إسلام ويب

شرح عمدة الأحكام [9]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • صلاة الجماعة فيها فضائل كثيرة، وقد حث عليها النبي عليه الصلاة والسلام في أحاديث متكاثرة، وقد بين العلماء حكمها وأسباب المحافظة عليها. وإن من أفضل القربات أداء الرواتب من الصلوات، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فضلها ورغب فيها.

    1.   

    شرح حديث: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ..)

    قال المصنف رحمه الله: [باب فضل صلاة الجماعة ووجوبها:

    عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)].

    هذا الحديث يتعلق بفضل صلاة الجماعة، وصلاة الجماعة هي الاجتماع في المساجد لأداء الصلاة المكتوبة التي هي الصلوات الخمس، وقد دل على ذلك أدلة من القرآن كقوله تعالى: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43]، فإن هذا دليل على أن المعية تحصل بجماعة يصلون هذه الصلاة ويركعون فيها ويسجدون، ومن الأدلة النداء لها في قوله تعالى: وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة:58] فإنه دليل على النداء للناس أن هلموا إلى الصلاة؛ ولهذا المؤذن يقول بصوته: حي على الصلاة، يعني: تعالوا إلى فعل الصلاة في هذا المكان.

    كذلك توعد الله تعالى الذين يُدعَون إليها ولا يأتون في قوله تعالى: وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ [القلم:43] (قد كانوا يدعون) أي: في الدنيا، (إلى السجود وهم سالمون) فعوقبوا بأنهم إذا أرادوا السجود يوم القيامة فلن يستطيعوا، وحيل بينهم وبينه، فهذا دليل على شرعية أداء هذه الصلوات في هذه المساجد.

    وقد ذكر لها العلماء حكماً ومصالح، ولو لم يكن في اجتماع المصلين على الصلوات إلا التعارف وتفقد الأحوال لكفى، فأهل الحي يجتمعون في كل يوم خمس مرات يرى بعضهم بعضاً، ويسلم بعضهم على بعض، ويسأل بعضهم عن حال الآخر، ويتفقدون أحوال من افتقدوه، ويعرفون من هو تقي محافظ على العبادة ومن ليس كذلك، فيعرفون أهل الخير، ويشهدون لهم بالصلاح، ويقولون: فلان صاحب عبادة لا يفتقد من المساجد، يرى دائماً مواظباً على هذه الصلاة، فيشهد له بالصلاح وبالخير.

    هذا الاجتماع الذي يجتمعونه في كل يوم خمس مرات لأداء هذه الصلاة فيه هذا التعارف، وفيه فائدة ثانية وهي: النشاط في العبادة؛ وذلك بأن يؤديها بنشاط وبقوة لا بكسل وخمول، والعادة أن الذي يصلي وحده يقوم إلى الصلاة كسلاً يتثاءب ويتثاقل ولا يقوم إليها إلا وكأنه يدفع إليها دفعاً، وكأنما أكره عليها، بخلاف ما إذا جاء إلى المسجد فإنه يجد انشراحاً وقوة وانبساطاً، ونشاطاً في البدن ونشاطاً في القلب.

    وفيها مصلحة ثالثة وهي: تعلم الجاهل، فإن الإنسان قد يكون جاهلاً بأحكام الصلاة فيتعلمها بالفعل وهو أبلغ من التعلم بالقول، والتعلم بالقول هو أن تقول في صفة الصلاة: إذا قمت فكبر، واجعل ركوعك أخفض من سجودك، واسجد على سبعة أعضاء، وهذا قد يعلمه الإنسان ولكن يبقى عليه التصور، فإذا تعلم بالفعل بأن كبر مع الإمام وركع معه وسجد وجلس وتشهد؛ أخذ التعلم فعلاً فكان أبلغ.

    وفيه أيضاً فائدة رابعة وهي: سماعه لكلام الله، وسماعه لما يؤتى به في هذه الصلاة، فإنه يسمع القرآن يتلى عليه في الصلاة الجهرية، ويسمع التكبير، ويسمع التسميع، ويسمع التحميد، ويسمع التسليم، فيستفيد من هذا، ويعرف الحكمة في شرعية هذه الأشياء، فيزداد بذلك معلومات وثقافات.

    أما الفوائد الأخرى الأخروية فهي كثيرة، منها: كتابة خطواته، ثبت في الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وبكل خطوة إلى الصلاة صدقة)، وقوله: (لم يخط خطوة إلا كتب الله له بها حسنة أو حط بها عنه خطيئة، أو رفعه بها درجة)، وهذا خير كثير يحرمه الذي يصلي في بيته.

    وفائدة أخرى وهي: اكتساب الأعمال؛ وذلك لأنه إذا جاء إلى المسجد أدى راتبة أو تحية مسجد، وهذا عمل خير، وكذلك قرأ من القرآن إذا لم تكن الصلاة قد أقيمت، وهذا عمل خير، واستفاد وسمع الفائدة وهذا خير، فيؤجر على ذلك.

