إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [30]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يصر القدرية على إنكار خلق الله لأفعال العباد، وهم بذلك يشابهون المجوس المشركين، وقد جاءت الآثار بذمهم والحث على هجرهم وزجرهم، وقد رد العلماء على شبهاتهم وبينوا لهم الصواب.

    1.   

    الإيمان والإسلام والإحسان وضدها مسميات شرعية

    قد عرفنا أن من عقيدة المسلمين الإيمان، وأركانه ستة:

    الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره، وأن الإيمان تدخل فيه الأعمال، فهي من مسمى الإيمان، ولأجل ذلك يقوى الإيمان ويضعف، ويزيد وينقص، فيزيد بسبب زيادة الأعمال وينقص بسبب نقص الأعمال، أو بسبب ارتكاب الذنوب، وذلك مما يحمل المسلم على أن يتعاهد إيمانه بالزيادة ويحذر من النقصان، لأنه إذا تغافل وصار ينقص إيمانه شيئاً فشيئاً لم يأمن أن يضعف، وإذا ضعف لم يكن زاجراً له عن اقتراف السيئات، ولم يكن دافعاً له إلى التكاثر من الحسنات.

    كذلك قد يصير ضعف الإيمان سبباً لأن يقوى ضده، وهو الكفر أو الذنب أو المعصية، فإنه كلما قوي الإيمان ضعفت دوافع الكفر والفسوق والمعاصي، وكلما ضعف الإيمان قويت أضداده، فيحرص المسلم على أن يجدد هذا الإيمان، وأن يكون مجداً مجتهداً في الحرص على تقوية إيمانه، وعلى البعد عن الأسباب التي تضعفه.

    وقد بين العلماء مسمى هذه الأشياء، وذلك لأنها مسميات شرعية، فالإيمان وإن كان أصله لغوياً ولكنه أصبح مسمى شرعياً، استعمله الشرع في الانقياد لأوامر الله تعالى واتباع ما جاء عنه، واستعمله في تكميل هذا الاتباع بامتثال الطاعات وترك المحرمات، فأصبح مسمى شرعياً.

    كذلك الإسلام مسمى شرعي وإن كان أصله في اللغة: أنه الإذعان والاستسلام، ولكنه أصبح اسماً شرعياً يراد به الدخول في هذا الدين والانتماء إليه والالتزام بتعاليمه، فهو مسمى شرعي بعد أن كان لغوياً.

    كذلك الإحسان مسمى شرعي، وقد بينه النبي عليه الصلاة والسلام ووصف أهله وقسمهم، فأصبح هذا الاسم مسمى شرعياً.

    فالإسلام والإيمان والإحسان، وكذلك أضدادها؛ مسميات شرعية؛ فالكفر مسمى شرعي وإن كان أصله في اللغة الستر التغطية والشرك مسمىً شرعي وإن كان أصله في اللغة: الاشتراك في شيئين أو التشريك بين اثنين.

    والنفاق مسمىً شرعي وإن كان له أصل في اللغة، ولكنه أصبح مستعملاً في هذا الاستعمال الشرعي.

    فهذه الأشياء جاءت الشرعية باستعمالها، فمنها ما هو مأمور به: كالإسلام والإيمان والإحسان والدين والاستقامة وما أشبهها، ومنها ما هو منهي عنه ومحذر منه: كالكفر والشرك والنفاق والسيئات والخطايا والذنوب وما أشبهها، فهذه مسميات شرعية، ودخولها في العقيدة من حيث إن على المسلم أن يعتقد تقبل ما جاءت به الشريعة قبولاً كلياً فيقول: هذا الإسلام تضمنته هذه الشريعة فأنا أدين بالإسلام، سواء فيما يتعلق بالعقائد أو ما يتعلق بالأعمال، فيدين لله تعالى به، ويعتقد أنه سفينة النجاة، وأنه سبيل الوصول إلى السلامة، فيعتقد صحته وسلامة من سار عليه، ويعتقد خطأ من ضل عنه وابتعد عنه، أو أخذ منه بعضاً دون بعض، فهذا وجه دخوله في العقيدة.

