إسلام ويب

شرح عمدة الأحكام [18]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • للصلاة حرمة عظيمة في الإسلام، لذلك حرص الشرع على توفير أسباب الخشوع للمصلي وتجنيبه ما يشغل عليه فكره، فحرم الله الكلام في الصلاة، وشرع الإبراد بالظهر في الحر الشديد، ونهى عن إيذاء المصلي بما فيه رائحة كريهة كالثوم والبصل. ولما كان الإنسان قد ينسى الصلاة أو ينام عنها حتى يفوت وقتها، فقد شرع له صلاتها حين يذكرها، وكل ما ذكرناه قد فصل العلماء أحكامه وأحواله.

    1.   

    تحريم الكلام في الصلاة وبطلانها به

    قال المؤلف رحمه الله: [عن زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل منا صاحبه، وهو إلى جنبه في الصلاة، حتى نزلت: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، فأمنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام.

    عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما عن رسول الله أنه قال: (إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم)].

    الكلام الخارج عن أذكار الصلاة ومصلحتها يبطلها

    حديث زيد دليل على أن الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس؛ وذلك لأن الصلاة عبادة، فكانوا أول ما فرضت الصلاة كأنهم يحتاجون أن يتسامح معهم؛ لكونهم حديثي عهد بالإسلام، فرخص لهم في أن يكلم أحدهم صاحبه في حاجته أو يرد عليه أو نحو ذلك، ثم بعدما عقلوا وبعدما فهموا نهوا عن الكلام في الصلاة، ففي هذا الحديث دليل على النهي.

    وهذه الآية في سورة البقرة: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، فالقيام لله معناه الوقوف في العبادة، والقنوت: هو دوام الطاعة، ولكن يفهم من القنوت الخشوع، والخشوع يستلزم الإقبال على الصلاة، وأن التكلم في نفس الصلاة فيه شيء من المنافات للقنوت؛ فلأجل ذلك أمروا بالسكوت ونهوا عن الكلام.

    والكلام الذي نهوا عنه هو الكلام الذي يكون خارجاً عن الصلاة ولا يتعلق بمصلحتها، ومعلوم أن الصلاة ليس فيها سكوت مطلق، بل الإنسان لا يسكت إلا إذا كان خلف الإمام والإمام يقرأ، فإنه يسكت ويستمع لقراءته، أما في غير ذلك فإنه يقرأ، ففي حالة القيام يقرأ الإمام والمنفرد السورة والفاتحة، وكذلك المأموم في السرية يقرأ، وكذلك في الركوع كل منهم يسبح، يقول: (سبحان ربي العظيم)، أو يثني على الله، وفي السجود يسبح، وفي جلسته بين السجدتين يدعو، وفي التشهد يتشهد، وفي الرفع بعد الركوع يأتي بالثناء على الله تعالى، فليس في الصلاة سكوت بل فيها كلام، ولكنه مناجاة بين العبد وربه.

    فالكلام الذي نهوا عنه هو الكلام الذي كان يجهر بعضهم لبعض به، فيأمر أحدهم صاحبه بحاجته، ويكلم خادمه، ويردون السلام بالكلام ونحو ذلك، ثم نهوا عن ذلك وأمروا أن يتركوا الكلام الذي لا صلة له بالصلاة.

    العفو عن الكلام في الصلاة لمصلحتها

    ثم قد يحتاجون إلى أن يتكلموا لمصلحة الصلاة، كما إذا سها إمامهم ولم يجدوا بداً من أن يفتحوا عليه، ففي هذه الحال لهم أن يكلموه بقدر الحاجة لا أكثر، وذلك إذا لم يفهم فيتكلمون معه بقدر الحاجة، كما تقدم في حديث ذي اليدين: ( أنه صلى الله عليه وسلم لما صلى ركعتين وانصرف واعتقد أن الصلاة قد تمت، فتكلم معه ذو اليدين فقال: أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال: لم أنس ولم تقصر، فقال: بلى قد نسيت، فقال: أكما يقول ذو اليدين؟ فقالوا: نعم)، كل هذا كلام ليس من جنس الصلاة، ولكنه من مصلحتها، فللمأمومين أن يكلموا إمامهم إذا سها ولم يفهم إلا بإيضاح ذلك.

    أما من تكلم ساهياً أو جاهلاً فإنه يعذر؛ وذلك لحديث معاوية بن الحكم السلمي لما أسلم وكان جاهلاً بالصلاة وصلى معهم؛ يقول: (فعطس رجل فقلت: يرحمك الله -يعني: وهو في الصلاة- فنظر الناس إليّ -يعني: استنكاراً- فقلت: واثكل أمياه، ما لكم تنظرون إليّ؟! فجعلوا يضربون أفخاذهم يسكتونني، فسكت، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم استدعاني يقول: فوالذي نفسي بيده ما رأيت معلماً أحسن منه، فوالله ما كهرني ولا زجرني، ولكنه قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو الذكر والدعاء وقراءة القرآن)، فهذا هو الذي يشرع في الصلاة، وهو ذكر الله سبحانه وتعالى ودعاؤه وقراءة كلامه، أما الكلام العادي الذي بين الناس فإنه لا يجوز التكلم به.