    وفيه أيضاً فائدة وهي: أنه يحظى باستغفار الملائكة له، ثبت قول النبي صلى الله عليه سلم: (الملائكة تستغفر لأحدكم ما دام في مصلاه ما كانت الصلاة تحبسه ما يمنعه أن ينصرف إلا الصلاة، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم صل عليه)، وهذا الأجر كله يفوت على الذي يصلي وحده في بيته، ولا يحظى بشيء من هذا الأجر.

    أما المضاعفة فسمعنا هذا الحديث الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)، ومعناه: أن الذي يصلي فرداً يحصل له درجة واحدة، والذي يصلي مع الجماعة له سبع وعشرون أو ثمان وعشرون، وهذه الدرجات التي يحصل عليها بزيادة سبع وعشرين خير كثير يحرمه الذي يصلي وحده.

    لو أن إنساناً اشترى سلعة بثمانية وعشرين ثم باعها بدرهم واحد، فإنه خسر فيها سبعة وعشرين، ماذا تكون حالته؟ يأكل يديه لهفاً؛ لأنه خسر هذه الخسارة الفادحة من ثمانية وعشرين لم يحصل على درهم أو ريال واحد، فكيف يفوت عليه هذا الخير الكثير والأجر العظيم الذي رتبه النبي صلى الله عليه وسلم على صلاته مع الجماعة؟!.

    وقد استدل بهذا من صحح صلاته وحده، ولكن معلوم أنه حتى ولو قلنا: إن صلاته في بيته مجزئة أو مسقطة للفرض، لكن أين هذه الأرباح؟ وأين هذه الفوائد؟ وأين هذه الخيرات التي يحصل عليها؟ تفوته المصالح الدنيوية والمصالح الأخروية والأجر والدرجات التي يحرمها.

    1.   

    شرح حديث: (صلاة الرجل في الجماعة تضاعف على صلاته في بيته وفي سوقه...)

    قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الرجل في الجماعة تضاعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسة وعشرين ضعفاً؛ وذلك أنه إذا توضأ وأحسن الوضوء وخرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخطُ خطوة إلا رفع له بها درجة وحط عنه خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صل عليه، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة) متفق عليه واللفظ للبخاري .

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلاً أن يصلي بالناس، ثم أنطلق ومعي رجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار)].

    قد ذكرنا شيئاً من المصالح التي شرعت لأجلها صلاة الجماعة، وذلك أن هذه العبادة التي هي الصلاة أجل العبادات البدنية؛ لأنها صلة بين العبد وبين ربه، ومن حكمة الله أن أمر بها علناً، فشرع الأذان برفع الصوت الذي يطبق البلاد، ويدوي في أطراف القرى؛ ذكراً لله، وتشهداً، ونداء إلى الصلاة وإلى الفلاح، وتهليلاً وتكبيراً، وشرع لها الاجتماع، وشرع لها الجماعة التي تؤدى بحركات متوافقة، بحيث إن حركات الإمام تتبعها حركات المأمومين، ويجتمع أهل الحي في مسجد واحد موجهة قبلته إلى البيت الحرام، فيه العلامات التي يعرف بها كالمحاريب والمنائر ونحوها مما يكون علماً على الإسلام، وأن البلاد بلاد إسلامية، وأن هذه شعائر الإسلام.

    زيادة على أن في الاجتماع قوة ونشاطاً، وفي التخلف تكاسلاً وتثبطاً.

    قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة الجماعة تفضل على صلاة الرجل في بيته وفي سوقه خمسة وعشرين ضعفاً)، وتقدم في الحديث الأول أنها تفضل بسبع وعشرين درجة، فقد تكون الدرجة هي المنزلة التي هي رتب يصعد بها والمعنى: أن الذي يصلي في بيته لا يصعد إلا درجة، والذي يصلي في المسجد جماعة يصعد سبعاً وعشرين أو ثماني وعشرين درجة، وذلك فضل كبير، وأما المضاعفة فإنه أخبر بأنها تزيد عليها خمسة وعشرين ضعفاً، أي: صلاة الرجل مع الجماعة تزيد على صلاته في بيته وفي سوقه خمسة وعشرين ضعفاً، يعني: كأنه صلى ستاً وعشرين صلاة، والذي صلى وحده صلى صلاة واحدة، ومع ذلك لو أنه أعادها لم يبلغ درجة الصلاة مع الجماعة التي ذكر فضلها.

    قرأت في بعض الكتب أن رجلاً من الصالحين كان محافظاً على الصلاة، لم تفته صلاة الجماعة في وقت من الأوقات، إلا أنه مرة من المرات نعس بعد المغرب ففاتته صلاة العشاء فانتبه وقد صلوا، فجاء إلى المسجد خاشعاً باكياً خائفاً فصلى العشاء أربعاً ثم صلاها أربعاً ثم أربعاً ثم أربعاً حتى صلاها خمسةً وعشرين مرة، يريد بذلك أن يحصل له الأجر، وأخبر بعض العلماء فقال: فاتتك الدرجات، وفاتك استغفار الملائكة، وما أشبه ذلك، يعني أنك لو صليتها وكررتها لم تبلغ الدرجات التي حصل عليها من صلاها مع الجماعة، وهذا دليل على حرص السلف عليها، حيث إنه صلاها خمساً وعشرين مرة في ليلة واحدة، ومن الذي يستطيع أن يصلي العشاء التي هي أربع ركعات هذا العدد؟ لعله لم يفرغ إلا قبل صلاة الصبح.

