إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [39]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الحكم بغير ما أنزل الله أقسام ينبغي معرفتها، فقد ضل كثير من الناس بسبب عدم معرفة أقسام ذلك، وقد بين العلماء تلك الأقسام، وحذروا الناس من التسرع في الأحكام.

    1.   

    البدع المكفرة

    البدع منها ما هو مكفر، ومنها ما لا يصل إلى حد الكفر.

    تواتر عن السلف رحمهم الله أنهم كفروا من قال بخلق القرآن، كفروهم من حيث العموم لا من حيث الأفراد، فهم ما يقولون: إن فلان بن فلان كافر؛ لأنه قال بخلق القرآن؛ فإن من أشهرهم خليفة من بني العباس المأمون ، وهو أول من فتن الناس ودعاهم إلى القول بخلق القرآن، وفتن العلماء، ومع ذلك لم يكفره الإمام أحمد ، بل كان يعذره بأنه متأول، وبأنه لبس عليه أولئك المبتدعة لما قربهم وأدناهم، فدخلت أفكارهم في قلبه، فشبه عليه.

    لكن المبتدعة الذين تمكنت هذه البدعة منهم لا نعذرهم، ولكن لا نحكم على فلان بأنه كافر لهذه البدعة، لكن من حيث العموم نقول: القول بخلق القرآن كفر.

    كذلك بدعة إنكار الصفات والغلو في إنكارها، وهي طريقة المعتزلة، هذه لا شك أنها كفر؛ وذلك لما فيها من التعطيل، حتى إن بعض العلماء جعلها أكبر من قول المشركين الذين يجعلون العبادة مشتركة بين الخالق والمخلوق، ولكن ما دام أنهم يتسمون بالإسلام فلا نطلق على أعيانهم بالكفر، كأن نقول مثلاً: أبو الهذيل العلاف كافر، أو أبو علي الجبائي كافر، لا، وإن كانا من غلاة المعتزلة، واشتهرا باعتناق هذا المذهب، وكتبا فيه، وأضلا خلقاً كثيراً، لكن نقول: أمرهما إلى الله، ولكن مقالتهما مقالة كفرية؛ لما فيها من مضادة للحق.

    كذلك نقول في المذاهب المعاصرة الجديدة: هذه لا شك أنها كفر، يعني من حيث معتقداتهم، فمثلاً: الدروز ليسوا بمسلمين حقاً، ولو ادعوا أنهم يدينون بالشهادتين ظاهراً أو نحو ذلك، لكن في الباطن ليسوا بمسلمين، مع وجودهم وكثرتهم في بعض البلاد؛ ولكن لا نقاتلهم، ولا نكفر أعيانهم حتى نقيم عليهم الحجج، نواجههم مواجهة شخصية، ونبين لهم، لكنهم في الحقيقة يخفون عقائدهم ويخفون مؤلفاتهم التي يعتنقونها.

    ويقال كذلك في الطائفة الجديدة الذين يسمون: بعثيين: لا شك أنا إذا بحثنا عن معتقداتهم ومبادئهم نجد أنها مبادئ كفر، وأنهم كافرون، وأن معتقدي هذه العقيدة ليسوا حقيقة بمسلمين؛ لأنهم علمانيون أو اشتراكيون أو ماركسيون أو دنيويون لا همة لهم بالآخرة ولا بمصالح الدين، ولا بالإقبال عليها، ولا بنصر الإسلام ولا غيره، كما يعرف ذلك من مؤلفاتهم، فمذهبهم مذهب كفر.

    كذلك يقال أيضاً في مذهب النصيريين والإسماعيليين وغلاة الشيعة الرافضة وأشباههم، من الذين يدعون أنهم من جملة المسلمين، ولكن لهم عقائد ودسائس خفية، لا شك أنها تخالف الإسلام وتخالف عقائد الإسلام، فيقاتلون إذا أقيمت عليهم الحجة، وحصلت معهم مواقف يتبين فيها أنهم عارفون بالحق ومعاندون ومخالفون له، وأبطلت شبهاتهم التي يتمسكون بها، فهذا ونحوه دليل على أنه يوجد هناك مكفرات، ولكن الحكم إنما هو للفعل لا للفاعل.

