إسلام ويب

شرح أخصر المختصرات [45]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يعتبر الوقف من أهم الموارد المالية في الدولة الإسلامية، حيث يتكفل بجانب كبير من النفقات على الفقراء والمساكين، وإصلاح الطرق والجسور أو بنائها، وعمارة المساجد ودور تحفيظ القرآن، وغير ذلك. والوقف يعتبر من المندوبات الشرعية التي يبتغي بها صاحبها وجه الله، ودوام الأجر له من بعد موته، وله شروط وأركان وحدود وضوابط يجب الالتزام بها شرعاً.

    1.   

    تعريف الوقف ودليله وصيغته

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل:

    والوقف سنة، ويصح بقول وفعل دال عليه عرفاً، كمن بنى أرضه مسجداً أو مقبرة، وأذن للناس أن يصلوا ‏فيه ويدفنوا فيها.

    وصريحه: وقفت وحبست وسبلت، وكنايته: تصدقت وحرمت وأبدت.

    وشروطه خمسة: كونه في عين معلومة يصح بيعها غير مصحف، وينتفع بها مع بقائها، ‏وكونه على بر، ويصح من مسلم على ذمي وعكسه، وكونه في غير مسجد ونحوه على معين ‏يملك، وكون واقف نافذ التصرف، ووقفه ناجزاً.

    ‏ويجب العمل بشرط واقف إن وافق الشرع، ومع إطلاق يستوي غني وفقير، وذكر وأنثى.

    والنظر عند عدم الشرط لموقوف عليه إن كان محصوراً، وإلا فلحاكم، كما لو كان على ‏مسجد ونحوه.

    وإن وقف على ولده أو ولد غيره فهو لذكر وأنثى بالسوية، ثم لولد بنيه، وعلى بنيه أو بني فلان ‏فللذكور فقط، وإن كانوا قبيلة دخل النساء دون أولادهن من غيرهم، وعلى قرابته أو أهل بيته أو قومه ‏دخل ذكر وأنثى من أولاده وأولاد أبيه وجده وجد أبيه، لا مخالف دينه.‏

    وإن وقف على جماعة يمكن حصرهم وجب تعميمهم والتسوية بينهم، وإلا جاز التفضيل ‏والاقتصار على واحد].

    تعريف الوقف ودليله

    يعرف الوقف كما في زاد المستقنع بأنه: تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة، ولذلك قالوا: إنه عقد لازم، وقالوا: إنه لا يصح الرجوع فيه، ولا يصح بيعه إلا إذا تعطلت منافعه، فيباع ويصرف ثمنه في مثله.

    والواقف يقصد الأجر، هذا هو الأغلب على الواقف؛ وذلك لأن الأجر يستمر بعد موت الواقف.

    ودليله من السنة حديث عمر رضي الله عنه: أنه أصاب أرضاً بخيبر -أي:ملكها- لم يصب مالاً هو أعجب عنده منها، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم ماذا أفعل بها؟ فقال: (إن شئت حبست أصلها وسبلتها، ففعل ذلك عمر رضي الله عنه، فجعلها مسبلة على الفقير والمسكين وابن السبيل والضيف وفي وجوه الخير، وجعل لمن يشتغل فيها أن يأكل منها غير متأثل مالاً) أي: بقدر عمله فيها.

    يقول: هذا البستان وقف سبلته، لا يُباع ولا يوهب ولا يورث ولا يُقسم على الورثة، بل يكون وقفاً، يبتغي به وجه الله، وثمرته وما يخرج منه تُنفق في وجوه الخير، أي: إذا كان يخرج منه تمر أو عنب أو ثمر مأكول أو ينتفع به، فإنه يتصدق بها على الفقراء وذوي الحاجات، فيأتيه أجر هذه الصدقة بعد موته.

    ومن الأدلة على الوقف الحديث الصحيح، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)، فالصدقة الجارية هي الوقف الذي هو تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة، فإذا وقف داراً وقال: يسكنها ذوو الحاجة بدون أجرة، فإنه على خير، وله أجر، أو قال: تؤجر ويُتصدق بثمنها على المساكين وعلى الفقراء والمستضعفين؛ فإنه على خير، فهي صدقة جارية، أو وقف دكاناً وقال: أُجرته على فقراء آل فلان، أو فقراء البلد الفلانية، أو فقراء قبيلة كذا، فله أجر، ولا شك أنه يأتيه الأجر ما دامت الدار عامرة أو المزرعة يُنتفع بها، وكذلك بقية ما يُنتفع به.

    انقسام صيغة الوقف إلى صريح وكناية

    لابد في الوقف من صيغة، والصيغة: قول أو فعل، فيصح بقول، ويصح بفعل دال عليه، وقد مثل للفعل بقوله: (كمن بنى أرضه مسجداً أو مقبرة وأذن للناس أن يصلوا فيه ويدفنوا فيها) أي: بنى أرضه مسجداً وأذن فيه، وفتح أبوابه، فلا يحتاج إلى أن يقول: أشهدكم أني أخرجته من ملكي، وأنه وقف لله، فإذا بناه مسجداً، وجعل محرابه إلى القبلة، وجعل له علامات المسجد كمنارة ونحوها، وأذّن فيه أو ركّب فيه مؤذناً، فقد أصبح هذا وقفاً يأتيه أجره ما دام المسجد عامراً بالمصلين، وكذلك لو كان عنده أرض، فسورها وفتح أبوابها، وأذِن للناس أن يدفنوا فيها أمواتهم، فقد أصبحت مقبرة مسبلة، وخرجت من ملكه، وأصبحت وقفاً على أموات المسلمين.

    أما الصيغة القولية، فذكر المصنف أن منها ما هو صريح ومنها ما هو كناية، يقول: (وصريحه: وقفت وحبست وسبلت، وكنايته: تصدقت وحرمت وأبدتّ)، فإذا قال: وقفت هذا الكتاب أو حبسته أو سبلته أصبح وقفاً ولزمه، ولم يجز له بعد ذلك بيعه، وجاز أن ينتفع به من احتاج إليه أو من وقف عليه، وكذلك لو قال: حبست هذا المُكبر وجعلته لله، لا يباع ولا يوهب ولا يورث، أصبح بهذه الكلمة وقفاً لازماً، وخرج عن ملكه، ولم يحق له أن يرجع فيه، وكذا لو قال: سبلت هذا المكيف، خرج عن ملكه، فكلمة (سبلت) صريحة في أنه أراد بذلك إخراجه من ملكه وجعله وقفاً، وكذلك (وقفت، وحبست) فهذه عبارات صريحة.

    وأما الكنايات فهي: (تصدقت، وحرمت، وأبدت)، والغالب أن كلمة (تصدقت) تكون لإخراجه من ملكه ولتمليكه للمتصدق عليه، فإنه إذا قال: تصدقت بهذا الثوب على فلان، فإن المتصدق عليه يملكه، ولكن إذا قال: تصدقت بهذا الثوب أو بهذه العباءة لمن يحتاج إليه من المسلمين، جاز ذلك، وخرج عن ملكه وأصبح وقفاً، ولابد في هذه الكنايات من النية، وذلك بأن ينوي أنه وقف.

    وأما قوله: (حرمت) فالأصل أن التحريم هو المنع، ولكن قد يريد بقوله: حرمت، أي: حرمت بيعه، وحرمت أن يملكه شخص، وجعلته محرماً على ورثتي أو على شخص معين، فإذا نوى أنه وقف صار وقفاً.

