إسلام ويب

شرح عمدة الأحكام [2]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الإسلام خير الأديان نظافة وآداباً، ولم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأتباعه أمراً إلا بينه لهم، حتى آداب قضاء الحاجة وما يتعلق بها من التباعد عن النجاسات ونحو ذلك.

    1.   

    شرح حديث: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث ...)

    قال المصنف رحمه الله: [باب دخول الخلاء والاستطابة: عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)، وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا، قال أبو أيوب : فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فننحرف عنها ونستغفر الله عز وجل)].

    هذا الباب من تمام الطهارة، يعقده العلماء في مؤلفاتهم لمسيس الحاجة إليه، ولو كان شيئاً طبيعياً عادياً، ولو كان شيئاً مما يستحيا من ذكره، ولكن لا حياء في الدين، والله عز وجل لا يستحي من الحق، وهذا الباب يتعلق به أحكام وأدعية لابد من معرفتها؛ فلأجل ذلك بينه الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه وعلمهم كيفية ذلك.

    وثبت في صحيح مسلم : أن اليهود قالوا لـسلمان الفارسي : (علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة -يعني: حتى ما تفعلونه عند التخلي- فقال: نعم، والله لقد نهانا أن نستقبل القبلة ببول أو غائط، ونهانا أن نستنجي باليمين، وأن نستجمر بها، وأن نمس عوراتنا باليمين، وأن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار)، فبين لهم صحة ما قالوا وأن في ذلك علماً وفائدة.

    فالأحكام التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب كلها ذات أهمية، وكذلك الأدعية التي يدعى بها.

    كذلك أيضاً نقول: إن الله علم نبيه صلى الله عليه وسلم ونبيه علم أمته، وهذه التعاليم تعاليم لها أهميتها.

    فمنها ما يتعلق بالأدعية التي فيها حفظ الإنسان من الشرور.

    ومنها ما يتعلق بالآداب التي فيها حفظ للإنسان من النجاسة.

    ومنها ما يتعلق بالأحكام التي فيها الامتثال وتعظيم حرمات الله عز وجل.

    فهذا الحديث الأول يتعلق بالأدعية.

    وقد ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذه الحشوش محتضرة)، (محتضرة) يعني: تحضرها الشياطين، فأمر بأن يتحصن الإنسان من الشياطين بذكر الله، ومعلوم أن الشياطين تألف الأماكن المستقذرة، وتألف الأماكن النجسة، فإذا لم يتحفظ الإنسان من الشياطين عبثت به، وورد أيضاً في بعض الأحاديث أن الشياطين تلعب بمقاعد بني آدم، فإذا لم يتحفظ منها ولم يتحصن منها عبثت به فأوقعته في نجاسة أو في خبث حسي أو معنوي، والحسي يتمثل بأن يتقذر بالنجاسة ولا يبالي، وأما معنوي فبأن يوسوس ويتوهم ويقع في وساوس شيطانية تدوم معه، فلأجل ذلك أمر بالاستعاذة وبذكر اسم الله تعالى.

    ما يقال عند دخول الخلاء ومعنى الخبث والخبائث

    والثابت عند الدخول إلى الخلاء أن يذكر اسم الله للتحصن، وأن يدعو بهذا الدعاء فيقول: (بسم الله)، يعني أتحصن وأتحفظ باسم ربي ليحصنني ويحفظني من كل سوء ومن كل شر.

    ثم يقول: (أعوذ بالله من الخُبْث -أو من الخُبُثْ- والخبائث).

    والخُبُث: الذكور، والخبائث: الإناث.

    أو الخُبْث يعني: الشر، والخبائث: الأشرار.

    فيستعيذ من ذكران الشياطين وإناثهم، أو من الشر وأهل الشر. هذا هو المعنى في هذه الجملة، فكأنه يقول: أعوذ بك يا ربي! وأتحفظ بك وأتحصن بك وأستجير بك من الشرور ومن أهل الشرور، فإذا قال ذلك وهو صادق حماه الله وحفظه من شر هذه الشياطين.

    وقد ورد زيادة في بعض الروايات أنه يقول: (أعوذ بالله من الخبث والخبائث ومن الرجس النجس الشيطان الرجيم) فيخصص بعدما يعمم، فنقول: (من الرجس النجس)، الرجس والنجس معناها واحد، ثم فسره بأنه الشيطان الرجيم، فخص الشيطان بعدما عم الشر وأهل الشر، أو الذكران والإناث من الشياطين، سواء من شياطين الجن أو مردتهم أو من شياطين الإنس، فيكون قد استعاذ من الشر وأهله.

    الإتيان بدعاء دخول الخلاء قبل دخوله

    هنا مسألة: متى يقول هذا الذكر؟ يقوله عندما يريد أن يدخل بيت الخلاء؛ لأنه لا يستحب أن يقوله في نفس المكان المعد للتخلي؛ لأنه مكان مستقذر، فتنزه أسماء الله أن يؤتى بها في ذلك المكان، وإن كان يجوز أن يذكر الله بقلبه.

    فيكون الذكر المشروع عند دخول الخلاء:

    أولاً: التسمية.

    ثانياً: الاستعاذة من الخبث والخبائث ومن الرجس النجس الشيطان الرجيم.

