إسلام ويب

شرح عمدة الأحكام [23]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • شرف الله هذه الأمة بيوم الجمعة، فهو أفضل الأيام، ويختص بصلاة الجمعة التي يجتمع فيها المسلمون ليسمعوا ما ينفعهم في دينهم وما يهمهم لصلاح دنياهم وآخرتهم، ولهذه الصلاة أحكام كثيرة بينها الفقهاء رحمهم الله.

    1.   

    أحكام الجمعة

    قال المصنف رحمه الله: [باب الجمعة: وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من جاء منكم الجمعة فليغتسل).

    وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين وهو قائم، يفصل بينهما بجلوس).

    وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم الجمعة، فقال: أصليتَ يا فلان؟ قال: لا. قال: قم فاركع ركعتين، وفي رواية: فصلِّ ركعتين).

    وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: (أن رجالاً تمارَوا في منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن أي عودٍ هو؟! فقال سهل : من طرفاء الغابة، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عليه فكبر وكبر الناس وراءه وهو على المنبر، ثم ركع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر، ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته، ثم أقبل على الناس فقال: يا أيها الناس! إنما صنعتُ هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي، وفي لفظ: فصلى وهو عليها، ثم كبر عليها، ثم رفع وهو عليها، ثم نزل القهقرى)].

    باب الجمعة أي: باب صلاة الجمعة.

    والجمعة: اليوم المعروف، يسمى يوم الجمعة للاجتماع لهذه الصلاة، ولاجتماع أهل القرية جميعاً لأداء هذه الصلاة،

    فالصلاة تسمى: صلاة الجمعة، واليوم يسمى: يوم الجمعة.

    ما يستحب يوم الجمعة

    ليوم الجمعة فضائل وخصائص كثيرة يطول ذكرها، أوصلها ابن القيم في زاد المعاد إلى ثلاثة وثلاثين خصلة، من أرادها فليقرأها في زاد المعاد، وإنما نحن بحاجة هنا إلى معرفة الأحكام التي يعمل بها العباد.

    فيوم الجمعة تؤدى فيه صلاة الجمعة، ويوم الجمعة يكثر فيه العباد من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كما أُمِروا بذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن مِن أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا من الصلاة عليَّ فيه؛ فإن صلاتكم معروضة عليَّ. فقالوا: يا رسول الله! كيف تُعرض عليك صلاتنا وقد أَرِمْتَ -أي: قد بَلِيْتَ- فقال: إن الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء).

    كذلك يخبر عليه الصلاة والسلام بأن (يوم الجمعة فيه ساعة الإجابة، ساعةٌ يستجاب فيها دعاء العبد المسلم ما لم يدع بإثم أو بقطيعة رحم).

    فيكون الإنسان مشتغلاً بأداء الصلاة، وبالاجتهاد في الدعاء؛ رجاء موافقة تلك الساعة التي قد أخِّرت في ذلك اليوم، وقد شُرِع فيه صلاة الجمعة.

    الحكمة من الخطبة والجهر في صلاة الجمعة

    هذه الصلاة الخاصة فيها خطبتان، وفيها جهر بالقراءة، ولا يوجد في بقية الصلاة خطب، ولا في الصلاة النهارية جهر بالقراءة.

    والحكمة أنه يجتمع في الجمعة خلق من أماكن متباينة متباعدة، فيناسب أن يستمعوا للتعليمات وللنصائح والعظات، فيخطب الإمام بهم خطبة يعلمهم فيها الأحكام، ويعلمهم الحلال والحرام، وينبههم على الأخطاء والخلل الذي قد يقعون فيه، ويرغِّبهم في الدار الآخرة وثوابها، ويزهِّدهم في الدنيا ومتاعها، ويحثهم على الأعمال الصالحة؛ لتؤهلهم لدخول الجنة وتحميهم وتنقذهم من النار، فيجتمع المصلون في هذه المساجد ويتلقون هذه الخطب.

    الاجتماع في مسجد واحد لأداء الجمعة

    والسنة أن يجتمع أهل القرية في مسجد واحد، ولهذا لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا جمعة واحدة في مسجده، يأتي إليها أهل العوالي، ويأتي إليها أهل المدينة من مسيرة ساعتين أو أكثر من ساعتين، ثم يصلون جميعاً، ولم يرخص لأحد أن يصلي في مسجد آخر مع حاجتهم، لا في مسجد قبا مع بعده، ولا مساجد أبعد منه.

    مشروعية المنبر لخطيب الجمعة

    سن في هذه الصلاة سنناً، فمنها:

    أن يكون الإمام مرتفعاً على المأمومين عندما يخطب، فيخطبهم فوق مكان عالٍ، وهو ما يسمى بالمنبر الذي يلتصق بالمسجد.

    وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على جذع نخلة مغروسة في قبلة المسجد، يرقى عليها ويخطب، ثم صُنع له هذا المنبر من طرفاء الغابة.

    والطرفاء هو: نوع من الأثل، صنعه نجار كان لبعض الصحابيات مملوكاً عندها، فجعله ثلاث درجات، يعني: أنه قطع من متين عروق الأثل ثلاث قطع، كل قطعة جعلها كدرجة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على الدرجة الثالثة التي هي أرفعها.

