إسلام ويب

شرح عمدة الأحكام [36]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الإحرام بالعمرة أو الحج عبادة لها معناها وأثرها على صاحبها، وهي هيئة توحي بالذل والافتقار إلى الله تعالى، ولذلك خصها الشرع الحكيم بقيود تعزز ذلك المعنى هي المسماة محظورات الإحرام.

    1.   

    أحكام تتعلق بالمحرم

    ما يلبسه المحرم حال إحرامه

    قال المؤلف رحمه الله تعالى:

    [ما يلبس المحرم من الثياب

    قال صلى الله عليه وسلم: (لا يلبس القميص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد نعليه فليلبس خفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا يلبس من الثياب شيئاً مسه زعفران أو ورس) ، وللبخاري رحمه الله: (ولا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين) .

    وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفة: من لم يجد نعلين فليلبس خفين، ومن لم يجد إزاراً فليبس سراويل) يعني: للمحرم.

    وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) قال: وكان عبد الله بن عمر يزيد فيها: لبيك لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل].

    في هذا الحديث لباس المحرم، والإحرام: هو نية النسك. والنسك: هو العمل الذي يتلبس به المحرم إذا قدم إلى مكة أو إذا أقبل إليها، ولا شك أن القاصدين مكة إما أن يقصدوا حجاً أو عمرة أو يجمعوا بينهما، فالذي يقصد حجاً يسمى مفرداً، والذي يقصد عمرة يسمى معتمراً، وإن كان في أشهر الحج يسمى متمتعاً بالعمرة إلى الحج، والذي يجمع بينهما يسمى قارناً، وقد عرفنا أن الحجاج إذا اقبلوا إلى مكة رفعوا أصواتهم بالتلبية مجيبين دعوة الله على لسان إبراهيم حيث أمره بقوله: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ [الحج:27]، فيقولون: (لبيك لبيك). ويأتون مسرعين رافعين أصوتهم بالتلبية، أي: لبيك أيها الداعي، لبيك أيها المنادي. ثم يتجردون من لباسهم المعتاد، ويلبسون لباساً خاصاً هو الذي شرعه وبينه لهم النبي صلى الله عليه وسلم، فيتركون لباس الرفاهية ولباس التنعم الذي كانوا قد اعتادوه، ولباس التوسع الذي توسعوا به في حياتهم، ويختصون بلباس واحد وبزي واحد يشترك فيه صغيرهم وكبيرهم، وأميرهم ومأمورهم، وسيدهم ومسودهم، وحرهم وعبدهم، لا فرق بين أسودهم وأحمرهم وأبيضهم، كلهم على حد سواء في هذا اللباس.

    فلأجل ذلك ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أحرم في إزار شد به عورته، وفي رداء ألقاه على ظهره.

    والإزار: هو ما يستر العورة من السرة إلى الركبة أو إلى ما تحت الركبة، والرداء: ما يرتدي به ويلف به جسمه فيلقيه على ظهره ويرده على منكبيه وعلى صدره، ويستر به عضديه وجنبيه وظهره وبطنه، هذا هو الرداء، وأحرم في نعلين لبسهما في قدميه، فهذا هو الذي أحرم فيه.

    ما لا يجوز للمحرم لبسه من الثياب

    نهي عن الألبسة المعتادة، وفي هذا الحديث أنه نهى عن لباس القمص، ةالقمص: جمع قميص. والقميص: هو كل ثوب له جيب وأكمام. والجيب: هو الفتحة التي هي مدخل الرأس. والأكمام: هي التي تدخل منها اليدان. فكل ثوب له جيب وله أكمام يسمى قميصاً، فيدخل في ذلك الدراعة المعروفة، ويدخل في ذلك الجبة وما أشبهها، ويدخل في ذلك الفروة وإن كانت مشقوقة المقدم، ويدخل في ذلك الحلة التي تلبس -أيضاً- ولها جيب وأكمام، وما أشبه ذلك، وتدخل في ذلك -أيضاً- الأكسية الموجودة الآن، كالفانيلة المعروفة، أو الأكوات المسماة بهذا، أو البالطو أو ما أشبه ذلك، فهذه الأكسية كلها داخلة في القمص، فلا يلبسها المحرم.

