجزأ ذلك، سواء كان الصوم الذي عليه فرضاً أو نذراً.

    وأما النفل عنه: أن تصوم يوماً نفلاً، وتقول: اللهم اجعل ثوابه لوالدي أو لوالدتي.. أو نحو ذلك، فهذا محل خلاف أيضاً، ولعل القياس يدل على جوازه، وذلك أنه إذا سقط عنه الفرض بتطوعك عنه، فمعنى ذلك وصول الأجر إليه، وأيضاً: أنت مأجور على صيام التطوع، فإذا أهديت أجرك لقريبك تطوعاً واختياراً، فما المانع أن يكون أجره له؟! هذا بالنسبة إلى الصيام.

    وكذلك يقال في الصلاة: إذا أهدى صلاة له، وإن لم يكن ذلك مشهوراً.

    وصول الصدقة والحج وانتفاع الميت بها

    وأما الصدقات فلا شك في وصولها، فإن كانت من الميت فهي الأحباس التي يوصي بها، وإن كانت تبرعاً من الحي فلا شك في أنه يصله أجرها، فإذا تصدقت عنه صدقة خاصة كالصدقة في وقت الأضحية التي تسمى الأضحية، وكذلك الصدقة في رمضان بطعام أو بلحم أو بكسوة على مستحق، أو بنقود ينتفع بها، وجعلت أجرها لأخيك أو لأبيك، فإنه ينتفع بذلك ويصل إليه الأجره، وكذلك كل الأعمال المالية.

    أما العمل الذي يتكون من المال والعمل كالحج؛ فإنه يتركب من أمرين: عمل بدني، وعمل مالي، فالبدني هو ركوب هذا الحاج، وتعبه في سفره، وإحرامه وطوافه ووقوفه ورميه.. وما أشبه ذلك، أما العمل المالي فهو نفقاته: ومنها أجرة الركوب، وكذلك نفقته في ذهابه وإيابه، وكذلك ذبيحته التي يذبحها كفدية.. هذه أعمال مالية.

    فإن كان هذا المال من الميت أو من تركته فإن أعمال هذا العامل تكون لذلك الميت، حيث إن هذا المال هو الذي وصل بسببه إلى تلك المشاعر، فكأنه كان عاجزاً عن أن يصل إلى مكة لقلة المال، فلما أخذ هذا المال قوي، فدفع منه الأجرة، ودفع منه النفقة، ودفع منه الأضحية.. وما أشبه ذلك، فكان ذلك متسبباً عن هذا المال، فكان أجره لصاحب المال، فلأجل ذلك يقولون: تصح الاستنابة في الحج، والأجر للمحجوج عنه الذي دفع المال، والناس على هذا.

    ونقول تعليقاً على هذا: إن الذي يحج بدلاً عن غيره بمال يأخذه لا يجوز له ذلك إلا إذا كان عاجزاً عن الحج بماله، كالفقير الذي لا يستطيع الوصول إلى مكة لفقره، فيأخذ هذا المال لينفق منه حتى يصل إلى المشاعر ويؤدي تلك المناسك، فهذا هو الذي يؤجر على حجه، ويكون الأجر الأصلي لصاحب المال.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756563170