إسلام ويب

شرح عمدة الأحكام [65]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • جعل الإسلام الرضاع رابطة تربط بين الرضيع والأسرة التي رضع منها، فيحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وذلك يعد من عظمة الإسلام في توثيق الروابط وشد الصلات.

    1.   

    شرح حديث: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)

    قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:

    [كتاب الرضاع:

    عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في بنت حمزة : (لا تحل لي، يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وهي ابنة أخي من الرضاعة) .

    وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرضاعة يحرم ما يحرم من الولادة).

    وعنها قالت: (إن أفلح أخا أبي القعيس استأذن عليّ بعدما أنزل الحجاب، فقلت: والله لا آذن له حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أخا أبي القعيس ليس أرضعني، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس ، فدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا رسول الله إن الرجل ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأته، فقال: ائذني له فإنه عمك تربت يمينك) .

    قال عروة : (فبذلك كانت عائشة تقول: حرموا من الرضاع ما يحرم من النسب).

    وفي لفظ: (استأذن عليّ أفلح فلم آذن له، فقال: أتحتجبين مني وأنا عمك؟ فقلت: كيف ذلك؟ قال: أرضعتك امرأة أخي بلبن أخي، قالت: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صدق أفلح ائذني له تربت يمينك) تربت يمينك أي: افتقرت، والعرب تدعو على الرجل ولا تريد وقوع الأمر به.

    وعنها قال: (دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم وعندي رجل فقال: يا عائشة من هذا؟ قلت: أخي من الرضاعة، فقال: يا عائشة ! انظرن من إخوانكن، فإنما الرضاعة من المجاعة)].

    تعريف الرضاع

    يراد بالرضاعة هنا أثر الرضاع الذي ذكر في قول الله تعالى: وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ [النساء:23] أي: ما تحرمه الرضاعة وما لا تحرمه، وليس المراد البحث في كيفية رضاع المرأة ولدها، المذكور في قوله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة:233]، فإن هذا المقصود منه كيف ترضع المرأة ولدها، ومتى تفطمه ونحو ذلك، وأما هذا ففي إرضاع المرأة غير ولدها، وكيف يكون أثر هذا الرضاع.

    ذكر العلماء في تعريف الرضاع المحرم أنه: امتصاص الطفل لبناً ناتجاً عن حمل وهو في الحولين.

    وقوله: (امتصاص) هذا على وجه الأغلب وإلا فلو شرب اللبن شرباً دون امتصاص وهو دون الحولين لحصل منه التأثير والتحريم، وهكذا لو أدخل مع أنفه ووصل إلى جوفه، وتغذى به؛ حصل بذلك الرضاع.

    ثم الجمهور على أنه لا يحرم إلا إذا كان الرضاع في الحولين، ويستدلون بما في حديث عائشة الأخير وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الرضاعة من المجاعة)، والمجاعة هي الجوع، يعني: الرضاع المحرم هو الذي يرتفع به الجوع، ويحصل به الشبع.

    تأثير الرضاع يتعدى إلى أقارب المرضعة لا الرضيع

    قوله صلى الله عليه وسلم في بنت حمزة : (لا تحل لي إنها ابنة أخي من الرضاعة).

    ابنة حمزة قتل أبوها وهي صغيرة في مكة، ثم في عمرة القضية سنة سبع أخذوها معهم إلى المدينة، وكفلها ابن عمها جعفر ، وكانت زوجته خالتها، وبقيت عند خالتها، وقد عرضها على النبي صلى الله عليه وسلم وقيل له تزوجها فقال: (لا تحل لي)، وذلك لأن حمزة رضع من ثويبة وثويبة أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك أصبح أخا حمزة من الرضاع.