    ما يقال عند الخروج من الخلاء

    أما عند الخروج من الخلاء فإنه يقول: (غفرانك)، كما ورد في بعض الأحاديث، ومناسبة طلب المغفرة أنه لما أحس بخفة من ثقل الأذى تذكر ثقل الذنوب فسأل الله المغفرة، فقال: أسألك تخفيفاً من الذنوب كما خففتني من الأذى.

    وقد ورد أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول بعد الخروج: (الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني)، وفي بعض الروايات أو بعض الأحاديث أنه كان يقول: (الحمد لله الذي أذاقني لذته وأبقى فيَّ منفعته وأذهب عني أذاه) وكل ذلك اعتراف بفضل الله تعالى ونعمته.

    فيكون الدعاء عند الدخول بالاستعاذة من الشيطان، وعند الخروج بحمد الله تعالى وشكره على ما أنعم به على عبده، وهذا ما يتعلق بما يأتي به في هذا المكان من الأدعية.

    1.   

    شرح حديث: (إذا أتيتم الغائظ فلا تستقبلوا القبلة ...)

    أما الحديث الثاني فجاء به لأجل تبيين كيفية الجلوس أثناء قضاء الحاجة، فأخبر بهذا الحديث لأن النبي صلى الله عليه وسلم يحترم الكعبة المشرفة التي هي قبلة الصلاة، فنهاهم أن يستقبلوها بغائط أو بول، وأمرهم بأن يستقبلوا المشرق أو المغرب، حتى تكون القبلة عن يمين أحدهم أو عن يساره؛ وذلك لأنه يخاطب أهل المدينة، وأهل المدينة يستقبلون الجنوب ويستدبرون الشمال في الصلاة، فيكون المصلي قد جعل المشرق عن يساره والمغرب عن يمينه، فأمرهم في التخلي أن يجعلوا القبلة عن يمين أحدهم أو عن يساره، إما أن يشرقوا فتكون القبلة عن اليمين، أو يغربوا فتكون القبلة عن اليسار، فلا يستقبلون القبلة فيجعلونها أمامهم وهم يقضون الحاجة، ولا يستدبرونها فيجعلونها خلف ظهورهم عند ذلك التخلي؛ احتراماً للقبلة التي هي قبلة المصلي، فتنزه هذه الجهة التي هي قبلة الصلاة عن أن يستقبلها الإنسان في حالة التخلي، هكذا أرشدهم عليه الصلاة والسلام.

    عموم النهي عن استقبال القبلة عند قضاء الحاجة في الأبنية وغيرها

    وهذا الحديث عام في جميع الحالات، وقد عمل به الصحابة، فهذا أبو أيوب راوي الحديث يقول: (فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فننحرف عنها ونستغفر الله عز وجل)، لما فتحت الشام في عهد عمر دخلها المسلمون واستوطنوها، وصارت أماكن التخلي في داخل البيوت بخلاف أهل المدينة، فإن أهل المدينة كانوا في قرية وكانوا يقضون حوائجهم في البقيع، فيذهب أحدهم إلى خارج البلد ويقضي حاجته في الصحراء، ولكن لما توسعت المدن احتاجوا إلى أن يجعلوا بيوت الخلاء في داخل الدور، لبعد الصحراء التي كانوا يتخلون فيها، كما في هذه البلاد وغيرها، حيث أصبحت أماكن التخلي في داخل البيوت، وهي التي تسمى بالحمامات، وقديماً كانت تسمى صهاريج أو نحو ذلك، وتسمى أيضاً مراحيض ودورات مياه أو بيوت خلاء أو كُنُف، وهي: جمع كنيف، وهي الأماكن المعدة لقضاء الحاجة.

    فنهوا أن يستقبلوا القبلة أو يستدبروها ببول أو بغائط، فيقول أبو أيوب : لما قدمنا الشام وجدنا المراحيض، أي المقاعد وجدناها مهيأة ومركبة باتجاه القبلة، فلم نتجرأ أن نجلس فيها، فصار أحدنا إذا جلس انحرف عن يمينه أو عن يساره واستغفر الله عما يقع فيه من الخطأ ونحو ذلك، وذلك دليل على أنهم عمموا الحكم واعتقدوا أن المنع عام في داخل البيوت كالحمامات، وفي خارجها كالصحاري ونحوها، فالحكم فيها على عمومه ليس له مخصص، هذا هو الذي فهمه هذا الصحابي رضي الله عنه.

    وقد أباح بعض العلماء استقبال القبلة أو استدبارها إذا كان في داخل المباني أو نحوها، واستدلوا بحديث ابن عمر الذي ذكر بعد هذا الحديث، ولكن الصحيح أن الحكم عام، وهو الذي رجحه الأئمة كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن حزم في (المحلى) والأئمة الثقات المعلومون المشهورون، وقد اعتذروا عن الأحاديث التي فيها شيء من الرخصة بأنها محمولة على وجود عذر، أو لأنها من الخصائص أو نحو ذلك، فعلى الإنسان أن ينتبه إذا دخل الخلاء، فمتى كان موجهاً للقبلة فإن عليه أن ينحرف ويميل عنها قليلاً حتى لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، وكذلك أيضاً يُنتبه عند تأسيس الدورات ألا تكون مستقبلة القبلة حتى لا يعتقد من يدخلها أن ذلك جائز؛ لأن الأحاديث عامة، كما فهم ذلك أبو أيوب من هذا الحديث، وكما هو ظاهر في عمومات النصوص التي فيها النهي عن استقبال القبلة ببول أو غائط، وكذلك حديث سلمان : (نهانا أن نستقبل القبلة ببول أو غائط وأن نستدبرها).

