إسلام ويب

شرح عمدة الأحكام [5]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • شرع الله للمؤمن التطهر من الجنابة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم صفة هذه الطهارة، وبين ما يترتب على نزول المني وعلى إيلاج الذكر من أحكام، بل بين مقدار ما يتطهر به من الماء.

    1.   

    الأحكام المتعلقة بالجنابة

    المؤمن لا ينجس

    قال المصنف رحمه الله: [باب الغسل من الجنابة:

    عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنب قال: فانخنست منه فذهبت فاغتسلت ثم جئت، فقال: أين كنت يا أبا هريرة؟ فقلت: كنت جنباً فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة، فقال: سبحان الله! إن المسلم -وفي رواية: المؤمن- لا ينجس)].

    هذا الحديث يتعلق بباب الغسل فذكر فيه أبو هريرة أنه كان جنباً ودخل السوق وعليه جنابة، فصادف أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم، فاستحيا وكره أن يجلس معه عليه الصلاة والسلام وهو جنب، فذهب مختفياً ورجع إلى بيته فاغتسل، وبعدما اغتسل جاء، فاستنكر النبي صلى الله عليه وسلم منه ذلك الذهاب بدون استئذان، ولما رجع سأله، فأخبره بعذره، فاستغرب ذلك وسبّح الله تعجباً، وأخبر بأن المؤمن طاهر البدن ولا ينجس، وإنما النجس هم الكفار، كما في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28].

    فقوله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه في بعض طرق المدينة) يعني: في بعض أزقتها وأسواقها، قوله: (لقيه) بمعنى: نظر إليه وتقابل هو وإياه، وقوله: (وهو جنب) أي: عليه جنابة، أما من جماع، وإما من احتلام، ولا تصح عبادته إلا بعد الغسل، وذلك أن الله تعالى أوجب الطهارة الصغرى للحدث نفسه، وهي الوضوء كما تقدم، وأوجب الطهارة الكبرى التي هي الغسل إذا كان هناك جنابة، فقال تعالى: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [النساء:43] يعني: لا تفعلوا الصلاة وأنتم جنب حتى تغتسلوا، وقال تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6]، وسمي الجنب جنباً؛ لأنه يتجنب أشياء لا يتجنبها غيره، فالجنب يتجنب الصلاة، ويتجنب المساجد، ويتجنب قراءة القرآن، ويتجنب الطواف بالبيت، ويتجنب مس المصحف ولو لغير قراءة، وأمر بأن يبادر بالاغتسال حتى يزيل ذلك الأثر، أو تلك النجاسة التي هي نجاسة معنوية.

    ولكن يجوز أن يؤخر الجنب الاغتسال إلى الوقت الذي يحتاج فيه إلى عبادة، فهذا أبو هريرة أخر الاغتسال وأصبح جنباً إما من احتلام وإما من جماع ودخل السوق وذلك في وقت الضحى لقضاء حاجة أو نحوها دون أن يغتسل، فدل على أنه كان قد عرف أنه يجوز تأخير الغسل من الجنابة.

    وقد ثبت أن الصحابة رضي الله عنهم إذا أصاب أحدهم جنابة ولم يجد ماء ليغتسل به في الوقت القريب، ويخشى أن تفوته المجالس العلمية فإنه يتوضأ ويدخل المسجد لحضور مجالس النبي صلى الله عليه وسلم التعليمية، فيقتصر على الوضوء؛ لأن الوضوء يخفف الجنابة فـأبو هريرة أخر الاغتسال لأجل حاجة، ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم كان من احترامه ومن تعظيمه له ألا يجالسه وهو على تلك الحال، فرأى أن يذهب إلى البيت حتى يغتسل ويتطهر، فيقول: (انخنست)، يعني: ذهبت بخفية إلى البيت واغتسلت، والاغتسال معروف.

    وأما قوله: (أين كنت) يعني: لماذا ذهبت يا أبا هريرة واختفيت عنا وقد رأيناك؟ فقال: (إني كنت جنباً) كلمة (جنب) تصدق على الرجل والمرأة والجماعة وغيرهم فيقال: هؤلاء الجماعة جنب، وهذا الرجل جنب، وهذه المرأة جنب، يعني: كل منهم عليه جنابة، وقوله: (فاستحييت) وفي رواية: (فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة)، كأنه رأى حرمة النبي صلى الله عليه وسلم وقداسته، ورأى أنه إذا جالسه لا بد أن يسمع منه قرآناً أو لا بد أن يسمع منه حديثاً، أو رأى أن النبي صلى الله عليه وسلم لا تجوز مجالسته إلا على طهارة كاملة، فذهب واغتسل، ولكن بين له النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك لا يهم وأن المؤمن طاهر وإن كان عليه جنابة.