    ولأجل ذلك فإن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله عندما خرج على أهل هذه البلاد، وجد أهلها يشركون بالغلو في الصالحين، ومع ذلك لم يكفرهم مبدئياً، ولكن بين أن فعلهم كفر، ولم يقاتلهم مبدئياً بل شرع في بيان أعمالهم وفي بيان كفرهم، ولما أصروا وعاندوا وجابهوا، وكتبوا رسائل في الرد عليه، وشبهوا على الناس مع اتضاح الحق كالشمس؛ أفتى عند ذلك بجواز قتالهم، وبأنهم -والحال هذه- كفار، حيث إنهم أباحوا عبادة غير الله، وشابهوا المشركين الأولين أو زادوا عليهم، كما بين ذلك في مؤلفاته رحمه الله، فما شرع في القتال إلا بعدما كتب الرسائل والكتب، وأرسلها إلى الطوائف الأخرى يبين لهم ويدعوهم، ويذكر لهم ما يدعوهم إليه، فهدى الله من هدى بواسطته، وأصر بعضهم على عناده، وشرع يلبس على الناس، فلما قامت عليهم الحجة عند ذلك أمر بالقتال.

    ولا شك أنهم كانوا يدعون أنهم مسلمون، ويقرءون القرآن، ويأتون بالشهادتين، ويصلون ويزكون ويصومون ويحجون؛ ولكن يشركون، وذلك بعمارة المشاهد، التي هي القبور، وتسمى الآن في العراق مشاهد، والواحد منهم مشهدي؛ وهم يحجون إلى تلك القبور، وعندهم معابد أعظم من الحرمين كالنجف وكربلاء، فهم يأتون إليها بخشوع وبإقبال ونحو ذلك.

    وهنا في نجد كان يوجد قبور كانت منصوبة ومرفوعة ويذبح عندها ويجلس عندها ويتحرى الصلاة عندها، ويطوفون بها، ويدعون أصحابها، ويهتفون بأسمائهم: يا زيد، يا يوسف، يا شمسان، يا فلان! فقال لهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب : أليس هذا هو الدعاء لغير الله؟ أليس الله يقول: فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18] ؟

    فلم يجدوا بداً من أن يقتنعوا بكلامه، ولكن بعضهم فتنوا وزاغوا، وأصروا على شركهم، فحكم بكفرهم بعدما قامت عليهم الحجة، بل الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما قاتل قوماً إلا بعد أن دعاهم، ولما أرسل علياً رضي الله عنه لدعوة اليهود، وهم يهود، ومعلوم عنادهم، قال له: (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) فالرسول عليه الصلاة والسلام قصده أن يدخل الناس في الإسلام، ليس قصده أن يقاتل، وليس قصده أن تكون له سيادة ومنصب وملك وسعة تصرف، أو أموال يقتنيها، ما كان هذا قصده، إنما قصده هداية الناس، وإقبالهم على الدين ودخولهم فيه.

    وهذا هو الذي يجب علينا بالنسبة إلى كل المبتدعة في زماننا، أن نحرص على دعوتهم، وبيان الحق لهم، وإظهار الأحكام الشرعية، وبيان مطابقتها للحقيقة، فإذا أصروا بعد ذلك وعاندوا فهنالك يقاتلون، إلا إذا كانوا معاهدين أو لهم ذمة، الذميون والمعاهدون والمستأمنون هؤلاء يؤمنون بقدر مدتهم؛ لقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ [التوبة:4].

    وعلى كل حال هذه مسألة ذات أهمية، وهي: مسألة التكفير والتفسيق ونحوها، وعلينا أن نعرف الفرق بين أن نقول: هذا العمل كفر، وهذا الشخص كافر.

    1.   

    من يحكم بكفره ودخوله النار

    متى نحكم على الإنسان بأنه كافر، وبأنه في النار؟

    إذا عرفنا أنه مات على الكفر، وهو ممن قامت عليه الحجة، كالذين قتلوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهم كفار، أو جاءت الأدلة بأنهم من الكفار، وهكذا من بعدهم، إذا عرفنا أن شخصاً ممن عاند الحق، وقاتل ضده، وعرفه المعرفة التامة، ورده الرد الشنيع، وضلل أهله، وعاند في قبوله، واستمر على ذلك، ومات ولم يتب ولم يرجع عن بدعته المكفرة أو عن كفره، فحينئذ ندعو عليه، ونستحل لعنه وشتمه، ونقول: إنه في النار. إذا تمت هذه الشروط. فأما من لم يتم ذلك فيه فنكل أمره إلى الله.

    مثال ذلك: أن أبا لهب توعده الله بقوله: سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ [المسد:3] ، وكذلك أبو جهل مات على الكفر وقتل عليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه فرعون هذه الأمة) ، فمثل هؤلاء نتحقق أنهم في النار، ونحكم عليهم بذلك، وأشباههم ممن تحقق أنه مات على الكفر، وكذلك مسألة الإيمان كما سيتطرق إليها الشارح إن شاء الله.

    1.   