    أما أركان الإسلام فهي مشهورة، ولم يدخلوها في العقيدة ما عدا الركن الأساسي الذي هو الشهادتان، فإنهما أساس العقيدة وأساس التوحيد، بخلاف الأركان العملية كالصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما أشبهها، فهذه من الأعمال فجعلوها من الفروع، ولكن هي في الحقيقة من العقيدة لأنها أسس للعقيدة، ولأن إنكارها إنكار لشيء معلوم من الدين بالضرورة، فيخرج المنكر له من الملة ويدخل في الكفر والعياذ بالله، وذلك لأنها لما كانت أدلتها واضحة، والمسلمون تلقوها بالقبول؛ لم يكن هناك مجال لإنكارها.

    ولو وجد من ينكرها، فإن أولئك الذين أنكروها قد خالفوا المعقول والمنقول، وكذلك الذين تأولوها كالفلاسفة وبعض الصوفية الذين قالوا إن الصلاة ليست هي هذه الأفعال، إنما المراد بها اتصال القلب بالرب، وفسروا الحج بأنه حج القلوب إلى علام الغيوب وأسقطوا بذلك هذه الأركان الظاهرة التي تعلمها المسلمون من نبيهم صلى الله عليه وسلم، ولكن نفرة المسلمين من هذه الأقوال واستبشاعهم لها أوجب أنها لا تذكر في العقائد، فاقتصر أهل العقائد على أركان الإيمان الستة، وأصلها كما تقدم وتكرر أصلان: الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، فإذا اجتمع هذان تبعتهما بقية الأركان، ولكنهم فصلوا في كثير منها وأجملوا في بعض منها لقلة الخلاف، وإذا حققها المسلم أصبح من أهل العقيدة السليمة، وأصبح من أهل الاستقامة الذين هم على سبيل النجاة.

    1.   

    الإيمان بعلم الله الأزلي

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: ( وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه فقدر ذلك تقديراً محكماً مبرماً، ليس فيه ناقض ولا معقب ولا مزيل، ولا مغير ولا محول، ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه ).

    هذا بناء على ما تقدم من أن الله تعالى قد سبق علمه بالكائنات وأنه قدر مقاديرها قبل خلقها، كما قال صلى الله عليه وسلم : (قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وعرشه على الماء)، فيعلم أن الله قد علم أن الأشياء تصير موجودة لأوقاتها على ما اقتضته حكمته البالغة فكانت كما علم، فإن حصول المخلوقات على ما فيها من غرائب الحكم لا يتصور إلا من عالم قد سبق علمه على إيجادها، قال تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].

    وأنكر غلاة المعتزلة أن الله كان عالماً في الأزل، وقالوا: إن الله تعالى لا يعلم أفعال العباد حتى يفعلوا، تعالى الله عما يقولون علوّاً كبيراً، قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: (ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن أنكروا كفروا).

    فالله تعالى يعلم أن هذا مستطيع يفعل ما استطاعه فيثيبه، وهذا مستطيع لا يفعل ما استطاعه فيعذبه، فإنما يعذبه لأنه لا يفعل مع القدرة وقد علم الله ذلك منه، ومن لا يستطيع لا يأمره ولا يعذبه على ما لم يستطعه.

    لا منافاة بين قدرة العبد وسبق علم الله بما هو عامل

    وإذا قيل : فيلزم أن يكون العبد قادراً على تغيير علم الله، لأن الله علم أنه لا يفعل، فإذا قدر على الفعل قدر على تغيير علم الله؟

    قيل: هذه مغلطة، وذلك أن مجرد مقدرته على الفعل لا تستلزم تغيير العلم، وإنما يظن من يظن تغيير العلم إذا وقع الفعل، ولو وقع الفعل لكان المعلوم وقوعه لا عدم وقوعه، فيمتنع أن يحصل وقوع الفعل مع علم الله بعدم وقوعه، بل إن وقع كان الله قد علم أنه يقع، وإن لم يقع كان الله قد علم أنه لا يقع، ونحن لا نعلم علم الله إلا بما يظهر، وعلم الله مطابق للواقع، فيمتنع أن يقع شيء يستلزم تغيير العلم، بل أي شيء وقع كان هو المعلوم، والعبد الذي لم يفعل لم يأت بما يغير العلم، بل هو قادر على فعل لم يقع، ولو وقع لكان الله قد علم أنه يقع لا أنه لا يقع.

