إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [15]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وجعله خاتم النبيين وإمام المتقين وسيد المرسلين وحجة الله على جميع العالمين، وفضله على جميع خلقه، وأوجب على كل من سمع به أن يتبعه.

    1.   

    الرسول صلى الله عليه وسلم وعموم رسالته

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولذكر دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من المعجزات وبسطها موضع آخر، وقد أفردها الناس بمصنفات كـالبيهقي وغيره.

    بل إنكار رسالته صلى الله عليه وسلم طعن في الرب تبارك وتعالى، ونسبته إلى الظلم والسفه -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- بل جحد للرب بالكلية وإنكار، وبيان ذلك أنه إذا كان محمد عندهم ليس بنبي صادق، بل ملك ظالم، فقد تهيأ له أن يفتري على الله ويتقول عليه، ويستمر حتى يحلل ويحرم، ويفرض الفرائض، ويشرع الشرائع، وينسخ الملل، ويضرب الرقاب، ويقتل أتباع الرسل وهم أهل الحق، ويسبي نساءهم، ويغنم أموالهم وذراريهم وديارهم، ويتم له ذلك حتى يفتح الأرض، وينسب ذلك كله إلى أمر الله له به ومحبته له، والرب تعالى يشاهده وهو يفعل بأهل الحق، وهو مستمر في الافتراء عليه ثلاثاً وعشرين سنة، ومع ذلك كله يؤيده وينصره، ويعلي أمره، ويمكن له من أسباب النصر الخارجة عن عادة البشر.

    وأبلغ من ذلك أنه يجيب دعواته، ويهلك أعداءه، ويرفع له ذكره، هذا وهو عندهم في غاية الكذب والافتراء والظلم؛ فإنه لا أظلم ممن كذب على الله، وأبطل شرائع أنبيائه، وبدلها وقتل أولياءه، واستمرت نصرته عليهم دائماً، والله تعالى يقره على ذلك، ولا يأخذ منه باليمين، ولا يقطع من الوتين.

    فيلزمهم أن يقولوا: لا صانع للعالم ولا مدبر، ولو كان له مدبر قدير حكيم لأخذ على يديه، ولقابله أعظم مقابلة، وجعله نكالاً للصالحين؛ إذ لا يليق بالملوك غير ذلك، فكيف بملك الملوك وأحكم الحاكمين؟

    ولا ريب أن الله تعالى قد رفع له ذكره، وأظهر دعوته والشهادة له بالنبوة على رءوس الأشهاد في سائر البلاد، ونحن لا ننكر أن كثيراً من الكذابين قام في الوجود وظهرت له شوكة، ولكن لم يتم أمره ولم تطل مدته، بل سلط الله عليه رسله وأتباعهم فقطعوا دابره واستأصلوه، فهذه سنة الله التي قد خلت من قبل، حتى إن الكفار يعلمون ذلك، قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ [الطور:30-31]، أفلا تراه يخبر أن كماله وحكمته وقدرته تأبى أن يقر من تقوَّل عليه بعض الأقاويل، فلابد أن يجعله عبرة لعباده كما جرت بذلك سنته في المتقولين عليه، وقال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ [الشورى:24]، وهنا انتهى جواب الشرط، ثم أخبر خبراً جازماً غير معلق أنه يمحو الباطل ويحق الحق، وقال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْء [الأنعام:91]، فأخبر سبحانه أن من نفى عنه الإرسال والكلام لم يقدره حق قدره].

    بدأ الشارح أولاً ببيان أن دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كثيرة، وقد أفردت بالتآليف، وذكر منها ابن كثير في تاريخه في آخر السيرة الشيء الكثير، وتتبعها الكثيرون، ومن أوسع من توسع فيها البيهقي في (دلائل النبوة) الذي هو مطبوع، وكذلك أبو نعيم له أيضاً كتاب (دلائل النبوة)، وهكذا غيرهم، وبمجموعها وبأكثرها يعلم ويتيقن أنه صلى الله عليه وسلم صادق فيما جاء به، فكيف بمجموعها مع كثرتها.

    ثم إن الشارح ضرب مثلاً في أن المكذبين لنبينا صلى الله عليه وسلم كاليهود والنصارى، وكذلك سائر المكذبين، لا شك أنهم قد سبوا الله وتنقصوه غاية التنقص من حيث لا يشعرون، وذلك بأن منهم من يقول بأنه كذاب -قاتلهم الله- فكثير من اليهود يدعون أنه كذاب وأنه مفترٍ، وكذلك أيضاً كثير من النصارى ومن الوثنيين وغيرهم، وآخرون يقولون: إنه رسول إلى العرب فقط وليس برسول إلى غيرهم، فرسالته خاصة.

    فيقال لهؤلاء -كما قال الشارح رحمه الله-: أنتم قد تنقصتم الله غاية التنقص، وذلك لأنكم ادعيتم أنه كذاب، والله تعالى ينصره وهو مع ذلك يتصرف هذه التصرفات وهو كذاب في زعمكم، ومع ذلك يدعي أنه مرسل من الله فيحلل أشياء ويحرم أشياء، ويبطش بالناس، ويقتل ويأسر ويوثق وينتقم، ويسبي الذراري، ويقتل الآباء، ويحبس، ويفتح البلاد، ويدوخ العباد، ويجول في الأرض كما هو الواقع، وهو مع ذلك كذاب مفترٍ بزعمكم، والله يؤيده ويقويه وينصره ويمده بالمعجزات ويمده بالملائكة التي تقويه، ويجيب دعواته، وينتصر له وهو يعلم أنه كذاب وأنه مفترٍ، فهذا بلا شك تنقص لله تعالى، وحكمة الله تأبى إلا أن ينتقم ممن كفر كما انتقم من الذين كذبوا الرسل فيما سبق وأحل بهم أنواع العقوبات، وأنزل بهم أنواع المثلات.

    وقد ذكر الله تعالى أنه ينتقم منه لو كذب، قال تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة:44-46] يعني: أنه لو كان متقولاً وكاذباً لانتقمنا منه وبطشنا به بطشاً شديداً، وأمتناه وقطعنا دابره كما فعلنا ذلك بمن كذب وافترى، فإنه ظهر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بعض المفترين والكذابين ولكن ما متعوا، ومنهم رجل تسمى بـالأسود العنسي الذي تنبأ في اليمن، ولكن ما لبث إلا ثلاثة أشهر حتى قتل، ومنهم مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة في آخر العهد النبوي وبعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وبايعه أكثر من مائة ألف، ولما غزاهم الصحابة في نحو عشرة آلاف أو أقل لم يقفوا دونهم، بل سلط عليه من قتله، فقتله عبد أسود، ثم بعد ذلك اضمحلت دعوته ولم يبق لها أثر، فهذه سنة الله فيمن كذب وافترى عليه.

    لكن رسالة هذا النبي الكريم باقية مستمرة، وهي الآن في القرن الخامس عشر، وهي مع ذلك -والحمد لله- تزداد قوة وعلواً وظهوراً، وأتباعه الذين ينتمون وينتسبون إلى رسالته لهم التمكن ولهم القوة، فكلما حققوا السير على طريقته والتمسك بسنته يتحقق فيهم قول الله تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ [الحج:40]، وقوله تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا [غافر:51] وقوله تعالى: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد:7] وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ [آل عمران:139] وقوله تعالى: وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ [الصافات:173] وقوله تعالى: أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة:22].