    وهكذا استمر يخطب على هذا المنبر، وأول ما قام عليه وابتدأ في الخطبة حنَّ عليه ذلك الجذع لِمَا فَقَدَ من ذكر الله، فنزل إليه وضمه حتى هدأ وقال: (لو تركتُه لحنَّ إلى يوم القيامة) ثم رجع وكمَّل خطبته، وبعدما أتم الخطبة وأقيمت الصلاة كبر وهو على الدرجة السفلى من ذلك المنبر، وقرأ وهو عليها، وركع وهو عليها، ثم عند السجود نزل القهقرى -أي: رجع خلفه- حتى نزل في الأرض، ثم سجد السجدتين وبينهما جلسة، ثم قام للركعة الثانية، وصعد على الدرجة الأولى، وصلى الركعة الثانية كالأولى.

    والسبب في ذلك أن يكون الإمام ظاهراً حتى يراه المصلون ليقتدوا ويأتموا به، وحتى يسمعوا خطبته وقراءته وتكبيره، حيث لم يكن هناك مكبر، وكان المسجد مكتظاً وممتلئاً، فلأجل ذلك ارتفع فوق أعلى درجة.

    هذا هو السبب في كونه صلى بهم وهو على هذه الدرجة من المنبر، وذكر أن السبب أن يأتموا به، ويقتدوا بصلاته، ويسمعوا صوته، وهذا دليل على جواز أن يكون الإمام أرفع من المأمومين شيئاً يسيراً لحاجة تبليغهم ولحاجة سماعهم لقراءته وتكبيراته.

    غسل يوم الجمعة

    من جملة الأحاديث التي مرت بنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من جاء منكم الجمعة فليغتسل).

    والأحاديث في الأمر بالاغتسال يوم الجمعة كثيرة، واعتقد بعضهم أنه واجب، واستدلوا بحديث أبي سعيد في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم).

    وذهب آخرون إلى أنه سنة، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل)، ومعنى قوله: (فبها) يعني: أخذ بالسنة ونعمت السنة ما أخذ، فإذا اقتصر على الوضوء وأخذ به فلا بأس.

    وقيل: معناه: أخذ بالرخصة. أي: أخذ بالرخصة (وبها ونعمت).

    والقول الثالث: إنه يجب الغسل على من كان بعيد العهد بالنظافة وبالاغتسال، ومستحب لغيره.

    وبكل حال فلما وردت أحاديث كثيرة تدل على الأمر به عرفنا آكديته، فهو آكد السنن، يعني: آكد من كثير من المأمورات التي يذهب بعضهم إلى وجوبها.

    فمثلاً: الأحاديث التي في نقض الوضوء بأكل لحم الجزور حديثان، والأحاديث التي في الاغتسال للجمعة أكثر من حديثين وثلاثة وأربعة، والأحاديث التي في نقض الوضوء من مس الذكر حديثان أو نحوهما، والأحاديث التي في غسل الجمعة: أكثر وأكثر؛ فلأجل ذلك أكده كثير من العلماء.

    ولعل القول الثالث هو الأولى، وهو أنه واجب على من كان بعيد العهد بالاغتسال، فمن كان حديث العهد بالاغتسال، وكان نظيف الجسد، فإنه يكون سنة في حقه، ودليل ذلك: ما روته عائشة من سبب الأمر بالاغتسال، وهو أن الناس كانوا يأتون لصلاة الجمعة وهم أهل عمل، وقد اتسخت أبدانهم وثيابهم، فيؤذي بعضهم بعضاً بروائحهم ونتن الوسخ وما أشبه ذلك، فأمروا أن يتنظفوا ليوم الجمعة حتى لا يؤذي بعضهم بعضاً.

    وهذه حكمة عظيمة، ومعلوم أن الصحابة في ذلك العهد كانوا فقراء، وأغلبهم مهاجرون ليس لهم مأوى، وبعضهم إنما يكون في المسجد وهم أهل الصُّفَّة الذين ليس لهم بيوت وليس لهم أهل، وليس لأحدهم إلا قميص أو رداء وإزار يلتف به كلباس المحرم، وقد يبقى عليه لباسه خمسة أشهر، ولا يجد ما يغيِّره، أو أكثر من ذلك أو أقل، ثم أيضاً لا يتيسر له غسله ولا تنظيفه، حيث إنه لا يملك إلا ذلك القميص أو ذلك الثوب، فيقيم مدةً طويلة لم يغسله، فمع طول المدة يبقى ذلك الثوب متسخاً.

    كذلك أيضاً كثير منهم أصحاب عمل في مزارعهم وفي أشجارهم، ومع كثرة العمل ومع التعب تتسخ الأبدان، ويكون فيها العرق الذي يتجمد فوقها، ومع اتساخ البدن وطول العهد بالنظافة يتولد القمل، وتتولد الروائح المنتنة التي تؤذي المصلين.

    فإذا جلس من هذه حالته إلى جانب غيره تأذى برائحته، وتأذى بوسخه، فاشتكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع أن المسجد لم يكن فيه تهوية، وليس فيه تكييف، بل هو يضيق بهم، ويكتظ بالمصلين، والجو شديد الحر؛ فلذلك ونحوه تضرروا لذلك، واشتكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأرشدهم إلى هذا الأمر الذي هو الاغتسال؛ رجاء أن يخفف هذا الأمر الذي يتأذى منه الكثير، فهذه هي الحكمة في الأمر بالاغتسال، فلذلك نقول: من كانت هذه حالته وجب عليه أن يغتسل، حتى لا يتأذى به المصلون، ولا تتأذى به الملائكة، ومن كان حديث عهد بنظافةٍ وباغتسال فلا يجب ذلك عليه

    1.   

