إسلام ويب

شرح عمدة الأحكام [54]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • شرعت الهدية لإزالة الشحناء وغرس المحبة، وهي إما هدية بثواب أو بغير ثواب، وإما أن تكون من الوالد لولده أو لأجنبي، وهي على كل حال تختلف عن الصدقة في مقصودها وبعض أحكامها. وقد وجب في الشرع المساواة بين الأولاد في العطية، وذلك إذا لم يكن هناك سبب يقتضي المحاباة، فإن قام سبب المحاباة جازت.

    1.   

    حكم استرداد الهبة ونحوها

    يقول المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:

    [وعن عمر رضي الله عنه قال: (حملت على فرسٍ في سبيل الله فأضاعه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه، فظننت أن يبيعه برخص، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تشتره، ولا تعد في صدقتك وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في هبته كالعائد في قيئه -وفي لفظ: فإن الذي يعود في صدقته كالكلب يعود في قيئه، يقيء ثم يعود فيه)].

    النهي عن الرجوع في الهبة

    فهذا حديث عن عمر ، ذكر فيه أنه كان عنده فرس فأراد أن يتصدق به على رجل، وقال لذلك الرجل: هذا لك تغزو عليه، وتركبه، وتنتفع به، فأعطاه إياه كصدقة وقصده من ذلك أن ينتفع به، وبالأخص في الغزو، وفي السرايا، وفي الخروج في سبيل الله وما أشبه ذلك، ولكن ذلك الرجل الذي أخذ ذلك الفرس لم يكن يعرف قدره فأضاعه وأهمله، ولم يعرف قيمته، ولم يكن من أهل هذا الصنف.

    فعند ذلك علم عمر أنه سيبيعه، وأنه يبيعه رخيصاً، فأراد أن يشتريه، لكونه يعلم أهلية ذلك الفرس، ويعلم كفاءته وقوته وغلاءه وصلاحيته، فلما أراد أن يشتريه وهو يباع بثمن رخيص لم يقدم على ذلك حتى سأل النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يخافون أن يقعوا في شيء لا يجوز في الشرع، فتوقف حتى استفصل من النبي صلى الله عليه وسلم: هل يجوز لي شراؤه وأنا الذي تصدقت به؟

    فسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فوجد من النبي صلى الله عليه وسلم إنكاراً شديداً لاقتنائه ولتملكه ولو بطريق الشراء، وأخبره بأنه لا يجوز ولا يحل له أن يشتريه: (ولو أعطاكه بدرهم فلا تشتره)، فإن هذا يشبه الرجوع في الهبة؛ لأنك وهبته له، والهبة صدقة وتبرع فلا ترجع في هبتك، ولا تعد فيها، فإنك إذا رجعت فيما وهبته وأخرجته من ملكك لوجه الله تعالى، أشبهت الذي يرجع في قيئه.

    وضرب مثلاً سيئاً وهو الكلب، والكلب معروف أنه من شر الحيوانات وأقذرها، فهو موصوف بهذا الوصف القذر؛ وهو أنه يقيء ثم يرجع في قيئه، ومثله أيضاً السباع أو كثير منها، فهذا مثل سيئ، بحيث إنه إذا أكل وامتلأ بطنه واشتد امتلاؤه، وخاف مثلاً أن لا يستطيع العدو، أو لا يستطيع البروك، أو الدخول في جحر أو نحوه، فإنه يخرج من بطنه كثيراً مما أكل حتى يخف عنه، وهو القيء عن طريق الفم، فإذا جاع بعد ذلك رجع إلى ذلك القيء الذي كان قد أخرجه من بطنه مع تغيره ومع نتنه فأكله، هذا مثله سيء شبّه به النبي صلى الله عليه وسلم الذي يعطي عطية ثم يرجع في عطيته، أو يهدي هدية ثم يرجع فيها، أو يهب هبة ثم يرجع فيها، أو يتصدق بصدقة ثم يرجع فيها.

    والرجوع فيها معناه: إما أن يطلبها ويقول: رد لي هديتي، رد عليّ صدقتي أو هبتي، رد عليّ ما أعطيتك، أنا أعطيتك مثلاً هذا الثوب أو هذا الكيس فرده عليّ، فإنك لا تستحقه ولست أهلاً ولا كفؤاً له، يطلبه حتى يأخذه منه، كذلك إذا طلبه بشراء فإن ذلك شبيه بالرجوع.