    أسباب فضل صلاة الجماعة على صلاة المنفرد

    الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ذكر أسباب فضل صلاة الجماعة على صلاة المنفرد:

    السبب الأول: الخروج من المنزل بنية صالحة، وهو قوله: (لا يخرجه - وفي رواية: لا ينهزه- إلا الصلاة) يعني: إنما حركه إلى المسجد أداء هذه الصلاة، فهذا حسن النية، ما نهزه ولا دفعه ولا أخرجه إلى المسجد إلا الصلاة، ترك أشياء كان يشتغل بها، وقد يكون البيت دافئاً والطريق بارداً أو حاراً مثلاً، قد يكون مع أهله فيترك الأنس بأهله، قد يكون على فراش وطيء فيترك الفراش الوطيء ويذهب إلى المسجد محبة للصلاة، وقد يكون المسجد بعيداً فيصبر على البعد والمشقة، وهذا لا شك أنه من الأسباب التي تضاعف بها الجماعة.

    السبب الثاني: الخطوات، فالخطوات مكتوبة مع حسن النية، وفي الحديث: (لم يخطُ خطوة إلا رفع له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة)، ومن أجل هذا استحب بعض العلماء أنك إذا ذهبت إلى المسجد تقارب الخطى؛ حتى تكثر، فلا تسرع ولا تمد الخطوات بل تمشي بتؤدة وتأن، وقال في الحديث: (إذا سمعتم النداء للصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وائتوها وأنتم تمشون، وعليكم السكينة والوقار) فأمر المتوجه إلى المسجد بالمشي وألا يركب، ولا يسرع في مسيره، ولا يركض برجله، بل يمشي بتؤدة وبسكينة وبوقار.

    ولا شك أن هذا مما يدل على احترامه لهذه الصلاة وعظمتها في قلبه، وما ذاك إلا أنه يأتي إلى عبادة يجد فيها اللذة، ويجد فيها الانبساط والسرور والبهجة، يأتي إلى عبادة يجد فيها أنه يريح قلبه ويريح بدنه كما في الحديث: (أرحنا بالصلاة) وقوله: (وجعلت قرة عيني في الصلاة) فإذا كان كذلك أتى إليها بطمأنينة وبسكينة وبهيئة تدل على الاحترام، وتدل على المحبة والهيبة لهذه العبادة.

    وقد وردت أدلة كثيرة في الخطوات، منها قوله تعالى: وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ [يس:12] يعني: ونكتب آثارهم ذهاباً وإياباً، وورد أيضاً في حديث جابر قال: (كان رجل منزله بعيد لا أعلم أحداً أبعد منه، وكانت لا تخطئه صلاة، فقيل له: لو اشتريت حماراً تركبه في الرمضاء وفي الشتاء، فقال: ما أحب أن بيتي إلى جانب المسجد، إني أريد أن يكتب لي مجيئي إلى المسجد ورجوعي إلى أهلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد كتب لك ذلك كله) فهذا يأتي راجلاً من مكان بعيد ويعود راجلاً، وامتنع أن يركب حماراً، واحتسب خطواته، فبشره النبي صلى الله عليه وسلم بأنك تكتب لك خطواتك إذا أتيت إلى المسجد، وتكتب لك خطواتك إذا رجعت إلى منزلك؛ لأنك أتيت إلى عبادة ورجعت فارغاً من عبادة.

    ولما احتقر بعض الصحابة أعمالهم بالنسبة إلى أعمال الأغنياء؛ أرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى أعمال تقوم مقام العتق وتقوم مقام الصدقة والتبرعات ونحوها، فقال لهم: (إن لكم بكل تسبيحة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة، وبكل تحميدة صدقة، وبكل خطوة إلى المسجد صدقة)، فجعل كل خطوة صدقة، فهذه أدلة تدل على أن خطواتك إلى المسجد تكتب حسنات، وهذا مما تضاعف به صلاتك جماعة على صلاتك وحدك.

    السبب الثالث: أنك إذا صليت وبقيت في مصلاك بعدما تفرغ مشتغلاً بالذكر حظيت بشيء آخر وهو دعاء الملائكة، فالملائكة تصلي عليك وتقول: اللهم صل عليه، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، وصلاة الله ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى، ودعاء الملائكة واستغفارهم خاص بأهل الإيمان، قال تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر:7] إذاً: إذا استغفرت لك الملائكة بقولهم: اللهم صل عليه، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، فأنت من المؤمنين بنص هذه الآية: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر:7]، فهذا سبب.