    الأقوال المختلفة في أصحاب المعاصي

    قال الشارح رحمه الله: [والمعتزلة موافقون للخوارج هنا في حكم الآخرة، فإنهم وافقوهم على أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار، لكن قالت الخوارج: نسميه كافراً. وقالت المعتزلة: نسميه فاسقاً. فالخلاف بينهم لفظي فقط.

    وأهل السنة أيضاً متفقون على أنه يستحق الوعيد المرتب على ذلك الذنب، كما وردت به النصوص، لا كما يقوله المرجئة من أنه لا يضر مع الإيمان ذنب، ولا ينفع مع الكفر طاعة!

    وإذا اجتمعت نصوص الوعد التي استدلت بها المرجئة، ونصوص الوعيد التي استدلت بها الخوارج والمعتزلة تبين لك فساد القولين، ولا فائدة في كلام هؤلاء سوى أنك تستفيد من كلام كل طائفة فساد مذهب الطائفة الأخرى.

    ثم بعد هذا الاتفاق بين أهل السنة اختلفوا اختلافاً لفظياً، لا يترتب عليه فساد، وهو أنه هل يكون الكفر على مراتب، كفراً دون كفر؟

    كما اختلفوا هل يكون الإيمان على مراتب، إيماناً دون إيمان؟

    وهذا الاختلاف نشأ من اختلافهم في مسمى الإيمان: هل هو قول وعمل يزيد وينقص أم لا؟ بعد اتفاقهم على أن من سماه الله تعالى ورسوله كافراً نسميه كافراً، إذ من الممتنع أن يسمي الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً، ويسمي رسوله من تقدم ذكره كافراً، ولا نطلق عليهما اسم الكفر.

    ولكن من قال: إن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، قال: هو كفر عملي لا اعتقادي، والكفر عنده على مراتب، كفر دون كفر، كالإيمان عنده.

    ومن قال: إن الإيمان هو التصديق، ولا يدخل العمل في مسمى الإيمان، والكفر هو الجحود، ولا يزيدان ولا ينقصان، قال: هو كفر مجازي غير حقيقي، إذ الكفر الحقيقي هو الذي ينقل عن الملة. وكذلك يقول في تسمية بعض الأعمال بالإيمان، كقوله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] أي: صلاتكم إلى بيت المقدس، إنها سميت إيماناً مجازاً؛ لتوقف صحتها على الإيمان؛ أو لدلالتها على الإيمان، إذ هي دالة على كون مؤديها مؤمناً؛ ولهذا يحكم بإسلام الكافر إذا صلى كصلاتنا، فليس بين فقهاء الملة نزاع في أصحاب الذنوب، إذا كانوا مقرين باطناً وظاهراً بما جاء به الرسول، وما تواتر عنهم أنهم من أهل الوعيد.

    ولكن الأقوال المنحرفة قول من يقول بتخليدهم في النار، كالخوارج والمعتزلة، ولكن أردأ ما في ذلك التعصب على من يضادهم، وإلزامه لمن يخالف قوله بما لا يلزمه، والتشنيع عليه!

    وإذا كنا مأمورين بالعدل في مجادلة الكافرين، وأن يجادلوا بالتي هي أحسن، فكيف لا يعدل بعضنا على بعض في مثل هذا الخلاف؟!

    قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8]].

    عقيدة أهل البدع في أصحاب المعاصي

    ذكرنا أن هناك طوائف في هذا الباب انحرفوا، فطائفة المعتزلة يقولون: إن أصحاب المعاصي خارجون من الإسلام، ولم يدخلوا في الكفر بحيث لا تستباح دماؤهم ولا قتالهم، ولكنهم يخلدون في النار.

    وطائفة الخوارج يقولون: أصحاب الكبائر كفار، يقاتلون، وتحل دماؤهم وأموالهم، وإذا ماتوا ماتوا كفاراً، يعاملون معاملة الكفار، لا يغسلون ولا يصلى عليهم، وهم في الآخرة يحكمون عليهم بالخلود في النار، هذا قول الخوارج، ويستدلون بالأحاديث التي تقدمت في الكفر كقوله: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية) ، أو: (اثنتان في الناس هما بهم كفر) وما أشبه ذلك.

    وطائفة المرجئة يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل، وهذه طائفة تبيح للإنسان أن يكثر من المعاصي، وأنها لا تضره، ولو زنى، ولو سرق، ولو قتل، ولو شرب الخمر، ولو كذا وكذا، وذلك كله لا ينقص إيمانه، فإيمانه كامل، وحسناته كاملة، وهو من أهل الجنة، ولا تضره هذه الكبائر ولا هذه السيئات، فيبطلون الأحاديث التي فيها الوعيد، ونحو ذلك، وهؤلاء أيضاً مخطئون.