    فقوله: (إن المسلم لا ينجس) وفي رواية: (إن المؤمن لا ينجس) معناه: أن المؤمن موصوف بأنه طاهر طهارة معنوية؛ لأن الإيمان طهر أهله، فالإسلام والإيمان طهر المسلمين من الشرك، أما المشركون فإنهم نجس كما ذكر الله تعالى، وإن كانت النجاسة ليست حسية، ففي هذا دليل على جواز مجالسة الجنب، ومصافحته، وأن الجنابة لا تتعدى، بل يجوز أن تجالسه وأن تصافحه وأن تخاطبه وأن تكلمه وأن تمسه، ولا ينالك شيء من نجاسته فهو طاهر طهره الإيمان، وإنما عليه هذا الحدث، وهذا الحدث لا يسمى نجاسة وإنما يسمى حدثاً يسبب الاغتسال.

    صفة الاغتسال من الجنابة

    قال المؤلف: [عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة، غسل يديه ثم توضأ وضوءه للصلاة، ثم يغتسل، ثم يخلل بيديه شعره، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض الماء عليه ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده).

    وكانت تقول: (كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، نغترف منه جميعاً).

    وعن ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: (وضعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وضوء الجنابة، فأكفأ بيمينه على يساره مرتين أو ثلاثاً، ثم غسل فرجه، ثم ضرب يده بالأرض أو الحائط مرتين أو ثلاثاً، ثم تمضمض واستنشق، وغسل وجهه وذراعيه، ثم أفاض على رأسه الماء، ثم غسل سائر جسده، ثم تنحى فغسل رجليه، قالت: فأتيته بخرقة فلم يردها، فجعل ينفض الماء بيديه)].

    هذه الأحاديث في صفة الغسل من الجنابة، وسيأتينا ما يدل على وجوبه في الأحاديث الآتية إن شاء الله، وقد ذكر الله وجوبه بالإجمال في قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6] أي: متى أصابت أحدكم جنابة فليطهر، وفي قوله تعالى: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [النساء:43].

    والاغتسال: تعميم الجسد كله بالماء، فالآية فيها إجمال وفيها ذكر للاغتسال المجزئ.

    بيان صفة الاغتسال المجزئ والاغتسال الكامل

    الاغتسال نوعان: مجزئ، وكامل.

    فالمجزئ: هو أن يعمم جسده كله بالماء أعلاه وأسفله، بحيث لا يترك من جسده شيئاً إلا أوصل الماء إليه، ويتعاهد الأماكن التي لا يصل إليها الماء إلا بصعوبة فيدلك رأسه؛ لأنه ورد أن تحت كل شعرة جنابة، ويدلك الأماكن المنخفضة كالسرة، والآباط، وبطون الركبتين، وبطون الفخذين، حتى يتأكد من وصول الماء إلى جسده.

    إذا عمم جسده كله بالماء يعتبر قد ارتفع عنه الحدث الأكبر، سواء بدأ برجليه أو بدأ برأسه أو بدأ بجنبه أو بغير ذلك.

    وأما إذا أراد الغسل الكامل؛ فإن عليه أن يعمل بهذه الأحاديث التي ذكرت فيها صفة غسل النبي صلى الله عليه وسلم.

    وقد ورد أيضاً أشياء لم تذكر فيها، ولكن ذكرت في غيرها، فمثلاً: النية لا بد منها، وذلك لأن الاغتسال عمل ولا بد فيه من النية، فينوي رفع الحدث وينوي إزالة الجنابة التي اتصف بها؛ لقوله في الحديث: (إنما الأعمال بالنيات)، فمن اغتسل بدون نية لم يرتفع حدثه.

    وبعد أن ينوي يسمّي، فإن التسمية قد أوجبها بعض العلماء لورودها في بعض الأحاديث في الوضوء، والغسل يقوم مقام الوضوء.

    وبعد التسمية يبدأ بالفعل، ففي حديث عائشة وكذلك في حديث ميمونة أنه غسل يديه، تقول ميمونة : (إنه أكفأ على يديه فغسلهما ثلاثاً أو مرتين) يعني: لم يدخل يده في الإناء حتى صب على يديه فغسلهما، (وكان يغتسل من قدح أو من إناء، يقال له: الفرق يسع ثلاثة آصع)، فيفيض من الإناء حتى يصب على يده فيغسل كفيه، أي: يبدأ بتنظيفهما وإزالة النجاسة عنهما؛ لأن يديه هما الآلة التي يغترف بهما، فإذا نظف يديه ابتدأ بالاغتراف.