    ولأجل ذلك منع النبي صلى الله عليه وسلم عمر أن يشتري ذلك الفرس ولو كان رخيصاً؛ وذلك لأنه إذا جاء ليشتريه، فإن صاحبه قد يستحيي منه ويتغاضى عنه ويبيعه بشيء من الرخص، فيذهب على صاحبه بعض من الثمن؛ فمثلاً: إذا كان الفرس أو البعير الذي أهديته لزيد يساوي ألفاً، فإنه إذا رآك تستامه احتشم واستحيا منك وباعه بنصف الألف أو بثلث الألف؛ احتشاماً واستحياءً وقال: هذا مالكه، وهذا هو الذي أنعم عليّ وأهداه لي وتفضل به عليّ، فما دام أنه يسومه فإني أبيعه ولا أغالي فيه!!

    كذلك إذا طلبته منه، وقلت مثلاً: إني قد أهديتك هذا الإناء مثلاً، أو هذا الثوب، أو هذا القدح، أو هذه الآلة ونحوها، فأريد أن تردها عليّ فإني بحاجةٍ إليها، لا شك أنه بذلك يحتشم ويستحيي، ويردها عليك على استحياء مع أنه قد يكون بحاجة إليها؛ هذا كله فيما إذا كان ذلك هبةً أو هديةً أو نحو ذلك.

    لا يجوز المن بالعطية أو الصدقة

    ويدخل في ذلك أيضاً المنّ بها وتذكيره إياها، فإن في ذلك شيئاً من التحقير لصاحبها وتكبير النعمة عليه، بحيث إنه يتمنى أنه ما قبل منك هذه الهدية أو هذه الصدقة؛ ولأجل ذلك نهى الله تعالى عن المن بها، وأخبر بأنه يبطل ثوابها، قال الله تعالى: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى [البقرة:262]، فالمنّ يدخل فيه أن يذكره، فكلما لقيك أخذ يذكرك: أتتذكر أني أهديتك ثوباً؟ أما تتذكر أني أهديتك لحماً؟ أما تتذكر أني أهديتك قدحاً أو إناءً؟ أما تتذكر أني أهديتك مالاً، أو فراشاً أو ما أشبه ذلك، فلا يزال يذكرك.

    وربما أيضاً يمنّ عليك فيقول: أنا الذي أركبتك وأنت منقطع .. أنا الذي أطعمتك وأنت جائع .. أنا الذي كسوتك وأنت عار .. أنا الذي أنقذتك وأنت هالك! فلا يزال يمنّ عليك إلى أن تتمنى أنك ما قبلت منه تلك الصدقة ونحوها، ولا شك أن هذا مما يحبط الأجر ويبطل الصدقة؛ فلأجل ذلك نهى الله تعالى عن المنّ وعن الأذى.

    فضل الصدقة وإخفائها

    الصدقة: هي التي يقصد بها المتصدق وجه الله والدار الآخرة، فيجب أن يخلصها لله، بأن يتصدق على الفقير والمسكين وذي الحاجة بقصد رضا الله تعالى وثوابه.

    والأولى أيضاً أن يخفيها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)؛ لأن إخفاءها: أولاً: فيه الإخلاص والبعد عن الرياء، وثانياً: أن فيها تخفيفاً للمنة على المتصدق عليه.

    إذا لم يظهرها بل أخفاها، وكان لا يريد أن يعلم أحد به، وربما لا يعلم المتصدق عليه من صاحب هذه الصدقة، كما إذا وضعها في بيته وهو لا يعلم، أو وضع النقود في جيبه أو في مخبئه وهو لا يدري؛ كان في ذلك إخلاص قوي من المتصدق.

    أما الهبة والهدية، فقد يراد بها الأجر الأخروي وقد يراد بها المودة في الدنيا، وحصول الأخوة والمحبة بين المهدي والمهدى له، وفي بعض الأحاديث: (تهادوا تحابوا، فإن الهدية تسل السخيمة) يعني: تذهب الضغائن التي في القلب، فإنه إذا أهدى لك إنسان هدية، حتى لو كانت شيئاً يسيراً كفاكهة ولحم وطعام، أو أهداك كسوة فاخرة لها قيمتها، فإن قلبك يوده ويميل إليه، وتحصل بينك وبينه ألفة وصداقة، والشرع جاء بتحصيل الألفة بين المسلمين، وتثبيت المحبة والمودة، وإبعاد الضغائن والشحناء عن القلوب.