    السبب الرابع: أن المصلي في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه، فلو تقدم قبل الأذان بساعة أو نحوها وجلس ينتظر الصلاة فهو في حكم المصلي، وكذلك إذا أتى بعد الأذان واشتغل بعبادة فإنه يكتب بأنه يصلي حتى في طريقه، وورد في حديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إذا أتى أحدكم إلى المسجد فلا يشبكن بين أصابعه فإنه في صلاة)، فجعله في حكم المصلي مادام أنه ما جاء به ولا دفع به إلا الصلاة، فهذا دليل واضح على أن هذه الأعمال تكون سبباً في مضاعفة العمل من واحد إلى خمس وعشرين ضعفاً.

    هذه هي أسباب مضاعفة صلاة الجماعة.

    1.   

    شرح حديث: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر)

    أما الحديث بعده فيتعلق أيضاً بصلاة الجماعة، قال صلى الله عليه وسلم: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً).

    المنافق هو الذي يخالط المسلمين وليس بمسلم، أو مسلم وليس بمؤمن، قلبه يضمر الكفر ويظهر الإيمان، أو هو مؤمن في الظاهر وليس بمؤمن في الباطن.

    المنافقون إذا لقوا المؤمنين ادعوا أنهم معهم، ولكنهم أعداء لهم في الباطن، وهم الذين ذكرهم الله تعالى بقوله: لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118]، وفي آيات كثيرة يذكر الله تعالى فيها مساوئهم وأعمالهم السيئة، فهؤلاء المنافقون تثقل عليهم الصلوات، يصلون مع الناس ولكن رياء وسمعة، وليس الدافع لهم الإيمان، ليس الدافع لهم طلب الثواب ولا طلب الأجر في الآخرة، ليسوا مصدقين في الحقيقة بالجزاء الأوفى، إنما يظهرون الإيمان ليحقنوا بذلك دماءهم، ويحفظوا بذلك أموالهم؛ لأنهم لو أظهروا الكفر لقتلوا، فلذلك تكون عليهم الصلوات ثقيلة، تثقل على نفوسهم، لا سيما صلاة الليل كصلاة العشاء وصلاة الفجر، فكلاهما تقع في ليل وتقع في ظلمة وتقع في وقت راحة، فهي ثقيلة عليهم فلا يأتونها إلا كسالى وربما لا يأتونها، قال تعالى: وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى [التوبة:54] فصلاة العشاء ثقيلة عليهم لأنها تقع في ظلمة، وكذلك صلاة الفجر تقع في وقت نوم وفي وقت راحة فهي ثقيلة عليهم، ولكنها ليست ثقيلة على المؤمنين بل كلها محبوبة وخفيفة عليهم.

    ويقول في هذا الحديث: (لو يعلمون ما فيهما من الأجر لأتوهما ولو حبواً) أي: ولو حبواً على الركب والأيدي كما يحبو الطفل، ولا شك أن فضلهما والأجر المرتب عليهما أجر عظيم، وكذلك بقية الصلوات، فلا شك أن الصلوات كلها فيها أجر وفي المحافظة عليها فضائل، ولكن في هاتين الصلاتين العشاء والفجر زيادة فضل وزيادة أجر، حيث إن فعلهما فيه مشقة، والعمل كلما كان شاقاً كلما كان الأجر عليه أعظم.

    الحث على شهود صلاة الفجر جماعة والأسباب المعينة على ذلك

    في هذه الأزمنة ابتلي الناس بالتأخر عن بعض الصلوات، وبالأخص صلاة الصبح، فكثير من الناس يحافظون على الصلوات الخمس ولكن صلاة الفجر يتأخرون عنها، بحيث إن المسجد الذي يصلي فيه أربعة صفوف لا يحضر في الفجر إلا صف أو صفان، ولا شك أن هذا من عدم احتساب هذه الصلاة، وقلة معرفة بقدرها وبأجرها وبما فيها من الثواب، أو تقديم لشهوات النفس على العبادات التي هي حق الله تعالى، ويتعللون بالنوم وبعدم الانتباه أو نحو ذلك.

    ونحن نقول: عليك أولاً ألا تسهر أكثر ليلك، بل تنام مبكراً بعدما تصلي العشاء بساعة ونحوها، لأن السنة أن تنام مبكراً وتستيقظ مبكراً حتى تصلي وترك آخر الليل أو على الأقل حتى تؤدي صلاة الفجر مع الجماعة.

    وعليك ثانياً أن تكون منتبهاً للصلاة، ومهتماً بها، ومشتغلاً بها في قلبك، والإنسان كلما اهتم بشيء فإنه يستعد له أشد استعداد، فإذا أعطى موعداً محدداً لم يستطع التأخر عنه، سواء زيارة أو نحو ذلك.

    ونشاهد مثلاً في هذه الأيام أن الناس صاروا ينتبهون مبكرين لأجل الدراسة، ولأجل تدريس أولادهم ونحو ذلك، ونشاهد أنهم يبكرون عند بائعي الخبز، وكثير من الذين لم يحضروا الصلاة مع الجماعة تراهم مبكرين عند بائعي الخبز أو في البقالات ونحوها، ولا شك أن الذي يدفعهم إلى الانتباه هو الدراسة ومقدماتها وما أشبه ذلك.