    نظافة المساجد

    سن التنظُّف يومَ الجمعة والتطيُّبُ ولُبسُ أحسنِ الثياب والسواكُ وما أشبه ذلك، وكلُّ ذلك لأجل ألَّا يؤذي بعض المصلين بعضاً، وكله لأجل أن يحترموا ذلك اليوم وذلك المكان، فالمساجد لها أهميتها وحرمتها، وكذلك المصلون، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الملائكة (أنهم يتأذون مما يتأذى منه بنو آدم)، ولذلك نهاهم عن أكل الثوم والبصل قرب وقت الصلاة حتى لا يتأذى بهم الملائكة أو المصلون؛ لأن الثوم والبصل لهما رائحة مُسْتَنكَهة مُسْتَكرَهة في مَشامِّ الناس، والملائكة تتأذى وإن لم يكن هناك أحد من بني الإنسان، فكل ما فيه رائحة مستكرهة في مشام الناس كالوسخ والقذر والقذى ونحو ذلك فينبغي صيانة المساجد عنها.

    وقد وردت الأحاديث في تنظيف المساجد والأمر بإزالة القذى عنها، ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على امرأة كانت تقمُّ المسجد أي: تخرج قمامته وتنظفه-، فلما ماتت قال: (دلوني على قبرها، فصلى عليها).

    وكذلك ورد أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي حسنات أمتي وسيئاتها فرأيت في حسناتها القذاة يخرجها الرجل من المسجد ..)، يعني: أية قذاة حتى ولو عوداً أو خرقة أو نحو ذلك يدركها البصر، فمن الحسنات إخراجها من المسجد ليبقى المسجد نظيفاً.

    يقول ( ورأيت في سيئات أمتي البصاق يكون في المسجد ولا يدفن) يعني: إذا كان المسجد -مثلاً- رملياً، وقد أنكر عليه الصلاة والسلام على الذين يبصقون في المسجد وأمام المصلين، ورأى مرة بصاقاً في حائط المسجد فساءه ذلك وغضِب حتى قال: (أيحب أحدكم أن يُستقبَل وجهُه فيُبصَق فيه؟!) وقال: (إن أحدكم إذا كان يصلي فإنه يناجي ربه، فلا يبصُق قِبَل وجهه)، (ولما رأى ذلك البصاق حكَّه بعود ودعا بخلوق -يعني: بطيب- وطيب).

    وكل ذلك لأجل أن يكون المسجد نظيفاً، ولأجل أن يكون المصلون قد نظفوا أبدانهم وثيابهم.

    وكذلك أيضاً: حث على الطيب، وأخبر بأنه محبوب لديه، فيستحب للإنسان أن يكون متطيباً، طيب رائحة الثوب والبدن، ونحو ذلك، حتى يوجد منه رائحة طيبة تقوي القلب، وترغب في المسجد، وترغب المصلين في أداء الصلوات وما أشبه ذلك. وفي ذلك أيضاً: تعظيم لهذه العبادة واحترام لها، بأن يأتي وهو نظيف، قد أزال ما عليه من الوسخ والقذر ونحو ذلك، فهذه هي الحكمة في الأمر بالاغتسال.

    1.   

    أحكام الغسل يوم الجمعة

    وللاغتسال أيضاً أحكام أخرى، منها:

    أنه يجوز الاغتسال في أول النهار وفي وسطه قبل الصلاة، أما الاغتسال بعد الصلاة فإنه يعتبر قد فات أوانه وذهب وقته؛ وذلك لأن الحكمة فيه -كما عرفنا- الإتيان إلى المسجد وقد نظف بدنه.

    كذلك أيضاً الاغتسال هو: تعميم البدن بالماء حتى يعمه، وذُكر في بعض الأحاديث: (أن يغتسل كغسل الجنابة)؛ ولكن إذا كان بعيد العهد من نظافة فإن عليه أن يستعمل ما يزيل الوسخ وينظفه كالسدر أو الأشنان أو الصابون أو ما أشبه ذلك مما هو معروف لإزالة الوسخ ونحوه.

    1.   

    أحكام الخطبة

    من الأحاديث التي ذُكرت في هذا الباب: حديث الخطبة، والجمعة تُصلى ركعتين، ويُخطب قبل الركعتين بخطبتين، وبينهما جلسة كما هو معروف ومعتاد.

    والحكمة من ذلك أن المصلين غالباً يأتون من أماكن نائية، وغالباً قد يكون زيادةً في الأحكام، فيجتمعون ويصلون في هذا المكان، ويتلقون هذه التعليمات من هذا الإمام، فينصرفون وقد تزودوا علوماً لم يكونوا قد سمعوها، ويتأثرون بها، ويعملون بما أُمروا، فهذا هو السبب في شرعية هذه الخطبة.

    وينبغي للخطباء أن يتحروا الأشياء المهمة التي يحتاج إليها الحاضرون المستمعون، فيتطرقون إليها، فإذا رأوا غفلة من المصلين عن الآخرة رغَّبوهم في الدار الآخرة، وإذا رأوا منكراً من المنكرات قد ظهر حذروهم من ذلك المنكر ونهوهم عنه، وإذا رأوا تقصيراً في الطاعات وتكاسلاً وتأخراً عن بعض العبادات نهوهم وحذروهم عن ذلك التقصير، وهكذا.

    وليس المراد أن يقتصروا على ذكر الموت أو الزهد في الدنيا والتقلل منها دائماً، بل القصد الموعظة التي تحرك القلوب.

    شروط الخطبة وما ينبغي أن تشتمل عليه

    ذكر العلماء خمسة شروط للخطبة، وهي تجتمع في الخطبتين:

    الشرط الأول: حمد الله والثناء عليه، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ خطبه إلا بالحمد، وذلك استفتاحاً لذكر الله تعالى، ولأنه إذا لم يبدأ بذلك الأمر فخطبته بتراء أي: ناقصة البركة.