    وكذلك -أيضاً- لا يلبس البرانس، والبرانس: جمع برنس، وهي شبيهة بالقمص، ولكن تزيد عليها أن لها رءوساً تستر الرأس، فكل ثوب رأسه منه فإنه يسمى برنساً، فيجعل في مؤخر فتحة الرأس مثل المظلة يستر بها رأسه، فهذا يسمى البرنس، فلا يلبسه، وخصه لأن له اسماً خاصاً.

    ونهى المحرم أن يلبس العمائم، واحدها عمامة، وهي ما يستر به الرأس، فكل شيء يستر الرأس فإنه يسمى عمامة، سمي بذلك لأنه يعم الرأس، فيدخل في ذلك القلنسوة -وتعرف بالطاقية-، ويدخل في ذلك الغترة المعروفة الآن، ويدخل في ذلك العصابة التي تلف على الرأس ويجعل طرفها تحت الحنك، فكل شيء يغطي الرأس يسمى عمامة، فلا يلبسه المحرم، بل يكشف رأسه، فيترك المحرم رأسه مكشوفاً، حتى لو مات وهو محرم لا يجوز تغطية رأسه، وسيأتينا في الرجل الذي مات محرماً قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تحنطوه ولا تغطوا رأسه، ولا تمسوه طيباً؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً)، ولما أمرهم بأن يغسلوه بماء وسدر قال: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه)، فدل على أن المحرم الرجل لا يغطي رأسه بأي غطاء.

    واستثنوا من ذلك إذا حمل متاعه على رأسه فلا بأس، فلو كان معه فراش وعجز عن حمله بيديه ووضعه على رأسه فإنه لا يسمى ساتراً، ولا يسمى غطاءً، وإنما يسمى شيئاً حمله على رأسه، واستثنوا استظلاله، فقالوا: يجوز أن يستظل، وإن كان الأفضل له أن يبرز في الضحى -أي: في الشمس والهواء-، ولكن قد يحتاج إلى أن يستظل بمظلة أو بخيمة أو بسقف سيارة أو بظل شجرة أو نحو ذلك، ولا ينافي ذلك الإحرام، ولا يلصق رأسه بذلك الشيء الذي استظل به، فلو كان معه مظلة فلا يلصقها على رأسه بل يرفعها، وهكذا.

    لبس النعال للمحرم

    وكذلك منع المحرم من أن يلبس الخفاف، والخفاف: جمع خف، والخف: هو الذي يستر القدم إلى الكعبين، والخفاف هي التي تصنع من الجلود ونحوها وتلبس على القدمين، فلا يجوز لبسها للمحرم.

    ومثلها -أيضاً- الجوارب -الشراب- التي تستر القدم إلى فوق الكعب، فهي داخلة في ذلك.

    لكن لا تلبسه إلا عند العدم، فإذا لم يجد نعلين واحتاج إلى أن يلبس ما يقي قدميه من الحجارة ونحوها جاز له أن يلبس الخفين، واختلف هل يقطعهما أم لا، والصحيح أن القطع منسوخ، والقطع ثبت في حديث ابن عمر ، ولم يذكر في حديث ابن عباس ، فذلك كان تركه رخصة؛ لأن حديث ابن عمر كان بالمدينة، وذكر فيه قطع الخفين إلى ما تحت الكعبين، وحديث ابن عباس كان في عرفة، وقد حضره من لم يحضره في المدينة ولم يتعرض للقطع، فدل على أنه رخص في اللبس بدون قطع، هذا هو الصحيح.

    أما الأحذية التي هي أسفل من الكعبين فهذه -أيضاً- بمنزلة الخف المقطوع لا يلبسها إلا عند الحاجة إذا لم يجد نعلين، فإن وجد النعلين فلا يلبس الخف مقطوعاً ولا غير مقطوع ما دام أنه ما رخص له في لبس الخف ولا ما يشبه الخف إلا عند عدم النعلين، فإذا وجدت النعلان اكتفى بهما ولم يلبس الخف المقطوع ولا غير المقطوع.

