إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [28]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • القدر غيب لا يطلع عليه أحد من الخلق، وقد كتب الله تعالى ما سيعمله العبد، ولكن جعل له قدرة واختياراً يزاول بها ما أراد من خير أو شر، وهذا هو الذي يحاسب عليه.

    1.   

    القدر سر الله تعالى في خلقه

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى في كتابه: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين).

    أصل القدر سر الله في خلقه، وهو كونه أوجد وأفنى، وأفقر وأغنى، وأمات وأحيا، وأضل وهدى، قال علي رضي الله عنه: (القدر سر الله فلا تكشفه)، والنزاع بين الناس في مسألة القدر مشهور

    والذي عليه أهل السنة والجماعة: أن كل شيء بقضاء الله وقدره، وأن الله تعالى خالق أفعال العباد، قال تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، وقال تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2]، وأن الله تعالى يريد الكفر من الكافر ويشاؤه، ولا يرضاه ولا يحبه، فيشاؤه كوناً ولا يرضاه ديناً.

    وخالف في ذلك القدرية والمعتزلة: وزعموا أن الله شاء الإيمان من الكافر، ولكنّ الكافر شاء الكفر؛ فروا إلى هذا لئلا يقولوا: شاء الكفر من الكافر وعذبه عليه! ولكن صاروا كالمستجير من الرمضاء بالنار! فإنهم هربوا من شيء فوقعوا فيما هو شر منه! فإنه يلزمهم أن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله تعالى فإن الله قد شاء الإيمان منه - على قولهم -والكافر شاء الكفر، فوقعت مشيئة الكافر دون مشيئة الله تعالى! هذا من أقبح الاعتقاد، وهو قول لا دليل عليه، بل هو مخالف للدليل:

    روى اللالكائي من حديث بقية عن الأوزاعي حدثنا العلاء بن الحجاج عن محمد بن عبيد المكي : عن ابن عباس: (أن رجلاً قدم علينا يكذب بالقدر، فقال: دلوني عليه -وهو يومئذ أعمى- فقالوا له: ما تصنع به؟ فقال: والذي نفسي بيده لئن استمكنت منه لأعضن أنفه حتى أقطعه، ولئن وقعت رقبته بيدي لأدقنها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كأني بنساء بني فهر يطفن بالخزرج تصطك ألياتهن مشركات، هذا أول شرك في الإسلام، والذي نفسي بيده لينتهين بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يقدر الخير، كما أخرجوه من أن يقدر الشر).

    قوله: (وهذا أول شرك في الإسلام..) إلى آخره من كلام ابن عباس وهذا يوافق قوله: (القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده)].

    لا يسأل عما يفعل

    هذا يتعلق بالقضاء والقدر، ويذكر المؤلف أن القدر سر الله تعالى في كونه وفي أمره، ووجه كونه سراً لا يعلمه البشر أن الرب سبحانه له الحكمة في كونه هدى هذا وأضل هذا، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ولا يجوز للعباد أن يسألوا عن الأسباب في أفعال الله تعالى، فلا يقال: لماذا حبس الله الخير؟ لماذا أنزل الله العذاب؟ لماذا خلق الله الأمراض؟ لماذا خلق الله الحشرات والأضرار؟ لماذا خلق الله السباع؟ لماذا سلط الله على المؤمنين الأمراض والعاهات والفقر؟ لماذا سلط عليهم الكفار؟ لماذا أفقر هذا وأغنى هذا؟!

    قال تعالى: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]، لكن مع ذلك نعرف أنه سبحانه حكيم يضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها ، فلا يفعل شيئاً عبثاً: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا [المؤمنون:115] وليس شيء من خلقه موجوداً إلا لحكمة، ولم يسلط عقوبة ولم يخلق مرضاً إلا لمصلحة ولحكمة، سواء علمنا تلك الحكمة أو حجبت عنا؛ لأن هذا مقتضى اسمه الحكيم، أي: ذي الحكمة التي هي غاية المصلحة، ولكن ليس لنا الاعتراض على تصرفه، فهو سبحانه يتصرف في خلقه كيف يشاء فيهدي هذا فضلاً منه، ويضل هذا عدلاً منه، ويغني ويفقر، ويميت ويحيي، ويسعد ويشقي، ويمنع ويعطي، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه.

    وليس لنا أن نعترض على الله تعالى، بل نؤمن بذلك كله ونقول: لا نعلم الحكمة في ذلك ولا نعلم السر في ذلك، فالقدر سر الله في خلقه، هذا من ناحية خلقه الأشياء النافعة والضارة معاً.