    وهذا لأجل احترام جهة القبلة التي هي جهة المصلي؛ لأنها أشرف الجهات وأفضلها، هذا هو الاحتياط في هذا الباب، وإن كان قد رخص أكثر العلماء في استقبال القبلة واستدبارها إذا كانت المراحيض في داخل البناء، ولكن الأحوط والأرجح هو العمل بالعموم.

    1.   

    شرح حديث: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستقبل الشام)

    قال المصنف رحمه الله: [وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: (رقيت يوماً على بيت حفصة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي معي إداوة من ماء وعنزة فيستنجي بالماء)، والعنزة: الحربة الصغيرة. والإداوة: إناء صغير من جلد.

    وعن أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه، ولا يتنفس في الإناء)].

    هذه الأحاديث تتعلق بقضاء الحاجة، وقد عرفنا أن الشرع الشريف تطرق إلى كل شيء تمس إليه الحاجة، ولا شك أن مما تمس إليه الحاجة أمور الطهارة، ولا شك أن الأقذار من البول ونحوه نجسة العين، فالشرع جاء بتعليم الإنسان كيف يتوقاها، وكيف يتطهر منها، وعلمه أيضاً كيف يجلس وكيف يتنزه وما أشبه ذلك، مما يدل على كمال هذه الشريعة وتضمنها لكل ما تمس إليه الحاجة، وقد ذكرنا أن اليهود قالوا لـسلمان : (علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة. قال: نعم، لقد نهانا أن نستقبل القبلة ببول أو غائط، وأن نستنجي باليمين، وأن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار).

    وتقدم لنا في حديث أبي أيوب قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تستقبلوا القبلة ببول ولا غائط ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا، قال أبو أيوب: فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فننحرف عنها ونستغفر الله عز وجل)، وأخذنا من هذا الحديث أنه لا يجوز استقبال القبلة ولا استدبارها حالة التبول ونحوه، سواء في داخل البيوت أو خارجها، حيث إن أبا أيوب فهم الأمر على الإطلاق، فصار هو والصحابة إذا دخلوا تلك المراحيض وتلك المقاعد المبنية نحو الكعبة ينحرفون عنها ويخالفون ما بنيت عليه.

    اختلاف العلماء في حكم استقبال القبلة واستدبارها داخل البناء

    وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه يجوز الاستدبار في داخل البيوت أو الاستقبال، واستدلوا بحديث ابن عمر، حيث ذكر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم مستدبر القبلة مستقبل الشام، وكان ذلك في المدينة، وعليه فتكون القبلة في جهة الجنوب والشام في جهة الشمال، فهو يقضي حاجته مستقبل الشام مستدبر القبلة.

    فجاء عن بعض العلماء أنه قال: يجوز الاستدبار فقط أخذاً بهذا الحديث، وبعضهم قال: لا يجوز الاستقبال ولا الاستدبار، وحملوا هذا الحديث على أنه من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضهم قال: يحمل هذا على البنيان، ويحمل حديث أبي أيوب ونحوه على الصحراء، فإذا كنت في الصحراء فلا تستقبل القبلة ولا تستدبرها، وإذا كنت في داخل البيوت فلك ذلك، جمعاً بين الأدلة، ولكن الراجح من حيث الدليل عموم النهي في الأدلة الموجهة إلى الأمة، وأن هذا الحديث يعتبر من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم.

    ويمكن أن يكون هناك عذر، حيث إنه لو شرق أو غرب لكان مقابلاً للمارة أو الناس، ويمكن أن يكون استدباره للكعبة ليس استدباراً كلياً بل يكون مائلاً عنها يمنة أو يسرة.

    فالحاصل: أن أحاديث النهي عامة موجهة إلى الأمة، فالأحوط للإنسان ألا يستقبل ولا يستدبر حتى في داخل البيوت، وإذا بنيت المراحيض موجهة إلى الكعبة أو مستدبرة لها فإن عليك أن تنحرف يمنة أو يسرة ولو قليلاً، حتى لا يصدق عليك الاستقبال ولا الاستدبار، ولعل ذلك تشريف لجهة القبلة التي هي جهة الصلاة، والتي هي جهة بيت الله الحرام، فيشرف وينزه عن أن يستقبل في هذه الحالة المستقذرة، وهذا هو الراجح من حيث الدليل.

    1.   

    شرح حديث أنس في إثبات استنجاء النبي بالماء بعد قضاء الحاجة

    ومن الأحاديث في هذا الباب حديث أنس في الاستنجاء، فقد ذكر أنه كان إذا دخل النبي صلى الله عليه وسلم للخلاء أو ذهب ليتخلى حمل إداوة من ماء وعنزة ليستنجي بها النبي صلى الله عليه وسلم، فقوله: (يدخل الخلاء) يعني: يذهب للتبول أو للغائط، وقوله: (أحمل أنا وغلام نحوي) أي: مثلي ومقارب لي في السن، وذكر أن هذا الغلام من الأنصار، فيحمل أحدهما الإداوة مرة والآخر يحمل العنزة، ومرة يكون العكس.