    فمن تكلم وهو جاهل فإنه معذور كما في قصة معاوية هذا، وأما من تكلم عامداً عالماً بالحكم فإنه تبطل صلاته.

    وقد وقع في زمن أبي موسى أنه صلى مرة بأصحابه فتكلم رجل خلفه فقال: (ويحك! أقرنت الصلاة بالبر والزكاة، فلما سلم أبو موسى سأل: من الذي تكلم بهذه الكلمة؟ فسكتوا كلهم، ثم علمهم واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا كبر الإمام فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا) والإنصات معناه السكوت والاستماع، يعني: لا تتكلموا بشيء ليس من جنس الصلاة.

    فالواجب على كل من يعرف أهمية الصلاة وحرمتها أن يخشع فيها ويحضر قلبه، وأن ينكر على من رآه متساهلاً فيها، فكما أن الكلام يبطلها فكذلك كثرة الحركات قد تكون أشد من الكلام، فتبطل بذلك.

    1.   

    الحكمة من تأخير صلاة الظهر عند شدة الحر والإبراد بها

    أما الحديث الذي بعده فيقول صلى الله عليه وسلم: (إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة -أو فأبردوا بالصلاة- فإن شدة الحر من فيح جهنم)، يعني بذلك صلاة الظهر.

    هذا الحديث يتعلق بالمواقيت، وهو أن الصلاة إذا كان في شدة الحر فإنها تؤخر إلى أن تنكسر شدة الحر، ولعل السبب في ذلك هو الإقبال على الصلاة، فإنهم إذا كانوا في حر شديد لم يقبلوا عليها ولم يخشعوا فيها، والمطلوب الخشوع، وهو لب الصلاة وروحها.

    كانوا يصلون في المسجد وقد تكون دورهم بعيدة، قد يكون بين بعضهم وبين المسجد نحو أكثر من كيلو، وكانوا يأتون على أرجلهم مع شدة الحر وشدة الرمضاء، والمسجد أيضاً ليس فيه مكيفات، وليس فيه مراوح كهربائية، بل فيه حر شديد وعرق فهم عند أدائهم للصلاة قد يلاقون هذا الحر الشديد، فلا يقبلون على صلاتهم، ولا يطمئنون فيها، ويتمنون أن ينصرفوا؛ لما يجدون من التعب ومن المشقة، فلهذا الغرض أمرهم بأن يبردوا بالصلاة.

    وقد روي: (أنه عليه الصلاة والسلام كان يبرد بالصلاة حتى في السفر)، وذكروا: (أنه كان مرة في سفر فأراد بلال أن يؤذن فقال: أبرد، ثم أراد أن يؤذن فقال: أبرد؛ حتى رأوا فيء التلول)، والتلول: هي كثب الرمل المجتمع، ومفردها تل، قوله: (حتى رأوا فيئها) أي: رأوا لها ظلاً، وذلك لا يكون إلا بعد أن تزول الشمس وتمشي كثيراً؛ فيكون ذلك سبباً لخفة الحر وحصول الإبراد.

    استحباب الإبراد عند شدة الحر دون غيره

    ثم أحاديث الإبراد كثيرة وقد عللت بأن شدة الحر من فيح جهنم، وعلى هذا التعليل فالحكم عام؛ لأنه إذا كان ذلك من فيح جهنم، فإن المسلمين لا يشتغلون ولا يصلون في هذا الوقت، وقد ورد أن هذا الحر الذي يكون في وسط النهار هو حر الشمس، ولكن الشمس لا بد أن الله يوقدها ويشدد حرارتها، أو أن تلك الحرارة هي من فيح النار، وفي الحديث المشهور: (اشتكت النار إلى ربها، فقالت: يا رب! أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفس في الصيف ونفس في الشتاء، فأشد ما تجدون من الحر من سموم جهنم -أو من فيح جهنم- وأشد ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم).

    وإذا كان هذا من فيح جهنم؛ فإنه يسن الإبراد على كل حال، ولكن الجمهور من العلماء فهموا أن الأمر بالإبراد منوط بالعلة وبالسبب، وهو أن الحر لا يحصل معه خشوع ولا إقبال على الصلاة، بل يصلي أحدهم وهو منشغل مشتت الفكر غير مقبل على صلاته، بل يتمنى الخروج منها، فإذا زالت هذه الأسباب فلا داعي للإبراد.

    أما حالتنا نحن في هذه الأزمنة وفي هذه البلاد ونحوها، فإنه ليس علينا مشقة؛ وذلك لقرب الدور من المساجد، ولأن المساجد مفروشة وفيها مراوح كهربائية ومكيفات، فلم يبق هناك ما يشق معه الجلوس والانتظار، إذاً: فلا داعي إلى الإبراد.