    فهذا دليل واضح على أنه إذا حصل الرضاع من امرأة أجنبية، وأرضعت اثنين؛ أصبحا أخوين من الرضاع، فهذه ثويبة أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم وليست أمه، وأرضعت حمزة وليست أمه، فصارا أخوين منها، فصار الرضاع من امرأة أجنبية محرماً، وبالطريق الأولى إذا كان الرضاع من أم أحدهما، فإن حليمة السعدية التي أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم أصبحت أمه، وأولادها الذين ولدتهم أو أرضعتهم يعتبرون أيضا إخوة له، وهذا التحريم يختص بالرضيع ولا يتعدى إلى إخوته، فلذلك لم يتعد إلى إخوة حمزة كـالعباس وأبي طالب ، فإن كل واحد منهما ولو كان أخاً لـحمزة بن عبد المطلب فإنه لا يعتبر أخاً للنبي عليه الصلاة والسلام، فالإخوة اختصت بالرضيع الذي هو حمزة .

    وتكون الرضاعة مؤثرة في أقارب المرضعة، فيكون زوجها أباً للرضيع، وأقاربه محارم للرضيع كما في قصة عائشة ، فإن امرأة أبي القعيس أرضعتها، ثم هلكت المرأة وهلك أبو القعيس ، وجاء أخوه واسمه أفلح واستأذن على عائشة ، فامتنعت وقالت: كيف آذن له وهو لم يرضعني، ولم ترضعني امرأته، وإنما أرضعتني امرأة أخيه؟ فأخبرها بأنه عمها وقال: أرضعتك امرأة أخي بلبن أخي، فإن اللبن تسبب من أخيه، فصار أخوه صاحب اللبن أباً لـعائشة ، وزوجة أبي القعيس المرضعة أماً لـعائشة ، وأخا أبي القعيس الذي هو أفلح عماً لـعائشة ، وأولاد أبي القعيس إخوة لـعائشة من الرضاعة.

    وهذا يبين أن الرضاعة تتعدى إلى أقارب المرضعة وإلى أقارب زوج المرضعة، ولا تتعدى كما ذكرنا إلى أقارب الرضيع، فإخوة عائشة لم يؤثر فيهم رضاعها من امرأة أبي القعيس ، فأخوها عبد الرحمن لم يكن ابناً لـأبي القعيس ، وكذلك أخوها محمد وأختها أسماء ونحوهم، بل اختصت الرضاعة والتحريم والتأثير بالراضعة التي هي عائشة.

    فلما استأذن عليها استغربت وقالت: كيف آذن له وهو بعيد لم يرضعني هو، ولم ترضعني امرأته، فليست امرأته هي التي أرضعتني وإنما امرأة أخيه، وليس هو الذي أرضعني؟ فلما قال لها: أرضعتك امرأة أخي بلبن أخي، أقر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وجعل ذلك مبرراً لكونها تأذن له أن يدخل عليها ويسلم عليها؛ لأنه أصبح عمها، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ائذني له فإنه عمك تربت يمينك)، وكلمة (تربت يمينك) ذكر المؤلف أنه لا يقصد بها حقيقة الدعاء، وإنما يقصد بذلك التوبيخ لعدم الفهم، أو لعدم التذكر.

    خلاف العلماء في حكم إرضاع الكبير

    قوله: (إنما الرضاعة من المجاعة) يدل على أن الرضاعة التي تحرم هي التي تكون في الصغر، وينتفع بها من الجوع، فإذا رضع الطفل من المرأة اندفع جوعه وشبع، وحصل له غذاء، ونبت بذلك الرضاع لحمه، ونشز عظمه، فيصبح قد تغذى من لبن تلك المرأة، ونبت منه لحمه، فينسب إليها، ويكون ابناً لها من الرضاع.

    وقد اختلف في رضاع الكبير، فذهب بعض الصحابة كـعائشة إلى أنه يحرم، واستدلوا بقصة سهلة امرأة أبي حذيفة ، فإن أبا حذيفة كان له مولىً يقال له: سالم ، فجاءت امرأة أبي حذيفة وقالت: يا رسول الله! إن سالماً بلغ مبلغ الرجال، وإنه يشق عليّ التحجب منه فقال: (أرضعيه تحرمي عليه) ، وقد كان رجلاً قد نبتت لحيته، فأرضعته خمس رضعات ليكون محرماً لها.