    والإداوة: قدح يتخذ للشرب يصنع من حجارة أو يصنع من خشب أو من صفر أو نحاس.

    والعنزة: هي العصا التي في رأسها حديدة، وهي الحربة الصغيرة، والفائدة من العنزة إما أنه يحفر بها الأرض حتى يلين التراب إذا وقع البول عليه حتى يأمن رشاشه، أو أنها تركز ويجعل عليها ستر يستتر به، أو نحو ذلك.

    مشروعية الاستنجاء أو الاستجمار بعد قضاء الحاجة، وأفضلية الجمع بينهما

    ذكر في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كلما ذهب إلى الخلاء تبعه غلام بماء ليستنجي به ويتبع أحياناًبعنزة ليستتر بها، وقد فعل ذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم كثير من الصحابة: فتبعه ابن عباس بماء مراراً، وكذلك المغيرة بن شعبة ، وكذلك أبو هريرة وغيرهم، وأحياناً لا يذكرون الماء، وإنما يذكرون أنه يطلب منهم حجارة يستجمر بها، كما نقل ذلك ابن مسعود وأبو هريرة ، وفي هذا دليل على الاكتفاء بالاستجمار ودليل على الاكتفاء بالاستنجاء أحياناً والأفضل الجمع بينهما إذا تيسر.

    والاستجمار: هو مسح أثر الغائط بالحجارة ونحوها ليزول جرم النجاسة، والاستنجاء: غسل أثرها بالماء حتى يطهر المكان، فإذا تيسر الجمع بينهما قدم الاستجمار ثم أتبعه الاستنجاء، وإن اقتصر على أحدهما فالاقتصار على الاستنجاء أفضل؛ لأن الماء ينقي أكثر مما ينقي التمسح.

    والاستجمار أكثر ما يستعمل فيه الحجارة، ولكن قد يكتفى بكل ما يزيل أثر النجاسة، ومما يستعمل لذلك في هذه الأزمنة المناديل الورقية ونحوها، فإنها تكفي في إزالة أثر النجاسة وتنقية المكان، فإذا نظف المكان بإزالة أثره وبمسحه بهذه المناديل أو نحوها طهر المكان ولم يحتج إلى غسل، وإن غسل فمن باب الزيادة في الطهارة ومن باب النظافة وإزالة أثر النجاسة إزالة كلية.

    وإن لم يحصل المسح بالأحجار ولا بالمناديل ونحوها وغسل بالماء اكتفي بذلك. والغسل: هو أن يصب الماء ويدلك باليد اليسرى إلى أن يعود المكان إلى خشونته ويزول أثر النجاسة ولزوجتها ورائحتها.. ونحو ذلك، والاستنجاء يكون بالماء والاستجمار بالأحجار.

    وقد ورد الجمع بينهما في قصة أهل قباء الذين أنزل الله فيهم قوله تعالى: فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108]، فسُئلوا: ما هذه الطهارة؟ فأخبروا بأنهم يتبعون الحجارة الماء، أي: يتمسحون بالحجارة لتزيل جرم النجاسة ثم يغسلون فروجهم بالماء ليزيل الماء أثرها، فمدحوا بذلك، وجعلت هذه هي الطهارة: يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108]، وحيث ثبت الاستنجاء في حديث أنس وفي غيره من الأحاديث وأنه يقتصر عليه، وأكثر الناس يقتصرون على الاستنجاء الذي هو الغسل، ولكن قد يبالغ كثير من الناس في الغسل بالماء، ويوسوس إليه الشيطان أنه لم ينظف المحل، فيمضي عليه زمن طويل وهو يغسله ويخيل إليه أنه لم ينظف.

    وقد ذكر بعض العلماء أن الغسل لا يكون بأكثر من سبع غسلات، ولكن الأولى أن يقال: إنه يغسل الدبر إلى أن يعود إلى خشونته وتزول عنه لزوجة الغائط ونحوه، هذا هو الأصل، ولا حاجة إلى عدد، فقد ينظف بأقل من سبع، وقد يحتاج بعض الناس إلى أكثر، ولكن لا يبالغ ولا يتمادى مع الوساوس والأوهام.

    الحكمة من حمل العنزة عند قضاء الحاجة في حديث أنس

    وأما العنزة فذكروا أن حملها لأمرين:

    الأمر الأول: أنه كان يحفر بها الأرض، وذلك لأن الأرض قد تكون صلبة، فإذا وقع البول عليها تطاير رشاشة على الثوب أو على الجسد فيتنجس منه؛ فلأجل ذلك قالوا: يختار أن يبول في أرض لينة رخوة حتى لا يتطاير الرشاش على بدنه أو ثيابه فينجس وهو لا يشعر، فيحفر الأرض الصلبة، أو يختار أرضاً رطبة لينة رخوة، وإذا كان في أرض مبلطة كما هو الحال اليوم في أكثر المراحيض فإنه يحتاط حتى لا يتطاير الرشاش، وذكروا أنه أيضاً إذا ألصق ذكره بالأرض أمن رشاش البول، وعلى كل حال فعليه أن يحتاط لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه)، والتنزه هو التحفظ من النجاسة وهو واجب حتى تقبل الصلاة، وحتى لا يصلي الإنسان وعليه شيء يبطل عبادته.