    وكذلك قوله: (أبدت)، كما إذا قال: أبدت هذه الفرش، أي: أخرجتها من ملكي، وجعلتها محرمة مؤبدة ليس لي فيها تصرف، فتصير وقفاً بهذه الكلمة.

    والعلماء يشترطون النية مع هذه الكنايات: (تصدقت وحرمت وأبدت)، وذلك أن يكون القائل ناوياً بذلك كونه وقفاً، أو يكمل ذلك بعبارة أخرى كأن يقول: تصدقت به صدقة محرمة، أو مؤبدة، أو مسبلة، أو محبسة، أو موقوفة، أو يقول: تصدقت به صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث، فيفهم من ذلك أنه جعله وقفاً، وأنه أخرجه من ملكه حتى ينتفع به.

    1.   

    شروط الوقف

    كون الوقف في عين معلومة

    ذكر المصنف رحمه الله أن شروط الوقف خمسة فقال: (كونه في عين معلومة يصح بيعها غير مصحف، وينتفع بها مع بقائها) أي: أن الوقف لابد أن يكون في عين معينة معلومة، أياً كانت تلك العين إذا كان فيها منفعة، حتى الحيوانات، فإذا وقف هذه الفرس على المجاهدين فإنها تكون معلومة، أما إذا قال: فرساً من خيلي فإنه لا يصح حتى يعينها بالفرس الفلانية، أو قال مثلاً: هذا الجمل وقفته على من يجاهد عليه أو من يحج عليه، أصبح معيناً، أما إذا قال: جملاً من جمالي أو بعيراً من إبلي، فلا يصح حتى يعينه، ومثله في هذه الأزمنة المراكب الجديدة، فإنه يجوز وقفها، فيجوز أن يقول: وقفت هذه السيارة على من يحج ويعتمر عليها، أو وقفتها على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر يتجولون عليها، أو وقفتها على الدعاة الذين يدعون إلى الله يسافرون عليها، فأخرجها من ملكه وجعلها وقفاً.

    أما إذا قال: أوقفت سيارةً من سياراتي، وعنده سيارات، فلا يصح؛ لأنه لابد أن تكون معينة حتى تخرج من ملكه؛ لأن الأصل أن الموقوف يخرج عن ملك الواقف حتى ولو تعطل الانتفاع به، فلو وقف فرشاً على المسجد ثم هُدم المسجد، فلا يجوز له أن يقول: ردوا عليّ فرشي، لأنا نقول: قد أخرجته من ملكك فينقل إلى مسجد آخر، ولا يحل لك أن تستعيدها، أو قال: ردوا عليّ مكيفاتي أو مراوحي التي سبلتها في هذا المسجد، لم يحل له أن يرجع فيها.

    فالحاصل أنه لابد أن يكون الوقف بعين معينة معلومة حتى بالإشارة مثلاً، كأن يقول: وقفت هذا المشلح على كل من يتزوج ليلة زواجه حتى أُريحه من شرائه، أو يقف ثوب المرأة الجميل الذي تدخل به على زوجها ليلة الزفاف حتى لا يكلف وليها أن يشتري لها ثوباً، فيوجد في بعض الأماكن لمساعدة المتزوجين مشالح موقوفة على من يريد أن يتزوج، فيأخذه يوم زواجه ثم يرده بعد يوم أو يومين؛ لأنه ليس من أهل لباسه، وكذلك يوجد ثياب للعروس لتتجمل بها ليلة زفافها ثم تردها، فهذه موقوفة يقصد الذين وقفوها الأجر، كذلك الحلي يجوز وقفها، فيوقف ما يسمى بالبنادق والأسورة، وكذا الخواتيم تلبسها العروس يوم زفافها أو القلادة، ثم بعد ذلك يردها المستعير لها؛ لأنه قد يقول: إني لا أقدر على شراء هذا الحلي الثقيل، فهناك من يسبلها ويجعلها وقفاً حتى ينتفع بها في ليلة زفافه أو يوم الاحتفال ثم يردها، وتكون وقفاً على العاجزين عن اقتناء أمثالها.

    وقوله: (يصح بيعها غير مصحف)، فالشيء الذي لا يصح بيعه لا يصح وقفه إلا المصحف، فإنه يصح وقفه مع أنه لا يصح بيعه عندهم، وإن كان الصحيح جواز بيعه، فأما الشيء الذي لا يصح بيعه فلا يصح وقفه، فلا يصح أن يوقف كلب صيد، فيقول: وقفت كلب صيد، أو كلب حراسة للحرث، أو الحراسة للغنم؛ لأنه ليس له ثمن، فلا يصح بيعه.

    ويمثلون أيضاً بجلد الميتة ولو بعد الدبغ، إذ ترجح عندهم أنه لا يباع ولا ينتفع به إلا في اليابسات، والقول الثاني: أنه يصح بيعه ويصح الانتفاع به في اليابس وفي الرطب وما أشبه ذلك، فإذا دبغ جلد الميتة وجعله سقاءً أو قربةً يُبرد فيها الماء صح وقفه؛ لأنه يطهر بالدباغ، فيصح وقف القرب التي يُبرد فيها الماء أو يُنقل فيها الماء، فينتفع بها من يحتاج إليها ولو كانت من جلود الميتة.

    أما جلود ما لا يؤكل لحمه كجلد حمار أو جلد كلب فهذا لا يصح بيعه، ولا يطهر بالدباغ على الصحيح، فلا يصح وقف مثله فراشاً، لأنه قد ورد النهي عن افتراش جلود النمار؛ لأنها سباع، والسباع محرمة الأكل، فلا يصح بيع جلودها، ولا يصح وقفها.

    وتقدم أنه لا يصح بيع الحشرات، فلا يصح وقفها إلا إذا كان لها قيمة مثل النحل، فإنه يصح بيعه ولو كان من الحشرات؛ وذلك لأنه يُنتفع به.

    والشيء الذي لا ينتفع به أو كان نفعه محرماً لا يصح وقفه، وذلك مثل آلات الملاهي، فإن نفعها محرم، فلو قال: أسبل هذه الطبول، وأجعلها وقفاً على الذين يلعبون في أيام الأعياد أو في أيام الأفراح، فإنه لا يجوز؛ وذلك لأن الانتفاع بها محرم، وكذلك جميع آلات الملاهي كالعود والطنبور والرباب، وكذلك كتب الإلحاد وكتب الضلال والمجلات الخليعة، فلو احتسب إنسان وقال: أنا أشتري هذه المجلات وأسبلها في هذه المكتبة، مع أنها مليئة بالضلال وبالصور الهابطة ونحو ذلك فلا يصح وقفه، أو قال: أُسبل هذه الأفلام التي فيها هذه الصور، وأجعلها في هذا المكان وقفاً يتفرج عليها من يريدون أن يتفرجوا، أو هذه الأشرطة الغنائية أسبلها، هل له أجر أم عليه وزر؟

    لاشك أن عليه وزراً، فكل شيء لا يصح بيعه لصفة فيه فإنه لا يجوز وقفه؛ لأن ذلك يعتبر إعانة على المحرم، وهكذا جميع ما يُستعان به على المحرم.

    كون الوقف على برٍّ

    الشرط الثاني: أن يكون الوقف على بر، ومثل له في الحاشية: إذا وقف على المساكين، والمساجد، والقناطر، والأقارب.