    جواز الصلاة في شدة الحر

    وعلى هذا فالغرض من الإبراد هو أن يحضر الإنسان قلبه في الصلاة، فلا يصلي وقلبه منشغل بشيء يمله أو يضجره أو نحو ذلك، ومنه الحديث الذي يذكر فيه: (أنهم كانوا يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم في شدة الحر، حتى إن أحدهم إذا سجد يفرش طرف ردائه أو كمه ويسجد عليه)، فهذا دليل على أنهم قد يصلون أحياناً في مكان شديد الحرارة.

    ومعلوم أيضاً أنهم كانوا يصلون على الأرض، وقد تكون الأرض حصباء، فإذا وقعت عليها الشمس حميت تلك الحصباء، ولا تبرد إلا في قرب وقت العصر، فيضطرون إلى أن يصلوا، فلا يجد أحدهم بداً من أن يفرش طرف ردائه أو يفرش طرف كمه أو طرف عمامته ويسجد عليه، ليقي جبهته من ذلك الحر الشديد.

    وأما بقية أعضاء بدنه فيصبر على الحرارة التي تصيبها كيديه وقدميه ونحو ذلك، فهذا دليل على أنه يجوز أن يصلي ولو مع شدة الحر.

    لكن الأولى أن يقبل على صلاته إقبالاً كلياً، وأن يفعل فيها الأفعال التي إذا أتى بها عن رغبة وعن محبة وعن إقبال أثيب عليها.

    من موانع الخشوع في الصلاة

    وقد ذكروا أشياء مما يشتت على الإنسان فكره، فمنها ما تقدم من أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان)، إذاً: لا يصلي وهو يشتهي الطعام، كالصائم شديد الحاجة إلى الطعام؛ لأنه إذا صلى قبل أن يتناول شهوته من الطعام لم يقبل على صلاته، وكذلك إذا خشي أن يؤكل الطعام قبل رجوعه، فيبقى قلبه متعلقاً بذلك الأكل حال صلاته، فأمر بأن يقدم الأكل على الصلاة.

    كذلك صلاته وهو يدافعه الأخبثان: البول والغائط؛ وذلك لأنه إذا صلى لم يقبل على صلاته، بل يصلي وهو في حالة ملل وضجر وفي حالة شدة، ويتشوش عليه فكره وذهنه؛ فلأجل ذلك أمر بأن يتخلى وبأن يزيل عنه هذا الخبث؛ حتى يقبل على صلاته وقلبه فارغ ليس فيه ما يكدره، فكذلك لا يصلي في حر شديد ولا يصلي في برد شديد وهو يجد ما يخفف ذلك الحر وذلك البرد، كل ذلك لأجل تحصيل الخشوع في الصلاة والإقبال عليها.

    وإذا اضطر إلى ذلك وخاف فوت الوقت، فإنه يصلي ويتقي الحر بما يستطيع من طرف عمامته الذي يسجد عليها أو طرف كمه أو طرف ثوبه أو نحو ذلك.

    1.   

    قضاء الفوائت بنوم أو نسيان

    أما حديث: (من فاتته صلاة وخرج وقتها، فإنه يصليها، ولا عذر له بتركها)، فمثلاً: فوات الصلاة إما أن يكون للنسيان، وإما أن يكون للنوم، فمن تركها للنوم فالنوم عذر، ولكن لا ينبغي للإنسان أن ينام في الوقت الذي يغلب على ظنه أنه يستغرق وقت الصلاة، إلا أن يجعل من يوقظه إذا حضرت الصلاة، فإذا وكل أحداً يوقظه فنسي ولم يوقظه حتى طلعت الشمس أو حتى ارتفعت، فإنه معذور، وفي الحديث (ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة)، فإذا نام واستغرق في النوم ولم يوقظه أحد أو كانت عادته أنه ينتبه ولكن غلبه النوم، فهو معذور. ومتى يصلي؟

    جاء في الحديث: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها).

    وهكذا أيضاً إذا غفل عن الصلاة بأن انشغل ونسي وقتها، كما إذا قدم من سفر فاشتغل ونسي، أو أخرها يعتقد أنه سيصليها ثم نسيها، فالناسي أيضاً معذور، ولكن يصليها إذا تذكرها.

    فإذا تذكرها بادر بأدائها ولو كان في وقت نهي، فإذا تذكر صلاة الفجر بعد أن شرقت الشمس وقبل أن ترتفع صلاها في ذلك الوقت، وكذلك إذا تذكر صلاة العصر أو استيقظ لصلاة العصر وقد تضيفت الشمس للغروب، فإنه لا يؤخرها بل يصليها في ذلك الوقت، وهكذا لو غفل ونسي صلاة الظهر ولم يذكرها إلا بعد العصر فإنه يصليها في ذلك الوقت، وقد استدل النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية وهي قوله تعالى في سورة طه وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14]، قيل معنى الآية: أقم الصلاة لتذكرني بها، وقيل معنى الآية: أقم الصلاة إذا تذكرتها، وكلا المعنيين صحيح، كما سيأتي في الأحاديث التي ذكرها المؤلف.