    وأما القول الثاني: فهو أنه كان يتخذها سترة، واستدلوا به على أن الإنسان إذا جلس على حاجته يستر نفسه عن أعين الناظرين، هذا إذا كان يبول أو يتغوط في صحراء.

    فكان من هدي النبي عليه الصلاة والسلام أولاً: أنه يذهب بعيداً حتى يختفي عن أعين الناس، وإذا كان قريباً اتخذ سترة من شجرة أو جبل أو حائط أو شيء شاخص، أو ينزل في مكان منخفض من الأرض ليخفي شخصه؛ لأنه على حالة مستقذرة فيستر نفسه، وأحياناً يكون معه عنزة وهي حربة صغيرة فيغرسها في الأرض وينشر عليها ثوباً حتى يستره عن أعين الناظرين، فكل هذا دليل على تأكد الاستتار والاختفاء عن الناس.

    1.   

    شرح حديث: (لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه ...)

    وأما حديث أبي قتادة ففيه هذه المسائل:

    النهي عن إمساك الذكر باليمين عند البول

    المسألة الأولى: قوله: (لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول).

    وفي هذا تكريم لليد اليمنى، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يحب التيمن في الأشياء المستحبة، ويجعل شماله للأشياء المستقذرة، فيأكل بيمينه ويشرب بها، ويأخذ بها ويعطي بها، ويقدمها في الأشياء الفاضلة؛ فيقدمها في دخول المسجد، وفي لبس النعل، وثبت عنه أنه قال: (إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين، وإذا خلع فليبدأ بالشمال، ولتكن اليمنى أولهما تنعل وآخرهما تخلع)، وهذا مما يدل على تفضيل اليمين، فإذا كانت اليمين فاضلة فإن ذلك دليل على ميزتها، والله تعالى قد فضل أهل اليمين فقال تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [الانشقاق:7-8]، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ [الحاقة:19]، فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ [الواقعة:8]، فجعل لأصحاب الميمنة ميزة ولأصحاب اليمين ميزة وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ [الواقعة:90-91].

    فكثيراً ما يقدم الله تعالى ويمدح أهل اليمين، واليمين مشتقة من اليمن الذي هو البركة، فلذلك ميزت اليمين وفضلت، فلا يجوز للإنسان أن يمسك ذكره في حالة البول بيمينه تنزيهاً لها.

    ويفهم منه أنه يجوز إمساكه باليسرى؛ لأن الإنسان قد يحتاج إلى أن يمسك ذكره حتى يأمن رشاش البول، فإذاً يمسكه إذا كان ولابد باليد اليسرى وينزه اليد اليمنى.

    النهي عن الاستنجاء باليد اليمنى

    المسألة الثانية: (ولا يتمسح من الخلاء بيمينه)، فلا يستنجي باليد اليمنى؛ لأن الاستنجاء: هو غسل أثر البول أو غسل أثر الغائط، وهو يحتاج إلى دلك، والدلك يكون باليد، فاليد اليمنى لا تباشر النجاسة ولا تباشر الفرج، فلا يمس المرء فرجه بيده اليمنى؛ بل يتولى ذلك باليد اليسرى، فيصب بيده اليمنى ويدلك فرجيه بيده اليسرى حتى ينظف أثر النجاسة، ثم بعد ذلك يغسل يده مما تلوثت به أو مما علق بها، وكل ذلك كما عرفنا لأجل تكريم اليد اليمنى، وقد ذكرت عائشة أن يد النبي صلى الله عليه وسلم اليسرى كانت للاستنجاء والاستجمار والتمخط ونحو ذلك من الأشياء المستقذرة.

    هل يمسك السواك باليمين أم بالشمال؟

    وقد اختلف الفقهاء في إمساك السواك إذا أراد أن يستاك: هل يمسكه بيده اليمنى؛ لأن ذلك تنظيف وعمل مبرور؟ أم يمسكه باليد اليسرى لأن ذلك إزالة قذر وإزالة وسخ في الأسنان؟

    اختار شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من المحققين أنه يمسكه باليسرى؛ وذلك لأنه إزالة وسخ وإزالة قذر من الأسنان ومن الفم، مما علق من بقايا الطعام ونحو ذلك، كذلك إذا خلل ما بين أسنانه فإنه يتخلل باليد اليسرى؛ لأن ذلك كله من باب تكريم اليمنى، حتى لا تباشر ولا تقوم بالأشياء التي فيها قذارة أو فيها رائحة مستنكرة ومستكرهة أو نحو ذلك.

    النهي عن التنفس في الإناء والحكمة من ذلك

    المسألة الثالثة: (ولا يتنفس في الإناء) أمره هنا بأن لا يتنفس في الإناء، والمراد به عند الشرب، فالإنسان إذا شرب فإنه يباشر الشرب بفمه، ومعلوم أن هذا الماء أو اللبن الذي يشرب منه قد يناوله أناساً آخرين ليشربوا منه، وإذا أخذ يتنفس فيه استقذره الآخرون، فقد يخرج من أنفه إذا تنفس شيء من الأذى أو نحوه، أو يعلق به شيء من آثار نفسه فيستقذر، فأمر الإنسان بأن يحترم هذا الشراب الذي هو أهم الضروريات للإنسان حتى لا يفسده على غيره.

    وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له: (يا رسول الله! إنا لا نروى بنفس واحد)، أي أن الإنسان قد يشرب ويضيق نفسه فلا يروى، قال: (فأبعد القدح عن فمك)، يعني: إذا أردت التنفس فأخّر القدح عن فمك ثم تنفس ثم ارجع واشرب بنفس ثان، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يشرب بثلاثة أنفاس، أي: أنه يشرب، ثم إذا احتاج إلى تنفس أبان القدح ثم تنفس، ثم يشرب مرة ثانية، إلى ثلاث مرات، وكان أيضاً يحث على الشرب بدون عب، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا شرب أحدكم فليمص الماء مصاً ولا يعبه عباً؛ فإنه من الكباد)، يعني: أنه إذا أخذ يعب عباً ويجرع جرعات كبيرة فإنها تنصب على كبده فتؤثر فيه، وذلك من الإرشادات النبوية التي أرشد إليها أمته حتى ينتفعوا بها في حياتهم، وإن كانت من الأمور العادية.

    فنهانا أن نتنفس في الإناء حتى لا يفسد هذا الشراب؛ سواء كان هناك من سيشرب منه أو لم يكن، حتى ولو كان سيهريق بقية الماء، ولو كان ذلك الماء قليلاً وسوف يشربه كله ولا يبقي منه شيئاً، فهو منهي بهذا الحديث عن أن يتنفس في حالة الشرب. وقد ذكروا أيضاً أن في هذا تشبهاً بالدواب، فالدواب كالبقر ونحوها إذا شربت تتنفس في حالة الشرب، فإذا تنفس الإنسان في الإناء أثناء الشرب فقد تشبه بحيوان بهيم، مستقذر طبعاً التشبه به، فأرشد عليه الصلاة والسلام أمته إلى هذه الإرشادات؛ سواء كانت متعلقة بالعبادات أو متعلقة بالعادات.

    والشرب أمر عادي معروف قبل الإسلام، ومعروف أنه أمر معتاد وضروري، فأرشد إليه، وبين كيفيته التي يحبها الشرع، والتي توافق الفطرة السليمة، والتي تبعد الإنسان عن أن يكون قذراً أو مستقذراً عند غيره، مما يدل على أهمية هذه الشريعة وتطرقها إلى كل ما تمس إليه حاجة البشر.

    1.   

    شرح حديث: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير ...)

    قال المصنف رحمه الله: [وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة، فأخذ جريدة رطبة فشقها نصفين فغرز في كل قبر واحدة، فقالوا: يا رسول الله! لم فعلت هذا؟ قال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا)].

    هذا حديث يتعلق بالطهارة التي هي التنزه من النجاسة.

    وفي الحديث دلالة على وجوب البعد عن النجاسة، وعلى أن البول من جملة النجاسات، وفي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين -كأنهما جديدان- فأوحى الله إليه أو أطلعه على أنهما يعذبان، أو أسمعه شيئاً من عذابهما، فأخبر الذين معه بأنهما يعذبان، وأن الذي يعذبان فيه ليس كبيراً، أي: أنه ليس شيئاً صعباً ولكنه سهل، أو أنه يسير في أعين الناس.

    أحدهما: كان لا يستنز أو لا يستبرئ من البول، أي: لا يبالي بما أصاب البول من ثوبه أو من بدنه.

    والثاني: كان يمشي بالنميمة.

    ثم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم جريدة رطبة فشقها نصفين وغرزهما في كلا القبرين، من أجل التخفيف عنهما ما لم ييبسا، وهذا يدل على أمرين:

    أولاً: أن هذا مما أطلع الله عليه نبيه عليه الصلاة والسلام، ولم يكن لأحد غيره، والاطلاع لابد أن يكون بوحي.

    ثانياً: نعرف أنه لم يفعل ذلك إلا للتحذير من هذين الأمرين، وهما: التهاون بالبول، والسعي بالنميمة، وبيان أنهما ذنبان مما يستحق العذاب بهما، وأن العبد يعذب بتهاونه فيهما في قبره.

    عدم التنزه من البول والنميمة من الكبائر

    وأما قوله: (وما يعذبان في كبير)، فقد فهم منه بعض العلماء أنهما من صغائر الذنوب، وليس الأمر كذلك؛ بل هما من الكبائر، وحينئذ فما معنى قوله: (وما يعذبان في كبير)؟

    قال بعض العلماء: معناه أن تداركه والإقلاع عنه ليس شيئاً صعباً، أو ليس كبيراً في أعين الناس؛ بل إن الناس يتساهلون به، ويعتقدون أنه من أيسر الأمور ومن أهونها، وأنه من صغائر الذنوب، ولكنه وصل إلى أن يعذب عليه في القبر.

    فالشيء الذي يعذب عليه في القبر لا يكون من الصغائر، ولهذا ورد في رواية أنه قال: (وما يعذبان في كبير)، ثم قال: (بلى إنه لكبير)، فدل على أنه ليس بكبير عند الناس، ولكنه كبير عند الله، فلا يحتج بهذا على أنه ليس من الكبائر، بل هو من كبائر الذنوب.