    فالقناطر: جمع قنطرة، وهي الجسر الذي يجعل على النهر حتى يعبر الناس من جانب إلى جانب، فإصلاح هذه الجسور إذا خربت فيه نفع للمسلمين، فإذا قال: أُجرة هذا الدكان تُعمر بها المساجد، فهذا وقف بر، أو قال: أجرته لإصلاح فرش هذا المسجد، أو إصلاح مكيفاته، أو إصلاح أنواره، أو إصلاح مكبراته؛ فهذا عمل بر يثاب على ذلك، وكذلك إذا وقف هذه الدكاكين، وجعل أجرتها تُفرق على مساكين هذا البلد، أو مساكين القرية الفلانية، أو أقاربه ونحوهم؛ فهذه من أعمال البر.

    عرفنا ما هو الوقف على بر، فما مثال الوقف الذي ليس على بر؟

    نقول الأمثلة كثيرة؛ فإذا قال: غلته مثلاً يُسرج بها هذا القبر الذي يُعبد، أو يبنى بها على هذا القبر مشهد؛ حتى يكون هناك من يعبده ومن يصلون عنده أو يدعونه، فهذا عمل إثم، ولا عبرة بمن يفعله.

    فيذكرون أن الرافضة في العراق وغيره أكثر أوقافهم على كربلاء، وعلى النجف، يدّعون أن كربلاء فيها قبر الحسين ، والنجف فيه قبر علي رضي الله عنهما، فيوقفون السرج والأنوار على قبريهما، وكذلك يوقفون على عمارة الطرق وسفلتتها حتى يصلوا إلى هذا المشهد وهذه المعابد، ويوقفون على تنوير الطرق، وكذلك على عمارة ما انهدم وترميمه إذا طالت مدته، بل يوقفون على من يخدم من يزور هذه المشاهد، ويقولون: أنت يا هذا خادم لهؤلاء الذين يزورون هذا المكان ويطوفون به، وأجرتك وراتبك من هذه الأوقاف، حتى يخدمهم بحلق رءوسهم، يتحللون كأنهم محرمون، أو يحلقون لحاهم، أو ما أشبه ذلك، فهل هذه الأوقاف يؤجرون عليها؟ لا.

    وهكذا كثير من الذين يوقفون أوقافاً كثيرة على إسراج القبور، أو على صب الأدهان عليها، أو على ضيافة من يعتكف عندها، أو من يطوف بها، أو ما أشبه ذلك، فهذا وقف على إثم ليس وقفاً على بر، فإن الوقف هو الذي يقصد به الأجر الأخروي، وأما إذا كان هذا يقصد به الإثم فإنه يعتبر مساعدة على الإثم، فيصير الذين وقفوا متعاونين على الإثم والعدوان.

    فأنواع البر كثيرة، وأنواع الموقوفات أيضاً كثيرة، كان كثير من المسلمين يحرصون على أن يكون هناك ما ينتفع به إخوانهم العاجزون، فيوقفون ما يساعدهم على قضاء حوائجهم، وقد أدركنا قبل خمسين سنة أو نحوها أنهم يوقفون أشياء تمس إليها الحاجة، حتى كان يوقف بعضهم السكين على من يذبح بها أضحية أو نحوها ولا يجد ما يذبح به، ويوقف المنجل (المحش) على من يقطع به النخيل أو السعف أو يحش به لدوابه، ويوقفون القدور على من يطبخ بها إذا احتاجوا أن يطبخوا فيها؛ لأنه ليس كل أحد كان يجد قِدراً كبيراً يطبخ به إذا نزل به ضيف، فيذهبون إلى من عنده قدر موقوف فيقولون: عند فلان ضيف، ويأتون به ليطبخ فيه.

    كذلك مما كانوا يوقفونه الطاحونة التي هي الرحى، وهي عبارة عن حجرين مدورين أحدهما فوق الآخر يُطحن بها القمح، والبر، والذرة، ونحوه، يديرونها إلى أن يخرج الدقيق من حافاتها، فكانوا قديماً في القرى يقولون: يوجد في بيت فلان رحى مسبلة نذهب نطحن فيها، وهكذا، فهذه بلا شك من الأسبال التي يؤجر من يوقفها.

    والأمثلة كثيرة، فكل من سبّل شيئاً فيه منفعة ولو ثوباً أو ثياباً تُلبس في أيام العيد أو في أيام الحفلات يكون له أجره على لباسه، وكانوا يسبلون الأسلحة التي يقاتل بها، فيسبل عدة سيوف أو رماح لمن يقاتل في سبيل الله، كذلك الأقواس التي يُرمى بها قديماً، وبعدما وجدت البنادق كان يُسبل كثير منهم الأسلحة الجديدة، ويجعلها وقفاً لمن يقاتل بها في سبيل الله، وكذلك الدروع التي يلبسونها ويتحصنون بها من مواقع السلاح، وكذلك المغفر الذي يجعل على الرأس، فكانوا يسبلون أمثال هذه، ويبتغون بذلك الأجر؛ لأن من جهز غازياً فقد غزا، فيبقى له أجره ما دام يُقاتل بهذا السيف، فيكون قد ساعد على قتال المشركين؛ ولأنه نفع المسلمين بها في الجهاد أو ما أشبه ذلك، فهذه كلها تُعتبر من الوقف على بر.

    واستثنوا أن يقف مسلم على ذمي، أو ذمي على مسلم، فيجوز ذلك ولو لم يكن فيه بر إلا أن فيه بر القرابة، ذكروا أن صفية أم المؤمنين رضي الله عنها كان لها قريب يهودي فدعته ليُسلم، وقالت: أسلم حتى ترثني، ففكر ثم قال: لا أترك ديني حتى لا يُقال: ترك دينه لأجل هذه المصلحة، فأصر على بقائه على يهوديته، وأحبت أن تصله لأجل القرابة، فوقفت وقفاً كدار، وجعلت غلتها عليه من باب صلة الرحم، فاستدلوا بذلك على أنه يجوز الوقف على غير المسلم إذا كان لقرابة بينهما، وكذلك لو كان الواقف هو الذمي كيهودي له ذمة أو نصراني له ذمة وقف على المسلمين، فبنى لهم مسجداً، أو أصلح لهم طريقاً، أو سبل لهم مقبرة، أو سبل نعشاً يُحمل عليه الموتى، فيصح ولو كان الذي سبله يهودياً ذمياً، لكن لما كان ينتفع به قُبل الانتفاع به، ونفذ ذلك، وصار وقفاً على المسلمين.

    ثم قولهم: يشترط أن ينتفع بها مع بقاء عينها، يخرج بذلك ما لا ينتفع به إلا بإتلافه، فإنه لا يصح وقفه فلو قال: وقفت كيس الأرز، لم يصح هذا وقفاً؛ لأنه يتلف بأكله، وإذا قال مثلاً: وقفت هذا الشمع على هذا المسجد،لم يصح؛ لأن الشمع أيضاً يحترق شيئاً فشيئاً؛ لأنه يوقد بالشحم أو الزيت المجمد فلا يُنتفع به إلا بإتلافه، ومثل هذا لا يُسمى وقفاً؛ لأنه يفنى باستعماله.

    بخلاف ما إذا قال: وقفت هذا السراج أو هذه النجفات ونحوها، فهذه تسمى وقفاً؛ لأنه يُنتفع بها مع بقائها.