    خلق الخير والشر دليل على كمال القدرة ولكن لا ينسب الشر إلى الله

    ولا شك أن خلق الخير والشر، وخلق النفع والضر المتضادين، دليل على كمال القدرة، فإننا إذا رأينا أنه فرق بين الأخوين: هذا غني وهذا فقير، هذا سليم وهذا مريض، هذا سعيد وهذا شقي، هذا مهتد وهذا ضال؛ فلا شك أن هذا يدل على كمال التصرف، وأنه تصرف في خلقه كيفما شاء، وذلك دليل كمال القدرة.

    فالظلمة ضدها النور، والليل ضده النهار، وكذلك المزدوجات كما في قوله تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات:49] يعني: ذكراً وأنثى، فهكذا أيضا المتضادات: الصحة والمرض ضدان، والخير والشر، والغنى والفقر، والسعادة والشقاوة، الله تعالى هو الذي خلقها وقدرها، ولكن نعرف أن كل ما صدر عن الله تعالى فإنه بالنسبة إلى إيجاده هو خير، ولذلك ورد في حديث الاستفتاح: (لبيك وسعديك، والخير كله بيديك، والشر ليس إليك).

    معلوم أن الله يقدر الأمراض، وهو الذي قدر الفقر والمصائب، وهو الذي يقدر العاهات على العباد ونحوها، ولكن هل يقال: إنها شر بالنسبة إلى الله؟ ليست شراً، بل هي لحكمة ومحض مصلحة، فهذا معنى قوله: (والشر ليس إليك).

    وإذا تتبعت القرآن والأدلة تجد أن كل ما فيه شر ينسب إلى الإنسان وإن كان الله هو الذي أوجده وكونه وقدره، حكى الله عن إبراهيم أنه قال: وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:79-80] لم يقل: وإذا أمرضني، مع أن الله تعالى هو الذي ينزل المرض ويقدره، ولكن لا يضاف إليه الشر المحض.

    وحكى الله عن مؤمني الجن أنهم قالوا: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10] فالشر قالوا: أريد، والخير قالوا: (أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ) وذلك: حتى ينزه الله تعالى عن أن يصدر منه الشر المحض، وإن كان هو الذي قدر الشر، وخلقه وكونه، فإنه لا يكون في الوجود إلا ما يريد، فيعتقد العبد أن صدورها من الله تعالى خير ومحض مصلحة، وليس فيها أية ضرر بالنسبة إلى الله، ولو كان فيها كراهية للعباد وضرر عليهم حسياً، لكن ما خلقها وقدرها إلا لحكمة ومصلحة، فهي خير، فلا يضاف الشر إلى الله تعالى؛ هذا هو قول أهل السنة.

    مذهب المعتزلة في أفعال العباد

    سمعنا أن طائفة المعتزلة أنكروا أن يكون الله تعالى يخلق أفعال العباد، وجعلوا العبد هو الذي يخلق فعله، وجعلوا العباد هم الذي يهدون أنفسهم، ويضلون أنفسهم، وكذبوا بالنصوص الواردة في مثل إضافة الأفعال إلى الله تعالى، كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ [النحل:37] وكقوله تعالى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:23]، وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ [الزمر:37].

    وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الحاجة: (من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له)، أي: أن الله هو الذي هدى هذا وأقبل بقلبه إلى الخير، وأضل هذا وصرفه إلى الشر، وله المنة والنعمة على المهتدين، وهو العادل في صرف هؤلاء المعتدين الظالمين، ولكن ما عذبهم وهو ظالم لهم، ولو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته أفضل من أعمالهم.

    الرد على المعتزلة في المشيئة

    فعلى هذا نقول: إن الله تعالى هو الذي خلق أفعال العباد، ولو شاء لما فعلوها، فلو شاء لما ضل هذا ولما اهتدى هذا، فهو الذي من على هذا وهداه، وهو الذي أضل هذا وصرفه، قال الله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [الأنعام:125].

    وقد حكى الله عن المشركين أنهم يتعلقون بعموم المشيئة، ولا متعلق لهم في ذلك، فإذا قال المشركون مثلا:ً لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:148]، أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ [يس:47]، نقول: حقاً أن الله لو شاء ما أشركتم، ولكنه سبحانه خذلكم عدلاً منه، ولم يقدر لكم الهداية؛ لكن أعطاكم قوة وأعطاكم اختياراً، وأعطاكم ميلاً صرتم به مائلين إلى أفعال الشر وإلى الكفر وإلى المعاصي، فميلكم هذا واختياركم -وإن كان مسبوقاً بقضاء الله وقدره- هو الذي تستحقون عليه العقوبة.