    فإذا عدم النعلين ووجد خفين فالصحيح أنه لا يقطعهما، وإن وجد الأحذية التي هي شبيهة بالخفاف المقطوعة فهو أولى، أي: هي أولى أن يلبسها حتى يخرج من الخلاف.

    لبس الثياب المصبوغة للمحرم

    أما الثياب المصبوغة فلا يجوز لبسها للمحرم، بل ولغير المحرم، فمكروه أن يلبس الثياب المصبوغة بالورس أو بالزعفران أو بالعصفر، أي: الأصباغ التي تصفرها وتجعلها كأنها مصبوغة بهذه الأشياء، فلا يجوز لبسها للرجال، ويكره المزعفر والمعصفر والمورس.

    والورس: نبات معروف يصبغ به، ومثله أو قريب منه العصفر، وهو شبيه بالزعفران، وكلاهما يصبغ به، وتوجد ثياب ملونة لونها كأنه اللون الذي فيه الورس أو الزعفران، فنقول: لا يلبسها المحرم، فإذا وجد هذه الأردية أو الأزر التي هي صفراء شبيهة بالمعصفر فلا يلبسها، بل يختار الثياب البيض، والثوب هنا يطلق على كل ما يلبس على البدن وإن لم يكن مفصلاً، فالرداء يسمى ثوباً، فلا يلبس الرداء المعصفر أو الذي هو كلون المعصفر، وكذلك الإزار المعصفر أو هو كلون المعصفر لا يلبسه.

    ما لا يجوز للمحرمة لبسه

    وكذلك -أيضاً- نهى المرأة في هذا الحديث أن تلبس النقاب، والنقاب: هو البرقع الذي يكون للعينين فيه نقب بقدر العينين. وجائز للمرأة أن تلبسه إذا لم تكن محرمة، ولكن تكون الثقوب بقدر حدقة العين، فلا تكون واسعة بحيث يبدو الأنف، أو ما بين العينين كلاهما، أو تبدو الوجنة والحاجب؛ فإن هذا فتنة، إنما تقتصر على لباس يكون ثقب العين فيه قليلاً، فإذا كانت محرمة فلا تلبس هذا اللثام، ولا تلبس هذا البرقع، بل تكتفي بالخمار.

    والصحيح أن المرأة تستر وجهها وتغطي وجهها إذا كانت محرمة، ولا بأس إذا مس الغطاء والخمار وجهها أو بشرة وجهها، كما قالت عائشة رضي الله عنها: (كان الرجال إذا مروا علينا ونحن في هوادجنا سبلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه)، ولم تقل: إننا نتوقع أن يمس بشرة الوجه. بل الظاهر أنه إذا تدلى على الوجه أنه يمس الأنف ويمس الجبين ويمس الفم، فلا بأس بذلك، ولا دليل على أن المرأة تتوقى ستر الوجه بمباشر، بل الأصل أنها تستر وجهها في الإحرام إذا كانت أمام الرجال، وبالأخص إذا كانت في الطواف، أو كانت في المسجد الحرام الذي يكثر فيه المشاة ويكثر فيه الرجال، فتستر وجهها ولو كانت محرمة، ولا يجوز أن تكشفه أمام الرجال الأجانب.

    ونهيت المرأة في هذا الحديث -أيضاً- أن تلبس القفازين، والقفاز: هو اللباس الذي يلبس على الكف، الذي يفصل بقدر الكفين. فهذه لا تلبسها المحرمة، ولكن لها أن تستر كفيها بأطراف الأكمام، ولها أن تسترهما بعباءتها ونحوها، لها ذلك ولا فدية عليها، ولو مس الغطاء بشرة وجهها ولو غطت يديها.

    فهذه الأكسية التي نهي عنها المحرم، أما البقية فإنه يباح له أن يلبسها، فإذا تجنب كل لباس له أكمام وله جيب دخل في ذلك كل ما فيه التفاصيل.