    وتحقق ذلك كله في أتباع هذا النبي الكريم، فدل ذلك يقيناً على أنه صادق مصدق شهدت برسالته العقول، وشهدت بصدقه القلوب، وعرف ذلك الخاص والعام، وأظهر الله دينه كما وعد بذلك في قوله: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33]، فصدق الله هذا الوعد وأظهره على الدين كله حتى دخل دين الإسلام في أكثر المعمورة وفي أكثر بقاع الأرض، وبقي ظاهراً جلياً كلما تمسك أهله به أظهرهم الله تعالى وقواهم، ولا شك أن هذا دليل على أن هذه الشريعة من الله، وأن الذي جاء بها هو الصادق المصدوق عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

    الفرق بين النبوة والرسالة

    قال المؤلف رحمه الله: [وقد ذكروا فروقاً بين النبي والرسول، وأحسنها أن من نبأه الله بخبر السماء إن أمره أن يبلغ غيره فهو نبي رسول، وإن لم يأمره أن يبلغ غيره فهو نبي وليس رسولاً، فالرسول أخص من النبي، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً، ولكن الرسالة أعم من جهة نفسها، فالنبوة جزء من الرسالة، إذاً الرسالة تتناول النبوة وغيرها، بخلاف الرسل فإنهم لا يتناولون الأنبياء وغيرهم، بل الأمر بالعكس، فالرسالة أعم من جهة نفسها وأخص من جهة أهلها.

    وإرسال الرسل من أعظم نعم الله على خلقه، وخصوصاً محمداً صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164]، وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَة لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]].

    ذكر أن هناك فرقاً بين الرسول والنبي، وقد عطف الله بعضهم على بعض في قوله: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ [الحج:52]، وأكثرهم على أن الرسول هو الذي يكلف بالتبليغ، فإذا لم يكلف بالتبليغ ولم يلزم بذلك فهو نبي وليس برسول.

    فإذاً الرسالة أخص، والأنبياء أكثر من الرسل، ولذلك ورد في عددهم أنهم أكثر من مائة ألف نبي، وأن الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولاً، وقد ذكر الله في القرآن عدداً منهم، قال تعالى: مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غافر:78]، ولا شك أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء ورسالته هي خاتمة الرسالات وشريعته هي آخر الشرائع.

    ولا شك أن إرسال الرسل إلى أهل الأرض نعمة من الله؛ وذلك ليبلغوهم شرع الله عندما يعظم الجهل ويتراكم على القلوب، وتطول الغفلة، ويطول زمن الفترة، ويقع الناس في المعاصي والكفر، ويحق عليهم العذاب، عند ذلك يرسل الله إليهم رسلاً، فيرسل إليهم ذلك الرسول يبين لهم ما وقعوا فيه من الجهالات، وما أخطئوا فيه من الأعمال، ويدعوهم إلى الرجوع إلى ربهم وإلى ترك البدع والضلالات والشركيات، وإلى اتباع الشريعة والطاعة لله ولرسله، فإذا أصروا وعاندوا أهلكهم، وإذا آمنوا نصرهم وأيدهم وقواهم.

    وقد ذكر الله أن رسالة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام من أعظم المنن على هذه الأمة وأكبر النعم في موضعين في القرآن: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ [آل عمران:164]، وفي الموضع الآخر: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2]، فذكر أن ذلك منة من الله عليهم حيث أصبح سبباً في انتشالهم من الجهالات وإخراجهم من الظلمات إلى النور، كما في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحديد:9].

    فإذاً هذه الرسالة نعمة من الله، وقبله كان الناس في جهالة لا يعرفون لماذا ولا بماذا أمروا، ولا بماذا كلفوا، فيعبدون الأوثان، ويشركون بالله، ويستحلون المحرمات، وليس عندهم إيمان بالبعث والجزاء والنشور، ولا معرفة لحلال ولا حرام، فهم جهلة في غاية الجهل، فلما جاءت هذه الشريعة أصبحوا عارفين حق المعرفة فيهم، وزالت عنهم تلك الأمور الجاهلية، وأصبحوا ذوي معرفة وذوي إيمان، وتلك منة الله على عباده، فما عليهم إلا أن يشكروا ربهم على ما أعطاهم الله ووهبهم.

    قال الله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152]، فبعدما أخبر بأنه أرسل هذا الرسول ليبين لهم ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة أمرهم بذكره وبشكره، ولا شك أن مظهره أن يطيعوا هذا الرسول وأن يتبعوه وأن يعملوا بشريعته، وفائدته ونتيجته هي أن ينصرهم الله تعالى ويؤيدهم ويقويهم، ويعزهم ويظهر دينهم على الدين كله ولو كره المشركون.

    ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم

    قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: (وإنه خاتم الأنبياء).

    قال تعالى: وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40]، وقال صلى الله عليه وسلم: (مثلي ومثل الأنبياء كمثل قصر أُحسن بنيانه، وتُرك منه موضع لبنة، فطاف به النظار يتعجبون من حسن بنائه إلا موضع تلك اللبنة، لا يعيبون سواها، فكنت أنا سددت موضع تلك اللبنة، ختم بي البنيان وختم بي الرسل) أخرجاه في الصحيحين.

    وقال صلى الله عليه وسلم: (إن لي أسماءً : أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب، والعاقب الذي ليس بعده نبي).

    وفي صحيح مسلم عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإنه سيكون من أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي.) الحديث.

    ولـمسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون)].

    فمن صفاته عليه الصلاة والسلام أنه خاتم الأنبياء، ولأجل ذلك صارت شريعته خاتمة الشرائع، وكذلك حكم ببقائها إلى أن تقوم الساعة لا تنسخها شريعة، ولا يأتي بعده نبي.

    فهذه الأدلة تدل على أنه آخر الأنبياء، والأنبياء قبله كثير، قال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر:24]، وقال تعالى: قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ [الملك:9] والنذر هم الأنبياء أو الرسل أو المنذرون لهم.

    صلاحية التشريع وعمومه دليل على ختم الرسالة

    ولما علم الله تعالى فضيلة هذه الشريعة وميزتها وملاءمتها لكل زمان ولكل مكان، وصلاحيتها لكل جيل ولكل قطر ولكل أهل موطن، وعدم منافاتها للمصالح العامة والخاصة جعلها الله شريعة عامة، فكان من ضمن رسالة هذا النبي الكريم أن أرسل إلى الناس عامة قاصيهم ودانيهم، وأن جعلت رسالته خاتمة للرسالات بحيث لا ينسخها بعده من يأتي، وقد ذكر أنه يأتي بعده ابن مريم في قوله عليه الصلاة والسلام: (يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم عليه السلام حكماً مقسطاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، ولكنه يحكم بهذه الشريعة) فأصبحت هذه الشريعة من شرفها ومن صلاحيتها أنها هي آخر الشرائع، وأصبح هذا النبي لشرفه وميزته آخر الأنبياء، فهكذا نعتقد.

    كذب مدعي النبوة بعده صلى الله عليه وسلم

    وكل من ادعى النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم فإنه كذاب مهما كان، وفي الحديث الذي سبق أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي بعده ثلاثون كذاباً كلهم يزعم أنه نبي، ولكن سماهم كذابين، وهو عليه السلام آخر الأنبياء وخاتم الرسل.

    وقد ذكر بعض العلماء أنه خرج من هؤلاء الثلاثين عدد كثير، فقيل: إنه خرج منهم سبعة وعشرون أو ثمانية وعشرون. يعني: ما بقي إلا واحد أو اثنان، أي أن آخرهم المسيح الدجال الكذاب.

    ومراده أن من هؤلاء الثلاثين من يأتي بشبهات ويصدقه بعض العوام، ويقع بسببه فتنة، ويغتر وينخدع به أناس، ويكون له أتباع ومن يؤيده وينتصر له، ومن آخر من خرج أو تنبأ في هذه القرون غلام أحمد القادياني الذي ادعى أنه نبي، وادعى أنه يأتيه الوحي في البلاد الشرقية في الهند، وقد عظمت الفتنة به وانتشر أتباعه وسموا بالقاديانية، ولا يزالون متمكنين إلى هذا اليوم، ولا يزال العلماء يضللونهم ويردون عليهم ويبدعونهم ويبينون ضلالاتهم وأكاذيبهم، ومع ذلك لا يزالون منتشرين، مع أن دعوى ذلك الذي ادعى لنفسه أنه يأتيه الوحي لا شك أنها دعوى باطلة يكذبها أدنى من يتأمل بعقل وبأدنى معرفة.