    فلذلك يقول أهل السنة: إن الله تعالى تغلب قدرته قدرة العباد، ولكن أعطانا قوة وأعطانا قدرة وأعطانا استطاعة نتمكن بها من مزاولة الأعمال، وقدرة الله ومشيئته غالبة على قدرة العبادة ومشيئتهم وإرادتهم، ولأجل ذلك يقول الله تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30]، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام في الدعاء المأثور: (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن).

    المعتزلة ما اتسعت نفوسهم لهذا، فقالوا: إن قدرة العبد غلبت قدرة الله، وعلى قولهم يكون في الوجود ما لا يريد، فإنه أراد من الناس كلهم أن يؤمنوا، ولكن غلبت قدرة هؤلاء الكفار قدرة الله، فاختاروا الكفر، فكان في الكون من يخلق مع الله؛ لأنهم خلقوا أفعال العباد مستقلين بها، دون أن يكون لله تصرف بها ولا قدرة عليها، فكانوا بذلك كالمستجير من الرمضاء بالنار، كأنهم يقولون: لو أنه خلق فيهم ذلك وعذبهم لكان ظالماً لهم، إذ كيف يعذبهم وهو الذي خلق فيهم الكفر وخلق فيهم المعاصي وأقدرهم عليها.

    نقول: أنتم فررتم من شيء ووقعتم في شر منه، حيث جعلتم الله مغلوباً على أمره، حيث قلتم: إنه يعصى قسراً، وإن قدرتهم تغلب قدرته؛ تعالى الله عن ذلك.

    المعتزلة مجوس هذه الأمة

    ولأجل ذلك الاعتقاد الذي هو قولهم: إن الله معه من يخلق، سموا مجوس هذه الأمة، لأن المجوس يجعلون الأمر صادراً عن خالقين: النور والظلمة، فالنور هو الذي يخلق الخير والظلمة هي التي تخلق الشر، والقدرية الذين ينكرون قدرة الله يجعلون العباد يخلقون أفعالهم مستقلين بها، ولا يجعلون لله قدرة على الهداية ولا على الإضلال.

    وبكل حال فعقيدة أهل السنة أن لله تعالى قدرة تغلب قدرة العباد، ولكن يثيب العباد ويعاقبهم على ما أوجد فيهم من القدرة والاستطاعة التي يتمكنون بها من مزاولة الأعمال، فثواب العباد وعقابه على طاعته، كما في قوله: جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17]، بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ [آل عمران:182]، بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].

    فما دام أنهم أضيفت إليهم الأعمال، فلا بد أن لهم استطاعة ولهم قدرة يتمكنون بها من إيجاد الإيمان والكفر، وإيجاد الطاعات والمعاصي، ولكن كل ذلك مسبوق بقدرة الخالق تعالى وباختياره وبقهره، ولو شاء لما حصل ذلك الإثم.

    قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام:149]، فله الحجة على خلقه، فهو الذي يقدر على أن يعطي هذا الهداية منا منه وكرماً، ويخذل هذا.

    وهذا بحث واسع يتعلق بالقضاء والقدر، وقد أطال فيه العلماء حتى يبطلوا شبهة طائفتين: طائفة غلت في الإثبات، وطائفة غلت في النفي.

    فالذين غلوا في النفي نفوا قدرة الله، وهؤلاء يسمون قدرية، وهم نفاة القدر، وهم عموم المعتزلة.

    والذين غلوا في الإثبات يسمون المجبرة أو الجبرية، فإنهم غلوا في الإثبات حتى سلبوا العبد قدرته واختياره وجعلوه كشجرة تحركها الرياح ليس له أي اختيار، وجعلوا تعذيبهم على المعاصي ظلماً من الله لهم، تعالى الله عن قولهم!

    وتوسط أهل السنة والجماعة وجعلوا للعبد قدرة وإرادة، والله خالقه وخالق قدرته وإرادته، وجعلوا العباد فاعلين حقيقة تضاف إليهم أعمالهم، فالعبد المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمصلي والصائم تسند إليه هذه الأعمال، وإن كانت بقضاء الله وقدره وبخلقه وبإرداته، حيث لا يخرج شيء عن إرادة الله تعالى.

    قصتان لمجوسي وأعرابي مع المعتزلة

    قال المؤلف: [وروى عمر بن الهيثم قال: خرجنا في سفينة وصحبنا فيها قدري ومجوسي، فقال القدري للمجوسي: أسلم! قال المجوسي: حتى يريد الله فقال القدري: إن الله يريد ولكن الشيطان لا يريد! قال المجوسي: أراد الله وأراد الشيطان، فكان ما أراد الشيطان! هذا شيطان قوي! وفي رواية أنه قال: فأنا مع أقواهما!!.