    وإذا قيل: فما انعدم وقوعه يعلم الله أنه لا يقع، فلو قدر العبد على وقوعه قدر على تغيير العلم.

    قيل: ليس الأمر كذلك، بل العبد يقدر على وقوعه وهو لم يوقعه، ولو أوقعه لم يكن المعلوم إلا وقوعه، فمقدور العبد إذا وقع لم يكن المعلوم إلا وقوعه، وهؤلاء فرضوا وقوعه مع العلم بعدم وقوعه، وهو فرض محال، وذلك بمنزلة من يقول: افرض وقوعه مع عدم وقوعه وهو جمع بين النقيضين.

    فإن قيل: فإذا كان وقوعه مع علم الرب بعدم وقوعه محالاً لم يكن مقدوراً.

    قيل: لفظ المحال مجمل، وهذا ليس محالا لعدم استطاعته له ولا لعجزه عنه ولا لامتناعه في نفسه، بل هو ممكن مقدور مستطاع، ولكن إذا وقع كان الله عالماً بأنه سيقع، وإذا لم يقع كان عالماً بأنه لا يقع، فإذا فرض وقوعه مع انتفاء لازم الوقوع صار محالاً من جهة إثبات الملزوم بدون لازمه، وكل الأشياء بهذا الاعتبار هي محال.

    مما يلزم هؤلاء: أن لا يبقى أحد قادراً على شيء لا الرب ولا الخلق، فإن الرب إذا علم من نفسه أنه سيفعل كذا لا يلزم من علمه ذلك انتفاء قدرته على تركه، وكذلك إذا علم من نفسه أنه لا يفعله لا يلزم منه انتفاء قدرته على فعله، فكذلك ما قدره من أفعال عباده، والله تعالى أعلم].

    الكلام الأول يتعلق بعلم الله تعالى بالأشياء قبل وقوعها ويسمى هذا: التقدير العام، وهو أن الله تعالى علم أن الخلق عاملون بعلمه القديم الذي سبق كل شيء، علم أعمالهم وعلم عددهم وعلم عدد المخلوقات، وأحصى ذلك قبل أن يوجدوا، وخلق القلم وأمره أن يكتب، وجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة، هذا ما يؤمن به المسلمون.

    دليل ذلك من القرآن ظاهر مثل قول الله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد:22]، ومثل قوله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70]، ومثل قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59]، والآيات في هذا كثيرة تفيد سعة علم الله بالأشياء قبل وجودها.

    غلاة المعتزلة ينكرون علم الله في الأزل

    ذكر أن غلاة المعتزلة المتقدمين أنكروا هذا النوع وزعموا أن الله لا يعلم الأشياء حتى توجد، وقال بعضهم: إنه يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات، أي: يعلم عموم الأشياء ولا يعلم تفاصيلها، ومقتضى هذا أنه يعلم عدد الخلق ولكن لا يعلم تفاصيل أعمالهم، فإذا علم أن هذه القبيلة يبلغ عددها كذا وكذا، فلا يعلم أعمال هذا الإنسان حتى يعملها.

    وهذا يعتبر تنقصاً لعلم الله: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:282]، وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [التوبة:78]، فيلزم التنقص إذا وصف بأنه لا يعلم الأشياء إلا بعد حدوثها.

    هؤلاء الذين أنكروا العلم السابق الأزلي هم الذين عناهم الإمام الشافعي في هذه الكلمة: (ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به خُصموا، وإن أنكروا كفروا)، يعني: هل تقرون بأن الله بكل شيء عليم؟ هل تقرون بأن الله عالم بكل شيء؛ لأن الله علام الغيوب، وأن الله يعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون؟ هل تقرون بسعة علم الله تعالى؟

    فإن أقروا خُصموا، فإن العلم بالتفاصيل داخل في ذلك، وإن جحدوا كفروا، وذلك لأنهم إذا جحدوا علم الله تعالى لزمهم أن يصفوه بالعجز وبالجهل، وبأنه يكون في الوجود ما لا يريد، فيلزم من ذلك التنقص، ولا شك أنه إنكار للأدلة، فيكونون بذلك كفاراً جاحدين لصفات الله تعالى.