    ولو كان الموقوف يتلف بالاستعمال الطويل، كالثوب يتلف بالاستعمال، فإنه يصح وقفه؛ لأنه ينتفع به مدة، وكذلك إذا وقف الأحذية على المساكين أو على المصلين أو ما أشبه ذلك، وكذلك إذا وقف بئراً فيها ماء فإنه ينتفع بمائها؛ لأن الماء ولو كان يستهلك لكنه يستخلف، حيث ينزح منها ثم يأتي ماء بدل الماء، فيصح وقف البئر ليشرب منها، ويصح وقف الأحواض التي يُصب فيها الماء، ويصح وقف الدلو الذي يُنتزع به من البئر، ويكون وقفه مساعدةً على استخراج الماء من البئر، وفي هذه الأزمنة يصح وقف الماكينة (المضخة) التي ينتزع بها الماء من البئر، ويصح الوقف على وقودها ونحوه، فإذا وقف داراً وقال: غلة هذه الدار -أجرة هذه الدار- تُصلح منها هذه الماكينة التي يجتذب بها الماء، فيُشترى لها محروقات مثلاً، وهي تسقي النخل الذي ثمرته وقف على الصائمين أو ما أشبه ذلك، فكل ذلك مما يُنتفع به مع بقاء عينه.

    كون الوقف على معين

    الشرط الثالث: أن يكون الوقف على معين يملك، إلا المسجد فإنه لا يملك، ولكن يصح الوقف عليه، ولكن لابد أن يوكل من يصلحه، فلو قال: وقفت هذا الدكان على هذا المسجد، فلابد من وكيل يؤجر الدكان، ويطلب الأجر، ويرمم المسجد، ويُصلح ما وهى منه، فيصلح أنواره، أو يدفع أجرة من يخدمه، أو ما أشبه ذلك.

    فالمسجد جماد لا يملك، ولكن لابد من إنسان يتولى إصلاحه والإشراف عليه، هذا في المسجد، وكذلك في المقبرة لابد أن يكون هناك وكيل يحفر فيها أو يُصلحها ويفتح الأبواب أو ما أشبه ذلك، فيكون هذا وقفاً على شيء لا يملك، ولكنه يستأجر له من يتولى أمره، وكذلك القناطر -التي هي الجسور التي يعبر بها من مكان إلى مكان- يصح الوقف عليها.

    أما غير المساجد فلا بد أن يكون على معين يملك، وذلك إما معين بالذات أو معين بالوصف، ولابد أن يكون ذلك المعين ممن يملك، فالمعين بالذات كأن يقول: هذا وقف على أولادي، فإن كثيراً من الناس يقول: هذا البيت وقف على أولادي أو على أولادي الإناث، تسكنه من هي محتاجة ولا يباع، فهذا معين ببناته، أو يقول: يسكنه من لا يملك سكناً من أولادي بدلاً من أن يستأجر، أو يقول: غلته وأجرته تُقسم على أولادي أو على ذوي الحاجة منهم، فمثل هذا أيضاً معين يملك.

    وأما غير المعين فيصح إذا عُين بالوصف، كأن يقول: وقف على المساكين، أو على الفقراء، أو على المجاهدين، أو يقول: غلة هذا العقار أو ثمرة هذا النخل على الصوام أو نحوهم، فهذا غير معين بالذات ولكنه معين بالوصف، وكذلك إذا قال: على ذوي الحاجة من أسرتي أو من القبيلة الفلانية، فكل هذا معين بالوصف، ولابد أن يمكنه أن ينتفع بهذه العين، ويشاهد انتفاعه بها، وأما الذي لا يشاهد فلا يجوز، إلا إذا وقفه مثلاً على تجهيز الأموات بأن يقول: أجرة هذه الدار أو الدكان في تجهيز الأموات، يُشترى به أكفان وحنوط وأجرة حفارين، فمثل هذا أيضاً يملك، وإن لم يكن ملكاً صحيحاً.

    فأما ما لا يملك فلا يجوز الوقف عليه، مثاله: هؤلاء القبوريون يوقفون على ذلك القبر، فصاحب القبر ميت لا يملك، فيقولون: وقف على السيد فلان، على سيدي فلان، على الرفاعي ، أو على سيدي عبد القادر ، أو على سيدي البدوي ، وهي أوقاف طائلة توقف على هؤلاء الأموات، ويتلاعب بها الذين يتولونها.

    ثم يمثلون لمن لا يملك بما لو قال: وقف على المؤمنين من الجن؛ لأنهم لا يملكون كالبشر؛ ولو أنه خصص المؤمنين، أو قال: وقف على الملائكة، فالملائكة ليسوا من جنس البشر، ولا يملكون ملك المشاهدة، فلابد أن يكون الوقف على معين، وأن يكون ذلك المعين ممن يصح تملكه وانتفاعه.

    كون الواقف جائز التصرف

    الشرط الرابع: كون الواقف جائز التصرف، فلا يصح من محجور عليه، فلو كان الواقف سفيهاً أو محجوراً عليه، كالمفلس الفقير الذي كثرت الديون عليه، أو إذا كان صغيراً لم يبلُغ ولم يعرف الأمور، فمثل هذا لا يصح وقفه حتى يبلُغ ويعقل ويفك حجره وما أشبه ذلك.

    كون الوقف ناجزاً

    الشرط الخامس: أن يكون الوقف ناجزاً فلا يصح أن يكون وقفاً معلقاً ولا محدداً.

    والناجز هو الذي يخرجه من ملكيته في الحال، يقول: وقفت هذا الكتاب، فيخرجه من ملكيته حالاً، وكذلك إذا قال: وقفت هذه الدار، خرجت من ملكيته وقفاً ناجزاً.

    وغير الناجز هو المعلق، فلو قال مثلاً: إذا أغناني الله عن داري فهي وقف، فهذا وقف غير ناجز، فلا ينجز إلا إذا نجزه وقال: قد أخرجته من ملكي وأصبح وقفاً.

    وكذلك إذا قال مثلاً: إذا قضيت ديني أوقفت دكاني أو أوقفت هذه الأرض مسجداً، فهذا أيضاً وقف معلق، فلا يصح إلا إذا كان منجزاً.

    وكذلك أيضاً لو وقفه زمناً محدداً لم يصح، فلو قال مثلاً: وقفت هذا المكيف مدة الصيف، فلا يسمى وقفاً بل يسمى عارية؛ لأنه إذا انقضى الصيف أخذه، فلا يسمى وقفاً، فالوقف لابد أن يكون منجزاً تنقطع عنه علاقات الواقف، ويقصد بذلك الأجر عليه.

    فهذه خمسة شروط:

    الأول: كونه في عين معينة معلومة.

    والثاني: كونه على بر.

    والثالث: كونه على معين يملك.

    والرابع: كون الواقف نافذ التصرف.

    والخامس: كون الوقف ناجزاً.

    1.   