    ووقف أعرابي على حلقة فيها عمرو بن عبيد فقال: يا هؤلاء! إن ناقتي سرقت فادعوا الله أن يردها عليّ، فقال عمرو بن عبيد : اللهم إنك لم ترد أن تسرق ناقته فسرقت فارددها عليه! فقال الأعرابي: لا حاجة لي في دعائك! قال: ولم؟ قال: أخاف -كما أراد أن لا تسرق فسرقت- أن يريد ردها فلا ترد!

    وقال رجل لـأبي عصام القسطلاني: أرأيت إن منعني الهدى وأوردني الضلال ثم عذبني؛ أيكون منصفاً؟ فقال له أبو عصام: إن يكن الهدى شيئا هو له، فله أن يعطيه من يشاء ويمنعه من يشاء.

    وأما الأدلة من الكتاب والسنة: فقد قال تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة:13]، وقال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس:99]، وقال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29]، وقال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الإنسان:30]، وقال تعالى: مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:39]، وقال تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125].

    ومنشأ الضلال: من التسوية بين المشيئة والإرادة، وبين المحبة والرضا، فسوى بينهما الجبرية والقدرية ثم اختلفوا: فقالت الجبرية: الكون كله بقضائه وقدره فيكون محبوباً مرضياً، وقالت القدرية النفاة: ليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضية له، فليست مقدرة ولا مقضية؛ فهي خارجة عن مشيئته وخلقه].

    في هذه القصص التي سمعنا ما يبطل قول المعتزلة، ففي القصة الأولى مجوسي وقدري، والمجوس معلوم أنهم يجعلون الكون صادراً عن خالقين: خالق للخير وخالق للشر، وهذا المجوسي باق على مجوسيته، فهذا القدري دعاه إلى الإسلام، فقال المجوسي: لا أسلم حتى يريد الله أن أسلم، فقال ذلك القدري: الله يريد الإسلام منك، ولكن الشيطان هو الذي يريد منك الكفر، فتعجب ذلك المجوسي، وقال: هذا شيطان قوي، وقوة الشيطان غلبت قوة الله! فالله أراد أن أؤمن والشيطان أراد أن أكفر، فغلبت إرادة الشيطان إرادة الله.

    فخصم ذلك المعتزلي، ولو أنه قال: إن الله تعالى أراد كل شيء، فأراد منك الإيمان وأحبه منك، ولكن جعل لك قدرة وميلاً واستطاعة تزاول بها العمل، لكان ذلك أقرب أن يتقبل، فهذه لا شك أنها دالة على أن المعتزلة متذبذبين في شبهاتهم وفي حججهم.

    أما القصة الثانية فهي قصة صاحب البعير مع المعتزلي، وهذا من أول من أظهر الاعتزال، فأول من أظهر الاعتزال في عهد السلف هو واصل بن عطاء، وتبعه عمرو بن عبيد، فلما دعا الله ذلك المعتزلي بقوله: اللهم إنك لم ترد أن يسرق البعير فاردده، فطن الأعرابي وقال: الله أراد ألا يسرق فسرق، إذاً: لو أراد أن يرده لم يقدر، فلا حاجة لي بدعائك.

    الله تعالى هو الذي يريد كل شيء ولا يكون في الوجود إلا ما يريد، ولكنه يقدر هذه الأشياء كما يشاء.

    وبكل حال فالأدلة واضحة الدلالة في أن مشيئة الله تعالى وقدرته عامة، وأنه لا يكون في الوجود إلا ما يريد، فإن قوله تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30]، أي: مشيئتكم التي تزاولون بها الأعمال مرتبطة بمشيئة الله.

    وقوله: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:39]؛ فإضلاله لهؤلاء عدل منه، ولكنه معلوم أنه مكنهم من الأعمال، فزاولوا الأعمال السيئة من الكفر والذنوب، فعذبوا على تلك المزاولة التي صاروا بها كفاراً مقدمين للكفر ومقدمين للمعاصي، وهدى المؤمنين وأقبل بقلوبهم ومكنهم وأعطاهم قدرة يزاولون بها الطاعات والإيمان، فصاروا بذلك مؤمنين مطيعين، فعذب هؤلاء على معاصيهم وكفرهم وإن كان بقضاء وقدر، وأثيب هؤلاء على إيمانهم وطاعتهم وإن كان بقضاء وبقدر.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756454090