    والفقهاء يقولون: لا يلبس المخيط. وكلمة (المخيط) فيها إجمال، ولكن عبارتهم تقتضي أنه لا يلبس الشيء الذي فصل على قدر جزء من البدن، سواء كانت خياطته بالإبر أو بالماكينة، أم نسج على تفصيل ذلك العضو، فمثلاً الشراب الذي في القدم قد لا يكون مخيطاً، ولكنه منسوج هكذا، ومع ذلك لا يلبسه، أما النعال فالنعال المعروفة يجوز لبسها ولو كان فيها خياطة، وقد يوجد في بعضها خياطة، ولا يقال: إنها ممنوعة لأنها مخيطة. فلا تدخل في المخيط؛ لأن المخيط هو ما فصل على قدر جزء من البدن من الأغطية القطنية والصوفية والكتان وما أشبه ذلك.

    فهذا ما يتعلق باللباس.

    1.   

    التلبية معناها وصيغتها وهدي النبي صلى الله عليه وسلم فيها

    بقي الحديث الذي يتعلق بالتلبية، وقد عرفنا أن التلبية إجابة للنداء الذي أمر الله به خليله إبراهيم عليه السلام، فالحجاج والعمار إذا أقبلوا إلى مكة رفعوا أصواتهم بهذه التلبية.

    ورفع الصوت بها سنة، وفي الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن جبريل أمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال)، والإهلال: هو التلبية، وكل شيء فيه رفع للصوت فإنه يسمى إهلالاً، يقال: استهل بكذا، أي: ابتدأ به ورفع صوته. ومنه سمي الهلال؛ لأن الناس إذا رأوه رفعوا أصواتهم عادة، وكذلك (استهل الصبي) أي: رفع صوته عندما يولد. فالإهلال هو التلبية.

    ورفع الصوت بها علامة على أنه محرم.

    والإحرام في الأصل هو النية، أن تنوي بقلبك أنك دخلت في النسك، فإذا نويت بقلبك فهناك عليك أن تتجنب المحظورات، فتتجنب لبس المخيط كما فصلنا، وتتجنب تغطية الرأس، وتتجنب الطيب، وقص الشعر، وقص الأظفار، وقتل الصيد الذي حرمه الله على المحرم، وتتجنب النساء مباشرة أو تقبيلاً، وتتجنب الوطء، وتتجنب عقد النكاح إذا دخلت النسك عند ما تنوي بقلبك، وليس اللباس هو الإحرام، فلو لبست الإحرام وأنت في الرياض جاز لك ذلك ما دام أنك ما نويت، فإن لبست الإزار ولبست الرداء وركبت -مثلاً- السيارة جاز لك أن تطيب؛ لأنك ما أحرمت، إنما لبست، وليس اللباس هو الإحرام، وجاز لك -مثلاً- أن تنقص من أظفارك وأن تنقص من شعرك؛ لأنك ما نويت ولا أحرمت، فالإحرام هو النية والعزم بالقلب على الدخول في النسك.

    والحاصل أن المحرم متى عزم بقلبه على أن يدخل في النسك فهو محرم، وهنالك يترك المحظورات، وهنالك يرفع صوته بالإهلال الذي هو علامة على هذا النسك حج أو عمرة.

    والتلبية النبوية المشهورة: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)، كرر فيها قوله: (لا شريك لك) مرتين، وذلك رداً على تلبية الكفار، فالكفار كانوا يدخلون الشرك في تلبيتهم، فيقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قالوا: لبيك لا شريك لك يقول لهم: (قدقد) أي: قفوا، فلا تتجاوزوا ولا تفسدوا تلبيتكم، ولا تجعلوا فيها شركاً. فلما كان في تلبيتهم هذه الكلمة الشركية كرر (لا شريك لك) مرتين ليحقق بذلك أن التلبية لله وحده، وأنه لا يجوز أن يشرك معه، وهكذا شرع هذه التلبية.

    وإذا قلت: ما معنى هذه التلبية؟

    نقول: إذا دعاك أبوك أو أخ لك أكبر منك أو عمك ونحو ذلك لبيت دعوته فقلت: لبيك يا أبتي لبيك يا أخي فهي علامة على استجابة وعلامة على إجابة الدعاء، ولا شك -أيضاً- أنها علامة على القبول، على تقبل ما يرشدك إليه وما يدعوك إليه، فإذا دعاك وقلت: (لبيك) فإنك تقول: إنني قابل لما قلته ملتزم به. واشتقاقها من (لب بالمكان) إذا لصق به، ومنه سميت اللبابة التي في داخل اللباس (لبابة اللباس) لأنها ملاصقة له، فكذلك (لب بالمكان) أي: لصق به.