    العمل بشرط الواقف إن وافق الشرع

    قال المصنف رحمه الله: (ويجب العمل بشرط الواقف إن وافق الشرع):

    أي: يجب العمل بشرط الواقف، فإذا شرط فيه شروطاً موافقةً للشرع وجب العمل بها؛ لأنه هو المالك، أما إذا لم توافق الشرع فإنه لا يجوز العمل بها، فمثلاً لو قال: هذا المسجد وقفٌ على الصوفية لا يصلي فيه إلا المتصوفة، فغلاة الصوفية مشركون، فإذا استولينا عليه قلنا: هذا شرط باطل لا يُعمل به، وكذلك لو قال: غلة هذا العقار وقف على عمارة هذا القبر أو هذا المشهد، أو على خدمة الذين يعبدونه، ويعكفون عنده، فهذا شرط باطل لا يُعمل به، وكذلك لو قال: غلة هذا البيت يُشترى بها -مثلاً- آلات لهو، وطرب، وتسبل ويلعب بها في الحفلات وفي المهرجانات ونحوها، فلا يُعمل بهذا الشرط، ويعتبر شرطاً باطلاً.

    وإذا وافق الشرط الشرع عُمل به، فإذا عين فيه إماماً فقال: وقفت هذا المسجد وبنيته بشرط ألا يصلي به إلا فلان مدة حياته عُمل بشرطه، وإذا بنى مدرسة وسبلها، وقال: بشرط أن يدرّس فيها المذهب الحنبلي أو المذهب الشافعي، فإنه يُعمل بشرطه، أو سبل داراً وقال: تُصرف أجرتها في شراء كتب التوحيد، أو كتب العقائد، أو يشترى بها كتب الفقه الحنفي أو الشافعي عمل بشرطه؛ لأن له مقصداً في ذلك؛ ولأن هذا شرط لا يخالف الشرع.

    وكذلك لو شرط أن يتولاه فلان، ثم فلان، فإنهم يتولونه على ترتيبه الذي رتبه لهم.

    وكذلك إذا شرط أن ينفق على جهة معينة وقال: ينفقه فلان على القبيلة الفلانية، وغلّة هذا الوقف أو ثمرة هذا النخل تُنفق على قبيلة كذا أو للأسرة الفلانية، أو قال: أجرة هذه الدار لأولاد فلان ولم يحدد ولم يرتب، فإنه يستوي فيهم الذكر والأنثى، والغني والفقير، أي: يقسم بينهم على رءوسهم.

    أما إذا حدد وقال: يعطى الذكر سهمين، أو يُفضل الغني، أو القوي، أو العالم، أو المجاهد، أو الكريم، أو السخي، أو تختص بالفقراء، فخصص جهة، أو قال: تختص بالعزاب، أو لمساعدة المتزوجين؛ ففي هذه الحال يعمل بشرطه؛ لأنه شرط له فيه مقصد؛ ولأنه قد يكون قصده بذلك الأجر.

    وإذا رئي مثلاً أنه خالف ما هو الأفضل والأولى، فالأولى أن يُقترح عليه ما هو أصلح وما هو أولى، فيقال: أنت ذكرت أنه يسوى بين الغني والفقير، وهذا ليس فيه أجر، فإن الغني عنده ما يكفيه ويسد حاجته ولو كان من أولادك، فالأولى إذا كان وقفاً أن تصرفه عن الغني، وأن تجعله للفقراء أو ما أشبه ذلك.

    واشتهر عند بعض الفقهاء قاعدة وهي قولهم: شروط الواقف كشروط الشارع، ولكن هذا ليس بصحيح، لأن شروط الشارع جاءت عن المشرع الذي هو النبي صلى الله عليه وسلم، فهي مقدمة ويلزم العمل بها، وأما الواقف فهو بشر، فقد يشرط شرطاً يخالف مقتضى الشرع فلا يجوز العمل به، وقد ذكرنا لذلك أمثلة منها: إذا شرط أن يتولى وقفه فاسق فإنه لا يعمل به، ومن ذلك أن يعين في المسجد إماماً صوفياً أو قبورياً، وكذا إذا شرط أن يدفن في مسجده، كما إذا قال: إذا مت فادفنوني في مسجدي، فإن هذه شروط تخالف مقتضى الشرع فلا يعمل بها.

    وهكذا الشروط التي تكون على باطل أو على محرم؛ فلو شرط أن غلة هذا الوقف تعمر بها الكنائس، أو تُرفع بها القباب على القبور، أو يُطبع بها الإنجيل أو التوراة، أو كتب الإلحاد، فمثل هذا لا يصح العمل بشرطه؛ وذلك لأنه يخالف مقتضى الشرع.

    فلابد أن تكون شروط الواقف موافقة للشرع، فإذا شرط أن يتولى إمامة المسجد فلان وكان كفئاً، أو يؤذن فيه فلان وكان أهلاً لأن يتولى المأذنة، أو شرط أن وقفه ينظر فيه، ويتولى تأجيره وإصلاحه أحد أولاده، وكانوا مأمونين وموثوقين، فإن هذا شرط يوافق مقتضى الشرع فيعمل به.

    وكذلك مصرف الوقف: فإذا شرط أن يُصرف في المساكين، أو يصرف على المساجد، أو على القناطر، أو على المدارس الخيرية، كمدارس تحفيظ القرآن، أو على المجاهدين، أو على طبع الرسائل والكتيبات الإسلامية والأشرطة الدينية، فإن هذه شروط فيها مصلحة.

    1.   

    ناظر الوقف

    أما بالنسبة للناظر على الوقف، فإذا قال الواقف: الوكيل على هذه الأوقاف فلان، والنظر له ينظر ما هو الأصلح، فعلى هذا الوكيل أن ينظر ما هو الأصلح، فيمكن في هذه السنة أن يتصدق به على الفقراء والمساكين، وفي السنة الثانية يصرفه على المجاهدين، وفي السنة الثالثة يُعمر به مساجد، وفي السنة الرابعة يطبع به كتباً أو أشرطة، فيكون النظر موقوفاً على اختيار ذلك الوكيل، ومن هنا فلابد أن يكون الناظر رشيداً عالماً.

    وذكر المصنف أنه إذا لم يُعين فالنظر للموقوف عليهم، فإذا قال: غلة هذا البيت وقف على أولاد زيد، أو أولاد عمرو، أو أولاد أخي، ولم يعين ناظراً، ففي هذه الحال يكون الناظر واحداً منهم هو الذي يؤجره ويصلحه إذا وهي ويرممه، ويقبض الأجرة، ويفرقها فيما يريد، ويعطي من هو الأحق.

    فالوكيل هنا هو أحد الموقوف عليهم، حيث يتفقون على رجل رشيد فيقولون: يا أخانا؛ أنت أفلحنا وأعدلنا، فنريد أن نجعلك وكيلاً على وقفنا؛ سواء كان الوقف عقاراً، كشقق أو دكاكين، أو كان بستاناً فيه نخيل وأعناب وتين ورمان وأشجار مثمرة، فهذا الوكيل يحفر الآبار، ويجري الأنهار، ويحاسب العمال، ويتفقد عملهم، ويوكل على التلقيح وعلى السقي، وعلى الحرث والزبر والحصاد وما أشبه ذلك.

    والوكيل يتعب، فيجوز أن يجعلوا له جُعلاً مقابل تعبه، كأن يقولوا:(10%) أو (5%) من غلة هذا الوقف مقابل تعبك، ومقابل عملك وشغلك.