    عقيدة أهل السنة في أصحاب المعاصي

    القول الوسط هو قول أهل السنة حيث قالوا: إن أهل المعاصي يخاف عليهم الوعيد، يخاف عليهم النار ما دام أنهم قد سموا في بعض الأحاديث كفاراً، وسموا في أحاديث أخرى فساقاً، فلابد أن هذه المعاصي تضرهم، فإما أن تؤخرهم عن دخول الجنة، ولا شك أن ذلك ضرر، وإما أن يدخلوا بها النار، ولا شك أن ذلك ضرر أعظم؛ لأنهم قد يدخلون النار ويطول مكثهم فيها، وقد يدخلون النار ولا يطول مكثهم، وذلك على قدر أعمالهم، وأشباه ذلك، وهذا دليل على أن المعاصي لها تأثير على العاصي، فلأجل ذلك يخاف عليه إذا أصر عليها.

    ومعروف أن الشرع ما حذر من المعاصي وأكثر الذم لها إلا ولها تأثير في الإيمان، فعلى الإنسان أن يرجع إلى الأحاديث التي وردت في الحث على كثرة الطاعات، والتحذير من المعاصي، حتى ولو كانت صغيرة، ويحذر من الإصرار عليها، ويتذكر آثارها ومضارها، فسيكون ذلك زاجراً للمسلم عن أن يصر على كبيرة، أو عن أن يأتي ذنباً ولو مرة واحدة؛ مخافة أن يسبب له عذاباً عاجلاً أو آجلاً.

    سبب الخلاف في حكم أهل المعاصي

    ذكر الشارح أن هذه المسألة مبنية على قول من يقول: إن الإيمان يتفاوت، وإن هناك إيماناً كاملاً، وهناك إيماناً ناقصاً، وإن هناك كفراً دون كفر ونحو ذلك.

    وهذه الآيات التي في سورة المائدة: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، وقوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45]، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47] بعض السلف أطلق عليهم هذا الكفر والفسق والظلم؛ وذلك لأنهم عاندوا، وعرفوا أنه حكم مغاير لحكم الله، وشرعوا مع الله، وجعلوا شرعهم أحسن من شرع الله، وتنقصوا حكم الله، وادعوا أنه ليس بمناسب وليس بصالح، فلأجل ذلك حكم عليهم بالكفر والظلم والفسق.

    وآخرون قالوا: إذا فعل ذلك لهوى، ورأى أن الحكم الشرعي لا يناسب في بعض الأحيان، وأن الحكم بغيره قد يكون أنسب، فحكم بذلك متأولاً، فإنا لا نخرجه من الإسلام، بل نجعله دون هذا، فقالوا: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، وهذا على طريقة من يجعل الكفر يتفاوت، ويجعله كفراً أكبر، وكفراً أصغر، وكفراً أوسط، وكذلك يجعلون الإيمان إيماناً كاملاً، وإيماناً متوسطاً، وإيماناً ناقصاً.

    ونحن نقول: نعم؛ الإيمان يتفاوت؛ ولأجل ذلك تنقصه المعاصي، وتزيده الطاعات.

    وأما الكفر فنقول: إن الكفر يبطل الأعمال كما ذكرنا أدلته، فلأجل ذلك الكافر ولو أدى أعمالاً في حياته لا تنفعه، إلا أننا إذا رأيناه يعمل الأعمال التي تختص بالإسلام عاملناه معاملة المسلم، فمن رأيناه مثلاً: يصلي، ويحافظ على الصلاة مع الجماعة؛ حكمنا بأنه مسلم؛ لأننا نحكم بالظاهر، ونكل أمر السرائر إلى الله تعالى، ولو كان في الباطن كافر فباطنه أمره إلى الله.

    لكن إذا رأيناه مع الصلاة يعبد غير الله مثلاً أو يشرك، أو يحكم بغير الشرع، ويفضل حكم غير الشرع على حكم الشرع عاملناه بما يستحقه.

    وبذلك يعرف أن باب تفاوت المؤمنين، وتفاوت الكفار يكون بحسب ما في القلوب من الإيمان أو من ضد الإيمان، وهذه مسألة لها أهميتها، يعرف الإنسان أن أهل الإيمان يتفاوتون، فإيمان قوي يحمل على كثرة الطاعات والعبادات، وإيمان ضعيف لا يزجر عن المحرمات ولا عن الآثام.

    1.   

    واجب المسلم تجاه مسائل العقيدة

    ينبغي للمسلم أن يهتم بأمر دينه؛ حتى يسلك طريق النجاة، ولا شك أن مبنى دينه على أمور العقيدة، التي إذا ثبتت ورسخت انبنت عليها صحة الأعمال، وأثيب عليها، وإذا فسدت العقيدة انبنى عليها وترتب عليها فساد الفروع والأعمال.