    وقبله وقبله ولكن قد يجد من يتتبع التاريخ عدداً كثيراً قد يزيدون على المئات يدعون أنهم يأتيهم الوحي وأنهم أنبياء، حتى في زماننا هذا في الوقت القريب قد جاء أكثر من عشرة كلهم يدعون ذلك، ولكن غالب ذلك عن نقص في العقل، وعن وسواس يجعل في الرأس يخلف فكرة الإنسان، وعن وساوس شيطانية يخيل بها إلى ذلك الإنسان المدعي هذه الدعوى ويزين له الشيطان، ولا ينخدع الناس به ولا يعملون بقوله.

    وقد وقع هذا في القرون المتقدمة كثيراً، فإخباره أنه يخرج في أمته ثلاثون كذاباً يدعون أنهم أنبياء المراد به من لهم شبهات، ومن لهم قوة يتمكنون بها ويتبعهم فئام من الناس، وليس المراد كل من ادعى أنه نبي، ولكن من انخدع به ومن اغتر بمقالته.

    وعلى كل حال فالأدلة واضحة بأن محمداً عليه الصلاة والسلام هو خاتم الأنبياء والرسل، ولا عبرة بمن جاء بعده وادعى ذلك، كما ذكر أن رجلاً سمى نفسه (لا)، وادعى أنه نبي، وقال: إن محمداً يقول: (لا نبي بعدي)، يعني: الشخص الذي اسمه (لا) نبي بعدي، ويرد عليه بالآية الكريمة، وهي قوله تعالى: وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40].

    وهكذا ذكروا في زمن قريب أن امرأة ادعت أنها نبية، وقالت: إن محمداً يقول: (لا نبي بعدي) ولم يقل: لا نبية بعدي.

    ولا شك أن الرسالة جاءت في الرجال، كما في قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ [يوسف:109]، ولم يبعث الله النبوة إلا في الرجال، والصحيح أن مريم ابنة عمران إنما هي صديقة كما قال تعالى: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ [المائدة:75] لم تصل إلى درجة النبوة ولم ينزل عليها الوحي، والوحي الذي أنزل على أمها إنما هو وحي إلهام، وكذلك الوحي الذي أنزل على أم موسى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى [القصص:7] هذا وحي إلهام.

    وعلى كل حال فنبوة محمد هي آخر النبوات، وشريعته هي آخر الشرائع، والمتمسك بها -إن شاء الله- على سبيل النجاة.

    إمامته صلى الله عليه وسلم للأتقياء

    قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: (وإمام الأتقياء).

    الإمام الذي يؤتم به أي: يقتدون به. والنبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث للاقتداء به؛ لقوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]، وكل من اتبعه واقتدى به فهو من الأتقياء].

    هذه من صفاته عليه الصلاة والسلام، لا شك أن الإمامة معناها: القدوة، فالإمام هو الذي يقتدى به، وقد وصف الله إبراهيم بالأمة في قوله: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً [النحل:120] يعني: قدوة يقتدى به. وقد امتدح الله عباده الذين يقولون: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74]، وكذلك قد جعل الله إبراهيم كذلك في قوله: قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124].

    وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إماماً فإنه يقتدى به، والاقتداء به يعم الاقتداء به وبكل ماجاء به، سواء في العادات أو في العبادات، فإن كان من العبادات ومن القربات فالعبد يفعلها على أنها طاعة يحتسب الأجر فيها، فالطاعات والعبادات هي ما جاء بها عن ربه بالحلال والحرام، وجاء بالطاعات والحسنات، فنفعلها على أنها من سنته، فنحافظ على الصلوات فرائضها ونوافلها؛ لأنها جاءت في شريعته، وكذلك على الطهارة سواء بالماء أو بالتراب أو نحو ذلك، فهذه من شريعته نتبعه ونقتدي به فيها، وكذلك سائر العبادات كالصيام والصدقة والحج والجهاد والدعوة إلى الله والذكر والقراءة وما أشبهها، فهذه تفعل على أنها من العبادة يتبع فيها شرع هذا النبي الكريم، وأما العادات فنفعلها إذا نقلت عنه عليه الصلاة والسلام على أنها أولى من غيرها وإن كان غيرها جائزاً، والمراد بالعادات: الأمور التي كانت معمولاً بها قبل الإسلام.

    ومعلوم عنه عليه الصلاة والسلام أنه قبل الإسلام كان يأكل ويشرب ويلبس وينام ويتزوج، وكذلك كان يدخل ويخرج، ويركب وينزل، ويسافر ويرحل، ويقيل، فالعادات هي الأمور المعتادة، فهذه العادات إذا فعلها العبد اقتداء واتباعاً ومحبة فقد يثاب عليها وإن كانت مما قد تستدعيه النفس، كما أخبر عليه الصلاة والسلام بأن العبد إذا فعلها اقتداء واتباعاً بنية صادقة أثيب عليها، فيثاب على طلبه الرزق من أجل أن يعف نفسه، ولأجل أن يقوت من تحت يده، ويثاب على إعفافه لزوجته وإن كان ذلك من الأمور الطبيعية، ويثاب على نفقته على أهله؛ لقوله: (إنك لن تنفق نفقة تبتغي وجه الله إلا أجرت عليها)، وإذا فعل ذلك على أنه عادة فلا ثواب ولا عقاب.

    وعلى كل حال فكونه عليه الصلاة والسلام إماماً لأمته وبالأخص المتقين منهم، فهذا يعم كل ما جاء به من الشرع، ويكون أتباعه في ذلك لهم النصيب الأكبر على هذا الاتباع.

    سيادته صلى الله عليه وسلم المرسلين وفضله عليهم

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (وسيد المرسلين).

    قال صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع)رواه مسلم .

    وفي أول حديث الشفاعة: (أنا سيد الناس يوم القيامة)، وروى مسلم والترمذي عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم).

    فإن قيل: يشكل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوني على موسى؛ فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فأجد موسى باطشاً بجانب العرش، فلا أدري هل أفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله) أخرجاه في الصحيحين، فكيف يجمع بين هذا وبين قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر

    فالجواب أن هذا كان له سبب؛ فإنه كان قد قال يهودي: لا والذي اصطفى موسى على البشر فلطمه مسلم وقال: أتقول هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا؟ فجاء اليهودي فاشتكى من المسلم الذي لطمه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا؛ لأن التفضيل إذا كان على وجه الحمية والعصبية وهوى النفس كان مذموماً، بل نفس الجهاد إذا قاتل الرجل حمية وعصبية كان مذموماً؛ فإن الله حرم الفخر.

    وقد قال تعالى: وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ [الإسراء:55] وقال تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ [البقرة:253] فعلم أن المذموم إنما هو التفضيل على وجه الفخر، أو على وجه الانتقاص بالمفضول، وعلى هذا يحمل أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوا بين الأنبياء) إن كان ثابتاً، فإن هذا قد روي في نفس حديث موسى وهو في البخاري وغيره.

    ولكن بعض الناس يقول: إن فيه علة؛ بخلاف حديث موسى فإنه صحيح لا علة فيه باتفاقهم، وقد أجاب بعضهم بجواب آخر، وهو أن قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوني على موسى)، وقوله: (لا تفضلوا بين الأنبياء) نهي عن التفضيل الخاص، أي: لا تفضل بعض الرسل على بعض بعينه، بخلاف قوله: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) فإنه تفضيل عام فلا يمنع منه، وهذا كما لو قيل: فلان أفضل أهل البلد لا يصعب على أفرادهم، بخلاف ما لو قيل لأحدهم: فلان أفضل منك. ثم إني رأيت الطحاوي رحمه الله قد أجاب بهذا الجواب في شرح معاني الآثار].

    وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيد ولد آدم، وسيد الناس يوم القيامة وسيد المرسلين، ويطلق السيد على الشريف، وعلى المطاع، وعلى كبير القوم، وعلى أفضلهم أو من له حرمة فيهم الذي إذا أشار عليهم أطاعوه، والذي يحترمونه ويقدرونه، ويعرفون له ميزته وشرفه وفضله، وقد ورد ما يدل على النهي عن هذا الإطراء، ووردت أحاديث تدل على الإباحة.

    التوفيق بين إخباره صلى الله عليه وسلم عن فضله والنهي عن تفضيله

    وسبق قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة: (أنا سيد الناس يوم القيامة)، وكذلك قوله: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) يعني: لا أقول ذلك افتخاراً، وإنما هو من باب التحدث بنعم الله، عملاً بقوله: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:11]، وذكر السبب وهو أن الناس يوم القيامة يطلبون من يشفع لهم، فيأتون آدم ثم نوحاً ثم إبراهيم وموسى وعيسى يطلبون منهم الشفاعة فكلهم يعتذر، حتى يأتون إليه عليه الصلاة والسلام فيكون بذلك سيداً حيث شفع، ولا شك أن هذا السبب الذي هو الشرف والمنزلة تُوجب له فضلاً وشرفاً.

    وأما دليل النهي فما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قيل له: (أنت سيدنا، قال: السيد الله)، وفي حديث وفد بني عامر عن عبد الله بن الشخير قال: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا سيدنا وابن سيدنا، فقال: السيد الله، فقالوا: أفضلنا فضلاً، وأعظمنا قولاً. قال: قولوا بقولكم أو ببعض قولكم) إلى آخره.

    ولعل الجمع بينهما أن نهيه عن قولهم: (سيد) هو مخافة أن يغلوا فيه؛ لأنهم كانوا حديثي عهد بالجاهلية، فخاف أنه إذا أقرهم على هذه اللفظة أعطوه من خالص حق الله فمنعهم وقال: (السيد الله)، وأمرهم بأن يقولوا: (عبد الله ورسوله)، ولا يتكلموا بألفاظ فيها من الزيادة والغلو، هكذا أخذ بعض العلماء، وهو جواب مقارب، وهو أنه فيمن يخاف عليهم الغلو، ومع ذلك فإن أفضل ما يوصف به اللفظ الذي اختاره لنفسه، وهو العبودية مع الرسالة والنبوة، وصفه الله بالعبودية وبالرسالة وبالنبوة، فهذه الأوصاف التي وردت له في القرآن، فنقول: نبي الله، وعبد الله، ورسول الله، وهذا ولا يمنع أن نقول: سيدنا وسيد ولد آدم.

    وقد مر في كلام الشارح أنه قد يعتذر أحد ويقول: كيف يكون سيد المرسلين وأفضل النبيين، وهو عليه الصلاة والسلام قد اعترف بأن موسى أفضل منه، حيث قال: (لا تفضلوني على موسى)؟ وأجاب الشارح كما سمعنا أن هذا في الرد على من يتعصب لشخص بعينه؛ فإن ذلك الأنصاري رضي الله عنه غار عندما سمع اليهودي يقول: والذي اصطفى موسى على البشر. فغار ولطم اليهودي، وقال: تقول هذا ومحمد بين أظهرنا؟ يعني أنه أشرف، وأنه الذي اصطفاه الله على البشر، فأمر بألا يفاضل بين الأنبياء، وأمر بألا يفضل على موسى من باب الاعتراف بفضل موسى، ومن باب التواضع منه عليه الصلاة والسلام، وإلا فقد عرف بأنه أفضل من غيره، ولو لم يكن من فضله إلا أنه الذي يشفع، والذي يبعثه الله مقاماً محموداً، والذي تقبل شفاعته فيقال له: (ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع).

    وكذلك ذكر السبب، وهذا السبب قد يكون مبرراً ولكن لا يقصد الفضل، فكون الناس يصعقون يوم القيامة الصعقة المذكورة في قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68] فأخبر بأن الناس يصعقون وبأنه أول من يفيق ويرفع رأسه عليه الصلاة والسلام، لكن يجد موسى قد أفاق قبله وقد أخذ بقائمة العرش، فيقول: (لا أدري هل أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله، أم جوزي بصعقة الطور)، وصعقة الطور في قوله تعالى: وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً [الأعراف:143] يعني: أن تلك الصعقة صارت حظه من الصعق، فلم يصعق لما صعقوا، أو هو ممن استثنى الله في قوله: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر:68] يعني: أنه ممن لم يصعق، أو أنه أفاق قبله، وإذا كان ممن أفاق قبله كان له مزية، أما إذا جوزي أو كان ممن استثنى الله فلا يدل ذلك على ميزة أو على فضل على محمد عليه الصلاة والسلام.

    وبالجملة فمحمد عليه الصلاة والسلام أفضل الرسل، وأمته أفضل الأمم، بل وأكثرهم دخولاً الجنة، فالذين يدخلون من أمته الجنة أكثر من أمة موسى وغيره من الأنبياء.

    الكلام على المفاضلة بين محمد ويونس عليهما السلام

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما ما يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تفضلوني على يونس) وأن بعض الشيوخ قال: لا يفسر لهم هذا الحديث حتى يعطى مالاً جزيلاً، فلما أعطوه فسره بأن قرب يونس من الله وهو في بطن الحوت، كقربي من الله ليلة المعراج، وعدوا هذا تفسيراً عظيماً.

    وهذا يدل على جهلهم بكلام الله وبكلام رسوله لفظاً ومعنى، فإن هذا الحديث بهذا اللفظ لم يروه أحد من أهل الكتب التي يعتمد عليها، وإنما اللفظ الذي في الصحيح: (لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)، وفي رواية: (من قال: إني خير من يونس بن متى فقد كذب)، وهذا اللفظ يدل على العموم، أي: لا ينبغي لأحد أن يفضل نفسه على يونس بن متى، وليس فيه نهي المسلمين أن يفضلوا محمداً على يونس؛ وذلك لأن الله تعالى قد أخبر عنه أنه التقمه الحوت وهو مليم، أي: فاعل ما يلام عليه. وقال تعالى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87].

    فقد يقع في نفس بعض الناس أنه أكمل من يونس، فلا يحتاج إلى هذا المقام؛ إذ لا يفعل ما يلام عليه، ومن ظن هذا فقد كذب، بل كل عبد من عباد الله يقول ما قال يونس: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]، كما قال أول الأنبياء وآخرهم، فأولهم آدم قد قال: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23].

    وآخرهم وأفضلهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح حديث الاستفتاح من رواية علي بن أبي طالب وغيره بعد قوله: (وجهت وجهي) إلى آخره قال: (اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعاً، لا يغفر الذنوب إلا أنت) إلى آخر الحديث.

    وكذا قال موسى عليه السلام: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [القصص:16]، وأيضاً فيونس صلى الله عليه وسلم لما قيل فيه: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ [القلم:48] فنُهي نبينا صلى الله عليه وسلم عن التشبه به، وأمره بالتشبه بأولي العزم؛ حيث قيل له: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ [الأحقاف:35]، فقد يقول من يقول: أنا خير منه، وليس للأفضل أن يفتخر على من دونه، فكيف إذا لم يكن أفضل؛ فإن الله لا يحب كل مختال فخور.

    وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أوحي إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد)، فالله تعالى نهى أن يفخر على عموم المؤمنين، فكيف على نبي كريم؟! فلهذا قال: (لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)، فهذا نهي عام لكل أحد أن يتفضل ويفتخر على يونس.