    الشرط الثاني: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن الخطب تشتمل على تعليمات، وتشتمل على أدعية، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من أسباب القبول، كما ورد في الحديث: ( الدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى يُصَلى على النبي صلى الله عليه وسلم).

    الشرط الثالث: الوصية بتقوى الله، يعني: أن يكون هناك تذكير وموعظة وتنبيه للناس وتخويف لهم وما أشبه ذلك، ولو لم تأتِ كلمة التقوى ما دام أن هناك ما يقوم مقامها.

    الشرط الرابع: الشهادة، فقد ورد في حديث: (كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء )، فيأتي بالشهادتين.

    والحكمة في ذلك: أن فيهما تجديد العقيدة، والتذكير بالتوحيد، وبحقوق (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، وتنبيه الناس إلى علامات وضمانات تتضمنها هذه الشهادة.

    الشرط الخامس: أن يقرأ آية من القرآن سواءً في أول الخطبة أو في آخرها أو في وسطها، وذلك لأنه مشتهر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ آيات، ويذكر بمعانيها ويدعو إلى ما تتضمنه.

    ثم لا بد أن تكون الخطبتان مشتملتين أيضاً على تعليمات للأشياء المهمة، من الأحكام التي يجهلها معظم الناس، من الأوامر والنواهي، ونحوها.

    ولا بد أن تشتمل الخطبة على تعليمات للأشياء المهمة، فبذلك يستفيد الحاضرون من هذه الخطبة.

    كذلك أيضاً: لما كانت الجمعة بها ساعة الإجابة نُدب أن يدعو فيها، وقد ورد ما يدل على أن ساعة الإجابة هي:

    وقت أداء الصلاة، ووقت الخطبتين، وما أشبه ذلك، فقد روي أنه أقرب إلى أن يكون ساعة الإجابة، فلما كان كذلك استُحب للخطيب أن يكثر من الأدعية، وأن يدعو بما يستطيعه، أو بما يتيسر من الأدعية التي هي صلاح عام للإسلام والمسلمين، رجاء أن يصادف ساعة الإجابة، والحاضرون يؤمِّنون على دعائه.

    ويُستحب إذا دعا أن يرفع يديه، فإن رفع اليدين من أسباب إجابة الدعاء، كما في حديث سلمان (إن ربكم حيي كريم، يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً) يعني: خاليتين.

    وإذا رفع الإمام يديه للدعاء فعلى المأموم أن يرفع يديه للتأمين، فالمأمومون يؤمِّنون على الدعاء؛ رجاء أن تُقبل دعوتهم جميعاً، والله قد وعد بإجابة الدعاء ما لم يكن فيه إثم أو قطيعة رحم؛ لقوله تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60].

    الشرط السادس: أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب الجمعة خطبتين، وكذلك كان في العيد يخطب خطبتين، وكان يجلس بين الخطبتين، وذلك أيضاً دليل على أنه يطيل الخطبة، فإنه ما جلس إلا وقد خطب خطبة طويلة احتاج إلى أن يجلس ليستريح قليلاً ثم يستقبل الخطبة الثانية.

    وتشتمل الخطبة الثانية أيضاً: على حمد وثناء ووصية بالتقوى، وعلى شهادة وترغيب وترهيب، وعلى قراءة آية وما أشبه ذلك، فهي أيضاً اسمها خطبة، فيخطب خطبتين يفصل بينهما بجلوس.

    مقدار الخطبة

    لا يُستنكر إطالة الخطبة ما دام أنه صلى الله عليه وسلم كان يجلس بينهما، فالحكمة في هذا الجلوس الاستراحة، ومعلوم أنه لا يحتاج إلى استراحة إذا كانت الخطبة عشر دقائق أو خمسة عشر دقيقة، فدل على أنه يطيل، فتكون الخطبة -مثلاً- نصف ساعة أو ثلثي ساعة، يخطب خطبة ثم أخرى بعدما يجلس بينهما، فلأجل هذا لا يُستنكر على الخطيب الذي يخطب ثلث ساعة أو خمس وعشرين دقيقة أو ثلاثين دقيقة، لا يُستنكر عليه، فإن الجلوس بينهما دليل على أنه يطيل في هذه الخطبة.

    والأدلة تدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب خطبة متوسطة، ليست بالطويلة التي تستغرق عدة ساعات، وليست بالقصيرة التي تكون في خمس دقائق أو في عشر دقائق، والتي لا يتمكن فيها من تبليغ ما يريد.

    وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن قصر خطبة الرجل وطول صلاته مئنة من فقهه) يدل على أنه يحث على قصر الخطبة، والمراد بالخطبة القصيرة: التي تبلغ -مثلاً- عشرين دقيقة أو ثلاثين دقيقة، فهذه تعتبر قصيرة، أما الطويلة فهي التي تستغرق ساعة أو ساعتين، هذه هي الخطبة الطويلة التي نهى عنها.