    ولا شك أن من جملة العقيدة أسماء الإيمان والدين، وقد عرفنا جانباً كبيراً منها فيما يتعلق بالتكفير والتفسيق، وطريقة أهل السنة في ذلك، ومن خالفهم.

    وسبب الخلاف في ذلك: أنه جاءت أحاديث كثيرة فيها الحكم بالكفر على بعض الأعمال التي هي من المعاصي، وتسمى تلك النصوص نصوص الوعيد، أو أحاديث الوعيد، وطريقة أهل السنة فيها أنهم يجرونها على ظاهرها؛ ليكون أبلغ في الزجر، مع اعتقادهم أنها لا تخرج من الملة، وأن مرتكب الكبيرة ولو كان متوعداً بالكفر أو نحو ذلك، فإنه لا يصل إلى أن يستباح دمه وماله، وأن يحكم عليه بالخلود في النار، بل يقال: هذا من الذنوب التي جاء فيها هذا الوعيد، وأمرها إلى الله تعالى، وكل المعاصي التي دون الشرك فإنها تحت مشيئة الله، إن شاء غفر لصاحبها، وإن شاء عذبه بقدر ذنوبه. هذه طريقة أهل السنة.

    وقد مر بنا بعض أحاديث الوعيد التي فيها شيء من الغلظة والشدة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد) فإن هذا فيه نفي الإيمان، فنحن لا نقول: إنه خرج من الإيمان كلياً، ولا أنه دخل في الكفر.

    المعتزلة يقولون: يخرج من الإيمان، ولا يدخل في الكفر.

    والخوارج يقولون: يخرج من الإيمان، ويدخل في الكفر.

    ونحن نقول: إنه لا يخرج من الإيمان، ولكنه تحت مشيئة الله، ونقول: إنه فاسق بهذا الذنب، ولا يصل إلى أن يستباح دمه وماله وعرضه، ولكن ذنبه غليظ.

    ومثله: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت) ومعلوم أن هاتين المعصيتين لا يكفر بهما.

    ومثل قوله عليه الصلاة والسلام: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)، ومعلوم أن قتاله لا يصل إلى حد أنه يخرج من الملة.

    ومثله: قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية) ، والأحاديث الكثيرة التي فيها: (ليس منا) كقوله: (من غشنا فليس منا) .

    وأحاديث البراءة كقوله: (من عقد لحيته، أو تقلد وتراً، أو استنجى برجيع دابة فإن محمداً بريء منه) وما أشبه ذلك مما فيه البراءة من هذا الفعل أو الفاعل.

    نقول: إن هذه جاءت للزجر عن هذه المعاصي، ومعلوم أنه جاءت أحاديث تدل على إخراج المسلمين الذين هم من أهل التوحيد من النار، إما بشفاعة الشافعين، وإما برحمة الله تعالى، فتلك الأحاديث تدل دلالة واضحة على أنه وإن عمل الكبائر ونحوها لا يصل إلى حد الكفر.

    وفي حديث أبي ذر لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه ذرة من إيمان -يعني: أن عنده أصل الإيمان- فقال أبو ذر : وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق) فيدل على أنه لا يصل إلى حد الكفر بمثل هذه الذنوب.

    ومع ذلك فإنه لا يجوز التساهل بهذه الذنوب؛ وذلك لأن التساهل بها والإدمان عليها يقسي القلب، ويصد عن الطاعة وفعل الحسنات، ويجرئ على كثرة السيئات، ويضعف الخوف من الله في القلب، وقد يسبب هذا الضعف ترك الواجبات، وارتكاب المحرمات، مما قد يكون سبباً في الطعن بالشريعة والعيب لها، والاعتراض على الله تعالى في تحريم هذا الشيء، أو إيجاب هذا الشيء، وذلك كفر؛ لأنه من الاعتراض على الله تعالى، ورد لأحكامه، والطعن في شيء من الشريعة بأنه غير مناسب، أو أنه جور أو نحو ذلك؛ تقوّل على الله، واعتراض عليه؛ فلأجل ذلك ينهى عن الإصرار على الذنوب حتى ولو كانت صغائر.

    ويكثر في الأحاديث الزجر عن صغائر الذنوب وعن كبائرها، وتكثر الأدلة على الوعيد الشديد على بعض الذنوب، ويستشهد العلماء بأدلة فيها الهلاك والردى والعذاب لمن فعل هذه الذنوب، ولمن أصر عليها، وإذا عرف المسلم ذلك لم يتهاون بها ولو كانت لا تصل إلى الكفر؛ مخافة أنها مع التساهل ومع الاستمرار عليها تقسي قلبه، وتصده عن ذكر الله وعن معرفة الله.