    وقوله: (من قال: إني خير من يونس بن متى فقد كذب) فإنه لو قدر أنه كان أفضل فهذا الكلام يصير نقصاً، فيكون كاذباً، وهذا لا يقوله نبي كريم، بل هو تقدير مطلق، أي: من قال هذا فهو كاذب.. وإن كان لا يقوله نبي كما قال تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65]، وإن كان صلى الله عليه وسلم معصوماً من الشرك، لكن الوعد والوعيد لبيان مقادير الأعمال.

    وإنما أخبر صلى الله عليه وسلم أنه سيد ولد آدم لأنا لا يمكننا أن نعلم ذلك إلا بخبره؛ إذ لا نبي بعده يخبرنا بعظيم قدره عند الله، كما أخبرنا هو بفضائل الأنبياء قبله صلّى الله عليهم وسلم أجمعين، ولهذا أتبعه بقوله: (ولا فخر) كما جاء في رواية، وهل يقول من يؤمن بالله واليوم الآخر: إن مقام الذي أسري به إلى ربه وهو مقرب معظم مكرم كمقام الذي ألقي في بطن الحوت وهو مليم؟! وأين المعظم المقرب من الممتحن المؤدب؟ فهذا في غاية التقريب، وهذا في غاية التأديب، فانظر إلى هذا الاستدلال؛ لأنه بهذا المعنى المحرف اللفظ لم يقله الرسول، وهل يقاوم هذا الدليل على نفي علو الله تعالى عن خلقه الأدلة الصحيحة الصريحة القطعية على علو الله تعالى على خلقه التي تزيد على ألف دليل، كما يأتي الإشارة إليها عند قول الشيخ رحمه الله: (محيط بكل شيء وفوقه) إن شاء الله تعالى].

    في هذا الشرح الطويل رد على بعض علماء الأشاعرة، وهو الجويني ، ذكروا أنه استدل بقوله في الحديث: (لا تفضلوني على يونس) استدل به على مسألة نفي العلو، أن الله ليس فوق عرشه وليس فوق عباده، وفسر ذلك بأن يونس في وسط البحر ومحمد فوق السموات السبع، وكلاهما بالنسبة إلى الله سواء، يعني: كلاهما في القرب منه سواء، فالذي في لجة البحر والذي فوق سبع سماوات كلاهما في القرب من الله سواء، استدل الجويني بهذا على أنه ليس الرب تعالى فوق العرش ولا فوق السموات، كقولهم: إن الله في كل مكان -تعالى الله عن قولهم-، ورد عليهم الشارح بما سبق، وبين أن هذه مقالة شنيعة من وجوه: أولاً: أن الحديث لم يثبت بهذا اللفظ: (لا تفضلوني على يونس بن متى)، وإنما الذي ثبت قوله: (لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى).

    وسبب الحديث أنه قد يقول رجل: أنا خير من يونس، فيونس ذهب مغاضباً وظن ألن يُقدر عليه، ويونس نبذ بالعراء وهو مذموم، ويونس التقمه الحوت، فأنا خير منه إذا ما فعلت هذه الأفعال، فقد يقول ذلك بعض الناس، فنهاهم وقال: لا تقولوا؛ فإن يونس نبي من أنبياء الله أجرى الله على يديه هذه الآيات وهذه المعجزات؛ حيث إنه التقمه الحوت ولم يمت في بطن الحوت، ولبث في بطنه مدة ولم يمت، وكذلك أمر الله الحوت أن ينبذه على ساحل البحر، وأنبت الله عليه شجرة من يقطين، وأرسله إلى قومه وهم مائة ألف أو يزيدون فآمنوا، فله فضائل، ولو أنه قد اعترف بالظلم، نقول: هذا الظلم لا ينقصه، بل نبينا عليه السلام قد اعترف بالظلم، وكذلك أبوه آدم قد اعترف بقوله: قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا [الأعراف:23] إلى آخره، فلا ينبغي أن يغتر بهذه اللفظة المنقولة عن هذا الرجل الذي هو الجويني ، ذكروا أنه قال: في هذه الآية دليل على أن الله ليس فوق العرش في هذا الحديث، ولا أفسره حتى تجمعوا لي مالاً، فجمعوا له أموالاً وأعطوه إياها، فلما فسرها لهم هذا التفسير أعجبوا به غاية الإعجاب، وهو تفسير بعيد عن الصواب.

    الكلام على المحبة والخلة وثبوتهما لمحمد عليه السلام

    قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (وحبيب رب العالمين).

    ثبت له صلى الله عليه وسلم أعلى مراتب المحبة وهي الخلة، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً)، وقال: (ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم خليل الرحمن)، والحديثان في الصحيح، وهما يبطلان قول من قال: الخلة لإبراهيم والمحبة لمحمد، فإبراهيم خليل الله ومحمد حبيبه.

    وفي الصحيح أيضاً: (إني أبرأ إلى كل خليل من خلته)، والمحبة قد ثبتت لغيره، قال تعالى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]، وقال تعالى: بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [آل عمران:76]، وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]، فبطل قول من خص الخلة بإبراهيم والمحبة بمحمد، بل الخلة خاصة بهما، والمحبة عامة، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي رواه الترمذي الذي فيه: (إن إبراهيم خليل الله، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر) لم يثبت.]

    مشتهر عند غلاة الصوفية ونحوهم أن المحبة أعلى من الخلة، وأنها أعلى الصفات؛ ولأجل ذلك يبالغ أهل السلوك وأهل التصوف في وصف المحبة وفي آثار المحبة ونحو ذلك، ولهم فيها أقوال في تعريفاتها، وقد بحث معهم ابن القيم رحمه الله في بعض كتبه في تعريف المحبة، كما في كتابه الذي كتبه في المحبة واسمه (روضة المحبين)، وكذلك في كتابه الذي سماه (مدارج السالكين)، عند باب المحبة، وكذلك في كتاب (طريق الهجرتين وباب السعادتين)، فإنه تكلم في هذه الكتب على المحبة ونقل عن أهل السلوك وأهل التعبد وأهل التصوف تعريفات لها حتى أوصلها إلى ثلاثين تعريفا، وانتهى إلى أن قال: إن المحبة كاسمها لا تحتاج إلى تعريف ولا تزيدها التعريفات إلا غموضاً، فالمحبة كلمة محبوبة لذيذة، وكلمة معروفة عند السامع لا تحتاج إلى تفكير.

    ولا شك أن صفة المحبة تثبت بين المؤمنين في حق الله على المؤمنين، وفي حقهم من الله لهم، ومن بعضهم لبعض، فثبت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم).

    وفي حقوق المسلم لأخيه: أن يحب المسلم لأخيه ما يحب لنفسه، وكما في قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، فهذه هي المحبة من المؤمن لأخيه، ولكن لها آثار، وذلك لأنك إذا أحببت أخاك كان من آثار ذلك أن توده وأن تقترب منه، وأن تدله على خير ما تعلمه وتحذره عن شر ما تعلمه، هذه آثار تلك المحبة، فمن كان صادقاً فإنها تظهر عليه آثارها.

    وأما محبة الله تعالى لعباده فهي المحبة المطلوبة، يقول في الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ويده التي يمشي بها)

    وكذلك الآيات التي سبقت فيها إثبات أن الله يحب من هذه صفته، ومثلها كثير، كقوله تعالى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54]، وقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ [الصف:4]، وقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [المائدة:42]وأشباه ذلك كثير، فإذاً الله تعالى يحب عباده المؤمنين الذين هذه صفاتهم، وآثار محبته أنه يوفقهم ويسددهم، فكل المؤمنين يحبون الله تعالى.

    والرسول عليه الصلاة والسلام قد أخبر بأنه يحب أشخاصاً، ومن ذلك قوله في حق علي : (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله) فأعطاها علياً.