    ولو عجز الموقوف عليهم عن الإشراف على هذا الوقف وعمارته، أو عن حرثه وزبره وما أشبه ذلك، فاستأجروا أجيراً أجنبياً للأشراف عليه، وجعلوا له جُعلاً، فقالوا: لك من كل عشرة واحداً أو اثنان أو قالوا: لك (10%) أو (20%) مقابل إشرافك وتعبك، فأنت تشتري المحروقات -مثلاً-، وتحاسب العمال، وتتفقد عملهم، وتوظفهم، أو تقوم بالسقي، وتصلح مجاري الماء، وتلقح، وتقطع الأغصان الرديئة، وأنت تصرم، وأنت.. وأنت..، ففي هذه الحال يجوز أن يجعلوا له جُعلاً، ويجوز له أن يأخذه ولو لم يكن من أهل الوقف.

    وإذا كان الموقوف عليهم محصورين كأن يقول: هذا وقف على أولاد أخي، وهم خمسة، فيختارون واحداً منهم، أو يقومون كلهم بالإشراف والنظر.

    وكذلك إذا كان الموقوف منقولاً، فلابد أيضاً أن يكون عليه ناظر، فكثيراً ما يكتبون على الكتاب: هذا الكتاب وقف لله تعالى على طلبة العلم، والناظر عليه فلان ومن بعده فلان، فوظيفة هذا الناظر (الوكيل) أنه يحفظه من التلف، وإذا أعاره إنساناً توثق أنه سوف يرده إلى مكانه، وكذلك يحدد له مدة، فيقول مثلاً: أعرتك الكتاب عشرة أيام أو نحو ذلك، وعليه أن يحتاط.

    وكذلك لو كان الموقوف سيفاً أو سلاحاً يقاتل به، فلابد أن يكون عليه ناظر، وهذا الناظر يعطيه من هو من أهل النجدة والقتال به.

    وكذلك الأواني؛ إذا كان الموقوف قدراً أو صحناً أو فأساً فإنه يكون عليه وكيل، وهكذا سائر الموقوفات.

    النظر للحاكم إذا كان الموقوف عليهم غير معينين

    إذا لم يعين الواقف وكيلاً، وكان الموقوف عليهم غير معينين كالمساجد، كما إذا وقف على المسجد أو على مساجد البلاد، أو وقف على مطبعة تطبع كتب أهل الإسلام أو ما أشبه ذلك، أو أجهزة التسجيل التي تسجل العلوم الإسلامية، ولم يوكل النظر لأحد؛ ففي هذه الحال يكون النظر للحاكم قاضي البلد.

    قد يقولون: إن قاضي البلد لا يستطيع أن يُشرف على الأوقاف كلها لكثرتها، ولكن له أن يوكل، فيقول: أنت يا فلان وكيل على الوقف الفلاني الذي على المساجد، وأنت يا فلان وكيل على العقار الذي في المكان الفلاني الذي هو موقوف على طبع الكتب، وهكذا إذا كان الوقف على مسجد، أو على قنطرة، أو مدرسة خيرية، أو جهة خيرية كالجهاد وتجهيز الغزاة وما أشبه ذلك.

    حكما زيادة غلة الوقف عن مصرفه زيادة غير عادية

    قديماً كان الوقف منزلاً صغيراً، وكان يؤجر في السنة بمائة أو بثمانين، فيقول الواقف: وقفته في أضحية، ويسكت عما زاد؛ لأنه في ذلك الزمان لم تكن غلته إلا بقدر الأضحية، لكن في هذه الأزمنة قد يكون إيجاره عشرة آلاف، وقد تصل في بعضها إلى مائة ألف بعد أن كانت أربعين ريالاً، وذلك بسبب أن الأوقاف كانت محل رغبة، ثم نُزعت ملكيتها، ولما نُزعت قدر لها ثمن كثير، فاشتري بها في مكان آخر، ثم جاءها أيضاً تثمين فقدرت بملايين، فعُمر بها أيضاً، فكانت تُغل كل سنة ثلاثمائة ألف أو خمسمائة ألف، وليس فيها إلا أضحية.

    ففي هذه الحال إذا لم يذكر لها مصرفاً فإن الباقي يصرف في أعمال الخير، وما ذاك إلا لأن الواقف إنما قصد أن يبقى الأجر مستمراً عملاً بحديث: (صدقة جارية)، فلما كانت كذلك رأى العلماء أن يصرف الباقي في مصارف الخير.

    كثير من الواقفين لا يعينون المصرف، بل يقولون: هذا البيت وقف في أعمال البر، ففي هذه الحال تتولاه وزارة الأوقاف، وفي كل دولة وزارة أوقاف، فهذه الوزارة تصرفه في وجوه الخير.

    أما إذا كان الواقف قد عين جهة، كما إذا حدد أن هذا البستان أو هذا المنزل وقف على أولاده، فإنه يقتصر عليهم.

    وهنا سؤال: لماذا وقفته على أولادك، فأموالك كلها لأولادك يأخذونها بعد موتك، فلماذا جعلته لأولادك؟

    الجواب: يقول: إذا جعلته ملكاً مطلقاً يمكن أنهم يبيعوه، وإذا اقتسموه ربما أنهم يفسدونه وينفقونه بسرعة، أما إذا بقي فإنهم إن احتاجوا سكنوا، وإن لم يحتاجوا أجّروا، ويبقى مؤجراً ينتفعون به هم، ومن بعدهم أولادهم، فهذا مقصد كثير من الذين يوقفون البيوت والدكاكين على أولادهم، فيقولون: نخشى أن يبيعوه ويصرفوه ولا يبقى لهم شيء يغل.

    وهكذا إذا وقف البستان، فقد يوقف البستان ويجعل فيه أضحية أو حجة، أو يجعل فيه نخلة للصائمين، وقد كانوا قديماً يقولون: هذه النخلة وقف لإفطار الصائمين في هذا المسجد، فتبقى النخلة موقوفة، والبقية ملك، فلا يقدرون على أن يبيعوه؛ لأن فيه نخلة، وقد يكون فيه نخلات، ويوجد الآن بعض البساتين أوقف الجد الأبعد نخلة، ثم الجد الذي يليه نخلة، ثم الجد الذي دونه نخلة، وهكذا إلى أن وصلت إلى خمس أو عشر، ولا يقدرون على بيعه، فلأجل ذلك يقتصرون على استغلاله.

    تعطل الوقف لسوء تصرف الناظر

    ما حكم تعطّل الوقف؟

    يوجد الآن كثير من المزارع التي كانت موقوفة، أو كانت فيها نخلة موقوفة أو فيها أضحية، ثم تعطلت بسبب غور المياه أو غلاء العمال أو غلاء المحروقات.

    والغالب أن الوكيل قديماً لم يحسن التصرف، فكانوا يأكلونها ولا يدخرون منها شيئاً للمستقبل، فيستغلون البيت ما دام عامراً، فإذا خرب وانهدم قالوا: ليس عندنا ما نعمره، أو يشتغلون بالماكينة ما دامت تشتغل، ويأكلون ما حصلوا عليه، فإذا خربت تركوها وقالوا: ليس عندنا ما يصلحها، وقد كان الأولى بهم أن يدخروا كل سنة شيئاً من الغلة، حتى إذا خربت كانوا قد جمعوا ما يصلحونها به أو ما يشترون به ماكينة أخرى، فلذلك يقولون: إن على الناظر مسئولية، فإن الواقف يريد أن يستمر أجره، وأنت أيها الناظر وكيل، فعليك ألا تستغل المصلحة ما دامت موجودة ثم تعطلها، بل مسئوليتك كبيرة، وهو أنك تنظر إلى هذه الغلة، وترصد شيئاً منها للمستقبل.