    وقد أقر الأشعرية بوصف الله تعالى بأنه بكل شيء عليم، ولكنهم أنكروا بعض الصفات الفعلية، أما المعتزلة فأنكروا صفة العلم لله سبحانه وتعالى، ووصفوه بأنه لا يجهل؛ هكذا في معتقداتهم!

    شبهات القدرية حول علم الله السابق

    بعد ذلك أخذوا يوردون شبهات ويقولون: إذا علم الله أن هذا الإنسان يعمل كذا وأنه يعمل كذا، فلا بد أن يكون قادراً على أن يرده أو غير قادر على أن يرده.

    فإذا كان قادراً على أن يرده فلم يرده، أصبح قد رضي بأفعاله التي هي المعاصي.

    وإذا لم يكن قادراً، أصبح موصوفاً بالعجز، وما أشبه ذلك من هذه التشكيكات التي يوردونها على أهل السنة الذين يصفون الله تعالى بالعلم القديم.

    وقد ذكر المؤلف جواب أهل السنة عن ذلك، فإن أهل السنة يقولون: إن كل ما وقع فإنه مراد، ولكن من ذلك ما هو مراد ومحبوب كالطاعات، ومنه ما هو مراد ومقدر كالمعاصي، فمن المراد المقدر ما علمه الله وقدره وقضاه على العبد، ولكنه كرهه شرعاً ولم يحبه، وتوعد عليه، والعبد عندما زاوله يوصف بأنه كافر أو عاص أو مجرم أو فاسق أو خاطئ أو مذنب، حيث ارتكب هذا وفعله بقدرة واختيار مستطاع له، فهو الذي يعاتب ويعاقب عليه، هذا هو معتقد أهل السنة في هذا، ولا يلزم من إرادته كوناً أن يحبه وأن يقدره وأن يريده شرعاً.

    والله تعالى كما تقدم قد أعطى العبد قدرة يستطيع بها مزاولة أعماله، فالعبد هو المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمصلي والصائم، وللعباد قدرة على أفعالهم ولهم إرادة، ولكن الله تعالى هو الذي خلقهم وخلق قدرتهم وإرادتهم ولو شاء لهداهم، ولكنه لحكمته البالغة أضل قوماً بعدله، وهدى قوماً بفضله، فله النعمة على من هداه، وله الحكمة على من أضله.

    وأعطى كلاً منهم من الاستطاعة ما يزاول به أعماله، وهذا قد تكرر معنا في الرد على هؤلاء الذين يطيلون الجدل في مثل علم الله تعالى وإرادته، فنحن إذا قلنا: إن جميع ما في الوجود مراد قدراً، وكل ما هو حادث فهو معلوم لله قبل أن توجد المخلوقات ومراد كوناً وقدراً؛ بحيث إن الله قدره وإنه لو شاء ما حصلت هذه الأشياء، فإنه سبحانه لقدرته لا يمكن أن توجد معصية قسراً عليه بدون رضاه أو بدون تقديره، ولكنه لحكمته جعل هؤلاء من أهل الذنوب وهؤلاء من أهل الحسنات لحكمة منه، ولا شك أن الذين اختاروا هذا والذين اختاروا هذا لهم نوع من هذا الاختيار ليستحقوا ثواباً أو عقاباً، وحكمة الله تعالى خفية لا يطلع عليها العباد.

    فهذه الدرجة التي ذكرنا وهذه المنزلة التي هي العلم السابق هو الذي لا يتغير، يعني يقال: ما كتبه الله في اللوح المحفوظ لا يمكن تغييره، يقول الله تعالى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا [التوبة:51]، هذا في المصائب، ويقول: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:23].

    ويقول علقمة في قوله تعالى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11] هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم، يعني: يستسلم لما أصابه بقضاء الله تعالى وبقدره، فيكون بذلك قد اتقى الله حق تقاته، وقد علم أن ما حدث فهو بأمر الله تعالى وبتقديره، وفعل ما يقدر عليه وما هو مأمور به، واستسلم لأمر الله تعالى.