    إذاً: فالإنسان إذا اهتم بالصلاة استطاع أن يستيقظ في الوقت المحدد لها، أما إذا لم يكن مهتماً ولم يكن منتبهاً ولم يكن في قلبه دافع؛ فإن النوم يغلبه ولو نام عشر ساعات أو ثمان ساعات.

    وهناك سبب ثالث وقد يكون معيناً لك وهو: أن توكل من ينبهك إما أهلك وإما جيرانك ونحوهم، يطرق عليك باباً أو يضرب عليك جرساً، أو يتصل بك هاتفياً، أو نحو ذلك، أو تجعل عندك ساعة منبهة ذات جرس أو نحو ذلك، ولا شك أن هذه مساعدات، ولو أن الناس استعملوها وعملوا بها لما فاتتهم هذه الصلاة، ولما حصل عندهم هذا التأخر وهذا التكاسل.

    هم النبي عليه الصلاة والسلام تحريق بيوت من يصلون في بيوتهم

    في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم توعد المتخلفين عن صلاة الصبح أو غيرها بأن يحرقهم بالنار؛ لقوله في هذا الحديث: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق برجال معهم حزم من حطب إلى أناس لا يشهدون الصلاة -وفي رواية أبي داود : يصلون في بيوتهم- فأحرق عليهم بيوتهم بالنار) أليس الإحراق تعذيباً؟ أليس الإحراق قتلاً؟ لا شك أنه سيقتلهم بذلك.

    ما السبب أن يذهب إليهم بهذه الحزم من الحطب ويحرق عليهم بيوتهم؟ ليس لهم ذنب إلا أنهم يصلون في بيوتهم، فلأنهم لا يصلون الجماعة؛ فهم مستحقون لهذا، وفي بعض الروايات أنه ذكر المانع فقال: (لولا ما في البيوت من النساء والذرية لأحرقتها عليهم)، فاعتذر عن الفعل أن في البيوت من لا تجب عليهم الجماعة، ففي البيوت أطفال لم يكلفوا، وفي البيوت نساء ليس عليهن صلاة جماعة، فإحراقهم قد يكون إحراقاً لمن لا يستحق الإحراق، أو إحراقاً للمتاع والمال الذي لا ذنب له، فمنعه ذلك.

    ولم يقتلهم ولم يقاتلهم لأجل أنهم لم يعملوا عملاً ظاهراً أو لكون عملهم قد يكون خفياً، فهم أن يحرق عليهم بيوتهم وقت الصلاة، وهو الوقت الذي يشتغل فيه المصلون، فإذا قالوا: ما هو السبب؟ قال: لأنكم لم تصلوا، فالجماعة يصلون في المساجد وأنتم جالسون في بيوتكم؛ فتستحقون أن تحرق عليكم، وما منعه إلا أن في البيوت من لا يستحق الإحراق.

    لا شك أن هذا الفعل دليل على أهمية هذه الصلاة، ودليل على وجوب أداء الصلاة مع الجماعة ولو كان فعلها في البيوت كافياً لما هم بالإحراق، ولا يهم عليه الصلاة والسلام بأمر إلا وهو حق، ولا يهم بباطل؛ لأجل هذا الحديث ذهب العلماء الموثقون إلى أن صلاة الجماعة فرض على الرجال المكلفين، ويستثنى من ذلك النساء والصبيان فلا تجب عليهم صلاة الجماعة، ويعرف من ذلك أن من تركها أو تخلف عنها فإنه مذنب ولو أنه أسقط الواجب، ولكن لا يمنع أن يكون الفعل واجباً، وأن يثاب على فعله حيناً ويعاقب على فعله، فتكون صلاته في بيته يحصل به على درجة أو على ضعف واحد وتفوته المضاعفات الكثيرة، ويستحق العقاب على تركه لصلاة الجماعة، فيثاب من جهة ويعاقب من جهة.

    وبكل حال فإن صلاة الجماعة عند المحققين من العلماء فرض على الأعيان، لكل من ليس له عذر، ودليل ذلك الحديث الصحيح الذي يقول فيه: (من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر) وفسر العذر بأنه خوف أو مطر أو مرض، يعني: الأعذار المانعة العائقة عن الإتيان إلى المساجد، فإذا لم يكن للإنسان عذر وصلى في بيته فإنه -وإن أسقط عنه فرض الصلاة- يستحق العقاب على التخلف، حيث ترك ما هو مأمور به، وترك المحافظة على هذه الصلاة، زيادة على ما يفوته من الحسنات ومن المضاعفات، وزيادة على ما يفوته من الحكم والمصالح التي شرعت لأجلها الجماعة.

    ونحث كل مسلم على أن يكون مهتماً بأداء الصلاة في المساجد حيث ينادى بها كما حث على ذلك ابن مسعود رضي الله عنه في قوله: (إن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى-يعني: هذه الصلوات- حيث ينادى لها، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق أو مريض، وإنه كان ليؤتى بالرجل يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف).