    حتى الدكاكين والشقق التي تؤجر، فالآن يقبضون أجرتها ثم يقتسمونها بسرعة، ثم في السنة الآتية أو التي بعدها تتعطل فلا تؤجر، ثم يقولون: ليس عندنا ما نضحي له به، أو ليس عندنا ما نحجج له به، فيقال: أين غلتها في الأزمنة الماضية؟ فيقولون: اقتسمناها!

    فيقال لهم: أخطأتم، وكان الأولى أنكم تحتفظون ببعضها، فربما تتعطل في سنة من السنوات فلا تؤجر أو ما أشبه ذلك، فالحاصل أن على الوكيل الناظر مسئولية.

    1.   

    الوقف الخاص

    استواء الذكور والإناث في حالة الوقف على الأولاد

    قال المصنف رحمه الله: (وإن وقف على ولده أو ولد غيره فهو لذكر وأنثى بالسوية، ثم لولد بنيه):

    كلمة الولد يدخل فيها الذكر والأنثى، كما في قوله تعالى: يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11] فالأنثى تسمى ولداً؛ لأنها مولودة، وكما في قوله تعالى: إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ [النساء:11]، وقوله تعالى: فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ [النساء:12]، وقوله: فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ [النساء:12]، فيدخل الذكر والأنثى في كلمة ولد، فإذا قال: هذا الوقف -بستاناً كان أو دكاناً- وقف على ولدي، أو قال: وقف على ولد أخي، أو قال: على ولد ابن عمي فلان؛ فإنه يدخل فيه الذكور والإناث؛ لأنهم جميعاً من الولد.

    ثم اختلفوا هل يكون وقفاً يتوزعونه بالسوية، أو يُفضل بعضهم كالذكور؟ المشهور أنهم يستوون.

    الوقف على ولد الابن وحكم دخول أولاد البنات فيه

    قوله: (ثم بعدهم لولد بنيه)، يعني: ذكوراً وإناثاً دون ولد البنات، فلا يدخل أولاد البنات؛ لأنهم يعتبرون أجانب، فلا يدخلون في قوله: على ولدي.

    ثم هاهنا أيضاً مسألة تُشكل كثيراً: يأتوننا أناس ويقولون: إن جدنا مات، وجعل الوقف على أولاده، وأبونا قد مات، وأعمامنا لم يعطونا نصيب آبائنا، فهل لأولاد بنيه نصيب في هذه الحال؟

    بعض الواقفين ينص على ذلك، فيقول: من مات من أولادي فنصيبه لأولاده، وفي هذا حل للنزاع، وبعضهم يسكت ويقول: على أولادي، أو يقول: على أولادي ثم أولاد بني ثم أولادهم وإن نزلوا، فإذا مات واحد منهم قد يكون له أولاد فقراء وأيتام، فأعمامهم يستغلون هذا الوقف ويقولون: لا حق لكم؛ لأنكم من البطن الثاني ونحن من البطن الأول!

    فالجواب: الواقف ما أراد إلا الأجر، وهؤلاء من ولده، وهم أيتام وفقراء، ففي هذه الحال الراجح أن من مات من أولاده فسهمه لذريته.

    وإذا كان أولاده مثلاً عشرة، فالبنت إذا ماتت يرجع سهمها إلى الذكور، وليس لأولادها شيء؛ لأنهم أجانب، وأما الابن إذا مات فإن أولاده لهم حق، فلا يسقط حقه، فنرى في هذه الحال أنهم يعطون من غلة وقف جدهم.

    وعبارة الفقهاء: (ثم لولد بنيه) يقتضي أنهم لا يعطون البنين إلا إذا انقطع الأولاد، ومعنى هذا أنه إذا كان الوقف غلته مائة ألف، وأولاده عشرة ذكور وإناث، فماتت بنت فإن المائة الألف تقسم على التسعة الباقين، فإذا ماتت بنت أخرى، قسمت المائة ألف على الثمانية، وكذلك إذا مات ابن، بل إذا ماتوا كلهم إلا واحداً فتكون الغلة لهذا الواحد، ولو بقي عشرين سنة وهو يأكل هذه الغلة، وأولاد إخوته فقراء ويتامى لا يعطيهم شيئاً، هذا مقتضى كلام بعض الفقهاء، ولعل الصحيح أنهم أولى بالرحمة، لاسيما إذا مات آباؤهم وهم أطفال، فهم أولى بأن يعطوا أنصباء آبائهم.

    قال: (وعلى بنيه أو بني فلان، فللذكور فقط) أي: إذا قال: هذا وقف على بني، أو على بني أخي، أو على بني أختي؛ فإن كلمة (بنين) تختص بالذكور؛ لأنه إذا قيل: فلان له أولاد؟ قالوا: نعم، له أربعة بنين وخمس بنات، فقسم الأولاد إلى بنين وبنات، كما يقال الآن: مدارس بنين ومدارس بنات، أما كلمة أولاد فإنها تعم الذكور والإناث، فكلمة بنين تختص بالذكور، فإذا قال: هو وقف على بني، أو على بني أخي، أو على بني عمي؛ اختص بالذكور.

    وكانوا يخصون الذكور؛ لأن الإناث غالباً يستغنين بمهورهن وبنفقة أزواجهن، فالمرأة لا تحتاج غالباً إلى المال؛ لأنه ينفق عليها زوجها، وأما الأبناء الذكور فإنهم بحاجة إلى دفعه في مهور، وإلى دفعه في نفقة على الأولاد، أو نفقة على الزوجات، أو على الخدم، أو ما أشبه ذلك، فقد يجوز أن يخص به الذكور، سيما إذا زوّج البنات في حياته، وعرف أنهن استغنين، فيقول: غلة هذا الدكان على بني أو ما أشبه ذلك، فيختص بالذكور فقط.

    توزيع الوقف على الأولاد والأبناء والقبائل ونحو ذلك

    قال المصنف رحمه الله: (وإن كانوا قبيلة دخل النساء دون أولادهن من غيرهم) أي: إذا وقف على قبيلة، والقبيلة كما إذا قيل مثلاً: بنو تميم، بنو أسد، بنو خزيمة، بنو يربوع، بنو دارم، بنو حنظلة، بنو جهينة، وما أشبهه؛ فهذه قبائل، فإذا وقف على قبيلة دخل فيهم الذكور والإناث إلا أولاد الإناث من غيرهم؛ وذلك لأنهم لا ينتسبون إليهم، بل ينتسبون إلى قبائلهم، فمثلاً: امرأة من بني سليم زوجها من غطفان فيقال: أولادها من غطفان لا من سليم، فإذا وقف على بني سليم دخل الإناث دون أولادهن من غيرهم.

    حكم الواقف على قرابته أو أهل بيته أو قومه

    ثم ذكر المصنف بعد ذلك أنه إذا وقف على قرابته فقال: على قرابتي، أو: على أهل بيتي، أو: على قومي، أو: على أنسابي -النسب والنسيب هو القريب- ففي هذه الحال يدخل الذكر والأنثى من أولاده، وأولاد أبيه، وأولاد جده، وأولاد جد أبيه، يعني: أربعة بطون، ودليل ذلك الأخذ بأولي القربى في قول الله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى [الأنفال:41]، وما كان لذي القربى صرفه النبي صلى الله عليه وسلم لأقاربه، فأدخل فيه ذريته كـفاطمة وبنيها، ولم يكن لأبيه ذرية غيره، وذرية جده عبد المطلب وهم أعمامه، وذرية جد أبيه وهو هاشم، فأدخل هؤلاء الأربعة، فهكذا كلمة القرابة والقوم والنسباء وأهل البيت يدخل فيهم أربعة بطون.