    ولكن الجمهور على أن هذا من خصائص سهلة ، وأنه لا يحل لغيرها أن ترضع كبيراً فتحرم عليه، وما ذاك إلا لضرورة حصلت لها؛ وذلك لأن رضاع الكبير لا يتغذى به بدنه، ولا ينبت منه لحمه، ولا ينبت منه عظمه، وأيضاً فإن الله تعالى قد حدد الرضاع في قوله تعالى: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [لقمان:14]، وفي قوله: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة:233]، فلا يمكن أن يزاد على السنتين، والزيادة عليهما زيادة في غير محلها، فالصبي إذا أتم السنتين اكتفى بما يعطى من الأكل ونحوه، واستطاع أن يمضغ الطعام ويتغذى به؛ فلذلك لا حاجة إلى الرضاع بعد الحولين، فإذا أرضع بعد الحولين أو بعد الفطام فهذا الرضاع لا يؤثر ولا يحرم، وهذا هو القول الصحيح، وقصة سالم مولى أبي حذيفة من خصوصيات سهلة ، ولو خالف في ذلك من خالف.

    وذهب بعضهم إلى أنه إذا اضطرت المرأة إلى رجل لا تجد بداً من الكشف له، وأن يكون محرماً لها جاز لها أن ترضعه كما حصل لهذه المرأة التي هي امرأة أبي حذيفة .

    واستدل الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا رضاع إلا ما كان في الحولين)، أو (لا رضاع إلا ما كان قبل الفطام) ، وكذلك قوله: (انظرن من إخوانكن، فإنما الرضاعة من المجاعة)، يعني: الرضاعة المحرمة التي يكون لها تأثير هي ما كانت من المجاعة، وفي حديث آخر أنه عليه الصلاة والسلام قال: (لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء، وأنشز العظم وأنبت اللحم) ، فالرضاع الذي في الصغر هو الذي ينشز العظم، يعني: ينبت به العظم ويكبر، وإنشاز العظام نموها ونباتها، كما في قوله: وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا [البقرة:259] ، يعني: ننميها وننبتها، وكذلك قوله: (أنبت اللحم) يعني: نبت اللحم على العظم بذلك الرضاع، فهذا هو الذي يحرم.

    الرضاع من جملة ما بحث فيه العلماء؛ لأن الله تعالى ذكره بقوله: وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ [النساء:23]، والبحث فيه مشهور وأدلته واضحة، وقد جاءت متنوعة في هذه الأحاديث، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، فقالوا: كل قريب يحرم من النسب فإنه يحرم مثله من الرضاعة، فزوج المرأة يسمى أباً من الرضاع، وأولاد المرضعة يسمون إخوة من الرضاع، وإخوان المرضعة أخوال الرضيع، وأخواتها خالات الرضيع، وكذلك أقارب الزوج، فإخوته يصيرون أعماماً للرضيع؛ لأنهم إخوة أبيه، وهكذا بقية الأقارب عملاً بهذا الحديث.

    1.   

    شرح حديث: (كيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما)

    قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:

    [عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه (أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: فأعرض عني، قال: فتنحيت فذكرت له، قال: وكيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما؟ فنهاه عنها).

    وعن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني من مكة- فتبعته ابنة حمزة تنادي: يا عم، فتناولها علي فأخذ بيدها وقال لـفاطمة : دونك ابنة عمك، فاحتملتها، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر ، فقال علي : أنا أحق بها وهي ابنة عمي، وقال جعفر : ابنة عمي وخالتها تحتي، وقال زيد : ابنة أخي، فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها، وقال: الخالة بمنزلة الأم، وقال لـعلي : أنت مني وأنا منك، وقال لـجعفر : أشبهت خَلقي وخُلقي، وقال لـزيد : أنت أخونا ومولانا)].