    قضاء الصلاة الفائتة بسبب النسيان

    قال المؤلف رحمه الله: [عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك، وتلا قوله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14] ولـمسلم : من نسي صلاة أو نام عنها، فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها).

    وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن معاذ بن جبل كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة).

    وعن أنس رضي الله عنه قال: (كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدة الحر، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض، بسط ثوبه، فسجد عليه).

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد، ليس على عاتقه منه شيء)].

    هذه الأحاديث تتعلق بالصلاة، فالحديث الأول يتعلق بقضاء الصلاة الفائتة: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك، وتلا قوله الله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14]).

    فالآية ظاهرها الدلالة على مشروعية الصلاة لأجل الذكر وهو صحيح، فإن الصلوات شرعت لأجل ذكر الله تعالى؛ لأن الصلاة تذكر بالله، فمن حين يسمع المؤذن وهو يسمع ذكر الله، مثل: تكبيرات الأذان وكذلك الشهادتان، وهكذا أفعال الصلاة تذكر بالله، وهكذا الأقوال فيها تذكر بالله، فهي كلها ذكر لله.

    ولكن يدخل في ذلك أيضاً الإتيان بالصلاة عند ذكرها بعد النسيان، فمثلاً: إذا نسي صلاة أو غفل عنها حتى خرج وقتها لشغل أو لغيبة أو لسفر ثم تذكرها، فإنه يبادر في تلك الساعة ويصليها ولو كان في وقت نهي، فإذا تذكر صلاة الظهر بعد العصر صلاها في ذلك الوقت، وإذا تذكر صلاة العشاء بعد الفجر صلاها في ذلك الوقت، وكذلك لو قدر أنه نام عن صلاة العشاء غفلة أو غلبة أو نحو ذلك، ثم استيقظ وصلى الفجر، ولما صلى الفجر تذكر أنه لم يصل العشاء، فإنه يبادر ويصليها في حينه ولا يؤخرها، ولو كان في وقت نهي، وهكذا بقية الصلوات كلما تذكر صلاة بادر وأتى بها دون تأخير.

    قضاء الصلاة الفائتة بسبب النوم

    وهكذا يقال في النوم، قد ثبت: (أنه صلى الله عليه وسلم كان مرة في سفر، ثم إنهم ساروا أكثر الليل، ولما كان آخر الليل نزلوا ليريحوا أنفسهم، فغلبهم النوم كلهم، ولم يستيقظوا إلا بعدما طلعت الشمس، فلما استيقظوا توضئوا من حينهم، وصلوا صلاة الصبح بعدما طلعت الشمس وانتشرت ولم يؤخروها)، فصار ذلك سنة فيمن فاتته صلاة لنوم أو لغفلة أو لنسيان أو نحو ذلك أن يبادر ويصليها حين يذكرها.

    ولا يجوز للإنسان أن يكثر الاشتغال عن الصلاة بما يسبب غفلته، وكذلك لا يجوز له تعاطي الأسباب التي تجعله ينام عن الصلاة حتى يمضي وقتها، بل على المؤمن أن تكون له همة للمحافظة على الصلاة، وأن يكون له ميل إليها ورغبة شديدة تحمله على أن لا يغفل عنها، وتحمله على أن ينتبه لها في وقتها، فإذا انتبه لها وأتى بها كان إتيانه بها في وقتها، هكذا حالة من يكون حريصاً على العبادة.

    وقد ذكر العلماء أن أوقات النهي تقضى فيها الفوائت، فالصلاة التي فاتت وخرج وقتها إذا تذكرها وهو في وقت نهي فإنه يصليها في ذلك الحين، ودليلهم هذا الحديث: (فليصلها إذا ذكرها؛ لا كفارة لها إلا ذلك)، هذا وجه الدلالة من هذا الحديث.

    1.   

    حكم صلاة المفترض خلف المتنفل والعكس

    أما حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه ففيه أنه كان حريصاً على ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم للتعلم وللقراءة، فكان يحضر معه المغرب، ويتعلم منه ما ينزل من الوحي، وما يتجدد من الأحكام، ويطيل ملازمته، ويمكث على ذلك أكثر الوقت ثم يحضر صلاة العشاء، وبعدما يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ينصرف إلى قومه، وحيث إنه أقرؤهم، حيث كان من حملة وحفظة القرآن مع كونه من شبابهم، حيث كان في ذلك الوقت شاباً دون العشرين، فكان لذلك مقدماً في قومه، فلذلك كانوا يقدمونه في الصلاة، وينتظرونه ولو تأخر عليهم، فيصلي بهم تلك الصلاة التي صلاها مع النبي صلى الله عليه وسلم.

    وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم أمره بأن يرفق بهم وأن لا يطيل عليهم، وقد ذكرنا أنه كان يتأخر؛ وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام غالباً ما يؤخر صلاة العشاء حتى يمضي من الليل ساعتان وربما ثلاث ساعات، ثم الطريق من المسجد النبوي إلى العوالي يستغرق ساعة أو قريباً منها، فلا يأتيهم إلا وقد مضى نحو ثلث الليل أو قريب منه.

    وقد كانوا أهل عمل وأهل حرفة، فلأجل ذلك نصح وأمر بأن يرفق بهم وأن لا يطيل عليهم وأن يقرأ من قصار المفصل، ولكن الشاهد في هذا الحديث أنه كان يصلي بهم وهم مفترضون وهو متنفل؛ وذلك لأنه قد أدى الفريضة خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فأفادنا أنه يجوز أن يصلي المفترض خلف المتنفل، والمفترض هو الذي يصلي الفرض، والمتنفل هو الذي صلاته نفل.

    اشتهر عن بعض الفقهاء رحمهم الله أنه لا يجوز أن يصلي المفترض خلف المتنفل؛ وذلك لأن صلاة المفترض أقوى، فلأجل ذلك لا يكون الضعيف إماماً للقوي، ولكن هذا الحديث يخالف ما اختاره، حيث إن فيه دليلاً على أنه يجوز.

    وإذا جاز هذا جاز العكس، وهو كون المتنفل يصلي خلف المفترض وتكون له نافلة، فقد ثبت: (أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلين معتزلين في ناحية المسجد، وكان في مسجد الخيف بمنى، فلما انصرف من صلاة الفجر، أمر بهما فجيء بهما فقال لهما: لماذا لم تصليا معنا؟ فقالا: قد صلينا في رحالنا، فقال: لا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أدركتما الجماعة فصليا معهم، وتكون لكما نافلة).

    فأفاد أنه يجوز أن يصلي المتنفل خلف المفترض وذلك بأن تصلي مع الجماعة في المسجد النائي، ثم بعد ذلك تأتي وتجد جماعة يصلون فتعيد تلك الصلاة معهم، وتكون الثانية هي النافلة، ولو صليت الأولى وأنت منفرد، فإنك تصلي الثانية مع الجماعة، وتكون الثانية هي النافلة، والفريضة هي التي أديت في أول وقتها.

    1.   

    حكم الصلاة في الثوب الواحد ووجوب ستر المنكبين

    وأما حديث الصلاة في الثوب الواحد فقد ثبت: (أنه صلى الله عليه وسلم سئل: هل تصح الصلاة بالثوب الواحد؟ فقال: أو لكلكم ثوبان؟! -وفي رواية-: أوكلكم يجد ثوبين؟!) وهذا يفيد أنه يجوز أن يصلي المرء في ثوب واحد ولكن إذا كانت الصلاة فريضة فإنه يستر منكبيه أو أحد منكبيه، وإذا كانت نافلة اكتفى بستر عورته من السرة إلى الركبة فقط ويصلي؛ لأن النافلة أمرها أخف من الفريضة.

    مسمى الثوب عند العرب

    مسمى الثوب يدخل فيه كل قطعة تستر جزءاً من البدن، فيسمى الإزار الذي يلبس على العورة ثوباً، والرداء الذي يرتديه الإنسان على ظهره يسمى ثوباً، والقميص الذي له جيب وأكمام يسمى ثوباً، والسراويل التي تفصل على العورة تسمى ثوباً، وهكذا بقية الأغطية كل واحد منها يسمى ثوباً.

    والحديث ورد في القطعة التي ليست مخيطة، والتي كانت هي غالب لباسهم في ذلك الوقت؛ لأنه لم يتوفر عندهم خياطة القمص التي لها جيوب ولها أكمام، فكان أغلب لباسهم الأزر والأغطية كلباس المحرم، هذا أغلب ما كانوا يلبسونه، فكثيراً ما يصلي أحدهم وليس عليه إلا قطعة واحدة، ولكن يتأكد في الصلاة المفروضة أن يستر منكبيه أو أحد منكبيه، بأن يلتحف بهذه القطعة فيضعها على منكبيه ثم يلفها على بدنه إلى ما تحت الركبة، وبذلك يكون قد ستر عورته وظهره ومنكبيه.

    وأما النافلة فورد في الحديث: (إذا كان الثوب ضيقاً فأتزر به، وإن كان واسعاً فالتحف به)، فأفاد أنه إذا كان قطعة واسعة كالرداء العريض ألقاه على ظهره والتحف به حتى يستر عورته ويستر ركبتيه إلى ساقيه، وإذا كان الثوب ضيقاً فيكتفى بأن يأتزر به، يعني: يجعله على عورته كالإزار الذي يستر العورة، فهذا ونحوه هو الذي ورد في الحديث.