    هذه حالة الصحابة في وقت النبي صلى الله عليه وسلم، لا يتخلف عنها إلا المنافق الذي عرفوا أنه منافق، وكان المريض يتكلف ويؤتى به يعضد له بين رجلين؛ كل ذلك محبة لأداء الصلاة مع الجماعة، فعلى كل مسلم أن يكون مهتماً بأداء الصلوات في الجماعة، وأن يحرض أولاده وإخوته وجيرانه على أداء صلاة الجماعة؛ ليحصل على الفضل ويسلم من الإثم.

    1.   

    شرح حديث: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)

    قال المؤلف رحمه الله: [عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها، قال: فقال بلال بن عبد الله : والله لنمنعهنَّ، قال: فأقبل عليه عبد الله فسبه سباً ما سمعته سبه مثله قط، فقال: أُخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: والله لنمنعهنَّ!) ، وفي لفظ لـمسلم : (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله).

    وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين قبل الظهر وركعتين بعد الجمعة وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء) ، وفي لفظ: (فأما المغرب والعشاء والفجر والجمعة ففي بيته) ، وفي لفظ للبخاري : أن ابن عمر قال: حدثتني حفصة : (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي سجدتين خفيفتين بعدما يطلع الفجر، وكانت ساعة لا أدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فيها).

    وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر) ، وفي لفظ لـمسلم : (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها)].

    صلاة النساء في المساجد

    الحديث الأول يتعلق بصلاة النساء في المساجد، وكان نساء يصلين مع النبي صلى الله عليه وسلم حرصاً على الاقتداء به، وحرصاً على مضاعفة الصلاة، وحرصاً على الصلاة في المسجد، ولكن كُنَّ محتشمات في غاية التستر، كما قالت عائشة : (كان نساء يشهدن الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم متلففات بمروطهنَّ، ينصرفن ولا يعرفهنَّ أحد من الغلس) وكونها متلففة، أي: مرتدية بردائها بحيث إنها تخرج متسترة في غاية التستر.

    فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر بالإذن لها في هذا الحديث: (إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها) ، وفي الرواية الثانية: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) (إماء الله) جمع أمة، الأمة هي المملوكة، أي: أنهن ملك لله كما أنكم ملكه، فأنتم عبيد الله وهن إماء الله، وكما أنكم تعبدون الله وأنتم مماليك له، فكذلك نساؤكم يعبدن الله وهن مماليك له، وكما أنكم ترغبون في الخير وتحبون مضاعفة الأجر فهنَّ كذلك يرغبن في مضاعفته.

    وقد كان نساء يصلين مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تحضر المرأة ومعها طفلها، فثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إني لأكبر في الصلاة أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي فأوجز في صلاتي كراهة أن أشق على أمه)، وهذا يدل على أن أمه قد كبرت للصلاة، وأنها لا تتفرغ له حتى تنصرف من صلاتها، ولو بكى ولو صرخ، فهو عليه الصلاة والسلام يراعي شفقتها، ويخفف الصلاة التي كان يريد إطالتها.

    ولكن ثبت أيضاً أنه حث النساء على البعد عن الرجال، وحث الرجال على البعد من النساء، فقال عليه الصلاة والسلام: (خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها)، يعني: أن آخرها أقرب إلى النساء فهو شرها، (وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها)، لما كان أولها قد يتصل بصفوف الرجال أو قد يراه المتأخرون من الرجال كان شرها، وكان خيرها آخرها لكونه بعيداً عن الرجال، وهذا فيما إذا كان النساء متصلة صفوفهن بصفوف الرجال، وليس بينهم شيء من الحواجز، فمثل هذا يكون آخر صفوف النساء خيرها، أما إذا كان بينهم حاجز منيع -كما في هذه الأزمنة حيث يستمعن الصلاة بواسطة المكبر ولو كن بعيداً- فنرى أن صفوفهن كصفوف الرجال، يعني: أن أولها خيرها لعدم الاختلاط.

    في هذا الحديث أن ابن عبد الله بن عمر كأنه حملته الغيرة على نسائه فهمّ أن يمنع امرأته أو يمنع نساءه من المسجد، وكأنه رأى أن خروج النساء فتنة، فقال: (والله لنمنعهنَّ)، ولما تكلم كلاماً بدون تأدب ويظهر منه الاعتراض على الحديث؛ غضب والده وسبه على هذا الاعتراض، إذ كيف يعترض على قول النبي صلى الله عليه وسلم اعتراضاً بدون مقدمات؟!

    ومعلوم أنه رحمه الله إنما حملته الغيرة، وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء بعده لمنعهنَّ المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل)، وذكرت عائشة أن النساء في زمنها أحدثن أشياء تستحق المرأة أن تُمنع لأجلها، وكأنها رأت شيئاً من التجمل ومن اللباس ومن التعطر الذي قد يخشى منه الفتنة، وذلك لأن خروج النساء فتنة كما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم: (إنكنَّ تفتنَّ الحي وتؤذين الميت).