    وقد تقدم لنا وتكرر أن إيماننا بالقضاء والقدر لا يستلزم أن نترك الأسباب والأفعال والأعمال التي نعملها، كما أننا لا نترك الأسباب الحسية في طلب المعاش؛ فكذلك في طلب الأجر الأخروي والحسنات الأخروية، فالعبد مأمور بأن يفعلها مع إيمانه بأنها مقدرة وأنها ستأتيه، ويؤمن بأن المصائب التي وقعت عليه لا بد منها، لقوله تعالى: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154]، ولقوله: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78]، وهذا في الذين قالوا: رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ [النساء:77]، فتبين أن التحصن لا يدفع قدر الله تعالى الذي قدره.

    فعلى كل حال فإن الإيمان بسعة علم الله تعالى وواسع علمه بتفاصيل المخلوقات، لا ينافي فعل الأسباب وحدوث المسببات بعد أسبابها.

    1.   

    الإيمان بالقدر وسبق علم الله من عقد الإيمان والاعتراف بربوبية الله

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: ( وذلك من عقد الإيمان وأصول المعرفة، والاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته، كما قال تعالى في كتابه: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2]، وقال تعالى: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا [الأحزاب:38] ).

    الإشارة إلى ما تقدم من الإيمان بالقدر وسبق علمه بالكائنات قبل خلقها، قال صلى الله عليه وسلم في جواب السائل عن الإيمان: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)، وقال صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: (يا عمر ؛ أتدري من السائل؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) رواه مسلم].

    أحاديث ذم القدرية

    قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: (والاعتراف بتوحيد الله وربوبيته) أي: لا يتم التوحيد والاعتراف بالربوبية إلا بالإيمان بصفاته تعالى، فإن من زعم خالقاً غير الله فقد أشرك، فكيف بمن يزعم أن كل أحد يخلق فعله؟! ولهذا كانت القدرية مجوس هذه الأمة، وأحاديثهم في السنن.

    روى أبو داود عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (القدرية مجوس هذه الأمة؛ إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم).

    وروى أبو داود أيضا عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر، من مات منهم فلا تشهدوا جنازته، ومن مرض منهم فلا تعودوهم، وهم شيعة الدجال، وحق على الله أن يلحقهم بالدجال).

    وروى أبو داود أيضا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم).

    وروى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صنفان من بني آدم ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية)، لكن كل أحاديث القدرية المرفوعة ضعيفة وإنما يصح الموقوف منها.

    فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده)، وهذا لأن الإيمان بالقدر يتضمن الإيمان بعلم الله القديم وما أظهر من علمه بخطابه وكتابة مقادير الخلائق، وقد ضل في هذا الموضع خلائق من المشركين والصابئين والفلاسفة وغيرهم ممن ينكر علمه بالجزئيات أو بغير ذلك، فإن ذلك كله مما يدخل في التكذيب بالقدر].

    الإيمان بالصفات متوقف على الإيمان بالقدر

    ذكر أن الإيمان بالقدر من تمام الإيمان بصفات الله تعالى، وأنه واجب على الإنسان أن يؤمن بصفات الله، فيؤمن بأنه الخالق وحده، ويؤمن بأنه العليم والحكيم، وبأنه المدبر والمتصرف في الخلق، وذلك كله يتوقف على الإيمان بالقدر؛ لأن القدر إذا قلنا إنه يدخل فيه قدرة الله ويدخل فيه علم الله، فإنكار قدرة الله تعالى إنكار لصفاته ووصف له بالعجز سبحانه وتعالى، وبأنه يكون معه من يتصرف في الكون بدون رضاه، وذلك شرك.