    وقد يقصد بالهدية طلب المكافأة، فإنه إذا عرفت أنه أهدى إليك وأنت أكثر منه مالاً وأغنى منه، وهو من المتوسطين أو من الفقراء، عرفت أنه ما أهدى إليك إلا لتثيبه على الهدية، فلكل هدية ثواب، فقد يريد أكثر من قيمتها، فإذا كافأته عليها وأعطيته أكثر من ثمنها؛ كان ذلك من أسباب القبول، ودخل ذلك أيضاً في أسباب المحبة وثبوت المودة، بين المهدي والمهدى له.

    جواز الرجوع في هبة الثواب ما لم يثب

    فهذا مما يتعلق بالهدية، فنقول: إن الهدية، وكذلك العطية والنحلة والهبة والصدقة وما أشبهها؛ كلها تمليك، والغالب أنها تمليك بدون عوض مسمى، فما دام أنها بدون عوض مسمى فإن الذي يرجع فيها؛ نفسه دنيئة ضعيفة، فلذلك شبه بالكلب يرجع في قيئه، يطلب هديته أو هبته أو صدقته حتى يعود فيها، فهو كالذي يعود في قيئه.

    وقد استثنى بعض الصحابة هبة الثواب، حيث قالوا: إن الهبة تنقسم إلى قسمين:

    - هبة تبرر.

    - وهبة ثواب.

    فهبة التبرر: هي التي يقصد بها ثبوت المودة، فهي هبة بين اثنين يقصد بها ثبوت المحبة والمودة بين المهدي والمهدى له، وزوال الإحن والبغضاء ونحوها.

    أما هبة الثواب فهي التي يكون قصده أن يعطى أكثر منها، فإذا أهدى الفقير للغني، فالغالب أنه يريد أن يعطيه الغني ثمنها مضاعفاً؛ لأنه يعرف أنه ليس أهلاً للصدقة، بل هو الذي يتصدق على غيره، ويعرف أن هذا الفقير ليس ممن يتصدق على هذا الغني، فهو ما أهدى له إلا لأجل أن يثيبه، فهذه هي هبة الثواب.

    ذكروا أن عمر رضي الله عنه أباح رجوع المهدي هبة ثوابٍ إذا لم يثب عليها، فقال: (الرجل أحق بهبته ما لم يثب عليها)؛ فكأن هذا يعتبر بيعاً، أي: الهبة التي هي هبة ثواب بمنزلة المبايعة بين اثنين، فالذي يبيع الشيء ولا يحصل له ثمنه يطالب باسترجاعه، فإذا باعك إنسان جملاً ولكن لم تدفع له قيمته، فإنه يطالبك بقيمته أو بجمله، فكذلك إذا أهدى لك -مثلاً- جملاً أو فرساً أو شاةً أو بقرةً، أو أهدى لك سيارةً، أو أهدى لك كيساً أو ثوباً، وعرفت من قصده أنه يطلب أضعاف ثمنها أو يطلب مثل الثمن فقط، ولكنك لم تعطه؛ فإن له أن يطالب باسترجاع ما أهداه ولا يدخل ذلك في حديث العائد في قيئه؛ لأن هذا مقصده معروف.

    ومع ذلك فإن الأولى ألا يكون هذا القصد موجوداً، والأولى أيضاً ألا يحوجه إلا أن يذكره أو يطالبه ويقول: أهديت لك فلم تعطني، لماذا لم تعطني؟ أعطني ثواباً أو رد عليّ هديتي، فيندب أن لا تكون هذه هي المقاصد.