    وذلك أنه يغسل فرجه أولاً، أي: يستنجي، وقد يكون الفرج علق به أو بقي فيه شيء من آثار المني، فإذا نظف أثره قد يبقى في اليد فيها شيء من اللزوجة من آثار المني ونحوه، فيضرب بها الأرض أو الحائط الذي هو الجدار المبني من الطين حتى يعلق بها تراب ثم يغسلها بذلك التراب ليزيل أثر تلك اللزوجة، أو يغسلها بما يزيل ذلك، ولعله يريد بذلك مسح ما علق بها، أو يريد بذلك غسلها بتراب أو نحوه، وإذا وجد ما يزيل ذلك الأثر غير التراب كالصابون استعمله، والحاصل أنه إذا علق بيده شيء من لزوجة المني فإن عليه أن يزيلها حتى ينظف يديه للاغتراف، والمراد هنا اليد اليسرى التي باشر بها غسل فرجه، أما اليد اليمنى فإنه معلوم أنه يغترف بها.

    بعد ذلك ذكرت عائشة : (أنه توضأ وضوءه للصلاة) وفصلت ذلك ميمونة فذكرت: (أنه تمضمض ثلاثاً واستنشق ثلاثاً وغسل وجهه وغسل يديه -يعني: ذراعية- ولم يغسل رجليه، بل أخر غسلهما إلى أن فرغ)، ولكن إطلاق عائشة يقتضي أنه غسل رجليه أيضاً، ولعله هو الأولى، أعني أن الأولى أن يتوضأ وضوءاً كاملاً بما في ذلك غسل القدمين، فإذا فرغ من الوضوء الكامل ابتدأ في الغسل.

    فأول شيء يبدأ به غسل رأسه، ومعلوم أنه قد يكون على رأسه شعر فيقوم بتخليله، وهو إدخال الأصابع في خلال الشعر حتى يتحقق أنه قد وصل الماء إلى بشرة الرأس.

    ثم ذكرت: (أنه أفاض على رأسه ثلاثاً)، يعني: صب عليه ودلكه ثلاث مرات زيادة على التأكد قبل ذلك بتخليله، وذلك كله محافظة على غسل الرأس حتى لا يبقى شيء لم يمسه؛ لأن جلدته تغطى بالشعر، وتحت كل شعرة جنابة، فلا بد من التأكد، ولأن في الوجه وفي الرأس مغابن تحتاج إلى تعاهد كالأذنين، وكذلك العينان، وكذلك العنق، فلا بد من التأكد حتى يرتفع الحدث عنه.

    بعد ذلك ذكرت أنه غسل سائر جسده أو أفاض الماء على سائر جسده، لكن ورد في بعض الأحاديث البدء بالشق الأيمن، وأخذ ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما غسلت بنته: (ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها)، فاستحب أن يبدأ بشقه الأيمن ثم بشقه الأيسر، أو بمنكبه الأيمن ثم الأيسر، وجنبه الأيمن ثم الأيسر، وفخذه الأيمن ثم الأيسر .. وهكذا.

    والحاصل أنه لا بد من تعميم الجسد بالماء.

    استحب بعض العلماء أن يغسل جسده ثلاثاً، وبعضهم يقول: لا يستحب؛ لأنه لم يرد، ولكن قد يحتاج إليه إذا كان عليه وسخ أو لم يتحقق وصول الماء أو نحو ذلك، وأوجب بعضهم أن يمر يديه على ما يستطيعه من جسده وبعضهم يقول: ليس بواجب، ولكن الاحتياط أنه يدلك ما يستطيعه، فيمر يديه على بطنه وعلى ما يستطيع من ظهره، وعلى أسفل بطنه وأسفل ظهره، وعلى فخذيه وساقيه وعلى عضديه ومنكبيه وعنقه، يتعهد ذلك كله ويدلكه، فإن هذا هو حقيقة الغسل.

    الغسل في الأصل هو إمرار اليد على المغسول، فإذا استطاع ذلك فليفعل وإن لم يستطع إيصال يديه إلى مؤخر ظهره اكتفى بصب الماء عليه.