    عدم التنزه من البول من أسباب عذاب القبر

    أولاً: عدم التنزه من البول، ورد في رواية: (لا يستنزه من البول)، وفي رواية: (لا يستتر من البول)، وفي رواية: (لا يستبرئ من البول)، والمعنى واحد، أي أنه لا يبالي إذا وقع البول على ثيابه أو على جسده، فهو يقوم من غير استبراء، وربما يبول وهو يسير، وربما يقوم وهو يبول ونحو ذلك، فينجس بذلك بدنه وثيابه، والنجس لا تقبل له عبادة؛ لأن الله تعالى أمر بالطهارة في قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6]، وأمر بتطهير الثياب: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4]، ولا شك أن البول من جملة النجاسات، وجاء في هذا حديث أنه مما يعذب عليه، لماذا؟ لأنه إذا تنجست ثيابه وصلى لم تقبل صلاته وهو يحمل النجاسة، وإذا لم تقبل صلاته ردت عليه هذه الصلاة، وإذا بطلت صلاته فليس معه صلاة، والذي بطلت صلاته بطلت أعماله -والعياذ بالله-؛ فإن الصلاة عمود الدين.

    فعلم بذلك أن سبب العذاب في القبر هو عدم التنزه من البول وعدم الاستبراء منه، وقد ورد حديث آخر بلفظ: (استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه)، كأنه يقول: إن أكثر ما يقع العذاب في القبر بسببه؛ لأنه مما يتساهل أو يتهاون كثير من الناس به، مع كونه يفسد العبادة، ويفسد الصلاة، ويفسد أيضاً الطواف الذي يفسد بسببه الحج، وما أشبه ذلك، ولذلك صار من كبائر الذنوب.

    هذا الحديث يحث على التنزه من البول.

    التنزه من البول وكيفيته

    أما كيفية التنزه من البول: فيكون بأن يتحفظ الإنسان من أن يصيب البول ثوبه أو بدنه، فعند التبول يتحرى مكاناً رخواً أو ليناً؛ حتى يأمن من رشاش البول وتطاير قطراته على ثيابه أو على ساقه أو نحو ذلك، والذي قد يوقعه في إفساد عباداته، وكذلك بعد التبول لا يقوم إلا بعد أن يتأكد من انقطاع أثر البول؛ لأن العادة أن يتقاطر البول أثناء سيره أو نحو ذلك، ومن التنزه ألا يقوم إلا بعد الاستجمار، أو بعد أن يمسح محل البول، فيمسح الرجل مجرى البول وهو رأس الذكر، والمرأة تمسح مجرى البول ومخرجه، حتى يتحقق أنه نظف ولم يبق فيه شيء، وإذا تيسر الاستنجاء -وهو غسل محل البول بالماء أو غسل الفرج أو كلا الفرجين بالماء- فإن ذلك من أسباب انقطاع البول، ولكن بعض الناس قد يصل بهم الأمر إلى شيء من التوهم أو الوسوسة، فكثير منهم يشتكي بأنه يحس بتقاطر أو بخروج كلما قام أو كلما انتهى من الاستنجاء ومشى أو نحو ذلك.

    فالأصل أنه لا حاجة إلا إلى الاستنجاء، فإذا استنجى بغسل ذكره أمن بذلك إن شاء الله أن يبقى فيه بقية.

    وأما ما ورد في الحديث: (إذا بال أحدكم فلينتر ذكره) فهو ضعيف لا يثبت، والصحيح: أنه لا حاجة إلى النتر، ولا إلى أن يسلته مثلاً، ولا إلى إدخال قطنة في مجرى البول، ولا إلى القفز كما يفعله البعض، ولا إلى أن ينزل في منحدر، ولا إلى أن يتعلق ويحرك نفسه ليخرج ما تبقى من البول في المجرى؛ فإن كل ذلك إنما يفعله الموسوسون، وهو مما لا حاجة إليه.

    ويقول العلماء: إن البول في المثانة بمنزلة اللبن في الضرع، إن حُلب در وإن ترك قر، فإذا أراد الإنسان إخراجه فإنه يخرج، وإذا كان يريد إمساكه فإنه يبقى، وذلك من تيسير الله على الإنسان، فلو كان البول يجري كلما اجتمع لشق على الإنسان؛ لأنه دائماً يمشي ويتحرك، ولكن جعله الله متوقفاً حتى يريد الإنسان إخراجه.

    فهؤلاء الذين يبتلون بهذه الوسوسة والتوهمات يقال لهم: اقطعوا عنكم التوهمات، وثقوا بأن هذا ليس بشيء، ولكن إذا أحس الإنسان بشيء متحقق، كخروج قطرات من ذكره؛ فإن ذلك يعتبر ناقضاً، فعليه أن يستنجي ويعيد الوضوء، وأن يغسل ما أصاب من ثيابه أو من سراويله.

    وأما إذا لم يكن هناك إحساس وإنما هي توهمات، فإنه لا يحتاج إلى أن يفتش نفسه، وكثير منهم يقطع الصلاة عدة مرات، ويقول: إني أحس بخروج البول، ثم إذا فتش ثيابه لم يجد رطوبة ولا غيرها.