    ولا شك أن المؤمنين كلهم يعرفون أنهم يحبون الله حباً شديداً، وأن سبب محبتهم له أنه أعطاهم وخولهم وأنعم عليهم وهداهم، وأنه هو ربهم ومالكهم وسيدهم والمتصرف فيهم، وأنه المستحق لأن يعبد ويصلى له ويسجد، وأنه الذي بيده الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وهو الذي يثيب ويعاقب، فكانت هذه الأسباب لمن يحب ربه، وقد تكلمنا على محبته فيما سبق وأن لها آثاراً، وأن البعض من الناس يقولون: إنهم يحبون الرسول ويحبون الله، وأن هناك آية تفضحهم تسمى آية المحنة، وهي قوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]، وهكذا قول الشاعر:

    تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا عجيب في الفعال بديع

    لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع

    فإذاً: ليست المحبة خاصة بالأنبياء، بل الله يحب المؤمنين والمتقين، ولا يحب محمداً أو نبياً من الأنبياء فحسب، بل يحب عباده كلهم إذا كانوا صالحين مصلحين محسنين مؤمنين تائبين قانتين مطيعين له متطهرين مقاتلين في سبيله، وغير ذلك من الصفات التي رتب المحبة عليها.

    الخلة وموقعها من المحبة

    وأما الخلة فهي أعلى أنواع المحبة، يقول الشاعر:

    قد تخللت مسلك الروح مني وبذا سمي الخليل خليلاً

    فالخلة أعلى أنواع المحبة، وقد أثبتها الله تعالى لإبراهيم في قوله: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً [النساء:125]، وثبت الحديث الذي سبق، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً)، فالخليلان هما محمد وإبراهيم حازا هذه المرتبة التي هي أعلى أنواع المحبة.

    وقد تطلق الخلة فيما بين الآدميين، فقد حكى الله عن قول بعض الكفار وهو في النار: لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً [الفرقان:28]يعني: أحبه محبة قوية. وكذلك أخبر عن أهل المحبة الدنيوية وسماهم أخلاء، قال تعالى: الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67] ، وعلى هذا فالخلة أعلى أنواع المحبة، وقد ثبتت من الله تعالى لإبراهيم ثم لمحمد صلى الله عليه وسلم، فهما الخليلان.

    فمن يقول: إن محمداً حبيب الله، وإن إبراهيم خليل الله، وإن المحبة أعلى من الخلة فقد أخطأ، بل الخلة أعلى من المحبة فهي أعلى صفاتها، وإبراهيم ومحمد كلاهما خليل الله تبارك وتعالى، وبقية المؤمنين والمتقين أحباء الله تعالى الذين يحبهم ويحبونه.

    مراتب المحبة وما يوصف الله تعالى به منها

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والمحبة مراتب:

    أولها: العلاقة، وهي تعلق القلب بالمحبوب.

    الثانية: الإرادة، وهي ميل القلب إلى محبوبه وطلبه له.

    الثالثة: الصبابة، وهي انصباب القلب إليه بحيث لا يملكه صاحبه كانصباب الماء في الحدور.

    الرابعة: الغرام، وهي الحب اللازم للقلب، ومنه الغريم لملازمته، ومنه: إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً [الفرقان:65].

    الخامسة: المودة والود، وهي صفو المحبة وخالصها ولبها، قال تعالى: سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدّاً [مريم:96].

    السادسة: الشغف، وهي وصول المحبة إلى شغاف القلب.

    السابعة: العشق، وهو الحب المفرط الذي يخاف على صاحبه منه، ولكن لا يوصف به الرب تعالى ولا العبد في محبة ربه، وإن كان قد أطلقه بعضهم.

    واختلف في سبب المنع، فقيل: عدم التوقيف. وقيل غير ذلك، ولعل امتناع إطلاقه أن العشق محبة مع شهوة.

    الثامنة: التتيم. وهي بمعنى (التعبد).

    التاسعة: التعبد.

    العاشرة: الخلة، وهي المحبة التي تخللت روح المحب وقلبه. وقيل في ترتيبها غير ذلك، وهذا الترتيب تقريب حسن لا يعرف حسنه إلا بالتأمل في معانيه.

    واعلم أن وصف الله تعالى بالمحبة والخلة هو كما يليق بجلال الله تعالى وعظمته كسائر صفاته تعالى، وإنما يوصف الله تعالى من هذه الأنواع بالإرادة والود والمحبة والخلة حسبما ورد النص.

    وقد اختلف في تحديد المحبة على أقوال نحو ثلاثين قولاً، ولا تحد المحبة بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيدها إلا خفاء، وخفاء هذه الأشياء الواضحة لا تحتاج إلى تحديد كالماء والهواء والتراب والجوع والشبع ونحو ذلك].

    هذا من جملة كلام أهل السلوك الذين يتكلمون في العبادات القلبية، وقد أشرنا إلى أن ابن القيم رحمه الله قد أشار إلى ذلك في كتبه، في (روضة المحبين)، وفي (طريق الهجرتين)، وفي (مدارج السالكين)، وذكر تعريفات للمحبة، وذكر أيضاً ترتيبات المحبة أو أقسامها، وهي هذه الأقسام العشرة التي أولها العلاقة، ثم الصبابة، إلى آخرها التي هي الخلة، وجعل هو وغيره هذا الترتيب تقريبياً، ومنهم من قدم بعضها على بعض، ولا شك أنها أسماء لأنواع من المحبة، أي: أن منها ما يكثر استعماله ومنها ما لا يكثر، ومنها ما لا يجوز إطلاقه على الله تعالى كالعشق، والصحيح ما علله به من أنه محبة مع شهوة.

    والله تعالى يوصف بالمحبة وبالخلة وبالإرادة وبالمودة، يوصف بهذه الأربعة من العشرة، أما البقية فلم ترد، فلا يجوز أن تستعمل في حق الله تعالى، فالصبابة مثلاً والعلاقة والعشق وما أشبهها، هذه مستعملة اصطلاحياً في أنواع من المحبة.

    ولا شك أن المحبة أمر قلبي يجده الإنسان من قلبه، حيث يميل إلى المحبوب بعض الميل، ويعرض محبوبه على نفسه أو يواسيه بنفسه، ويكون له من الأثر ذلك الميل، وهناك بعض الأسباب التي استدعت ذلك، وقد تكون أسباباً ظاهرة كإحسان ونحو ذلك؛ فإن القلوب تألف وتحب من أحسن إليها، والله تعالى هو الذي أحسن إلى عباده، وهو الذي خولهم وأعطاهم، فإذا أحبوه كان سبب المحبة هو الإحسان، كما أنك تحب من أحسن إليك.

    وقد تكون المحبة لأسباب قاصرة غير متعدية، كأن تحب أي إنسان لصلاحه وإن لم ينلك منه نفع دنيوي، ولكن رأيته صالحاً وتقياً وزاهداً وورعاً وعابداً فأحببته لذلك، وجعلت محبتك له عبادة تؤمل الثواب عليها، حيث إنه يحب الله وأنت تحبه فتحب من يحبه.

    وهكذا محبتنا لربنا لا شك أن أعظم أسبابها كونه الذي يملك العباد، وهو الذي يتصرف فيهم، فهذه من أسباب محبتهم له، وأنه هو الذي وعد من أحبه وعبده بالثواب، ومن لم يفعل ذلك توعده بالعقاب، فكان هو أهل المحبة وأهل المودة التي تحبه القلوب وتوده، ويكون لها آثار كما سبقت الإشارة إليه، وأن الذي يحب الله تعالى يطيعه ويعبده، وتظهر آثار ذلك على البدن في كثرة عبادته، وفي نضرة خلقته، وفي تأثره بذلك من كثرة العبادة ونحوها.

    حكم دعوى النبوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (وكل دعوى النبوة بعده فغيّ وهوى).