    ذكرت ميمونة : (أنه بعد فراغه تنحى وغسل قدميه في موضع غير الموضع الذي اغتسل فيه)؛ وذلك لأن رجليه كانتا في مستنقع الماء وقد ابتلتا بذلك الغسال فأراد تنقيتهما، فتنحى عن ذلك الماء وغسلهما من باب التنظيف أو من باب غسل جميع جسده.

    وذكرت عائشة : (أنها كانت تغتسل هي والنبي صلى الله عليه وسلم جميعاً يغترفان من إناء واحد، تقول: تختلف فيه أيدينا حتى أقول: دع لي ويقول: دعي لي) يعني: إذا كان في آخره، وذلك دليل على جواز اغتسال الرجل وامرأته جميعاً، وكان ذلك في بيت مظلم قد لا يرى أحدهما عورة الآخر، وإن كان مباحاً للرجل أن ينظر إلى جسد امرأته وكذلك المرأة بالنسبة إلى زوجها، وبكل حال فإن هذا فيه وصف هذا الاغتسال.

    معلوم أن الناس في هذه الأزمنة قد توسعوا، وبالأخص في المدن، فصاروا يغتسلون تحت ذلك الرشاش الذي يرش الماء، ويقف الإنسان تحته فيعم جسده، ولكن على كل حال فالعمل بالسنة ممكن، فممكن لك قبل أن تبدأ بالاغتسال أن تغسل يديك وأن تستنجي وأن تتوضأ وضوءاً كاملاً، وممكن لك إذا كنت تحت الرشاش أن تبدأ بغسل رأسك وأن تخلله حتى تتأكد من وصول الماء إلى البشرة، وأن تثلث بعد ذلك، بأن تتركه يصب على رأسك ثلاثاً، ويمكنك بعد ذلك أن تبدأ بالجانب الأيمن فتدلكه ثم الأيسر، ويمكنك أن تثلث، يعني: أن تمر الماء على جسدك ثلاث مرات، ويمكنك أن تحرص على إمرار يديك على جسدك ودلك ما تستطيع دلكه.

    وأما غسل الرجلين في الآخر، فإن كانت الرجلان في الماء المستنقع تحت قدميك، فإن عليك أن تخرج وأن تغسلهما في مكان نظيف، وإن لم يكن هناك مستنقع وتحققت أنك قد غسلتهما حصلت بذلك النظافة، وبكل حال فإن هذا فيه بيان غسل الجنابة الذي يعتبر كاملاً.

    وجعله بعضهم منحصراً في عشرة أشياء:

    أولاً: النية، ثانياً: التسمية، ثالثاً: الاستنجاء، رابعاً: تنظيف اليدين بعد الاستنجاء مما يعلق بهما، خامساً: الوضوء الكامل، سادساً: تثليث الرأس وتخليل الشعر، سابعاً: تعميم الجسد بالماء كله، ثامناً: التيمن، تاسعاً: إمرار اليد على المغسول بحسب الاستطاعة، عاشراً: التثليث يعني: سنية أن يكرر غسل كل عضو ثلاث مرات، وزاد بعضهم الحادي عشر: إذا كانت رجلاه في مستنقع أن يغسلهما في مكان آخر.

    حكم نوم الجنب قبل الاغتسال

    قال المؤلف: [وعن عبد الله بن عمر ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم، إذا توضأ أحدكم فليرقد وهو جنب).

    وعن أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (جاءت أم سليم امرأة أبي طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم إذا هي رأت الماء)].

    حديث ابن عمر يتعلق بالجنابة وجواز أن ينام الجنب قبل أن يغتسل، ولكن عليه أن يتوضأ قبل أن ينام، ورد في ذلك عدة أحاديث فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم وفيها فعله أمر من كان جنباً ولم يتيسر له أن يغتسل أن يخفف الجنابة بالوضوء ثم ينام؛ وذلك لأنه قد يشق عليه الاغتسال في أول الليل إما لبرد وإما لقلق وإما لعدم توافر ماء أو نحو ذلك من الأعذار، فإذا لم يتيسر وأراد أن ينام فعليه أن يخفف ذلك الحدث بأن يتوضأ، وبعض العلماء يقول: عليه أن يستنجي ويتوضأ.

    والاستنجاء: هو غسل الفرج وغسل آثار المني، والوضوء: هو غسل الأعضاء الظاهرة المذكورة في قوله: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6] إلى آخره.