    وهذا أخف من المن والأذى الذي ذمه الله سبحانه في الآية التي أشرنا إليها، وأخبر بأنه يبطل الأجر في قوله تعالى: لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [البقرة:264]، أي: لا تبطلوا أجرها، وفي قوله: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [البقرة:263]، والقول المعروف هو: الرد الجميل، إذا جاءك إنسان يستعطيك أو يسألك وهو محتاج، ولم يكن عندك شيءٌ تعطيه، أو لست ممن يتصدق؛ فرددته رداً جميلاً واعتذرت إليه عذراً مسموعاً، وأجملت له بالكلام وقلت له: سوف يأتيك رزق من الله فاصبر وتحمل، فإن الله هو الذي يعطي، ولا تدنس نفسك ولا تدسها وتذلها ولا تخضع للناس، ولا تتواضع لهم، بل اجعل ذلك لله سبحانه وتعالى، وعلق قلبك به، فإن الله تعالى يعزك ويرفع مقامك ويرزقك، ولا يحوجك إلى أحد من الناس .. إذا علقت قلبه بالله ونصحته بذلك، رجي بذلك أن يكون من الذين يترفعون عن التدني لغيرهم.

    وحكي أن بعضهم كانوا من الذين بهم حاجة شديدة، ولكنه عز نفسه ونظم أبياتاً يتعلق فيها قلبه بربه، فرزقه الله ووسع عليه؛ قال في أبياته:

    يا من له الفضل محض في بريته وهو المؤمل في الضرا وفي الباس

    عودتني عادة أنت الكفيل بها فلا تكلني إلى خلقٍ من النـاس

    ولا تذل لهم من باب عزته وجهي المصون ولا تخضع لهم رأسي

    وابعث على يد من ترضاه من بشرٍ رزقي وصني عمن قلبه قاسي

    وذلك دليل على ارتفاع الهمة وعلى التعلق بالله وعدم الدناءة إلى المخلوقين، وإذا كان ذلك كذلك فإن الله تعالى يرزق العبد من حيث لا يحتسب، وهو خير له من أن يتصدق عليه إنسان ثم يمن عليه، ويذكره بصدقته أو يؤذيه بسببها، أو ينتقده فيها، أو ما أشبه ذلك.

    1.   

    التسوية بين الأولاد في العطية

    قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [التسوية بين الأولاد في الهبة.

    عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: (تصدق عليّ أبي ببعض ماله، فقالت أمي عمرة بنت رواحة : لا أرضى حتى يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشهده على صدقتي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفعلت هذا بولدك كلهم؟ قال: لا، قال: اتقوا الله واعدلوا في أولادكم، قال: فرجع أبي فرد تلك الصدقة).

    وفي لفظ قال: (فلا تشهدني إذاً؛ فإني لا أشهد على جور)، وفي لفظ: (فأشهد على هذا غيري)].

    الفرق بين العطية والهبة

    يتعلق هذا الحديث بالعطية، والعطية: هي الهبة بلا ثواب، وأكثر ما تكون عطية الرجل لأولاده أو لأقاربه يقصد بذلك نفعهم، أو يقصد بذلك مجازاتهم، أو نحو ذلك.

    فالعطية: لها أحكام غير أحكام الهبة، لذلك جاز للأب أن يرجع في عطيته، وأما الواهب فلا يجوز له أن يرجع في هبته، كما تقدم في قوله صلى الله عليه وسلم لـعمر : (لا تعد في هبتك، فإن العائد في هبته، كالعائد في قيئه).

    عرفنا أن الهبة صدقة وتبرع لمستحقها من مسكين أو فقير أو نحو ذلك، وأما العطية، فهي تبرع لا يبتغى به الأجر الأخروي غالباً، وإنما يبتغى بها نفع المهدى لهم أو المعطين، أو مجازاتهم أو نفع الولد، أو ما أشبه ذلك.

    فعلى هذا يجوز أن يعطي الأب أولاده ويجوز أن يعطي إخوته، ويجوز أن يرجع في عطيته إذا لم تستلم ولم يكن هناك لها سبب، إلا الإتيان بأسباب المودة وما أشبهها.

    لا يجوز المفاضلة في العطية بين الأولاد

    نعود إلى القصة: هذه القصة فيها أن النعمان بن بشير بن سعد الأنصاري ذكر أن أباه بشير بن سعد أعطاه عطية، وفي بعض الروايات: أنه نحله عبداً يعني: مملوكاً، وفي بعض الروايات أطلق وقال: نحلني نحلةً، أو: أعطاني عطية. ولم يسمها.

    وكانت أمه عمرة بنت رواحة ، وهي أخت عبد الله بن رواحة ؛ كانت تحب ولدها النعمان، فأحبت أن يثبت هذا العطاء، وأن لا يكون فيه إنكار، فقالت: لا أرضى حتى تشهد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: حتى يثبت إذا شهد به ويقره، ولا يمكن أن ينكر بعد ذلك.