    فخروجها إذا كان في زمن قد استتب فيه الأمن، وقد عرف الناس فيه الحق وعملوا به، ولم يكن هناك شيء من الخوف، وكان الناس على جانب متين من الديانة، وكان الرجال معهم الورع، ومعهم الخوف من الله تعالى، والنساء معهنَّ الاحتشام والتستر والبعد عن الاحتكاك بالرجال والبعد عن الفتنة وأسباب الفتنة من التعطر والتجمل والتكشف والتطيب وما أشبه ذلك، إذا كان ذلك كذلك فإنها تخرج، فأما إذا تغيرت الحال -كما ذكرت عائشة - فإن الأولى أن تجلس في بيتها كما نص على ذلك العلماء وكما ورد في بعض الأحاديث، ففي حديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: (صلاتها في مسجد حيها أفضل من صلاتها في المسجد الكبير -الجامع-، وصلاتها في سوقها أفضل من صلاتها في مسجد حيها، وصلاتها في رحبة دارها أفضل من صلاتها في مسجد الحي، وصلاتها في أقصى حجرتها أفضل من صلاتها في رحبة بيتها) فكانت المرأة تتحرى أظلم مكان في بيتها فتصلي فيه ولو أنها متسترة.

    خروج النساء إلى المسجد وهن تفلات

    أذن النبي عليه الصلاة والسلام للنساء في الخروج إلى المسجد، واشترط التبذل فقال: (وليخرجن تفلات)، والتفلة هي: الغير المتبرجة، يعني: تخرج بثياب بذلة لا بثياب زينة، ولا بثياب جمال، ولا بشيء يلفت الأنظار، ولا تتعطر، ولا تتخضب، ولا تتطيب، ولا يكون معها شيء مما يكون لافتاً لأنظار الناس إليها، وألا تكون شابةً بحيث يفتتن بها الرجال، وألا تقترب من صفوفهم، وأن تحذر من مزاحمة الرجال، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا انصرف من الصلاة مكث قليلاً قبل الانصراف بوجهه حتى لا ينصرف الرجال مع النساء، بل يمهل حتى يخرج النساء ويتمادين في المسير، ولا يكون بذلك احتكاك ولا ازدحام عند الأبواب.

    عرفنا أن ابن عمر رضي الله عنه روى الحديث على ظاهره، وأن ولده بلالا لم يعترض إلا لما رأى من المخاوف، ولما خافه من المفسدة، وإلا فهو أجل من أن يعترض على كلام الرسول صلى الله عليه وسلم.

    وقد روي أن عمر رضي الله عنه كان له امرأة محتشمة، وكانت تُحب أن تصلي في المسجد، فطلبت منه أن يأذن لها، ولكنه نصح وقال: (صلاتك في بيتك أفضل) فقالت: أحب الصلاة في المسجد مع الجماعة فلم يستطع أن يمنعها، وقد سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم : (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)، ثم إنه احتال حيلة تسبب توقفها، فلما علم أنها ستخرج في وقت العشاء وقف لها في الطريق في مكان مظلم مختفياً في زاوية من الزوايا، فلما مرت به وعرفها جاءها من خلفها وضربها بيده على عجيزتها، وهرب كأنه يريد السوء، فلما فعل ذلك وهي لم تعرفه رجعت إلى بيتها وبقيت، وسألها بعد ذلك وقال: (لماذا لا تخرجين إلى المسجد؟ فقالت: كنا نخرج والناس ناس، فأما الآن فإن الناس ذئاب) أو كما قالت، فهذه حيلة منه رضي الله عنه، وهو دليل على شدة غيرته، وأنه يخشى أن تتعرض- وإن كانت عفيفة- لبعض الفتن، إما أن تفتتن وإما أن يُفتتن بها، وإن كان ذلك مأموناً في ذلك الزمان.

    وبكل حال فخروج النساء إلى المساجد إذا كن في غاية من التستر والتبذل والاحتشام لا بأس به، ولكن بيوتهنَّ خير لهنَّ سيما في الأزمنة المتأخرة، سيما والنساء قد أحدثن أكثر مما ذكرت عائشة في قولها: (لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما أحدثه النساء لمنعهنَّ المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل).

    1.   

    شرح حديث: (صليت مع رسول الله ركعتين قبل الظهر .. .)

    هذا الحديث يتعلق بالسنن الرواتب وتسمى أيضاً صلاة التطوع، وفي هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يحافظ على عشر ركعات تسمى الرواتب، وهي قبلية وبعدية: كان يصلي ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر، هذه الرواتب كان يحافظ عليها طوال وقته إلا إذا سافر فإنه كان يترخص بتركها إلا سنة الفجر.

    ولا شك أن هذه السنن نوافل وعبادات من جنس الصلاة، والصلاة من أفضل ما يتقرب به العبد إلى الله سبحانه وتعالى، فلما كانت من أفضل القربات شرع أن يتنفل، وشرع أن يأتي بزيادة على الفرائض، وأهم ذلك وأفضله ما كان قبل الفريضة أو بعدها في وقتها أو في موضعها، فإن ذلك مما يسهل ومما يهون، حيث إنك تتوضأ للظهر وتصلي سنتها القبلية، وتصلي سنتها البعدية بذلك الوضوء، ولا يكون عليك مشقة.