    هذا الوضوء ذهب بعضهم إلى أنه واجب، وأنه يحرم على الجنب أن ينام على جنابة قبل أن يتوضأ؛ لظاهر هذا الحديث ولأحاديث أُخر، ظاهرها الإلزام، ولكن الصحيح أنه للاستحباب؛ وذلك لأنه ثبت عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينام وهو جنب من غير أن يمس ماءً) وهو القدوة، يعني: أنه قد يشق عليه أحياناً الوضوء فينام بعد الجماع ولا يتوضأ ولا يستنجي ولا يغتسل، وذلك لبيان الجواز، وأن الأمر ليس للوجوب ولكنه للاستحباب.

    استحباب وضوء الجنب قبل النوم والأكل والمعاودة

    وهناك حالات ثلاث للجنب:

    الحالة الأولى: أن الأفضل أن لا ينام إذا جامع في أول الليل إلا بعد أن يغتسل، حتى ينام على طهارة، بل ورد الأمر بالنوم على طهارة لغير الجنب في حديث البراء المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم قل: اللهم أسلمت نفسي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فإن مت على ذلك مت على الفطرة).

    الشاهد منه: أنه أمره بأن يتوضأ قبل أن ينام، فيكون النوم على طهارة من القربات، ومن أفضل الأعمال، والجنب يتأكد في حقه أن ينام على طهارة كغيره، وذكر بعضهم الحكمة في ذلك، قالوا: إنه إذا نام صعدت روحه إلى السماء، فإذا كانت على طهارة أذن لها في السجود فإذا لم تكن على طهارة لم يؤذن لها، هكذا علل بعضهم، أو حكاه عن بعض السلف.

    والحالة الثانية: إذا لم يتيسر له الاغتسال فإنه يتوضأ والوضوء بلا شك يخفف من الحدث الأكبر، فقد ثبت أن الصحابة رضي الله عنهم يدخلون المسجد في الحلقات العلمية وعليهم جنابة بعدما يتوضئون، فيجلسون في المسجد لاستماع الفوائد.

    وقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام منع الجنب من دخول المسجد؛ لقوله: (لا أحل المسجد لحائض ولا جنب)، ولكن إذا احتاج الجنب إلى أن يدخل المسجد ويجلس فيه لحاجة، فإنه يخفف ذلك بالوضوء، فكذلك إذا أراد أن ينام يخفف الجنابة بالوضوء حتى يتمكن مما أمر الله به، ومن أجل أن يؤذن للروح بالسجود إذا صعدت.

    والحالة الثالثة: إذا لم يتيسر له ذلك فإنه ينام وهو جنب من غير أن يمس ماءً؛ كما ورد ذلك عن عائشة.

    فأكمل الحالات الغسل، ثم يليه الوضوء كما جاء في الحديث.

    وقد ورد أيضاً حديث آخر وفيه أمر الجنب أن يتوضأ عند الأكل، وذلك لغلظ الحدث فيخفف الحدث بالوضوء؛ لأن تناول الطعام من جملة النعم التي تحتاج أن يتناولها وهو على هيئة كاملة من الطهارة من الحدث أو تخفيف الحدث.

    وورد أيضاً الأمر بالوضوء عند معاودة الوطء وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا جامع أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ)، فلأجل ذلك استحب الوضوء في هذه الأمور الثلاثة: عند النوم، وعند الأكل، وعند معاودة الوطء، والأمر فيه كما قلنا للاستحباب، ولكن آكدها الوضوء للنوم لكثرة الأدلة فيه وصراحتها.

    حكم احتلام المرأة في المنام

    أما حديث أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها فذكرت عن أم سليم وهي أم أنس بن مالك رضي الله عنها: أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم، ولما كان هذا السؤال مما يستحيا منه، وهو أنه يتعلق بالعورات ويتعلق بالأمور الخفية، ولكن يترتب عليه حكم، وهو أنه يحصل به حدث وهذا الحدث يمنع من الصلاة، والصلاة عبادة ولا يجوز أن يتهاون بالأحداث ولا أن يترك الشيء الذي يتعلق بالطهارة لحياءٍ واحتشام، فمهدت هذا التمهيد وقدمت هذا النص وهو قولها: (إن الله لا يستحيي من الحق) أي: ليس في الدين حياء، ونحن أيضاً لا نستحيي أن نسأل عن الحق، ولو أن ذلك الذي نسأل عنه مما يستحيا منه عادة.

    كان سؤالها عن اغتسال المرأة إذا هي احتلمت، قد عرفوا أن الرجل إذا احتلم فإن عليه الاغتسال، فهل تقاس عليه المرأة إذا احتلمت على الرجل أم لا فالنبي عليه الصلاة والسلام أجابها بالإثبات والإيجاب، ولكن بشرط أن ترى الماء الذي يراه الرجل، يعني: أن يحصل منها الإنزال.