    لما ثبت أنه خاتم النبيين علم أن من ادعى بعده النبوة فهو كاذب، ولا يقال: فلو جاء المدعي للنبوة بالمعجزات الخارقة والبراهين الصادقة كيف يقال بتكذيبه؟ لأنا نقول: هذا لا يتصور أن يوجد، وهو من باب فرض المحال؛لأن الله تعالى لما أخبر أنه خاتم النبيين فمن المحال أن يأتي مدّع يدّعي النبوة ولا تظهر أمارة كذبه في دعواه. والغي: ضد الرشاد، والهوى: عبارة عن شهوة النفس، أي أن تلك الدعوة بسبب هوى النفس لا عن دليل، فتكون باطلة].

    قد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، أي: آخرهم، وبذلك نعرف أن كل من ادعى أنه نبي فدعواه غي، أي: خطأ ضد الرشد، فدعواه خطأ وباطل وضلال وبعيدة عن الصواب والصدق، فمن ادعى أنه نبي فهو كاذب ولو موه على الناس ولو أتى بما يخرق العادة، ولو أتى بما يعجز الناس ظاهراً، ولو فعل ما يفعله السحرة والمشعوذون ونحوهم وادعى أنه ينزل عليه الوحي، فنقول: هذه التي تراها من الشياطين، وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم، فالشياطين يوحي بعضهم إلى بعض، وقد تنزل إلى أوليائها، وقد تخدع العبد وتصور له أنها من الله وأن ما تجيء به حق وأنه نبي، فيخيل إليه أنه ينزل عليه الوحي كما ينزل على الأولياء.

    وقد وقع ذلك لمن تنزلت عليهم الشياطين، فروي أن رجلاً قال لـعبد الله بن عمر رضي الله عنه: إن المختار يزعم أنه يوحى إليه! قال: (صدق، قال الله تعالى: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ [الأنعام:121]) يعني أن الذي نزل عليه الشيطان، وهذا مع أنه صهره، إذ أخت المختار زوجة عبد الله، وهي صبية بنت أبي عبيد، فهذا مثال في أن الشياطين تنزل على بعض الناس، وتخدعهم بأنها وحي من الله، وأن ما تأتي به حق ونحو ذلك.

    وقد ذكرنا الحديث في قوله عليه الصلاة والسلام: (إنه سيكون بعدي ثلاثون كذابون كلهم يزعم أنه نبي)، وأن بعض العلماء ذكر أن الذي خرج منهم سبعة وعشرون، وأن من آخرهم الكذاب الذي خرج من بعض البلاد الهندية وسمى نفسه ( غلام أحمد القادياني )، وتبعه وصدقه واقتدى به خلق كثير، وادعى أنه نبي، وخلق كثير قبله وصلوا إلى هذا العدد، والبقية لابد أن يأتوا كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وآخرهم الدجال الكذاب الذي يدعي أنه رب، ويأتي بشعوذة خارقة يجريها الله تعالى على يديه فتنة، إلا من ثبته الله تعالى وعرفه بالحق.

    وعلى هذا نقول: لو أتى بما أتى به الدجال من كونه -مثلاً- يمر على القرية الهامدة الميتة فيصيح بأهلها فيتبعونه كيعاسيب النحل -والنحل لها يعسوب وهو كبيرها.

    فهذا من الفتنة، ومن الفتنة أيضاً كونه يقتل الرجل حتى يقطعه قطعتين ثم يقول له: قم، فيقوم حياً، ومع ذلك لا يزيده إلا بصيرة ومعرفة بأنه الدجال الكذاب.

    بهذا نعرف أنه قد يجري على يد بعض الكذابين شيء من الشعوذة وذلك من الشيطان، فالشيطان يموه على الأعين حتى يري بعض الناس أشياء شبه خارقة للعادة تشبه معجزات الأنبياء، كما يفعله بعض السحرة من كونه مثلاً قد يجر سيارة بشعرة من الشعر، أو يقف تحت السيارة ويحملها بيده أمام الناس والناس ينظرون، أو تمر السيارة على رأسه ولا تضره، ولا شك أن ذلك شعوذة على أعين الناظرين، ولا عبرة بمن أقر ذلك أو رآه، وقد حدث ذلك في عهد الصحابة، كما ذكروا أن ساحراً كان عند بعض ملوك بني أمية وكان يموه على الحاضرين، فيقطع رأس الإنسان ثم يعيده، فعمد بعض الصحابة إلى سيف احتضنه، فقرب من ذلك الساحر فلما وصل إليه ضربه بالسيف حتى قطع رأسه، وقال له: أحي نفسك إن كنت صادقاً. ثم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حد الساحر ضربه بالسيف)، فهذا جزاؤه حيث موه على الأعين، ولم يقدر على ذلك الصحابي -وهو جندب بن عبد الله البجلي - لما استعاذ من الشيطان ولما تحصن بالله تعالى، فلم يرد عليه فعل ذلك المشعوذ ولم يكتشفه.

    فهذا مثال على أن ما يظهر على يدي بعضهم من الشعوذة ومن التمويه على الناس فهو من الشياطين التي تظهر أمام الناظرين في صور مختلفة حتى توهمهم بأشياء خارجة عن قدرة البشر ولا حقيقة لها.

    عموم رسالته صلى الله عليه وسلم

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (وهو المبعوث إلى عامة الجن وكافة الورى، بالحق والهدى، وبالنور والضياء).

    أما كونه مبعوثاً إلى عامة الجن فقد قال تعالى حكاية عن قول الجن: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ [الأحقاف:31] وكذا سورة الجن تدل على أنه أرسل إليهم أيضاً، قال مقاتل: لم يبعث الله رسولاً إلى الإنس والجن قبله. وهذا قولٌ بعيد، فقد قال تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [الأنعام:130] الآية. والرسل من الإنس فقط، وليس من الجن رسول، كذا قال مجاهد وغيره من السلف والخلف.

    وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الرسل من بني آدم، ومن الجن نذر. وظاهر قوله تعالى حكاية عن الجن: إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى [الأحقاف:30] الآية تدل على أن موسى مرسل إليهم أيضاً. والله أعلم.

    وحكى ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم أنه زعم أن في الجن رسلاً، واحتجّ بهذه الآية الكريمة، وفي الاستدلال بها على ذلك نظر؛ لأنها محتملة وليست بصريحة، وهي - والله أعلم - كقوله: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن:22]، والمراد من أحدهما.

    وأما كونه مبعوثاً إلى كافة الورى، فقد قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [سبأ:28]، وقال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف:158]، وقال تعالى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19] أي: وأنذر من بلغه. وقال تعالى: وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً [النساء:79]، وقال تعالى: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرْ النَّاسَ وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ [يونس:2]، وقال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان:1]، وقال تعالى: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ [آل عمران:20].

    وقال صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة) أخرجاه في الصحيحين.

    وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار) رواه مسلم ، وكونه صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى الناس كافة معلوم من دين الإسلام بالضرورة.

    بعثته إلى الجن

    وفي هذا أنه صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الجن والإنس، ورسالته إلى الجن واضحة من الأدلة، وقد ثبت في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الجن وقرأ عليهم سورة الرحمن، فكان كل ما مر بهذه الآية: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:13] قالوا: لا بشيء من آلائك ربنا نكذب، فلك الحمد. هكذا ورد في الحديث.

    وكذلك ثبت في حديث ابن مسعود أنه أخبر بأنه صلى الله عليه وسلم ذهب ليلة إلى الجن، وسمع ابن مسعود كلامه معهم، وذكر أنهم سألوه طعاماً وسألوه علفاً لدوابهم، فقال لهم: (لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه، وكل بعرة علف لدوابكم) ، ونهى عن الاستنجاء بهما، وروي أن الجن استمعوا إليه لما جاء من الطائف، فعجبوا من سماع ما أنزل إليه، ونزلت فيهم الآيات التي في آخر الأحقاف: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [الأحقاف:29]، ونزلت فيهم أول سورة الجن التي أنزلت باسمهم.