    ففعل ذلك بشير بن سعد فذهب بولده، ولما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبره بأنه نحل ابنه عطية، وأن أم الابن أرادت أن تشهد على هذه العطية، فلسان حاله يقول: أتيتك لأشهدك على نحلة ابني وعلى عطيته، ولما كان في هذا شيء من الجور وعدم التسوية، استفصل النبي صلى الله عليه وسلم وسأل بشيراً: هل لك أولاد غير النعمان ؟ فأخبره بأن له أولاداً ذكوراً وإناثاً، فسأله: هل نحلتهم مثلما نحلت هذا؟ أو خصصت هذا بالعطية وحده؟ فأخبر بأنه لم ينحلهم وإنما نحل هذا، وأن هذه العطية خاصة بـالنعمان !

    وعند ذلك أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)، أي: ليحملكم خوف الله وتحملكم التقوى على أن تعدلوا وتسووا بين أولادكم، ولا تجوروا فتميلوا مع واحدٍ ميلاً يفهم منه تفضيلكم له على غيره، بل عليكم أن تسووا بينهم ولا تفضلوا واحداً على واحد.

    كذلك في بعض الروايات أنه قال: (أشهد على هذا غيري)، أي: إن هذا جور وظلم، فلا أشهد على الظلم ولا أشهد على الجور، فاذهب إلى غيري، وأشهد عليه غيري، فإني لا أشهد عليه، وليس معناه إقرار الشهادة من الغير، بل معناه التحذير منه، فلأجل ذلك التزم بشير ورد تلك العطية لما نهاه النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الروايات أنه علل فقال: (أتحب أن يكونوا لك في البر سواء؟ فقال: نعم، فقال: فلا إذاً) أي: ما دمت تحب أن يبروك كلهم ويطيعوك، فلماذا لا تجعلهم كلهم سواء في برك وفي طاعتك، فسو بينهم في عطيتك، حتى يستوي كلهم في طاعتك وفي برك، هكذا علل صلى الله عليه وسلم!

    الأحكام المستفادة من الحديث

    ومن هذا الحديث أخذ العلماء استحباب الإشهاد على العطايا والهدايا ونحوها، وذلك لتثبت؛ ما دام أنه ذهب ليشهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذوا منه إشهاد ذوي الفضل وذوي العلم وذوي المنزلة الرفيعة، حيث لم ترض عمرة بنت رواحة إلا بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم.

    ويؤخذ منه أن العطية تثبت بالإقرار وبالإشهاد، وأخذوا منه أن عطية الوالد لولده تملك بالقبض إذا تمت شروطها، أو تملك بعد الهبة إذا تمكن من قبضها واستلامها.

    وأخذوا منه: وجوب التسوية بين الأولاد لقوله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)، ولقد كان السلف والعلماء رحمهم الله يعملون بهذا بقدر ما يستطيعون من العدل بين أولادهم، حتى كانوا يسوون بينهم في القبل، إذا قبّل هذا رحمةً به قبل البقية ذكوراً وإناثاً من باب العدل ومن باب التسوية، فضلاً عن التسوية في الأمور الظاهرة، فإذا اشترى لهذا ثوباً اشترى للثاني وللثالث مثله، وكذلك إذا اشترى لهذا طعاماً أو فاكهة أو أطعمه سوى به الآخرين وأعطاهم مثلما أعطاه.

    كل ذلك حرصاً على العدل الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وحرصاً -أيضاً- على البر، وذلك لأنه علل بقوله: (أتحب أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: نعم)، فإذاً لا شك أنه يحب أن يبره هذا ويبره الثاني ويبره الثالث، ويكونوا كلهم بارين بأبيهم، ولا يرضى أن يكون هذا براً وهذا عاقاً، وهذا مطيعاً وهذا عاصياً، بل يحب أن يكونوا كلهم بررة له، هذا هو الذي يرضى به، فهذا معنى قوله: (أتحب أن يكونوا لك في البر سواء).

    ذكر العلماء أنه لا يجوز لأحد الرجوع في عطيته إلا الأب وقالوا: لا يحل لأحد أن يرجع في هبته إلا الأب فيما وهب لأولاده أو لولده، أخذاً من هذا الحديث.