    وجه استحياء النساء من هذا السؤال، أن احتلام المرأة قليل، وأنه إذا وقع فإنه دليل على قوة شهوة تلك المرأة، سيما الاحتلام الذي يحصل منه الإنزال، ولكن لما لم يكن مستحيلاً أثبته عليه الصلاة والسلام، وأخبر بأن المرأة شقيقة الرجل.

    لما سألت أم سليم هذا السؤال قالت لها أم سلمة : (فضحت النساء تربت يمينك، فعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أنت تربت يمينك، ثم قال: إن النساء شقائق الرجال)، وفي بعض الروايات: (أن أم سلمة غطت وجهها وقالت: يا رسول الله! أو تحتلم المرأة؟!)، يعني: هل يتصور أن يوجد منها الاحتلام؟! فقال: (نعم، فبما يشبهها ولدها)، يعني: أن الولد تارة يكون ذكراً فيشبه أباه، ويكون أنثى فيشبه أمه، فهذا يدل على أنه يكون مخلوقاً من ماءين: ماء الرجل، وماء المرأة، فالمرأة يكون منها إنزال الماء ويخلق منه الجنين، وكذلك من ماء الرجل أيضاً.

    على كل حال المرأة لها شهوة كشهوة الرجل، ويتصور منها أن يوجد منها الاحتلام في المنام كما يتصور من الرجل، ويمكن أيضاً أن يحصل مع الاحتلام إنزال، يعني: نزول سائل وإن لم يكن مثلما ينزل من الرجل في كثرته وفي غلظته، ولكنه مع ذلك يعطى نفس الحكم، فإذا احتلمت المرأة وأنزلت المني وإن كان خفيفاً، فإن عليها الاغتسال كما على الرجل تماماً.

    1.   

    حكم المني وصفة إزالته من الثوب وغيره، ومقدار الماء الرافع للجنابة

    قال المؤلف: [عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أغسل الجنابة من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخرج إلى الصلاة وإن بقع الماء في ثوبه)، وفي لفظ لـمسلم : (لقد كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركاً، فيصلي فيه) .

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جلس بين شعبها الأربع، ثم جهدها، فقد وجب الغسل)، وفي لفظ لـمسلم : (وإن لم ينزل).

    وعن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهما: (أنه كان هو وأبوه عند جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وعنده قوم فسألوه عن الغسل فقال: يكفيك صاع، فقال رجل: ما يكفيني، فقال جابر : كان يكفي من هو أوفى منك شعراً وخير منك -يريد النبي صلى الله عليه وسلم- ثم أمنا في ثوب)، وفي لفظ: (كان صلى الله عليه وسلم يفرغ الماء على رأسه ثلاثاً).

    قال رضي الله عنه: الرجل الذي قال: ما يكفيني هو الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأبوه محمد بن الحنفية].

    الحديث الأول: يتعلق بالمني وحكمه.

    قول عائشة : ( كنت أغسل الجنابة من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخرج إلى الصلاة وإن بقع الماء في ثوبه )، تريد أثر المني، أي: ما يخرج عند الجماع من المني فيصيب البدن ويصيب الثوب، وقد استدل بالغسل من يقول: إن المني نجس، وهذا قول جماعة من الفقهاء، وعللوا بأنه خارج من أحد السبيلين، وبأنه قد يخالط البول والبول نجس، وبأنه مستقذر عادة فلا بد أن يكون نجساً، واستدلوا بهذه الأحاديث التي فيها أن عائشة كانت تغسله، والغسل لا يكون إلا لنجاسة تقع على الثوب.

    ولكن وردت روايات كثيرة في صحيح مسلم وفي غيره تدل على عدم غسله والاقتصار على فركه، فقد ثبت أنها قالت: (كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وفي بعض الروايات: (لقد كنت أحته من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ...) والحت والحك والفرك لا يزيل أثره كلياً.

    أقوال العلماء في طهارة المني ونجاسته

    المني: هو الماء الدافق الذي يخرج من الإنسان عند الاحتلام أو عند الجماع، وهو ماء لزج أصفر غليظ، وهو الذي يخلق منه الإنسان كما في قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ [الواقعة:58-59]، وفي قوله: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى [القيامة:37-39]، هذا المني يخرج عند اشتداد الشهوة، وقد يخرج عند المداعبة، ويخرج عند الوطء، ويخرج في الاحتلام، فيخرج من الإنسان بشهوة وتدفق.