    خلاف العلماء في وجوب ستر المنكبين في الصلاة

    ذهب بعض العلماء إلى أنه لا يلزم ستر المنكبين بل يجزئ أن يصلي وهما مكشوفان، سواء كانت الصلاة فرضاً أو نفلاً، أخذاً من قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان الثوب ضيقاً فأتزر به)، وذهب آخرون وهو الصحيح: إلى أنه يفرق بين الفرض والنفل، ففي النافلة يتسامح فيجوز أن يقتصر على ستر العورة بإزار يشده على عورته من السرة إلى الركبة، فلو صلى وهو مكشوف الظهر ومكشوف الرأس ومكشوف الساقين صحت نافلته.

    وأما الفريضة فلها أهمية، فلا بد أن يستر فيها ما بين السرة والركبة وهذه هي العورة، ثم مع ذلك يستر الظهر، فيلقي على ظهره كساء يستره، ويستر منكبيه أو أحد منكبيه، وإذا كان عليه قميص واحد مفصل بالجيب والأكمام، وقد ستر ما تحت الركبة اكتفى بذلك ولو كان حاسر الرأس.

    حكم الصلاة بالثياب الشفافة

    يلاحظ أنه لا بد أن يكون الثوب الذي يصلي فيه صفيقاً أي: متيناً لا يصف البشرة، فإنه يلاحظ أن كثيراً من الذين يلبسون الثياب الشفافة الرقيقة ويلبسون تحتها تباناً -وهي السراويل القصيرة- أنه يظهر بعض عورتهم، بحيث يظهر الفخذ أو بعض الفخذ لرقة الثوب، فلا بد أن يكون الثوب متيناً غليظاً إذا كان واحداً، فإن كان الثوب رقيقاً فلا بد أن يلبس تحته سراويل أو إزاراً؛ ليستر العورة التي هي ما بين السرة والركبة كما هو معروف.

    وأما بقية الجسد فلا يلزم، فلو صلى مثلاً وهو مكشوف الرأس لم يكن عليه بأس في ذلك، وكذلك بقية أجزاء الجسم كاليدين والرجلين ونحو ذلك، هذا كله بالنسبة إلى الرجل.

    صفة ثياب المرأة في الصلاة

    أما المرأة فإنها تستر جميع بدنها إلا وجهها؛ ولذلك سألت أم سلمة النبي صلى الله عليه وسلم: (هل تصلي المرأة في الدرع الواحد؟ فقال: نعم إذا كان سابغاً يغطي ظهور قدميها) فاشترط أن يغطي ظهور القدمين، يعني: حتى الأصابع.

    فعلى المرأة أن تستر قدميها، وإذا ألزمت بستر القدمين فمن باب أولى بقية البدن، وتستر أيضاً رأسها وشعرها، ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار)والمراد بالحائض هنا: التي قد بلغت سن المحيض.

    فإذا بلغت المرأة بالحيض كلفت، ولو كانت بنت عشر أو إحدى عشرة، فمتى بلغت بالحيض وجب عليها أن تستر بدنها كله في الصلاة فلا تبدي من بدنها شيئاً، فمن ذلك الرأس تستره بالخمار الذي يغطي شعرها ويغطي رأسها وعنقها ونحو ذلك، وهذا يتعلق بشروط الصلاة.

    1.   

    حكم دخول المساجد لمن أكل ما له رائحة كريهة

    قال المؤلف رحمه الله: [باب ما جاء في الثوم والبصل ونحوها:

    عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من أكل ثوما أو بصلاً فليعتزلنا -أو ليعتزل مسجدنا- وليقعد في بيته، وأتي بقدر فيه خضرات من بقول، فوجد لها ريحاً فسأل عنها؟ فأخبر بما فيها من البقول، فقال: قربوها -إلى بعض أصحابه كان معه- فلما رآه كره أكلها قال: كل؛ فإني أناجي من لا تناجي)

    وعنه رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أكل البصل أو الثوم أو الكرّاث فلا يقربنّ مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو الإنسان -وفي رواية-: بنو آدم)].

    هذه الأحاديث تدل على ضرورة احترام المساجد واحترام العبادات بتجنيبها الروائح المستكرهة، وكذلك احترام المصلين واحترام الملائكة عن الأقذار وعما يستنكر أو تكره رائحته.

    العلة من النهي عن أكل الثوم والبصل لمن يأتي المساجد

    معلوم أن الثوم والبصل والكرّاث من البقول التي خلقها الله وأنبتها، وجعلها مباحة وفيها منفعة، وفيها مصلحة، ويأكلها الناس للعلاج، وفيها منافع وعلاج لكثير من الأمراض، كما ذكر ذلك العلماء في الكلام على منافعها، ومع ذلك فإن فيها رائحة مستكرهة عند الناس، ولما كانت مستكرهة؛ فإن الإنسان إذا شم هذه الرائحة من غيره كره مجالسته وكره القرب منه وابتعد عنه؛ حتى لا يتأذى بهذه الرائحة المستكرهة؛ فلأجل ذلك نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأتي المسجد من فيه هذه الروائح ونحوها.