    1.   

    أسباب جواز المفاضلة بين الأولاد في العطية

    اختلاف الحاجات بين الصغار والكبار والذكور والإناث

    ثم هذا الحديث محمول على ما إذا لم يكن هناك أسباب لعطية بعض الأولاد وقت حاجتهم، فأما إذا كان هناك أسباب فإنها جائزة، ومعلوم مثلاً أن الوالد ينفق على أولاده بقدر حاجتهم، ويشتري لهم بقدر حاجتهم ولو تفاوتت الحاجات.

    ومعلوم وجود التفاوت بين الحاجات تفاوتاً مشهوراً ظاهراً، فإذا كان له عدد من الأولاد ذكوراً وإناثا، فحاجات الذكور غير حاجات الإناث، فحاجة الذكر مثلاً أنه يمكنه من الدراسة، ويعطيه ما يحتاج إليه في الدراسة، فإذا احتاج مثلاً إلى سيارةٍ يتنقل عليها ويذهب عليها إلى مدرسته أو جامعته، أعطاه سيارة، وكذلك إذا احتاج إلى زواج زوجه ولو كان إخوته أطفالاً؛ لأن هذا من الحاجات الضرورية، فإذا احتاج مثلاً إلى سكن أسكنه في مكان أو بيت يناسبه إذا كان قادراً؛ لأن هذا من حقه عليه، والوالد عادة إنما يجمع أمواله لأولاده؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنك أن تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس).

    فالولد مثلاً إذا احتاج إلى النفقة وكان فقيراً، فإن الوالد ينفق عليه ولو كان الولد قادراً على الاكتساب، فإذا عجز عن الاكتساب بأن لم يجد عملاً، أو مثلاً كان منشغلاً بدراسةٍ ونحوها، وكان الأب واجداً وذا مال ألزم بأن ينفق عليه، فإذا كان أحد أولاده مستغنياً في وظيفةٍ وعمل، والآخرون غير مستغنين أنفق على المحتاجين دون غيرهم، ولا يكون هذا جوراً.

    وإذا كان هذا مضطراً إلى سيارة يتنقل عليها أعطاه ولم يعط الآخرين لصغرهم مثلاً أو لعدم حاجتهم، وإذا كان هذا مضطراً إلى الزواج زوجه، ولو لم يزوج الآخرين إما لعدم طلبهم، أو لصغرهم، وذلك لأن هذا من تمام حق الولد على أبيه وله في مال أبيه حق.

    كذلك معلوم أن الذكر والأنثى يتفاوتان في الحاجة، فمثلاً هو ملزم بكسوة الذكور والإناث، ومعلوم مثلاً أنهم يتفاوتون، فقد تكون كسوة الأنثى بمائتين وكسوة الذكر مثلاً بخمسين أو نحوها، فهذا وجه التفاوت، والأنثى مثلاً بحاجة إلى الحلي وإلى الجمال، فله أن يعطيها كغيرها ما تتجمل به من الحلي ولو كان رفيع الثمن، وليس الذكر بحاجةٍ إلى ذلك.

    وهكذا مثلاً إذا مرض أحد أولاده فإنه يعالجه ولو صرف عليه أموالاً طائلة، ولا يقال: أعط أولادك الآخرين مثلما أنفقت عليه؛ لأنه ما أنفق عليه إلا لحاجته أو لضرورته، فهذا من الأسباب التي تستثنى من ذلك.

    تشجيع من يستحق التشجيع

    كذلك أيضاً معلوم أنه قد يحتاج إلى تشجيع بعض أولاده على أمرٍ يستحق عليه التشجيع، فإذا كان أحد أولاده عاكفاً على العلم وعلى الفهم، وعلى التفقه في الدين، والآخرون قد أعرضوا عن ذلك، وعكفوا على اللهو واللعب، وعكفوا على الباطل، وأضاعوا حياتهم وأعمالهم؛ فلا شك أن هذا الذي عكف على العلم الصحيح يستحق أن يشجع وأن يرفع من معنويته، وأن يعطى ما يشجعه وما يكون سبباً لالتفات الآخرين إلى مثله، فإذا قالوا: لماذا لم تعطنا؟ يقول: لا أعينكم على لهوكم ولعبكم، لا أعينكم على الباطل، أما هذا فقد قطع حياته في التعلم والتفقه، فهو أهل أن يشجع على ذلك.