    والمسلم إذا تخلى عن السيئة حتى ولو صغيرة، وكرهها بقلبه، فبلا شك أنه سوف يحب الطاعات ويألفها، وتسهل عليه، ويحب الاستكثار منها، ولا شك أن الإقلاع عن السيئة والبعد عنها، وكثرة الحسنات، وكثرة الأعمال الصالحة مما يرفع الله تعالى به العبد درجات، ومما يقبل منه عبادته، ولا شك أن سبب ذلك معرفة عظم ثواب الله تعالى وأجره، حتى يكون بذلك مثابراً مكباً على الإكثار من الحسنات، وحتى يعرف عقاب الله وأليم عذابه على إصراره على الكبائر، ولو عذاب يوم أو عذاب ساعة أو نحو ذلك، فكيف بعذاب دهور متطاولة؟!

    كل ذلك مما يبعد الإنسان عن المعاصي، أي: معرفته بجزيل الثواب، ومعرفته بأليم العقاب.

    1.   

    الحكم بغير ما أنزل الله، وأقسام أهله

    قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه:

    [وهنا أمر يجب أن يتفطن له، وهو: أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفراً ينقل عن الملة، وقد يكون معصية: كبيرة أو صغيرة، ويكون كفراً: إما مجازياً، وإما كفراً أصغر، على القولين المذكورين. وذلك بحسب حال الحاكم: فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب، وأنه مخير فيه، أو استهان به مع تيقنه أنه حكم الله؛ فهذا كفر أكبر.

    وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله، وعلمه في هذه الواقعة، وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة؛ فهذا عاص، ويسمى كافراً كفراً مجازياً، أو كفراً أصغر.

    وإن جهل حكم الله فيها، مع بذل جهده واستفراغ وسعه في معرفة الحكم وأخطأ، فهذا مخطىء، له أجر على اجتهاده، وخطؤه مغفور.

    وأراد الشيخ رحمه الله بقوله: (ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله) مخالفة المرجئة، وشبهتهم كانت قد وقعت لبعض الأولين، فاتفق الصحابة على قتلهم إن لم يتوبوا من ذلك، فإن قدامة بن مظعون شرب الخمر بعد تحريمها هو وطائفة، وتأولوا قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [المائدة:93] الآية، فلما ذكروا ذلك لـعمر بن الخطاب رضي الله عنه اتفق هو وعلي بن أبي طالب وسائر الصحابة على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على استحلالها قتلوا. وقال عمر لـقدامة : (أخطأت استك الحفرة، أما إنك لو اتقيت وآمنت وعملت الصالحات لم تشرب الخمر).

    وذلك أن هذه الآية نزلت بسبب أن الله سبحانه لما حرم الخمر، وكان تحريمها بعد وقعة أحد، قال بعض الصحابة: فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟ فأنزل الله هذه الآية، وبين فيها أن من طعم الشيء الحرام في الحال التي لم يحرم فيها، فلا جناح عليه إذا كان من المؤمنين المتقين المصلحين، كما كان من أمر استقبال بيت المقدس.

    ثم إن أولئك الذين فعلوا ذلك ندموا وعلموا أنهم أخطئوا وأيسوا من التوبة، فكتب عمر إلى قدامة يقول له: حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ [غافر:1-3] ما أدري أي ذنبيك أعظم؟ استحلالك المحرم أولاً أم يأسك من رحمة الله ثانياً؟

    وهذا الذي اتفق عليه الصحابة هو متفق عليه بين أئمة الإسلام].

    سمعنا أولاً تفصيل القول في الحكم بغير ما أنزل الله، وأنه ينقسم أهله إلى ثلاثة أقسام:

    الحاكمون بغير ما أنزل الله مع اعتقادهم أنه أحسن من حكم الله

    القسم الأول: أنهم كفار، وهم الذين يعرفون حكم الله وينتقدونه، ويقولون: إن الحكم الشرعي لا يناسبنا، أو إن الحكم الشرعي الذي في القرآن والسنة قديم، ولا يناسب هذا الزمان، فنحن نبتكر ونبتدع حكماً يناسب هذا الزمان؛ حتى يوافق الحال.

    فهؤلاء الذين يحكم أكثرهم بالقوانين الوضعية في هذا الزمان هم كفار والعياذ بالله، وذلك أنهم يعرفون الأحكام الشرعية المأخوذة من الوحيين، ولكن زهدوا فيها، ورموها خلف ظهورهم.