    أما إذا ابتلي -والعياذ بالله- بالسلس الذي هو جريان البول وعدم توقفه؛ فإنه يعتبر معذوراً، ولكن لا يتوضأ إلا بعد أن يدخل الوقت، وعليه أن يتحفظ بأن يجعل على فرجه شيئاً يمسك البول في وقت الصلاة؛ كالقطن أو الشاش أو نحو ذلك، إلى أن ينتهي وقت الصلاة حتى لا يلوث ثيابه، ثم بعد ذلك يغيره في الوقت الثاني أو ما أشبهه.

    المشي بالنميمة مما يستوجب عذاب القبر

    الخصلة الثانية التي توجب العذاب: النميمة، وهي نقل الكلام من إنسان إلى آخر على وجه التحريش والإفساد، قال تعالى: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [القلم:11]، والنمام: هو الذي ينقل الكلام من هذا إلى هذا ليوقع الوحشة بين الناس، وليسبب التقاطع والتفرق بين هذا وهذا، ولا شك أنه مفسد، وذنبه كبير، والعادة أن النمام إذا حسد إنساناً على أمر فإنه ينم به حتى يبغضه إلى أصحابه، ويقول: إنه يقول فيكم كذا ويقول فيكم كذا، فتقع البغضاء، وتقع المقاطعة، وتقع الوحشة بين المسلمين بسبب هذا النمام، وقد ورد فيه وعيد شديد حيث قال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة قتات) والقتات: هو النمام.

    وورد في بعض الآثار أن النمام يفسد في الساعة الواحدة ما لا يفسده الساحر في السنة، وما ذاك إلا أنه قد يسبب القتال ووقوع الفتن والتناحر بين المسلمين، زيادةً على التقاطع والتهاجر وما أشبه ذلك، ولذلك ورد في حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم ما العضة؟ هي النميمة القالة بين الناس)، فشبهه بالعضة الذي هو السحر أو نوع من أنواع السحر، فجعله شبيهاً به لهذا السبب الذي هو النميمة.

    فالنميمة على هذا من كبائر الذنوب؛ وذلك لأنها سببت عذاب القبر، وتتفاوت النميمة بحسب المفسدة التي تترتب عليها، فالنمام الذي هذا ديدنه دائماً لا شك أن ذنبه كبير، وقد يكون ذنبه صغيراً إذا لم يحصل بسببه مفسدة، وعلى كل حال فهذان الأمران من كبائر الذنوب.

    الحكمة من غرز الجريدة في القبرين واختصاص النبي بذلك

    أما كونه صلى الله عليه وسلم غرز الجريدة في قبريهما وقال: (لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا)، فقال بعض العلماء: إن ذلك لكون هذه الجريدة رطبة، والرطوبة فيها شيء من الخضرة، والخضرة قد تخفف الألم، وقد يخضر بسببها القبر، ويكون ذلك سبباً لتخفيف العذاب، وقيل: لأن الجريدة حال خضرتها تسبح، فتسبيحها قد يصل تأثيره إلى ذلك المدفون فيخفف عنه، هكذا قال بعضهم، ولكن هل يجوز لنا أن نفعل هذا الفعل فنجعل في القبور جريداً؟ لا يجوز ذلك؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يفعله مع سائر المقبورين، مع أنه قد دفن بعض الناس، وقد استغفر لبعضهم، وقد صلى عليهم، ولو كان ذلك مشروعاً لفعله مع كل أحد، وكأنه خص هذين الاثنين بوحي من الله أنه إذا غرز هذه الجريدة خفف عنهما، ولهذا قال: (لعله يخفف عنهما)، وهذا الفعل لم يفعله الصحابة، ولو كان مشروعاً لوضعوا في كل قبر جريدة خضراء، فلما لم يفعلوا ذلك عرف بذلك اختصاص النبي بهذا الفعل، وكذلك اختصاص هذين القبرين.

    والعبادات مبناها على التوقيف، فلما لم يقل النبي عليه السلام: افعلوا ذلك مع كل ميت؛ دل على أن هذا من خصوصياته أو من خصوصيات هذين القبرين.

    فعلى الإنسان أن يبتعد عن أسباب عذاب القبر؛ وذلك لأن القبر أول منازل الآخرة، وإذا خرجت روح الإنسان فقد قامت قيامته، فإما أن يلقى عذاباً وإما أن يلقى نعيماً.

    من أسباب عذاب القبر

    وأسباب عذاب القبر كثيرة، منها هذان الأمران المذكوران في هذا الحديث، ولا شك أن من أسبابه: الكفر والنفاق، والأعمال السيئة، وسائر المعاصي والذنوب.

    وأهل السنة يصدقون بأن الله تعالى يعذب هذا في قبره، أو ينعم هذا في قبره، كما وردت في ذلك أدلة مجملة ومفصلة، ولكن الكيفية محجوبة عنا، حتى ولو لم ندرك ذلك فقد أدركه الأنبياء، كما أدركه النبي عليه السلام في هذا الحديث، ولو كشفنا عن الميت ورأيناه كما وضع فإنا لا ننفي أنه يعذب أو ينعم، أو يضيق عليه قبره أو يوسع عليه؛ وذلك لأن هذا من علم الآخرة، وأهل الدنيا ليسوا مطلعين على أمور الآخرة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755814758