    إذاً: هو الوسط في اختيار الخطب، وبذلك يعرف أن الحكمة من الخطبة هو التعليم، وذلك لأن الكثير من الناس لا يسمعون إلا إلى الخطب، ولا ينصتون إلا للخطبة، إذا قام واعظ يعظهم بعد الصلاة نفر الكثير منهم، ولم يبق إلا أفراد، وإذا كان هناك محاضرات في أماكن كالمساجد ونحوها لم يحضر إلَّا قلة قليلة، أما الأكثرون فلا يحضرون، وإذا كان هناك مجالس علم لم يحضرها إلَّا أفراد، وإذا كان هناك تعليمات أخرى ببعض الوسائل الحديثة كنشرات أو كتب دينية أو أشرطة دينية لم يستعملها إلا أفراد قلة من الناس، وهم أهل الخير والصلاح، أما هؤلاء العامة الباقون فلا يحضرون إلا خطبة الجمعة، فمن المناسب أن يخطبهم الخطيب بخطبة تناسبهم، وأن يعلمهم التعليمات البليغة، ولا يُستنكر عليه إذا أطال إلى نصف ساعة أو ثلثي ساعة أو ما أشبه ذلك على حسب القدرة، لكن قد يؤمر بالتخفيف إذا رأى منهم نفرة أو شدة كراهية لهذا، وسموا ذلك إطالة، كما كانوا أيضاً يكرهون إطالة الصلاة.

    الإنصات للخطيب

    قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قلت لصاحبك: أنصت، يوم الجمعة، والإمام يخطب، فقد لغوت).

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اغتسل يوم الجمعة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر).

    وعن سلمة بن الأكوع -وكان من أصحاب الشجرة- رضي الله عنه قال: (كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الجمعة، ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل به. وفي لفظ: كنا نجمِّع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس، ثم نرجع فنتتبع الفيء).

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الفجر: الم * تَنزِيلُ [السجدة:1-2] السجدة، وفي الثانية: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ [الإنسان:1]).

    هذه الأحاديث كلها تتعلق بصلاة الجمعة، ومنها ما يتعلق بالمأموم، ومنها ما يتعلق بالوقت والزمان، ومنها ما يتعلق بيوم الجمعة وما يكون فيه.

    فالحديث الأول يتعلق بالمأمومين في حالة الخطبة، والخطبتان اللتان للجمعة شُرعتا للعظة وللتذكير وللتعليم، والمأمومون الذين يحضرون جاءوا للاستفادة والتعليم، فيلزمهم أن يكونوا متعلمين، وأن يستفيدوا من هذه الخطب، فينصتوا لذلك، فإذا لم ينصتوا لم يستفيدوا، ومع ذلك يحصلون على ضد ذلك وهو نقصان أجرهم، فالمأموم مأمور بأن ينصت للخطبة ويستمع لها، ويطيع لما يقال ولما يلقى، ومنهي عن أن يتكلم أو يتحرك أو يضطرب أو يرفع صوته، ورد في الحديث: (من مس الحصى فقد لغى)؛ لأن حركته بتسوية الأرض أو تسوية الحصى قد تشوش عليه، وقد تلفت الأنظار نحوه، فيكون ذلك نقص في الصلاة.

    كذلك أيضاً الكلام، أدنى كلمة في الخطبة ممنوعة كالحديث بكلمة (أنصت)، فإذا قلت لصاحبك: أنصت، والإمام يخطب؛ فقد لغوت أي: أتيت باللغو، وقد ورد أن اللغو يبطل الصلاة أو ينقصها، وفي بعض الروايات: (ومن لغى فلا جمعة له) وهذا على وجه التهديد، وهو زجر وتهديد عن اللغو في حالة الخطبة.

    فيؤمر المصلي في حالة الخطبة أن ينصت للخطيب وأن يصيخ له، وأن يرعي سمعه لما يقوله الخطيب، وأن يترك الحركة والالتفات والاضطراب ونحو ذلك حتى لا تبطل صلاته.

    وكلمة (أنصت) قد تكون مفيدة، وهي أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، ففيها نهي عن منكر تراه من إنسان يتكلم، فتقول له: أنصت، ومع ذلك أخبر في هذا الحديث بأن الذي يقولها يعتبر لاغياً: (فقد لغى، ومن لغى فلا جمعة له).

    قد يُستثنى من ذلك: ما إذا احتيج إلى أن يتكلم مع الإمام، فقد ثبت (أن رجلاً دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فوقف وناداه طالباً له أن يستسقى) كما ي الحديث المشهور، ويأتينا في الاستسقاء إن شاء الله.

    كذلك أيضاً كلام الإمام مع غيره، وجوابه له، وقد تقدم أنه لما دخل رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب قال له: (أصليت؟ قال: لا. قال: قم فاركع ركعتين) فهنا الكلام من الخطيب لذلك المأموم، والمأموم أجابه بقوله: (لا). ثم أمره بقوله: (صلِّ)، فيجوز من الإمام لأحد الحاضرين، ويجيبه إذا سأله.

    فأما من مأموم لمأموم أو من مستمع لمستمع فلا يجوز؛ لكن إذا رأيت من يعبث فأشر إليه إشارة، والإشارة تكفي حتى لا تلفت أنظاراً نحوك، أو ارمقه وانظر إليه ليدل على إنكارك له... ونحو ذلك.

    وقد يُتسامح في بعض الحركات اليسيرة، مثل رفع الأيدي في الدعاء عندما يدعو الخطيب ويرفع يديه، فالمأمومون يرفعون أيديهم للتأمين على دعائه، هذا مستثنىً وفيه فائدة، فإنه من أسباب قبول الدعاء.