    من أين أخذوا قوانينهم التي يحكمون بها؟

    أخذوها من الغربيين، أخذوها من محاكاة الأفكار الغربية، ومن زبالة الأذهان الغربية، ومما تلقوه عن الغربيين وعن اليونان وعن الكفرة والملاحدة، فهم قد جمعوا لهم هذه القوانين ووضعوها، وجعلوا التحاكم إليها.

    وكان من نتيجتها تعطيل الكثير من الحدود، وتغيير الكثير من الأحكام، فمنهم الذين لا يجعلون المال خاصاً، وهم الذين يسمون بالاشتراكيين ونحوهم، فهؤلاء طوائف كثيرة يتسمون بأنهم مسلمون، وينزعون الملكيات من أهلها، ويستبدون بها، ويتصرفون فيها، ويزعمون أن هذه اشتراكية، وكذبوا وإنما هي استبدادية، فهذا من جملة أحكامهم الجائرة.

    كذلك من نتيجة أحكامهم تغيير كثير من الفرائض والمواريث التي فرضها الله، فهم غيروا فيها وحرموا كثيراً، وأعطوا من لا ميراث لهم، ونحو ذلك، ويطول بنا التفصيل لو ذكرنا ذلك.

    كذلك من نتيجة أقوالهم تعطيل كثير من الحدود، فالقصاص عندهم لا يجوز، مع أن الله تعالى يقول: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة:179] سواء في الطرف أو في النفس، يستبدلون بدله أخذ المال من القاتل، أو نحو ذلك حتى يترك، أو يستبدلون بدله السجن المؤبد، أو نحو ذلك.

    وكذلك تعطيل حد الزنا، حيث أباحوا الزنا إذا كان الزانيان متراضيين؛ لأن هذا شيء يملكانه، وقد بذلاه باختيارهما.

    وكذلك تعطيل حد الخمر، حيث إن الخمر عندهم أمر مباح ليس فيه أي بأس، وأنها جائزة، وأن الحكم بتحريمها حكم ظلم وجور، وانتقدوا الشرع في تحريمها، إلى غير ذلك من تفاصيل هذه الأحكام الوضعية.

    نقول: لا شك أن هذا كفر، حيث اعترضوا على الشرع وخطئوه، وادعوا أنه قد تغير، وأنه لا يناسب التطور -كما يقولون- فجعلوا حكمهم أحسن من حكم الله، والله يقول: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].

    هذه مقالة هؤلاء الذين يجعلون الحكم بغير ما أنزل الله على حسب أهوائهم، فيحكمون بما يلائمهم ويتركون حكم الله وهم يعرفونه، ويطعنون في حكم الشرع، لا شك أن هؤلاء كفار: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] .

    الحاكمون بغير ما أنزل الله لهوى في نفوسهم

    القسم الثاني: الذين يحكمون به وهم يعرفون أنه حرام، ولكن يقولون: لعذر، أو لضرورة، أو نحو ذلك، فهؤلاء عصاة، إلا إذا كانوا مضطرين.

    كثير من المسلمين من الإخوان الصالحين يضطرون إلى السفر إلى بلاد تحكم بحكم الطاغوت الذي هو القوانين الوضعية، مع أن الذين يحكمون بها إما مسلمون وإما غير مسلمين، ويكون لأحدهم حق، وإذا كان له حق فماذا يفعل؟

    يقول: هل أترك حقي يضيع أو أتحاكم إلى محاكمهم هذه التي هي قانونية، وأنا أعرف أني صاحب حق، وأنا أعرف أنهم يحكمون بحكم الطاغوت، ولكني مضطر إلى التحاكم إليهم؛ لعدم وجود حاكم شرعي، ولو تركت حقي لذهب علي، وهو قد لا يتساهل به؟

    ففي هذه الحال هو معذور؛ حتى لا يضيع حقه، هو معذور إذا ترافع مع خصمه إلى أولئك الذين يحكمون بالقوانين، ومتى حكموا له أخذ حكمهم، وألزموه ضرورة؛ لأنه في بلادهم.

    والحاصل أن الذي يحكم بها وهو يعلم أنها محرمة، ولكن يدعي أنه مضطر إليه أو أنها ذنب، وأنه لا يناسب في هذا الوقت، أو لا يخلص له حقه في هذا المجال إلا بهذا، فهو معذور، ولكن هو مذنب، حيث إنه تعاطى الشيء الذي اضطره إلى ذلك، وأما إذا كانت ضرورة فلعله معذور.

    المجتهد المخطئ في الحكم

    القسم الثالث: الذي اجتهد في طلب إصابة الحق ولكنه لم يصبه، فحكم باجتهاده، فهذا معذور، وهو الذي له أجر على اجتهاده، ويغفر خطؤه.