    ولفظها لفظ المثنى (لبيك)، فما قال: (لبك)، ولكن (لبيك) يعني: مرتين، فلفظها لفظ المثنى، ولهذا يقول بعضهم:

    دعوت لما نابني مسوراً فلبى فلبي يدي مسور

    فجعلها بلفظ المثنى.

    وليس المراد منها التثنية فقط، بل المراد التكرار، فإن قوله تعالى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الملك:4] ليس المراد به مرتان فقط، فإنه في مرتين لا ينقلب البصر خاسئاً وهو حسير، بل المراد تكرار النظر، فكذلك قوله: (لبيك) ليس المراد إجابتك مرتين، بل المراد تكرار الإجابة.

    فالملبي كأنه يقول: أنا مقيم على طاعتك، وأنا ملازم لدعوتك، وأنا ملازم لأمرك مرات بعد مرات وكرات بعد كرات. فهكذا يكون معنى هذه التلبية، إجابة الدعوة ولزومها والالتزام بالطاعة، والالتزام بالامتثال الذي أمر به، كأنه يجيب الدعوة، ويلتزم بما دعي إليه، وكأنه يقول: أنت -يا رب- دعوتني لأمر، فأنا قد أجبتك، وقد ألزمت نفسي، وقد التزمت بأن أتقيد بأمرك، وأنا مقيم على طاعتك مرة بعد مرة، وكرات بعد كرات، لا أتخلى عن طاعتك. وإذا كان كذلك فإن الملبي يعرف أنه قد عاهد ربه على أن يلازم طاعته، وعلى أن لا يتخلى عنها في وقت من الأوقات.

    إذاً فالتلبية كأنها عهد، وكأنها التزام، وكأنها مبايعة من الإنسان لله سبحانه وتعالى، إذا أتى لأداء هذا النسك، ورفع صوته بهذا الشعار، والتزم بما تعهد به، ورجع وهو على هذا الالتزام ولم يخل به، ولم يأت بما يناقضه، فبذلك يصير من الموفين بعهدهم إذا عاهدوا.

    فهذه التلبية هي شعار للمتلبس بهذا النسك بحج أو عمرة، يكثر من هذه التلبية، ولا يقطعها إلا إذا شرع في رمي جمرة العقبة إن كان إحرامه لحج، أو إذا شرع في طواف العمرة إن كان إحرامه بعمرة، فيكررها، وتتأكد في عشرة أماكن، تتأكد إذا رقى على مرتفع، أو هبط في واد، أو ركب دابته، أو نزل منها، أو أقبل الليل، أو أقبل النهار، أو تلاقت الرفاق، أو سمع ملبياً، أو صلى مكتوبة، أو فعل محظوراً في عشرة مواضع تتأكد، وفي بقية الأماكن والأوقات تكون مشروعة مندوبة للإكثار منها، فالتلبية النبوية هي التي سمعنا، والزيادة عليها جائزة، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يسمع أصحابه يزيدون ولا يغير عليهم ولا ينكر عليهم، فمنها زيادة ابن عمر في قوله: لبيك وسعديك، والخير بيديك، والشر ليس إليك، نحن عبادك الوافدون إليك، الراغبون فيما لديك. وكذلك قوله: لبيك والرغباء إليك والعمل. أو: لبيك إن العيش عيش الآخرة. أو: لبيك حقاً حقاً تعبداً ورقاً، وكل هذا جائز؛ وذلك لأن فيه تعهداً من العبد بهذه الأعمال، وكذلك التزام بذلك، وكذلك -أيضاً- فيه وصف لله سبحانه وتعالى بما هو أهله من هذه الصفات؛ لأنه منه الخير، وإليه الخير، ومنه العطاء، وأن الشر ليس إليه، فإذا التزم الإنسان بمثل هذه رجي -إن شاء الله- أن تتقبل أنساكه وعباداته، وأن يحفظه الله تعالى في بقية حياته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756364875