    كذلك أيضاً: بعض الإخوة يسأل عن استعمال السواك في حالة خطبة الخطيب؟

    فنقول: نرى أنه لا يَشْغَلُ، إذا رأى أنه يتسوك والإمام يخطب، فهذه حركة يسيرة لا تَشْغَل البالَ ولا تلفت الأنظار، وليست شبيهةً بتسوية الحصى. كذلك كل مَن رأيتَه -مثلاً- يتخطى رقاب الناس فلك أن تشير إليه، والنبي عليه السلام رأى رجلاً يتخطى الرقاب من صف إلى صف، فقال له: (اجلس فقد آذيت). وفي رواية: (آذيت وآنيت) فإذا رأيته وأشرت إليه بأنه قد آذى هؤلاء المصلين الذين كونه يتخطى رقابهم، فمثل هذا يكفي فيه الإشارة إليه دون الكلام أو إمساكه ورده حتى لا يتأذى به المصلون؛ لأنه كلما تخطى صفاً التفتوا إليه، وشوش عليهم، وتحركوا لأجل أن يفرِّجوا له فرجةً، وليس له ذلك إلا إذا رأى فرجة في صف من الصفوف قد أخلوا بها، فله والحال هذه أن يتخطاهم حتى يسد تلك الفرجة، وما ذاك إلا لأنهم هم الذين فرطوا وأسقطوا حقهم بترك هذه الفرجة في أثناء الصف.

    كذلك يقع كثيراً -لا سيما في بعض الأماكن الجامعة حتى في الحرمين- تخطي أولئك الذين يتسولون، بحيث إنهم يؤذون ويتكلمون ويسألون ويطلبون والإمام يخطب، فمثل هؤلاء: يُمنعون؛ لأنه إذا مُنع من كلمة (أنصت) والإمام يخطب ومن حركة تسوية الحصى فكيف يمكنون من كونهم يسيرون بين الصفوف، وكونهم يتخطون الرقاب، ويخرقون الصفوف، ويتكلمون ويشغلون كثيراً من الذين ينظرون إليهم.

    فعلى الأئمة أن يأمروا بإجلاسهم ومنعهم إذا فعلوا ذلك، وعلى المأمومين إذا رأوهم يتسولون أن يمسكوهم ويقبضوهم ويؤخروهم حتى لا يشوشوا على المأمومين.

    وبكل حال فالفائدة من ذلك هي: حصول الإنصات والاستماع، وترك ما يشوش على المصلي.

    1.   

    التبكير إلى الجمعة

    الحديث الذي بعده يتعلق بفضل التبكير إلى صلاة الجمعة، وقد تقدم لنا حكم الاغتسال، وذكرنا أن الراجح: أنه واجب على من هو بعيد العهد بالنظافة، متسخ البدن أو الثياب أو نحو ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) وأما إذا كان نظيفاً وحديث عهد بنظافة وليس في بدنه شيء من الوسخ ولا من الروائح المستكرهة؛ فإنه يكون مستحباً في حقه.

    قوله صلى الله عليه وسلم: ( من راح في الساعة الأولى .. ومن راح في الساعة الثانية .. ومن راح في الساعة الثالثة ..) إلخ، يدل على فضل التقدم، وأن الإنسان كلما أسرع وتقدم فإنه له أجر أكبر.

    و(التقرب) هو: التصدُّق، والقربان هو: ما يُتَقَرب بلحمه، والقرابين هي: التي تُقرَّب إلى الله تعالى، قال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً [المائدة:27] يعني: تقربا به إلى الله تعالى، فالقرابين هي: الذبائح التي تذبح للتقرب بها إلى الله تعالى، ومنه تسمى الأضاحي قرابين، كما في قول ابن القيم :

    ولأجل ذا ضحى بجعد خالد القـ ـسري يوم ذبائح القربانِ

    شكرَ الضحيةَ كلُّ صاحب سنةٍ لله درك من أخي قربانِ

    فالقربان هو: الأضاحي والهدايا ونحوها، وسميت بذلك لكونها تقرب إلى الله تعالى.

    وهذا التقريب معنوي في قوله: (.. فكأنما قرب بدنة .. فكأنما قرب بقرة .. فكأنما قرب كبشاً أقرن ..) والبدنة هي: الواحدة من الإبل، والبقرة معروفة، والكبش هو ذكر الضأن، والدجاجة والبيضة معروفتان، والمعنى: كأنه تصدق بها قرباناً، وهذا دليل على فضل التبكير.

    وبين كل واحد والآخر ساعة، (.. في الساعة الأولى .. في الساعة الثانية ..) والساعة هي الساعة الزمنية؛ لأنها معروفة قديماً، وهذه الساعة التي هي ستون دقيقة هي: الساعة الزمنية.

    ورد في حديث في سنن ابن ماجة وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يوم الجمعة -يعني: النهار غالباً- اثنا عشر ساعة، منها ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها إلا أعطاه)، فجعل النهار اثني عشرة ساعة، يعني: النهار المتوسط: اثنا عشرة، والليل: اثنا عشرة، فدل على أن المراد بالساعة هي: الساعة الزمنية، فمعناه: أن الذي يذهب في الساعة الأولى بينه وبين الذي يذهب في الساعة الثانية ستون دقيقة، وهكذا.

    ومعنى هذا: أنه يذهب مبكراً في أول النهار، والذي يريد أن يكون متقرباً ببدنة، هو الذي يذهب في أول النهار، وكانت الساعة في ذلك الوقت بالتوقيت الغروبي، فكانت الساعة الأولى بعد طلوع الشمس وانتشارها بقليل، فتبدأ الساعة الأولى وتستمر إلى الساعة الثانية، والأذان والخطبة غالباً يكونان في الساعة السادسة إلى عهد قريب.