    كذلك إنكار علم الله وصف له تعالى بالجهل، وذلك أيضاً غاية التنقص، فمن آمن بأن الله على كل شيء قدير، وبأن الله بكل شيء عليم، آمن بأنه عزيز حكيم، وبأنه هو الذي نظم الخلق وهو الذي يتصرف في الكون وحده، وهو الذي يعلم السعيد والشقي والفاجر والتقي، وهو الذي قدر المقادير وأوجدها، فيلزمه والحال هذه أن يعلم أن هذه المصائب التي تحدث تحدث بعلم الله، وأنها متى وقعت فليس منها مفر ولا محيد، ولأجل ذلك أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالإيمان بهذا الأمر بقوله: (وأن تؤمن بالقدر خيره وشره وحلوه ومره)، وقال لـابن عباس في حديثه المشهور: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)، يعني يبست الصحف مما كتب فيها، ورفعت الأقلام فلم يبق كتابة، بل الأمر قد فرغ منه وقد عرف أهل الجنة من أهل النار.

    فالإيمان بالقدر من تمام الإيمان بالله، والذين أنكروه صنفان: صنف أنكروا العلم وصنف أنكروا القدرة، فالذين أنكروا العلم هم الغلاة الذين يقولون: إن الله لا يعلم الأشياء حتى توجد أو إنه يعلم الكليات دون الجزئيات، وهم غلاة المعتزلة قديماً؛ منهم عمرو بن عبيد ومنهم غيلان القدري ومنهم معبد الجهني ، فهؤلاء موصوفون بأنهم من غلاة القدرية.

    ثم جاء بعدهم المعتزلة الذين أخذوا منهم بعض الأشياء فأنكروا قدرة الله عموماً، ومنهم أبو الهذيل العلاف المعتزلي وأبو هاشم الجبائي ومنهم القاضي عبد الجبار الهمداني ومنهم الجاحظ المشهور وأشباههم، هؤلاء من المعتزلة الذين أنكروا قدرة الله، ولأجل ذلك قال الإمام أحمد رحمه الله: (القدر قدرة الله)، يعني أن الإيمان بقدرة الله إيمان بالقدر.

    مشابهة القدرية للمجوس في إثبات خالق غير الله

    وعلى قول هؤلاء المعتزلة يكون هناك من يخلق مع الله، ولا يكون الله هو الذي يخلق وحده، وعقيدة المعتزلة أن كل إنسان يخلق فعله، وأن الله لا يقدر على أفعال العباد، وأنه لا يستطيع أن يهدي هذا ولا يضل هذا، وأن قدرة العبد تغلب قدرة الله، فإذا أراد العبد أن يعصي وأراد الله ألا يعصي غلبت قدرة العبد على قدرة الخالق تعالى، فهذا هو معتقدهم في أن العبد يخلق أفعاله دون أن يكون لله قدرة على رده.

    ويزعمون أن هذا هو العدل فيقولون: إنه لو خلق الأفعال في العبد ثم عذبه عليها لاعتبر ظالماً له، وهذا هو سبب غلوهم في القدر حتى جعلوا هنالك من يخلق مع الله تعالى، ولم يجعلوا الخلق والأمر لله، فخالفوا قول الله تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54]، فالخلق لله وحده والأمر الذي هو الشرع لله وحده.

    ولأجل ذلك وردت هذه الأحاديث في أن: (القدرية مجوس هذه الأمة)، وهذه الأحاديث مروية في السنن ولكن فيها مقال فلا يثبت رفعها، وإنما الصحيح أنها موقوفة، يعني: أنها من كلام الصحابة.

    ولا شك أن كلام الصحابة معتبر؛ وذلك لأنهم هم الذين شاهدوا نزول الوحي، وهم الذين نقلوا لنا الشرع عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا حذرونا من هؤلاء القدرية وقالوا: إنهم يجعلون مع الله من يخلق وإنهم مجوس هذه الأمة؛ لم يقولوا ذلك إلا عن توقيف، ولا بد أنهم عرفوا ذلك عن طريق الرسول صلى الله عليه وسلم وعن طريق شريعته، هذا هو السبب في كون أقوالهم أصبحت معتبرة.

    ومعنى كونهم مجوس هذه الأمة أن المجوس كما تقدم في أول الكتاب -ويسمون الثانوية- يدعون أن الخلق صدر عن اثنين: النور خلق الخير، والظلمة خلقت الشر، فيدعون أن الخلق صادر عن خالقين.