    وكان عليه الصلاة والسلام لا يأكلها دائماً، ويعتذر بأنه يناجي الملائكة أو أنه ينزل عليه الملك، والملائكة تتأذى من هذه الرائحة مطلقاً؛ فلأجل ذلك أباح أكلها لبعض أصحابه الذين لا يناجون ما يناجي، فقوله: (فإني أناجي من لا تناجي) المناجاة: هي الكلام الخفي بين اثنين، كما في قوله تعالى: إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المجادلة:9] يعني: إذا تخاطبتم فيما بينكم بخطاب خفي.

    فيقول: (فإني أناجي من لا تناجي) يعني: أنه ينزل علي الملك ويكلمني ويعلمني القرآن، ولما كان الملك له حرمة فإني أحب أن لا أقابله برائحة مستكرهة، وقد كان عليه الصلاة والسلام يكره أن يوجد منه شيء من الروائح المستكرهة، ولذلك لما شرب عسلاً عند إحدى زوجاته قالت له زوجة أخرى: (إني أجد منك ريح مغافير -المغافير: هو شجر من شجر العضاة له رائحة- فقال: إنما شربت عسلاً، فقالت: جرست نحلها العرفط)، يعني: أن نحلة أكلت من شجر العرفط الذي له رائحة، فعند ذلك كره ذلك العسل مخافة أن يوجد منه رائحة مستكرهة، فهذا دليل على أنه لا يحب أن يشم منه رائحة مستكرهة.

    كذلك كان يحب الروائح الطيبة، فكان دائماً يستعمل الطيب في بدنه وفي ثيابه؛ وذلك لكي توجد منه الرائحة الطيبة التي يحبها والتي تألفها الملائكة، والتي يحبها المصلون والمؤمنون، وحث على الطيب وأمر به ورغب فيه وأخبر بأنه يحبه، وكل ذلك حرصاً منه على قطع الرائحة الكريهة واستعمال الرائحة الطيبة بحسب المستطاع.

    ولما اشتكى إليه أناس في يوم الجمعة أنهم يتأذون ببعض الروائح، أمرهم بالاغتسال والتنظف في يوم الجمعة، وأن يستعمل الإنسان من طيب أهله ليوم الجمعة، حتى لا يتأذى بعضهم ببعض مما يحصل منهم من الوسخ وروائح الجلد والثياب المتسخة ونحو ذلك؛ كل ذلك لأجل احترام العبادة وأن يأتي إليها وهو راغب محب لها بكل قلبه، وأن لا يوجد منه ما ينفر منه الملائكة أو ما ينفر منه المصلون، هذه الحكمة من النهي عن هذه الروائح المستكرهة في هذه العبادة التي هي الصلاة.

    والإنسان مأمور بأن يخشع ويخضع في صلاته وأن يكون قلبه مطمئناً فيها، ومن المعلوم أنه لا يطمئن اطمئناناً كاملاً إذا كان إلى جانبه من يشم منه رائحة مستكرهة، لا يكون في صلاته ولا يحضر قلبه، ولا يتأمل ما يقول لما يتأذى به.

    نقول: هذا هو السبب في كونه عليه الصلاة والسلام نهى عن أن يأتي إلى المساجد من فيه هذه الروائح: (من أكل ثوماً أو بصلاً أو كراثاً فلا يقربنّ مسجدنا) هذه الأشياء موجودة وهي مباحة، والدليل على إباحتها أنه قال لبعض الصحابة: (كل؛ فإني أناجي من لا تناجي)فدل على أنها مباحة وحلال.

    فإذاً: نهيه في هذا الحديث بقوله: (لا يقربن مسجدنا) فيه أمر بعدم أكلها في الأوقات التي تبقى رائحتها وهو في المسجد، بل يأكلها في الأوقات التي يزول ريحها قبل أن يأتي وقت الصلاة، فإذا أكل بصلاً مثلاً أو كراثاً أو نحو ذلك أكله في الأوقات الطويلة كبعد الفجر وبعد العشاء؛ حتى يزول أثرها قبل أن يدخل وقت الصلاة.

    وورد عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (إذا احتاج أحدكم إلى أكل هذه البقول فليمتها طبخاً) أي: أنها إذا طبخت زال أثر الرائحة منها، هذا إذا احتاج إليها قرب وقت الصلاة، وعلى كل حال فالنهي عنها قرب وقت الصلاة، وأما في الأوقات التي ليس فيها وقت صلاة، أو بالنسبة للمعذور الذي يصلي في بيته لمرض، أو المسافر الذي يصلي وحده أو نحو ذلك، فإن له ذلك، أما المساجد فلا يجوز أن يأتيها من فيه هذه الروائح.

    وقد علل في الحديث الثاني بقوله: (فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم) أي: أن الملائكة تحضر الصلوات وتحضر المساجد، وحضورها في هذه المساجد وقت الصلاة لأجل مشاهدة صلاة العباد لا شك أن فيه خيراً، ولذلك تشهد للمصلين، حيث يسألهم ربهم عن عباده وهو أعلم بهم؟ فيقولون: (أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون)، فهؤلاء الملائكة إذا وجدوا هذه الرائحة في المساجد تأذوا بذلك، فلذلك نهي عن استعمال هذه الأشياء قرب وقت الصلاة والإتيان إلى المساجد بها.