    قبل عشرين سنة أو نحوها كان التوقيت بالتوقيت العربي الذي يبدأ من غروب الشمس في كل البلاد، ويبدأ أيضاً من طلوع الشمس أو نحوها، وإذا كان الليل اثني عشرة ساعة من الغروب إلى الطلوع، والنهار اثنا عشر من الطلوع إلى الغروب فتكون الصلاة أداؤها قريب الساعة السادسة أو نحوها.

    فالنبي عليه الصلاة والسلام حث على التبكير، وحثنا على أن نتقدم وأن نحظى بهذا الأجر، ونحرص أن نكون الذي يذهب في الساعة الأولى وكأنه قرب بدنة، ولا نكون مثل الذي يذهب في الساعة الخامسة وكأنه قرب بيضة، ما قيمة هذه البيضة التي يتصدق بها؟! وماذا تغني؟

    ما هذا إلَّا شيء يسير لا أهمية له ولا قيمة له، فيفوته خير كثير، ولو تقدم ساعة أو ساعتين أو ثلاثاً لحصل على هذا الأجر الكبير.

    فعلى الإنسان ألَّا يزهد في هذا الخير، لا سيما إذا كان عنده وقت فراغ، وعنده سعة وقت، فعليه أن يتقدم، فإنه في تقدمه يشتغل بالأذكار في جلوسه، أو القرآن، أو يستمع لقارئ، أو يصلي ما كُتب له، ولو صلى عشر ركعات، ولو صلى عشرين ركعة، ولو أطال الصلاة أو خففها، فيتقرب بالصلاة والذكر، ويشتغل بالقرآن، ويشتغل بالعلم، وينصت لكلام الله، ولو سكت ولم يتكلم ولم يقرأ لَكُتب في صلاة حيث إن الصلاة هي التي تحبسه، فإنه في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه، والملائكة تستغفر له تقول: (اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما دام في مصلاه)، وما دام لا يمنعه أن ينصرف إلا انتظار الصلاة.

    فما أعظم ذلك من فائدة! وما أكثر الأجر الذي يترتب على ذلك! وما أعظم زهد الناس في ذلك!

    فأنت تأتي المسجد الجامع قبل أن يؤذن الأذان الأخير بعشر دقائق، فلا تجد فيه إلا صفاً أو صفين، أو ربما أقل من ذلك، ولا يأتي أكثرهم إلا بعد سماع الأذان الأخير الذي هو أذان الخطبة، فتفوتهم هذه الخيرات التي هي هذه القربات، فيفوتهم أجر انتظار الصلاة بعد الصلاة، ويفوتهم استغفار الملائكة لهم، وإذا ما حصلوا هذه الخيرات فما الذي حصلوا عليه؟! ماذا حصلوا عليه من جلوسهم؟!

    جلوسُهم غالباً إما على فرش مضطجعين عليها وليس لهم شغل، وإما مع أطفال يلعبون معهم، وإما على لهو أو نظرٍ إلى ملاهٍ أو آلات لهوٍ أو نحو ذلك، وإما مع مجموعة يتكلمون في فلان أو علان، ويخوضون في قيل وقال وما لا فائدة فيه، وما علموا قدر ما فاتهم، وما علموا أن هذا الذي فوَّتوه لا يُقْدَر قَدْرُه.

    فالنبي عليه الصلاة والسلام حثنا على أن نتقرب بالقربات المعنوية التي هي الصدقات المعنوية، والصدقات الحسية فيها أجر، فلو أن الإنسان -مثلاً- رأى حاجة بالناس وشدة جوع، وذبح كل أسبوع بدنة وتصدق بلحمها، لكَثُر الذين يدعون له، وصاروا يترحمون عليه، ويأكلون ويدعون له بأن يتقبل الله منه، أو -مثلاً- تصدق بلحم بقرة وأعطى ذوي الحاجة ونحوها كل أسبوع لكان ذلك خيراً كثيراً، فهذا يحصل له بمجرد أن يتقدم هذه الساعات، ويتقدم هذا الزمان، ويجلس ينتظر الصلاة، ويترك الأشغال، ويشتغل بعبادة الله تعالى، ويترك اللهو والسهو.

    وذَكر في هذا الحديث أنه إذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر، ورد في بعض الآثار وفي بعض الأحاديث: (أن الملائكة يقفون على أبواب المساجد يوم الجمعة يكتبون الأول فالأول -الأول فلان، الثاني فلان- حتى إذا قام الإمام وخرج للخطبة طوَوا صحفهم وجلسوا يستمعون الذكر)، فمعناه: أن الذين يأتون بعد الأذان لا يُكتبون في تلك الصحف، وتفوتهم هذه الكتابة التي هي كشاهد على أنهم تقدموا أو على أنهم من أهل الصلاة الذين جاءوا راغبين فيها.

    صحيحٌ أنه يُحكم بأن الجمعة ابتُدئ في فعلها: من وقت الأذان، ولأجل ذلك يحرم الاشتغال بالأمور الدنيوية بعد الأذان، ولا يجوز البيع ولا الشراء ولا الحرف ولا الأشغال الدنيوية بعد سماع الأذان الأخير، بل كلها تلغى لقوله تعالى: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9]؛ ولكن التقدم فيه خير، والتقدم إلى المسجد والاشتغال بالقربات فيه أجر وخير كبير، يفوت هؤلاء الذين يجلسون ويشتغلون بأمورهم الدنيوية، هذا يتعلق بالتبكير ونحوه.

    1.   