    القدرية يقولون: الله هو الذي خلق الإنسان ولكن الإنسان يخلق أعماله وأفعاله، فيجعلون مع الله من يخلق ولا يجعلون الأفعال مخلوقة لله تعالى، ويخالفون قول الله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96]، وقد تقدم أنهم يخشون بذلك أن يحتج محتج بالقدر على المعاصي.

    يقول العلماء: إنهم لما اعتقدوا هذا الاعتقاد السيئ، وهو أن العبد هو المستقل بفعله، وأن الله ليس بقادر على أن يخلق أفعال العباد لا خيراً ولا شراً، خلى الشيطان بينهم وبين الأعمال فأصبحوا يتعبدون ويكثرون من التمسك، ويأتون بأنواع التنفلات والقربات، ويبتعدون عن المحرمات صغائرها وكبائرها، لأن من عقيدتهم أن الإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة، وأن الكبيرة توجب الخلود في النار، ويسمون ذلك إنفاذ الوعيد، فالوعيد الذي ورد في الشرع لا بد أن ينفذ، ومن توعده الله بأية عذاب فإنه يحكم بخلوده في النار.

    فأهل المعاصي عندهم مخلدون في النار لا يخرجون منها، ويستدلون بمثل قول الله تعالى: وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167]، وبقوله: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا [المائدة:37]، وبقوله: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا [الحج:22]، وما علموا أن هذه الآيات في الكفار الذين حكم بأنهم مخلدون فيها، أما العصاة الذين أذنبوا ذنوباً فسيأتينا أنهم يخرجون من هذه بشفاعة الشافعين، وبرحمة أرحم الراحمين، وبكل حال فهؤلاء مجوس هذه الأمة، وهذا هو قولهم.

    وأما مخافتهم أن يحتج محتج بالقدر على فعل المعاصي، فقد ذكرنا أن من عقيدة أهل السنة: أن المعاصي إذا صدرت عن العبد نسبت إليه مباشرة ونسبت إلى الله تعالى تقديراً، ولما كانت تنسب إلى العبد مباشرة وإيجاداً استحق ذلك العبد أن يعاتب عليها وأن يعاقب، وكذلك الطاعات تنسب إلى العبد مباشرة وتنسب إلى الله خلقاً وتقديراً، وإذا كان كذلك فلا حجة للمجبرة على فعل الذنوب، ونعرف بذلك أن كلتا الطائفتين خاطئة: أعني القدرية الذين ينفون قدرة الله على أفعال العباد، والمجبرة الذين يعذرون العبد في الأفعال ويقولون إن تعذيبه على أفعاله ظلم، حيث إنه ليس له أية اختيار، فنقول: إن له اختياراً لكن اختياره مسبوق باختيار الله تعالى، وله قدرة ولكن قدرته مغلوبة بقدرة الله.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما قدرة الله على كل شيء فهو الذي يكذب به القدرية جملة، حيث جعلوه لم يخلق أفعال العباد فأخرجوها عن قدرته وخلقه، والقدر الذي لا ريب في دلالة الكتاب والسنة والإجماع عليه، وأن الذي جحدوه هم القدرية المحضة بلا نزاع هو: ما قدره الله من مقادير العباد، وعامة ما يوجد من كلام الصحابة والأئمة في ذم القدرية يعنى به هؤلاء، كقول ابن عمر رضي الله عنهما لما قيل له يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف: (أخبرهم أني منهم بريء وأنهم مني برآء)].

    1.   

    الأصول التي يقتضيها الإيمان بالقدر المطابق للعلم

    قال المؤلف: [والقدر الذي هو التقدير المطابق للعلم يتضمن أصولاً عظيمة:

    أحدها: أنه عالم بالأمور المقدرة قبل كونها، فيثبت علمه القديم، وفي ذلك الرد على من ينكر علمه القديم.

    الثاني: أن التقدير يتضمن مقادير المخلوقات، ومقاديرها هي صفاتها المعينة المختصة بها، فإن الله قد جعل لكل شيء قدراً قال تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2]، فالخلق يتضمن تقدير الشيء في نفسه بأن يجعل له قدراً، وتقديره قبل وجوده، فإذا كان قد كتب لكل مخلوق قدره الذي يخصه في كميته وكيفيته، كان ذلك أبلغ في العلم بالأمور الجزئية المعينة، خلافاً لمن أنكر ذلك وقال: إنه يعلم الكليات دون الجزئيات!