    هذه أقسام من يحكم بغير ما أنزل الله.

    عرفنا أن منها ما هو معصية، ومنها ما هو كفر، ومنها ما هو عذر.

    سمعنا قصة قدامة بن مظعون في عهد عمر رضي الله عنه، كان قدامة وبعض المسلمين في الشام، والشام يكثر فيها صناعة الخمر، وكانوا في الشام وفي مصر يجلسون فيها يدعون إلى الله، ويعلمون من دخل في الإسلام، وكانوا يجالسون أولئك، فعند ذلك يرونهم يشربون الخمر، فـقدامة واثنان معه شربوها، وتأولوا هذه الآية التي في سورة المائدة، لما ذكر الله تحريم الخمر: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:90-91] ، ثم قال بعد ذلك: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة:93] فظنوا أن هذه باق حكمها فقالوا: نشربها ونتقي ونؤمن ونحسن ويغفر لنا، ولا يكون علينا حرج، فهذا تأويل منهم، فهم ظنوا أن شربها لا ينافي الإيمان فشربوها.

    ولما وصل الخبر إلى عمر -وكان رجلاً غيوراً- أمر أن يجلدوا حتى ولو كانوا من مشاهير المسلمين، فجلدوا حد الخمر، ولكن سأل الأمير هناك وهو أبو عبيدة فقال: إن وقعوا فيها عن معصية فعليهم الجلد، وإن أصروا واعتقدوا أنها حلال مباحة فعليهم القتل؛ وذلك لأنهم أباحوا ما حرم الله، مع التصريح بتحريمها في الآية، فمن أباح شيئاً حرمه الله حتى ولو لم يتناوله فقد خالف النصوص، فيحكم بردته، ولكنهم تعللوا بأنهم شبه عليهم، وظنوا أن في هذه الآية دليلاً.

    وقال عمر رضي الله عنه لـقدامة : (أخطأت استك الحفرة، أما إنك لو اتقيت وآمنت وعملت الصالحات وأحسنت ما شربتها)، فالإيمان والعمل الصالح والتقوى والإحسان زواجر تزجر عن هذه المنكرات، ثم بين لهم أن هذه الآية نزلت في الذين ماتوا وهم يشربونها قبل التحريم، الذين قتلوا في غزوة أحد أو بدر أو غيرها قبل أن تحرم الخمر نزل فيهم لما قال المسلمون: كيف بفلان مات وهي في بطنه؟ قتل شهيداً وهو يشربها، كيف حالتهم؟ فأنزل الله: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا [المائدة:93] يعني: فيما قد طعموا، لم يقل: فيما سوف يطعمون، أو فيما يأكلون أو يشربون، بل قال: فيما طعموا فدل على أن المراد: في الشيء الذي قد طعموه قبل التحريم.

    وحتى أنتم الذين نزل تحريمها وأنتم أحياء وكنتم تشربونها، ما قد طعمتموه قبل التحريم قد عفي عنه، فاستقبلوا وقتاً جديداً، وتوبوا إلى الله وأقلعوا عنها.

    فالحاصل أن عمر رضي الله عنه بين أنهم إن اعتقدوا أنها حلال فقد خالفوا النصوص، فهذا يعتبر ردة، وإن قالوا: بل هي حرام، ولكنا شربناها بتأويل، فهذه معصية لا تخرج من الملة، ولكن فيها حد الخمر الذي شرعه الله.

    وبهذا يعرف أن من استحل الحرام المعروف من الدين بالضرورة فإنه يكفر، حتى ولو لم يفعله، فمن قال: الزنا حلال إذا كان الزانيان متراضيين، ولا حرج فيه؛ لأنه شيء من الإنسان، وقد بذلت المرأة نفسها، وقد بذل الرجل نفسه، فلا حرج عليهما فيما فعلا ولا إثم! نقول: هذا قد كفر، ولو لم يزنِ هو؛ وذلك لأنه أحل حراماً.

    ومن قال مثلاً: الربا الذي ذكره الله في القرن مباح، ولا إثم فيه، كما حكى الله عن المشركين قولهم: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [البقرة:275] نقول: يكفر ولولم يأكل الربا، ولو لم يتعامل به، إذا أباحه واستحله، وجعله مثل البيع، وجعله يجوز بالتراضي، ما دام أن المتعاقدين متراضيان؛ ويعتبر بذلك مرتداً، ففرق بين من فعل المعصية وهو يعرف أنها معصية، ولم يستحلها، وبين من فعلها وهو مستحل لها، أو استحلها ولو لم يفعلها؛ فإنه يكفر.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756181811