    وكلمة أهل البيت يراد بها الأقارب في الأصل، كما في قول الله تعالى في قصة إبراهيم: رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ [هود:73] أي: أقارب إبراهيم وذريته ونحوهم، إلا من خالف في الدين فلا يدخلون في أهل البيت ولا في القرابة.

    وكذلك في قول الله تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ [الأحزاب:33]، فأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم فسروا بأنهم أقاربه الذين حرمت عليهم الزكاة في حديث زيد بن أرقم، عندما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم جمعهم في غدير خم فقال: (أذكركم الله في أهل بيتي، فقيل له: من أهل بيته؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ فقال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته هم أقاربه الذين حرمت عليهم الزكاة بعده، ثم عد آل العباس وآل جعفر وآل عقيل وآل علي) يعني: من أولاده وأولاد أبيه وجده الذين هم بنو هاشم، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن سهم ذوي القربى لهم، وأنهم استغنوا به عن الزكاة بقوله: (لا تحل الزكاة لبني هاشم، إن لكم في خمس الخمس ما يغنيكم عن الزكاة) فدلنا هذا على أن أقارب الرجل وأنسابه هم أهل بيته وأقاربه إلى الجد الرابع.

    حكم الواقف على ذوي رحمه أو أصهاره

    قد يقف الرجل على ذوي أرحامه، وكلمة الرحم يدخل فيها أقارب الأم وأقارب البنات؛ لأن لهم رحماً، فبنات أولاده وبنات بناته، وكذلك أخواله وخالاته وعماته، وبنات الأعمام وبنات الأخوال ونحوهم، هؤلاء من ذوي الأرحام؛ لأنهم يدخلون في الرحم كما في قوله عليه السلام: (إن لهم رحماً سأبلها ببلالها)، فدخل في ذلك أقاربه من جهة أبيه ومن جهة أمه إذا وقف على ذوي أرحامه.

    وإن وقف على أصهاره فالأصهار هم أقارب زوجته، وهم أبو الزوجة وأخوتها وأعمامها ونحوهم، فهؤلاء يسمون الأصهار، ولا يدخلون في الأنساب؛ لأن نسب الرجل أقاربه من جهة أبيه، وأما أقارب زوجته فهم الأصهار، وقد قسم الله تعالى القرابة إلى قسمين في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً [الفرقان:54] فأنسابك هم أعمامك وأولاد عمك وأبناء إخوتك وأبناء أعمام أبيك وأبناؤهم، وأصهارك هم أبو زوجتك وإخوتها وأعمامها وأولاد أعمامها.

    فإذا وقف على أصهاره اختص بأقارب الزوجة، وإذا وقف على أنسابه أو على أقاربه اختص بأقاربه من الأب، وإذا وقف على أرحامه عمّ جميع أقاربه من الأب والأم.

    حكم الوقف على جماعة

    قال المصنف رحمه الله: (وإن وقف على جماعة يمكن حصرهم وجب تعميمهم والتسوية بينهم) أي: إذا وقف على جماعة؛ فإذا كان يمكن حصرهم فلابد من حصرهم، كما لو وقف على من في هذه القرية من بني هاشم أو من بني عبد المطلب أو من بني علي، أي: من أقارب النبي صلى الله عليه وسلم، وهم محصورون بأولاد فلان وأولاد فلان وأولادهم، فيجب حصرهم والتسوية بينهم، فيفرق الوقف على الذكر والأنثى منهم، ويسوى بينهم.

    أما إذا كثروا ولم يمكن حصرهم ففي هذه الحال يجوز التخصيص والتفضيل، ويجوز الاقتصار على واحد أو على جماعة؛ وذلك لأنه لا يمكن حصرهم، ففي هذه الأزمنة لا يمكن حصر الذين ينتسبون إلى الحسن والحسين، فأهل البيت لا يمكن حصرهم؛ لأنهم يوجدون في كل دولة، فملوك الأردن وملوك المغرب يدّعون ذلك، وكذلك يوجد منهم في المملكة قبائل كثيرون، فمن وقف مثلاً على الأشراف لم يمكن حصرهم، فيجوز أن يُقتصر على بعضهم، ويجوز أن يفضل هذا على هذا، والأولى في هذه الحال أن يُقتصر على ذوي الاستحقاق من الغارمين والعاجزين ومن يلحق بهم.

    مسائل الوقف متعددة قد أطال العلماء فيها، ولكن المؤلف هنا اقتصر على أهمها، ومن أراد التوسع فيها فقد أُلّف فيها مؤلفات، وذلك لكثرة الخلاف الذي يقع فيها.

    يوجد الآن أوقاف يمكن أن لها ألف عام أو أكثر وهي تصرف في مصارفها، وهناك أوقاف في الهند وفي المغرب وفي كثير من البلاد موقوفة على الكعبة، أو على المسجد الحرام، وقد استغنى عنها المسجد الحرام، بسبب أن الدولة خدمته وأقامت ما حوله ووسعته، كذلك أيضاً تشاهد الأوقاف التي في مكة مثل عمائر الأشراف، فهذه أوقاف على توسعة الحرم أو على خدمته أو على عمارته أو إنارته أو ما أشبه ذلك، يُصرف منه في وجوه ما يحتاجه شيء يسير والبقية يأخذها أولئك الذين يدعون أنهم من الأشراف، وأنهم وكلاء على ذلك، يصرفونها بما يرونه.

    وبكل حال فالوقف من أفضل الأعمال لما ذُكر في الحديث: (صدقة جارية)، وذكروا أن الصحابة ما منهم من أحد إلا وحبس عقاراً، وأن تلك الأحباس بقيت مدة طويلة لمكة، وأن الذين كانوا يتولونها استولوا عليها فيما بعد، وقد نزعت ملكية كثير منها، وعمر بها هذه العمارات التي في مكة، التي على عشرة أدوار أو خمسة عشر، والغالب أنها من تلك الأوقاف التي كانت قرب مكة، ولما نزعت ملكيتها عمر بها في أماكن، وأهلها الذين وقفت عليهم يستغلونها.

    ومن الأوقاف أيضاً الأرض التي فتحت عنوة في عهد عمر رضي الله عنه، وهي أرض الشام ومصر والعراق، فإنها عندما فتحت رأى عمر رضي الله عنه وقفها، وعدم بيعها وعدم قسمتها، وجعلها وقفاً لبيت المال، يُضرب عليها خراج مستمر يؤخذ ممن هي في يده، فإذا كان الذي يزرعها أو يحرثها ذمياً دفع ما يسمى بالعُشر خراجاً، ويسمى الديوان، وكذلك إذا كان الذي يزرعها مسلماً فإنه يُخرج الزكاة ويُخرج أيضاً الأجرة التي هي الخراج، فيؤخذ منه الخمس، إذا كانت تسقى بغير مئونة أخرج العشر لأنه زكاة، والعشر الثاني كأجرة لها، ومع ذلك فإنها في هذه الأزمنة اقتطعت وقسمت وبيعت، ولم تبق على ما كانت عليه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756512548