    حكم من يأكل البصل والثوم والكراث لأجل ترك صلاة الجماعة

    ثم نقل إلينا أن بعضاً من المتمعلمين جعلوا ذلك عذراً لترك صلاة الجماعة، ذكروا أن الحبشي الذي اشتهر قبل سنوات في لبنان، وكان قد تتلمذ عليه أكثر من عشرين ألفاً، أو انخدعوا به، فقال لهم: كلوا البصل حتى تسقط عنكم صلاة الجماعة وصلاة الجمعة فلا تكونوا مطالبين؛ فإنكم منهيون عن إتيان المسجد إذا أكلتموه.

    نقول: هذا كذب لا يجوز أن يتخذ عذراً في ترك صلاة الجماعة، والصحابة ماذا فعلوا وماذا فهموا لما أنه أخبرهم بأن الملائكة تتأذى بهذه الرائحة؟

    قالوا: (شيء يحرمنا من المسجد لا نريده)، يعني: لا حاجة لنا في هذا الذي يمنعنا من حضور الصلاة ومن حضور المساجد، فتركوه في الأوقات القصيرة، ولم يأكلوه إلا لحاجة في الأوقات الطويلة التي يذهب معها رائحته، ولم يجعلوه عذراً ولم يقولوا: نأكل البصل ونأكل الكراث ونصلي في البيوت، ما دام أن لنا عذراً؛ لأنهم عرفوا أن صلاة الجماعة واجبة وأن فيها فضلاً، وأنهم مأمورون بحضورها، وأنها تكتب لهم خطواتهم ونحو ذلك، كل ذلك فهموه من النصوص، فلما فهموا هذا من النصوص عرفوا أن ترك المساجد فيه عقوبة، فقالوا: لا حاجة لنا في الشيء الذي يحول بيننا وبين المساجد، فتركوا هذه الأشياء حتى تحصل لهم صلاة الجماعة باطمئنان.

    إذاً فالذين يجعلون ذلك عذراً لهم، ويتخذون وسيلة يحتالون بها في ترك صلاة الجماعة، كأكل هذه الأشياء التي فيها رائحة ويقولون: نحن منهيون عن حضور المسجد! نقول: إنكم مخطئون باستعمال هذه الأشياء، قد يضطر الإنسان إلى أكل الثوم أو نحوه لعلاج يكون ضرورة أو لا يندفع ألمه أو مرضه إلا به، والثوم يظهر ريحه على البدن ويطول بقاؤه، فإذا كان مضطراً كان له عذر في أن يصلي وحده ولا يؤذي المصلين ولا الملائكة لضرورته، فإذا لم يكن هناك ضرورة لم يجز له استعماله، إلا إذا تحقق أن هناك ما يزيل رائحته، هذا هو الحكم.

    حكم الروائح الكريهة غير البصل والثوم والكراث

    ثم ألحق العلماء بذلك كل ما هو خبيث الرائحة، ومن المعلوم أن هذا الدخان الخبيث المنتن ذو رائحة مستكرهة، وكذلك ما يلحق به من (النارجيل)، (الجراك) وغيرها من هذه الأشياء الخبيثة؛ من المعلوم أنها ذات رائحة مستكرهة، بل هي أشد من رائحة الثوم والبصل والكراث التي هي من المخلوقات التي فيها نفع، فلا يجوز أن تتعاطى قرب أوقات الصلاة.

    إذا كان الذي يستعمل (الجراك) يصلي إلى جانبك، فإنك تشم منه هذه الرائحة المستكرهة سيما إذا تعاطاها قريباً، وهكذا أيضاً إذا استعمل الدخان وأكثر منه ظهرت رائحته على ثيابه وعلى فمه، وتأذى من قرب منه، ويلحق بذلك كل شيء فيه رائحة خبيثة فلا يجوز استعماله.

    معلوم أن المسجد له حرمته فأمر بأن ينظف وأن يطيب، وكان الصحابة في كثير من الأوقات يطيبون مساجدهم بالدخنة التي هي دخان العود، وكذلك كانوا ينضحونه بالطيب وغيره؛ كل ذلك لأجل أن يطمئن المصلون في صلاتهم، وأن تحضر قلوبهم، ولئلا يلقوا شيئاً يشوش عليهم صلاتهم.

    فإذا كان الإنسان مأموراً بإزالة الروائح المستكرهة، فهو كذلك مأمور باستعمال الروائح الطيبة ونحوها.

    هذا الحكم في استعمال هذه الأشياء وبكل حال فإننا نهينا عن استعمالها؛ لما يحصل بها من الأذى، ولكن لا يتخذ ذلك حيلة لترك العبادات ولا للتهاون في صلاة الجماعات.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756518430