    وقت صلاة الجمعة

    حديث سَمُرة يتعلق بوقت الصلاة، يقول فيه: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصعد المنبر بعد الزوال) يعني: يبدأ بالخطبة بعد الزوال مباشرة، (ثم ينصرف وليس للحيطان ظل يُستظل به) ولا يجدون ظلاً يستظلون به، إنما هو ظل قصير ولا يمكن أن يجلس فيه الواحد، وحيطانهم كانت قصيرة، يمكن أن يكون الحائط متراً أو مترين أو نحو ذلك، فإذا انصرفوا يتتبعون الظل، يجدون ظلاً يكفي لأن يضعوا فيه أقدامهم احترازاً من الرمضاء؛ ولكن لا يجدون ظلاً يكفي لأن يجلسوا فيه.

    فأخذوا من هذا أنه عليه الصلاة والسلام كان يبكر في الصلاة، فيصلي بعد الزوال مباشرة، وأن صلاته وخطبته قد تستغرق -مثلاً- نصف ساعة أو ثلثي ساعة أو ساعة إلا ربع، أو نحو ذلك، حتى يكون للحيطان ظل؛ ولكنه لا يكون ظلاً يكفي للجلوس، وهذا معنى قوله: (ظل يُستظل به).

    ومعنى قوله: (نتتبع الفيء) أي: نتتبع الظل لنمشي فيه، فعُرف بذلك أنه يُهتَم بالصلاة ويُبكَّر بها بعد الزوال مباشرة، وربما أباح بعضهم أن تُصلى أو بعضها قبل الزوال.

    وقد ذهب بعضهم إلى أن وقتها واسع، وأنه يبدأ من خروج وقت النهي. أي: من دخول وقت صلاة العيد، وصلاة العيد معروف أنها تبدأ بعد ارتفاع الشمس قيد رمح، فيقولون: الجمعة كذلك؛ ويستمر وقت الجمعة إلى نهاية وقت الظهر وإلى دخول وقت العصر، وكله وقت الجمعة، فإذا فات ذلك فاتت الجمعة، وإذا دخل وقت العصر وهي لم تُصَلَّ فات وقت الجمعة، فأما ما دام وقت الظهر باقياً فإنهم يصلوا، حتى ولو قبل العصر بنصف ساعة أو بساعة أو نحو ذلك، فلو انشغلوا ولم يأتِهم خطيب إلا قرب وقت العصر صلوها جمعةً كما كانوا يصلونها.

    1.   

    ما يقرأ في فجر يوم الجمعة

    في الحديث الأخير: ما يُقرأ في فجر يوم الجمعة، ففيه: (أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة بهاتين السورتين: سورة الم * تَنزِيلُ [السجدة:1-2] السجدة، وسورة: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ [الإنسان:1]).

    ويذكر العلماء أن تخصيص هاتين السورتين لمعنىً فيهما، لا لأجل اختيار السجدة -مثلاً-، بل لمعنىً في السورتين، فيقولون: إن هاتين السورتين قراءتهما في صبح الجمعة سنة مؤكدة، كان عليه الصلاة والسلام يداوم على ذلك أو يكثر من قراءتهما في صلاة الصبح.

    سورة ألم [السجدة:1] مشتملة على المعاد، مشتملة على الثواب والعقاب، ففيها مبدأ خلق السماوات: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ ... [السجدة:4-5] إلى قوله: ... وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ [السجدة:7].

    فذكر خلق السماوات، ثم ذكر خلق الإنسان وأنه بدأه من طين، ثم ذكر بعد ذلك نهايته: يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السجدة:11].

    ثم ذكر بعد ذلك البعث في قوله: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [السجدة:12].

    والذي يسمعها يتذكر مبدأ الخلق؛ خلق السماوات وخلق الإنسان ووفاته والبعث بعد الموت والحضور عند الرب تعالى في ذلك اليوم، وكون الحاضرين ناكسي رءوسهم يقولون: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا [السجدة:12].

    كذلك أيضاً: ذكر الثواب والعقاب في أثناء هذه السورة في قوله تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ [السجدة:20]، ولما ذكر ثواب هؤلاء ذكر عقاب هؤلاء.

    فالحكمة في قراءتها: ما اشتملت عليه من المبدأ والمعاد والوعد والوعيد، وليس لأجل السجدة كما يفعله بعض العامة ويعتقدونه، ويعتقدون أن القصد هو السجدة، فيقرأ بعضهم سورة: اقْرَأْ [العلق:1] ويقول: سجدت، ويقرأ بعضهم سورة: إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ [الانشقاق:1] ويقول: سجدت، وليس ذلك هو المقصود، بل نفس السورة هي المقصودة.

    كذلك السورة الثانية أيضاً فيها ذكر المبدأ والمعاد، وذكر الله تعالى فيها المبدأ والمعاد، وذكر فيها الثواب والعقاب.

    مبدأ الإنسان: لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً [الإنسان:1].

    ومبدأ خلقه: إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الإنسان:2] إلى قوله: إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ [الإنسان:5]، هذا هو الثواب، كذلك العقاب: فيما ذَكَرَه.

    فالحاصل: أن هاتين السورتين مقصودتان بالذات، فالذي يريد السنة يقرأهما، وبعض الأئمة يقتصرون على قراءة واحدة منهما، وربما بعض واحدة، وهذا لم يأتِ في السنة، ولا تكون السنة إلا إذا قرأهما كاملتين كما هما، فهذه هي السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبعض العلماء يكره المداومة عليهما مخافةَ أن يُعتقد أن قراءتهما واجبة، وأن الذي لا يقرأهما لا صلاة له، والصحيح: قراءتهما سنة وليس بواجب.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756490518