    فالقدر يتضمن العلم القديم والعلم بالجزئيات.

    الثالث: أنه يتضمن أنه أخبر بذلك وأظهره قبل وجود المخلوقات إخباراً مفصلاً، فيقتضي أنه يمكن أن يعلم العباد الأمور قبل وجودها علماً مفصلاً، فيدل ذلك بطريق التنبيه على أن الخالق أولى بهذا العلم، فإنه إذا كان يعلم عباده بذلك فكيف لا يعلمه هو؟!

    الرابع: أنه يتضمن أنه مختار لما يفعله محدث له بمشيئته وإرادته، ليس لازماً لذاته.

    الخامس: أنه يدل على حدوث هذا المقدور وأنه كان بعد أن لم يكن، فإنه يقدره ثم يخلقه].

    الاستدلال بهذه الآيات على القدر: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2]، إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، والقدر معناه: تحديد الشيء وتقدير مدته وتقدير زمانه، ومعناه: أن الله قدر الأعمال، أي: متى تحدث هذه الطاعة، ومتى تنتهي، وقدر الأعمار، فعمر الإنسان لا يزيد عما قدره الله وكتبه ولا ينقص، وقدر الوفيات وأسبابها وجعلها مكتوبة؛ بأن هذا الإنسان لا بد أن يموت بكذا وكذا، وليس له مفر مما كتبه الله عليه وما أشبه ذلك.

    وورد أيضاً: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقي بها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟ فقال: هي من قدر الله) أي: هي مكتوبة، يعني قدر الله أن هذا يصاب بمرض وأن المرض يعالج بكذا وكذا، فهو مقدر ومكتوب أن يزول المرض بهذا السبب، ولأجل ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتداوي في قوله: (تداووا عباد الله ولا تتداووا بالحرام، فإن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء)، فتعاطي هذه الأسباب لا ينافي أن العبد مكتوب عليه ما هو فاعل، ولا يقول إنسان: أنا سوف أترك هذا الفعل ولا بد لي من حصول ما كتب لي! لأن ترك الأسباب كلياً نقص في العقل.

    لو رأيت إنساناً عزم على ترك الأكل والشرب واللباس ونحو ذلك، وقال: إذا قدر الله أني أتغذى فسأتغذى بدون ذلك، وإذا كان الله قد قدر لي ذلك فلا حاجة إلى أن أطعم وإلى أن أشرب وإلى أن ألبس وإلى غير ذلك!

    نقول: هذا نقص في العقل؛ لأن هذه الأشياء جعلها الله أسباباً حسية وأمر بتعاطيها وأباحها، فلا يكون شبع إلا بواسطة الأكل، ولا ري إلا بواسطة الشرب، ولا ولد إلا بواسطة النكاح، وكذلك الأرزاق التي أمر بالاكتساب لها، فإنه أمر بفعل هذه الأسباب حتى يحصل من آثارها الرزق، ولو كان هو الذي قدرها وهو الذي يسرها، كما في قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الواقعة:63-64]، فذكر أنهم يزرعون، أي: يغرسون الأشجار ويسقونها ويبذرون الحبوب وينبتونها، فأضاف إليهم الفعل، ولكن أخبر بأنه هو الذي جعل هذه الأرض قابلة لذلك حتى تصير منبتة ومثمرة ونحو ذلك، وهو الذي أوجد هذا الماء الذي به هذا الشراب، ولو شاء لغيره كما في قوله تعالى: لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا [الواقعة:70] يعني ملحاً أجاجاً لا يصلح للشرب ولا للسقي ولا لغير ذلك.

    فأصبح الإيمان بهذا القدر يقتضي أن نعلم بأن تفاصيل الأشياء معلومة وموجودة لله تعالى، ولكن لا تترك الأسباب الحسية، بل يفعلها الإنسان ويعلم أنها مقدرة من الله، وأنه هو الذي أمر بها ويسرها.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756224042