    ولا شك أن كل ذلك دال على أنه صلى الله عليه وسلم بعث إليهم، والأنبياء الذين كانوا قبله كانوا يبعثون إليهم، وإنما في الجن نذر كما في الآية التي في الأحقاف، وهي قوله: وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [الأحقاف:29] ، فليس في الجن رسل، وإنما فيهم نذر يأخذون العلم ويأخذون الرسالة عن الرسل من الإنس فينبئون قومهم، وقد ذكر في سورة الجن أن فيهم أخياراً وأشراراً في قولهم: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ [الجن:11]، وفي قولهم: وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً [الجن:14-15]، فهذا دليل على أنه فيهم شقياً وسعيداً، ومقرباً وبعيداً، وأن فيهم مؤمناً وغير مؤمن.

    ولا شك أن الرسالة التي بلغها النبي صلى الله عليه وسلم فيها أحكام تناسبهم، والله أعلم بما يناسبهم في صيامهم وصلاتهم، وغير ذلك من أحكامهم، وهكذا تناكحهم وغير ذلك، فلهم أحكام تخصهم، وهي واضحة فيما بينهم.

    رسالته إلى الإنس وعمومها

    أما رسالته صلى الله عليه وسلم إلى الإنس، فلا شك أنه مرسل إلى الإنس وأنه رسول إليهم، وأنه عام الرسالة وليس خاصاً إلى قومه قريش، ولا إلى العرب، ولا إلى أهل جزيرة من الجزر، بل عام لكل من على وجه الأرض ممن بلغته الدعوة من الإنس، دل على ذلك النصوص التي فيها خطاب الناس جميعاً، فإن قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ َ [البقرة:21] فيه عام لكل إنسي، وكذلك: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ [النساء:1]، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج:1]، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا [الحجرات:13] ، فالخطابات بـ(يا أيها الناس) تدل على أنه مأمور بأن يبلغ الناس كلهم ما أنزل إليه.

    وهكذا قوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف:158] ، يخاطب الناس كلهم ويقول: إني رسول الله إليكم جميعاً، وكذلك قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [سبأ:28] أي: للناس كلهم، وكذلك الآيات التي سبقت في قوله تعالى: لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19]، وقوله تعالى: لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان:1]، والعالمين: كل من على وجه الأرض من الخلق الذين لهم معرفة ولهم إدراك، وهم جنس بني آدم.

    والدليل على ذلك أيضاً فعله، فهو عليه الصلاة والسلام لم يخص رسالته بقومه ولا بالعرب ولا بأهل الجزيرة، فإذاً ليست رسالته خاصة بالعرب كما يقول علماء النصارى، فالنصارى لما رأوا مميزاته، ولما رأوا أنه انتصر وظهر دينه وتأيد وتمكن وعلا على الأديان كلها وحقق الله قوله تعالى: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33] بهتوا، فلم يجدوا بداً من تصديقه، ولكنهم قالوا: هو رسول وهو صادق، ولكن ليس رسولاً إلينا، بل هو رسول إلى العرب.

    والجواب: كذبتم، فلو كان رسولاً إلى العرب لما دعا غيرهم، فكيف يقول: إني رسول إلى الناس جميعاً وهو رسول إلى العرب، والرسول لا يكذب، ولا يرسل الله كذابا، فأنتم الآن كذبتموه وزعمتم أنه قال: إني رسول الله إلى الناس جميعاً، مع أنه ليس رسولاً إلا إلى العرب، فإذاً هو قد كذب، وإذا صدقتموه فصدقوه في كل شيء، فلا تؤمنون ببعض وتكفرون ببعض، ولا تصدقوه ببعض قوله دون بعض.

    ثم سبق أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث كتبه إلى ملوك زمانه، فبعث إلى النجاشي ملك الحبشة التي تعرف الآن بـ(أثيوبيا)، وبعث إلى المقوقس ملك مصر ويمتد ملكه إلى بعض الدول الأفريقية ومع ذلك كانوا نصارى أيضاً، وبعث إلى ملك الروم الذي هو هرقل ، وكان في دمشق الشام، ويملك الشام كله وما وراءه إلى بلاد تركيا وإلى ما وراءها، وبعث إلى ملك الفرس الذي هو كسرى، وكان الفرس آنذاك مجوساً، وكان يملك العراق وبلاد فارس كلها وما اتصل بها من وراء النهر، أي: البلاد الشرقية كلها، فبعث إليهم جميعاً يدعوهم إلى الإسلام، فدل على أنه مبعوث إلى كل الناس.

    وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بعثت إلى الأحمر والأسود) يعني: بعثت إلى جميع الخلق أحمرهم وأسودهم، والأحاديث كثيرة، فعلى هذا تكون رسالته عامة؛ لأنه خاتم الأنبياء، وإذا كان خاتم الأنبياء لزم أن يكون مرسلاً إلى الناس كلهم؛ لأنه ليس بعده نبي، فلا يليق أن تهمل الأمم الأخرى والدول الأخرى النائية التي في أطراف البلاد التي لا يأتيها رسول ولا يكون مرسلاً إليها.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (وكافة الورى) في جر (كَافَّة) نظر؛ فإنهم قالوا: لم تستعمل (كافة) في كلام العرب إلا حالا، واختلفوا في إعرابها في قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّة لِلنَّاسِ [سـبأ:28] على ثلاثة أقوال:

    أحدها: أنها حال من (الكاف) في (أرسلناك)، وهي اسم فاعل، والتاء فيها للمبالغة، أي: إلا كافاً للناس عن الباطل. وقيل: هي مصدر (كف)، فهي بمعنى (كفاً) أي: إلا أن تكف الناس كفاً، ووقوع المصدر حالاً كثير.

    الثاني: أنها حال من (الناس). واعترض بأن حال المجرور لا يتقدم عليه عند الجمهور، وأجيب بأنه قد جاء عن العرب كثيراً فوجب قبوله، وهو اختيار ابن مالك رحمه الله، أي: وما أرسلناك إلا للناس كافة.

    الثالث: أنها صفة لمصدر محذوف، أي: رسالة كافة. واعترض بما تقدم أنها لم تستعمل إلا حالاً.

    وقوله: (بالحق والهدى وبالنور والضياء) هذه أوصاف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الدين والشرع المؤيد بالبراهين الباهرة من القرآن وسائر الأدلة، والضياء أكمل من النور، قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً [يونس:5]].

    كلامه على قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ:28] قد بينه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (وبعثت إلى الناس كافة) والمراد عامة، فلا حاجة إلى كل تلك التقديرات، فـ(كافة) أي: عامة. أي: إلى كل الناس.

    وأما كلامه على وصف ما أرسل به النبي صلى الله عليه وسلم فإنه أرسل بالنور والهدى، فلا شك أن هذا وصف مطابق للشريعة التي جاء بها، وأنها مشتملة على الهدى، ومشتملة على الضياء وعلى النور وعلى البيان وعلى الحق، وذلك الوصف الذي جعلها صالحة لكل زمان ومكان، وصالحة لكل مخاطب ممن يعقل من المكلفين، فلا يصلح أن تكون الرسالة مؤقتة كما يقول بعض أهل هذا الزمان: إن الشرائع إنما تناسب البدائيين. أو: إنها إنما تناسب أهل محمد التي أنزلت عليهم، فلا تناسب أهل هذا الزمان الذين قد تطوروا وقد فهموا، وقد تعلموا كذا وكذا. وهذا كذب، بل شريعته عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن يدخلها تغيير، ولا يمكن أن يكون فيها خلل، وهي تصلح لتطبيقها في هذا الزمان وفي الأزمنة التي قبله وفي الأزمنة التي بعده.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756386022