    الحديث الأول يتعلق بالرضاعة، والشهادة فيه، والحديث الثاني يتعلق بالحضانة: وهي كفالة الطفل وتربيته.

    ذكر في حديث عقبة ، أنه لما تزوج هذه المرأة التي يقال لها: أم يحيى بنت أبي إهاب ؛ جاءت أمة مملوكة سوداء، وادعت أنها أرضعت عقبة ، وأرضعت المرأة التي تزوج بها، وأنها أصبحت أماً لهذا ولهذه، فيكونان أخوين من الرضاعة، فأنكر ذلك عقبة ، ولم يكن قد سمع هذا منها، واتهمها بأنها تريد أن تفرق بينهما، فلم يجرؤ على أن يرد عليها، ولكنه ركب راحلته من مكة إلى المدينة، فقدم على النبي صلى الله عليه وسلم وسأله، وذكر له أنها تكذب، وأنه لا يعرف ذلك من قبل، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أقرها على ما تدعي، وجعل الأمر راجعاً إليها، وقال: (كيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما؟ دعها عنك)، فعند ذلك فارقها عقبة ، وتزوجت غيره، فأخذوا من هذا الحديث:

    أولاً: أن الرضاع يحرم ولو لم يكن من أم أحد الولدين، فإذا رضعت من امرأة ليست أمك، ورضع منها زيد وليست أمه، صرت أنت وزيد أخوين من الرضاع، لا تحل لك بنته ولا تحل له بنتك، مع أنك لست أخاً له من النسب، ولم ترضع من أمه، ولم يرضع من أمك، وإنما اجتمعتما في رضاع امرأة أجنبية أرضعتكما.

    ثانياً: أن الرضاع يرجع فيه إلى المرضعة، إذا ادعت ذلك فإنها تصدق؛ وذلك لأنه يورث شبهة، فإذا ادعت أنها أرضعت فإن هذا الكلام يورث شبهة؛ فلأجل ذلك تُتجنب الشبهات؛ لقوله: (ومن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه) .

    كذلك أيضاً: لا شك أن هذه المرأة لم يتهمها عقبة إلا بتهمة أنها تريد الفراق بينهما، ولم يذكر أنه جرب عليها كذباً، ولا أنها ذات حسد، فلعلها لما سمعت بأنه تزوجها خافت أن يكون بينهما شيء من العلاقة مع تحريم، فأبدت ما عندها، وأظهرت أنهما ولداها من الرضاع، فهذا رضيع منها، وهذه رضيعة منها، فقُبل قولها، وقد عرفت حد الرضاع، فلا بد أنها عرفت أن الرضاع المحرم هو خمس، ولا بد أنها عرفت أن الرضاع المحرم ما كان في الحولين، وأنها ما أقدمت على الحكم بأنهما ولداها من الرضاع إلا وقد عرفت الحكم وتيقنت، فيقبل قولها.

    قبول قول المرأة الواحدة في الرضاع

    يقول العلماء: إذا ادعت امرأة أنها أرضعت هذه المرأة وزوجها، قبل قولها ولو كانت واحدة، أخذاً من هذه القصة، وإذا كانت كاذبة فكما قال تعالى: وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ [غافر:28]، فإذا كانت كاذبة فإنها تستحق العقوبة في الآخرة، وربما تعجل لها العقوبة في الدنيا إذا فرقت بين زوجين وهي كاذبة، فتصيبها دعوة مظلوم، وقد يعرف كذبها بقرائن، ولكن لا يُعمل بالقرائن بل يعمل بقولها اتقاءً للشبهات.

    روي عن ابن عباس أنه قال: إن كانت كاذبة لا تتم السنة حتى تبيض ثدياها. يعني: عقوبة لها يصيبها في ثدييها برص يكون سبباً في عدم قبول أحد لثدييها، وهذا وإن لم يكن مطرداً لكن قد يكون واقعاً في بعض الأحيان.