    وهو يوجب الغسل إذا خرج بشهوة وتدفق، وأما إذا خرج يسيل سيلاناً كالبول فلا يوجب الغسل، فإن كثيراً من الناس قد يخرج منه بعد البول قطرات مني تسمى: ودياً هي مني، ولكنها تخرج تسيل فيسمى ودياً، فهذا حكمه حكم البول؛ لأنه يتقدمه.

    وإذا عرفنا هذا المني فنقول: الصحيح أنه طاهر ولكن يغسل من باب الاحتياط، ومن باب النظافة للثياب، ومن باب إزالة أثره حتى لا يرى في ثياب الإنسان بعد الاحتلام أو نحوه، وفركها له أيضاً دليل على إزالة أثره، والحرص على أن لا يرى في الثياب، فالفرك معلوم أنه لا يطهره؛ لأنه إنما يتساقط منه ما كان متجمداً على الثوب، وأما ما تشرب به الثوب فإنه يبقى بلا شك، واستدل على أنه طاهر بأحاديث الفرك.

    ومن العلماء من قال: إنه نجس نجاسة مخففة، تلك النجاسة تطهر بالغسل وبالفرك وبالحك وبالحت ونحو ذلك.

    ومنهم من فرق بين يابسه فيفرك، وبين رطبه فيغسل، يعني: ما دام رطباً فإنه نجس فيغسل، وعليه تحمل أحاديث الغسل، وإذا يبس وتجمد اكتفي بفركه فيطهر بالفرك، وإذا كان فيه هذا الاختلاف الكثير فإن على الإنسان أن يحتاط فيزيله مهما استطاع، فيغسله إن كان رطباً ويفركه أو يغسله إن كان يابساً؛ حتى يتخلص من شيء وقع فيه خلاف طويل بين العلماء.

    وإذا أصاب البدن فإنه أيضاً يغسل، وقد مر بنا في أحاديث الاغتسال أنه عليه الصلاة والسلام لما غسل فرجه ضرب بيده الأرض أو الحائط ليزيل عنها اللزوجة، وذكرنا: أن ذلك لكونه غسل أثر المني من يده فبقي فيها لزوجة من أثر المني، فأراد أن يزيل ذلك بالتراب، فدل على أنه يبدأ به، فإذا اغتسل الإنسان وعلى ثيابه شيء من المني حرص على إزالته، وإذا كان على بدنه شيء من المني حرص على تطهيره وإزالته، ثم يغتسل بعده.

    ذكر بعض الأحكام المترتبة على الإيلاج

    أما الحديث بعده فيتعلق بموجب الغسل، وهو الجماع، ولا شك أن الجماع يسبب الجنابة، قال تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6]، والجنب هو الذي عليه حدث أكبر، وهذا الحدث يحصل بسبب الجماع أو الاحتلام أو ما أشبه ذلك، فإذا جامع وأنزل فإن عليه الاغتسال اتفاقاً، ولكن اختلف فيما إذا جامع ولم ينزل، كما إذا أعجل مثلاً أو أنه لم يحصل منه الإنزال، فهل عليه أن يغتسل أم لا؟

    رويت أحاديث كثيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في ترك الاغتسال مع عدم الإنزال، وقال: (إنما الماء من الماء)، يعني: ماء الاغتسال يجب بوجود الماء الذي هو نزول المني، ولما طرق على رجل من الأنصار وكان على امرأته فقام قبل أن ينزل فاغتسل، قال عليه السلام: (إذا أعجل أحدكم أو أقحط فعليه أن يغسل ما أصابه منها)، ولم يأمره بالاغتسال، قالوا: فهذه الأحاديث التي فيها أن الماء من الماء كانت رخصة في أول الإسلام لقلة الثياب ولضعف الحال، فلما وسع الله عليهم، عند ذلك أمروا بأن يغتسلوا من الجماع، ولو لم يكن هناك إنزال.

    فثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل)، يعني: إذا أولج الرجل إلى أن غيب رأس الذكر ووصل إلى محل الختان فقد وجب الغسل، كذلك هذا الحديث الذي عندنا: (إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها)، وشعبها: يداها ورجلاها، عادة أنه يجلس عليها، ثم بعد ذلك يجهدها بقوته، فإذا فعل ذلك عادة أنه يولج بعض الإيلاج، فإذا حصل أن أولج إلى أن التقى الختانان فإن هذا من موجبات الاغتسال.