    وهكذا إذا كان بعضهم عاصياً لأبويه عاصياً لربه، خارجاً عن الطاعة، متمادياً في المعاصي عاكفاً على اللهو واللعب، عاكفاً على شرب المسكرات ونحوها، والآخر متطوعاً لله بأنواع الطاعات، عاكفاً على الطاعة والعبادة ملازماً لعبادة الله، هادياً ومهتدياً صالحاً ومصلحاً؛ لا شك أن هذا الصالح يستحق أن يشجع وأن يفضل على ذلك العاصي الذي خرج عن طاعة أبويه وخرج عن طاعة الله سبحانه، فكان مستحقاً أن يبعد وأن يحرم؛ لأنه إذا أعطاه والحال هذه، فقد أعانه على المعصية، فيعين عاصياً على عصيان.

    افتقار بعض الأولاد ونحو ذلك

    ويقال كذلك فيما إذا كان هناك سبب آخر، فإذا قدر أن أحد الأولاد افتقر لكثرة عياله، وركبته الديون، والآخرون مستغنون إما لقلة العيال وإما لكثرة الكسب ولكثرة الدخل، وليس عليهم ديون ولا غيرها، فلا شك أن الأب له أن يخفف عن هذا الولد الذي تحمل هذا الدين، فله أن يساعده، ولا يقال: أعط البقية كما أعطيت هذا؛ لأنه ما أعطاه إلا لسبب وهو كثرة عياله، أعطاه لفقره وفاقته، فهو في حاجة للنفقة.

    فمعنى (يساوي بينهم في النفقة): أن يعطي هذا قدر ما يكفيه هو وعياله، وهذا قدر ما يكفيه وزوجته، وهذا قدر ما يكفيه وحده إذا كان أعزب، وهكذا.

    انقطاع بعض الأولاد لعمل أبيه

    وهناك سبب آخر: وهو إذا أعطاه مجازاة له أو استحقاقاً له؛ وذلك أنه في هذه الأزمنة يجلس بعض من الأولاد عند أبيه في خدمته، وفي العمل بما يأمره به أبوه، فيكون قد قصر نفسه على حاجة أبيه، فتارة يشتغل مع أبيه في تجارته إذا كان أبوه تاجراً، أو في معمله، والبقية يكتسبون لأنفسهم، قد انفردوا وقد استقلوا وصاروا يكتسبون لوحدهم.

    أو هذا قد اشتغل بحرفة أبيه إذا كان أبوه ذا حرفة، فإذا كان أبوه يعمل خياطاً أو خرازاً أو غسالاً أو بناءً، أو كذلك إذا كان له بستان للزراعة أو غراس أو نحو ذلك، فهو يعمل في تنمية مال أبيه، أو يرعى ماشيته إذا كان له إبلٌ أو بقرٌ أو غنمٌ أو نحوها، أو يكون قد قصر نفسه على تجارة أبيه، ينقل له مثلاً إذا كان له ناقلات في سيارةٍ ونحوها، أو يبيع له الناتج من ثمره.

    فالحاصل أنه قد قضى مع أبيه عشر سنين أو عشرين سنةً، وهو لم يتفرغ لشغل نفسه ولم يعد لنفسه مالاً، بينما إخوته الآخرون كل مستقل بماله وبعياله وبوظيفته وبحرفته، فلا يكون هذا شريكاً، أما المنقطع في عمل أبيه فلا شك أنه يستحق أن يشركه أبوه فيجعل له نصيباً من هذا المال الذي يكون هو السبب فيه، وقد يكون له مرتب فيدخله مع مال أبيه.

    فنقول: لا بد أن يجعل له شركةً فلا يقول: إن له أخوات وأخواته لم يعلمن مثل عمله، أو له إخوةٌ أطفال، الأطفال هؤلاء لم يعلموا مثل عمله، وله إخوةٌ مستقلون، فالإخوة الآخرون مستقلون لم يعملوا مثل عمله.

    فعلى هذا يجوز أن يفضله وأن يعطيه ما يكون مقابلاً لتعبه، فيجعله كشريك أو كأجير أو كعامل عمل عنده، فيعطيه قدر ما يستحقه، ولا يكون ذلك من الظلم إن شاء الله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756555068