    وهكذا تصلي سنة المغرب بعده، وسنة العشاء بعده، ولا يكون عليك بذلك مشقة، وهكذا أيضاً سنة الفجر تصليها بوضوء واحد ولا يكون عليك مشقة، وقد روي أن الحكمة فيها أنها جبر للنقص الذي يحصل في الفرائض، وفي بعض الأحاديث أنه ينظر في صلاة العبد، فإذا لم يكملها قال الله : (انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فتكمل بها الفريضة) فإذا كانت الفريضة فيها شيء من النقص والخلل؛ فإن الله يُكملها بهذه السنن التي يتطوع بها، وإذا كانت الفريضة كاملة فإن هذه السنن تكون قربات يرفع الله بها العبد درجات، ويثيبه عليها حسنات، وما أعظم ذلك من أجر! فعلى المسلم ألا يحرم نفسه من هذا الأجر، وأن يكثر من النوافل.

    أهمية سنة الفجر

    أهم هذه الصلوات التي تُسمى الرواتب سنة الفجر، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحافظ عليها ويتعهدها في سفره وفي حضره، كما في حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على سنة الفجر أو على ركعتي الفجر، يعني: أنه يُحافظ عليها أشد المحافظة.

    وقد روي عنه عليه السلام أنه قال : (صلوهما ولو طردتكم الخيل) يعني: ولو كنتم في حال المسايفة فلا تفوتوا هاتين الركعتين اللتين هما سنة الفجر، ولعل سبب المحافظة عليها أن صلاة الفجر إنما هي ركعتان، فلما كان عددها قليلاً تأكد أن يضاف إليها ركعتان قبلها كسنة، ويكون ذلك جبراً لنقصها، هكذا قالوا.

    وقيل: لأنها بعيدة عن الصلوات، فقبلها نحو تسع ساعات لا صلاة فيها، وبعدها ثمان أو سبع ساعات لا صلاة فيها، يعني: ما بينها وبين الظهر، وما بينها وبين العشاء، فكان من المؤكد أن يصلى معها نافلة، ليكون عمل في هذا الوقت صلاة تطوع وصلاة فرض.

    ومن فضلها هذا الحديث الذي يقول فيه: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها)، أي: ثوابها خير من أن تحصل لك الدنيا بحذافيرها، ومعلوم أن الدنيا وما فيها متاع قليل، يذهب عن الإنسان ويبقى عليه حسابه، وأما عمل الآخرة فإنه يثاب عليه، فذرة من ذرات الآخرة من حسناته خير من متاع الدنيا بأكمله. وبكل حال فإنه عليه الصلاة والسلام حافظ عليها في سفره ولم يتركها، فضلاً عن الحضر، فدل ذلك على تأكدها.

    وهاتان الركعتان لهما أحكام كثيرة، وقد أفردها بعض المؤلفين في كتاب مستقل، مما يدل على كثرة الأحكام التي تتعلق بها؛ في كيفيتها، وفي تخفيفها، والحكمة في ذلك، وفي قضائها متى تقضى إذا فاتت، وما أشبه ذلك مما هو معروف مشهور.

    المحافظة على الرواتب

    بقية النوافل -التي هي الرواتب- يسن أيضاً المحافظة عليها، وورد أيضاً أنه كان صلى الله عليه وسلم يصلي أربعاً قبل الظهر، فعلى هذا تكون اثنتي عشرة ركعة: أربعاً قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر، فتكون اثنتي عشرة، يضاف إليهن أنه عليه السلام كان يوتر بإحدى عشرة ركعة فتكون ثلاثاً وعشرين، ويضاف إليهن سبع عشرة التي هي الفرائض فتكون أربعين، وورد في بعض الآثار أن من ضرب الباب أربعين مرةً يوشك أن يفتح له، فإذا كنت تحافظ كل يوم على أربعين ركعة فإن ذلك حري أن تقبل منك صلاتك، وكل يوم يصعد لك أربعون ركعة.

    وإذا صعب عليك قيام التهجد فزد من الركعات ما يتمه، مثلاً صل قبل الظهر أربعاً وبعدها أربعاً، وقبل العصر أربع ركعات، وقبل المغرب ركعتين، وقبل العشاء ركعتين، فيتم بذلك قريب من الأربعين مع الوتر ثلاث، فتكون بذلك قد أضفت زيادات، وذلك خير كثير، وكان كثير من العلماء ومن العباد يضيفون إلى ذلك عشرين ركعة زيادة على اثنتي عشرة، وكل ذلك من العمل المبرور، فالإنسان عليه ألا يمل من الخير، فإن العبادة محبوبة عند الله، وأفضل العبادة الصلاة، وقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام أوصى بعض أصحابه لما قال له: أسألك مرافقتك في الجنة فقال: (أو غير ذلك؟ قال: هو ذاك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود) يعني: بكثرة الصلوات التي هي من التطوعات.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756000825