    بل تترتب عليه الأحكام كلها، فيترتب عليه الحد فلو أن الزاني لم ينزل ولكن حصل منه أن أولج رأس الذكر، فإنه يجب به الحد، فيرجم إن كان محصناً ويجلد إن كان غير محصن، فما دام أنه يجب به الحد فكذلك يجب به الاغتسال، وهكذا أيضاً إذا دخل بالمرأة وجامعها وإن لم ينزل، يعني: لو أولج رأس الذكر ثم جهدها ولم ينزل فإنه يستقر عليه الصداق، حتى لو كان الصداق مائة ألف أو أكثر فإنه يستقر بهذا، وكذلك يوجب العدة ونحو ذلك من الأحكام.

    فكذلك نقول: يوجب الاغتسال ولو لم يكن هناك إنزال، وقد صرح بذلك في الرواية الأخرى، في قوله: (... وإن لم ينزل).

    معلوم أن الإنزال هو الأصل وأن الإنسان يحصل له فتور بعد الإنزال وبعد خروج المني، ولا تبرد شهوته غالباً إلا بالإنزال، فبعض الناس ينزل وإن لم يجامع، وبعضهم يجامع ولا ينزل، ولكن تبرد شهوته بذلك ويسمى جماعاً، فالجميع من موجبات الاغتسال.

    هذا هو الصحيح الذي دل عليه هذا الحديث وغيره من الأحاديث، وهو الذي استقر عليه عمل الصحابة آخر الأمر، وانقطع الخلاف الذي كان قديماً بينهم.

    الاغتسال بصاع والوضوء بمد

    بعد أن عرفنا موجب الغسل فقد تقدمت لنا أحاديث في صفة الغسل، ولكن عندنا الآن حديث في مقدار ماء الغسل، في هذا الحديث أن جابراً رضي الله عنه لما سئل عن مقدار الغسل قال: (يكفيك صاع)، أي: صاع من الماء، والصاع مكيال معروف، ولما اعترض رجل وهو الحسن بن محمد ابن الحنفية وقال: (لا يكفيني وذكر أن شعر رأسه كثير فلا يكفيه الصاع، فأخبره جابر أنه كان يكفي من هو أكثر منه شعراً وخيراً منه، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم.

    قد ذكرت عائشة، (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد) يعني: أن المد وهو ربع الصاع كان يكفيه للوضوء عليه الصلاة والسلام، وأما للاغتسال فإنه كان يغتسل بصاع، يعني: بأربعة أمداد أو خمسة أمداد.

    وبذلك يعرف أنه عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على الاقتصاد وعدم الإسراف حتى في الماء، كما روي أنه مر على سعد وهو يتوضأ فقال: (لا تسرف، فقال: وهل في الماء إسراف؟ قال: نعم وإن كنت على نهر جار)، يعني: أنك مأمور بأن تقتصد، فاقتصاره عليه الصلاة والسلام على مد في الوضوء وعلى صاع في الاغتسال دليل على الاكتفاء بهذا القدر، حتى ولو كانت المياه متوافرة وكثيرة.

    وفي الحديث: (أنه عليه الصلاة والسلام أفاض على رأسه ثلاثاً) يعني: أنه يبدأ برأسه فيغرف عليه ثلاث غرفات، كل غرفة ترويه ويدلكه بها ثم يغسل بقية جسده إلى أن يبلغ جسده كله بالماء، وهذا هو الغسل الكامل كما تقدمت بعض صفاته، والذين يكررون الدلك ويبالغون فيه قد يكون بعضهم معذوراً بالحرص على الإسباغ والتبليغ، وبعضهم ليس بمعذور؛ لما يقع فيه من الإسراف وكثرة صب الماء، ومع ذلك فلا بأس أن يدلك الإنسان جسده لغرض النظافة وإزالة الأوساخ والأقذار إذا كان بعيد العهد بالاغتسال، وخاف أن يكون في بدنه شيء من الوسخ.

    وأما غسل الجنابة فإن القدر الكافي منه هو ما ذكرنا، وهو مقدار اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان يغتسل تحت الرشاش الذي يصب فوقه، حرص أيضاً على أن لا يضيع الماء وأن يكون بقدر ما يبلغ جسده، ثم يتحفظ عن الزيادة التي لا حاجة إليها، إلا إذا احتاج إلى دلك لإزالة وسخ أو قذر أو نحو ذلك.

    فهذه الأحاديث كلها تتعلق ببقية الغسل، يعني: الحديث الذي يتعلق بآثار الجنابة وهو المني، والذي يتعلق بموجبها والذي يتعلق بكيفية إزالتها.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756256193