    1.   

    شرح حديث: اختصام علي وجعفر وزيد في ابنة حمزة

    الحديث الثاني: يتعلق بقصة ابنة حمزة ، وقد تقدم أن علياً عرضها على النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها، ولكن أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها لا تحل له؛ لأن حمزة أخوه من الرضاعة، رضع هو وحمزة من ثويبة مولاة أبي لهب ، فهذا حكم: وهو أنها ابنة أخيه من الرضاع، ومع ذلك لم يطالب بحضانتها.

    فلما قتل حمزة رضي الله عنه سنة ثلاث من الهجرة في وقعة أحد كانت ابنته عمارة في مكة، وكانت صغيرة مع أمها، ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه في سنة سبع مكة في عمرة القضية، ثم خرجوا من مكة تبعتهم ابنة حمزة تنادي وتقول: يا عم! يا عم! وذلك لأنها قد كبرت عن سن الحضانة، تجاوزت عشر سنين أو نحوها، فأرادت أن تكون مع أهلها، وأمها وأخوالها كانوا لا يزالون مشركين.

    والحاصل أنها لما تبعتهم أركبها علي رضي الله عنه مع زوجته فاطمة على بعيرها، وقال: دونك ابنة عمك، وذهبوا بها إلى المدينة، فطلب كفالتها هؤلاء الثلاثة، كل منهم يريد أن تكون تحت كفالته؛ ليأخذ أجرها لكونها يتيمة، فـعلي رضي الله عنه يقول: هي بنت عمي، فإنه حمزة عمه وهو عم جعفر وعم النبي صلى الله عليه وسلم، وفاطمة ابنة ابن عمها كأنه يقول: أدلي بقرابتي لها وقرابة امرأتي.

    أما جعفر فأدلى أيضاً بحجتين وهو أنها بنت عمه، وأن زوجته خالتها أخت أمها، وزوجته هي: أسماء بنت عميس ، فطلبها جعفر أيضاً، وكذلك طلبها مولاهم زيد بن حارثة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد آخى بينه وبين حمزة فقال: ابنة أخي، يعني: بالمآخاة، ولكنه صلى الله عليه وسلم جعلها تحت كفالة خالتها وكفالة ابن عمها جعفر وقال: (الخالة بمنزلة الأم)

    الكفالة هنا إنما هي النفقة، وإلا فالحضانة قد ذهب وقتها، الحضانة تكون قبل السبع السنين، وأما بعد سبع سنين فإنه لا يحتاج الطفل إلى حضانة، ولكن لما كانت يتيمة أراد كل من هؤلاء الثلاثة أن يحظى بكفالتها وبالنفقة عليها.

    قوله صلى الله عليه وسلم لـعلي: (أنت مني وأنا منك) يعني: أنت لك الفضل ولك القرابة، القرابة لكونه ابن عم، والقرابة لكونه صهراً، والقرابة لكونه قديم الإسلام، ولكونه قديم الهجرة.

    وقوله لـجعفر: (أشبهت خَلقي وخُلقي) فيه فضل عظيم لـجعفر رضي الله عنه.

    وقال لـزيد: (أنت أخونا ومولانا)، فأرضى كل واحد منهم بهذا الأمر، وبكل حال فهذا دليل على تنافس الصحابة رضي الله عنهم في فعل الخير، ومسابقتهم إليه، وأن كلاً منهم يحرص على أن يكون من السابقين إلى الخيرات، وأن يكون من الذين يحظون بالأجر في كفالة اليتيم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم كهاتين) أي: في الجنة، يعني: بعضنا يكون مع بعض في الجنة فأشار بأصبعيه السبابة والتي تليها، وفرق بينهما شيئاً.

    وقد أمر الله تعالى بالإحسان إلى اليتامى، وبمراعاتهم، ونهى عن إضرارهم، وقال: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ [البقرة:220].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756385061