إسلام ويب

شرح اعتقاد أهل السنة [16]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لم يفتأ الرافضة عبر الدهور والأزمان يطعنون في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وخاصة أكابرهم رضي الله عنهم، متعمدين في ذلك الكذب عليهم، وينسبون إليهم ما ليس لهم، ويحملون النصوص ما لا تحتمل تحاملاً عليهم، ويستدلون على أقوالهم بما لا يصدقه أحد، والصحابة رضي الله عنهم هم أهل الفضل، وإليهم ينسب الفضل بإجماع أهل السنة والجماعة أهل الحق، الذين يوصون باحترامهم ومعرفة حقهم، ويوصون كذلك بالجماعة ولزومها، ويحثون على جمع الكلمة ويحذرون من تفرقها، ويوصون بالحق وأهله، وأكل كل ما هو حلال من محله، والسعي فيه وإليه كل على حسب جهده، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.

    1.   

    بعض طعون الرافضة والرد عليها

    من عقيدة أهل السنة الترضي عن الصحابة والكف عن الوقيعة في الصحابة، وتأول القبيح عليهم، ويكلونهم فيما جرى بينهم على التأويل إلى الله عز وجل، وسبب إدخال هذا في العقيدة أن هناك أعداءً للصحابة أخذوا يولدون عليهم قصصاً ويلصقونها بهم ويعيبونهم بها.

    إما من الخوارج الذين قاتلهم علي ومن معه من الصحابة، ولا بد أن يكون لهم بقايا، وإما من الرافضة الذين غلوا في علي وذريته وجفو في حق بقية الصحابة، ولما غلب عليهم هذا الجفاء وحقدوا على الصحابة كان من آثار حقدهم أن ولدوا عليهم حكايات لا أصل لها، وتتبعوا عثرات وجدت من بعضهم، فجعلوا من الحبة قبة ومن الصغيرة كبيرة، وحملوا كلامهم على محامل بعيدة عن العقول، ونسوا أو تناسوا فضائل الصحابة وأعمالهم الجليلة التي تميزوا بها عمن سواهم، وأخذوا يكيلون لهم من التهم ويرمونهم بالعظائم ويسبونهم، من أجل ذلك كان من اعتقاد أئمة الحديث الكف عن الوقيعة فيهم، أي: عن السب لهم، وذلك يستلزم ذكر فضائلهم ومحاسنهم، والثناء عليهم والترضي عنهم، واعتقاد أنهم خير قرون هذه الأمة، كما خيرهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، كما أن الأمة أفضل الأمم، فإذا كانت الأمة المحمدية أفضل الأمم التي سبقتها فإن هذه الأمة أيضاً تتفاضل، فأفضلهم القرن الذي بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان كذلك فإن ما يرويه أعداؤهم من تلك المثالب والعيوب التي يقدحون بها فيهم أكثره كذب لاشك فيه، وذلك لأن العدو لابد أن يكذب على من عاداه، وما أكثر ما افترى عليهم أعداؤهم وقالوا عليهم ما لم يقولوا، وظنوا بهم ما ليس له أصل ولا حقيقة، ولم يبالوا أنهم يقولون الكذب.

    فإذا قرأنا في كتب الرد على الرافضة نجد أنهم يتعمدون الكذب عليهم، حتى يقول بعض السلف لما ذكر الرافضة: لو كذبت لهم حديثاً لملئوا جيبي ذهباً. أي: لو كذبت لهم حديثاً يناسبهم لكافئوني وأعطوني ما يقدرون عليه. وهذا يدل على أنهم يتعمدون الكذب.

    ونقول أيضاً: إذا كان فيها شيءٌ واقع فإن الأعداء يحملونه ما لا يحتمل، وإذا كان فيها شيء صحيح فإنه يغير عن هيئته ويزاد فيه، ويروونه على غير ما هو عليه، فيكونون قد زادوا فيه أو غيروا أسلوبه، ومعلوم أن الأسلوب يغير الحقيقة، فالإنسان قد يحكي قصة يعبر عنها بأسلوب تكون مدحاً، ثم يعبر عنها بأسلوب آخر يكون ذماً، يقول الشاعر:

    في زخرف القول تزيين لمنهجه والحق قد يعتريه سوء تعبير

    تقول هذا مجاج النحل تمدحه وإن تشأ قلت ذا قيئ الزنابير

    إن قلت: هذا مجاج النحل -تعني العسل- فهذه كلمة مدح، وإن قلت: هذا قيئ الزنابير فهذه كلمة ذم، والكل صحيح.

    فالحاصل أن تلك القصص إذا رويت بأسلوب فيه قدح أصبحت معايب ومثالب، مع أنها في الحقيقة قد تكون مدائح، ولنأت على ذلك بأمثلة مما يذكر عند الرافضة.

    قصة صلح الحديبية ورد طعنهم

    لما اصطلح النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش في صلح الحديبية على أن يرجعوا في ذلك العام، وعلى أن من جاءهم مسلماً من أهل مكة يردونه إلى أهل مكة، ومن ارتد من المسلمين فإنه لا يرد على المسلمين كانت هذه الشروط مما ساءت الصحابة جميعاً، وتمنوا أنهم يدخلون مكة ويقاتلون، وقد كانوا بايعوا قبل ذلك بيعة الرضوان، فاستاء لذلك الصحابة، وكان ممن ظهر استياؤه عمر رضي الله عنه، فهو الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى. قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى. قال: ألست تعدنا أننا ندخل مكة ونطوف بالبيت قال: بلى. ولكن هل قلت لك: إنك تدخلها هذا العام؟ قال: لا. قال: فإنك داخل البيت ومطوف به. قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال: إني رسول الله، ولن يضيعني، ولست أعصيه).

    هذه قصة عمر في هذه المقالة، فماذا تفهم منها أيها السني؟ أفهم منها أنها دليل على حماسه وغيرته، وأنه يحب أن يتجشم المشقة ويقاتل ولو قتل؛ لأنه إذا قتل فإنه في الجنة، وأنه مع ذلك يحب أن يذل هؤلاء الكفار الذين أخرجوا الرسول من بلده وصدوه عن البيت، وتحمس أيضاً لأن بعضاً من الذين يأتون مسلمين مع ذلك يردون إلى المشركين ويلقون الأذى والعذاب، هذه أفعال تدل على حماسه وغيرته، وتدل على محبته للجهاد وللتفاني في سبيل الله ولنصرة الإسلام.

    هذا الذي نفهم منها، ولكن الرافضة تحملها ما لا تحتمل، وقالوا: إنه بذلك ينتقد حكم الرسول، ويعترض على حكم الله ورسوله، إنه بذلك يرد تدبير الرسول ويرد أمره، إن ذلك دليل على حقده على دين الإسلام. وغير ذلك، فجعلوها مثالب وحملوها ما لا تحتمل.

    وعمر رضي الله عنه ندم بعد ذلك، يقول: (فعملت لذلك أعمالاً) يعني: بسبب هذا الاعتراض، فتجرأت وتسرعت ومع ذلك فإني ندمت على ذلك وعملت أعمالاً صالحة أكفر بها مما فعلت. لا شك أنه ما حمله على هذا إلا الحماس، ثم أيضاً ليس هو وحده الذي كره ذلك، كل الصحابة كرهوا هذا الصلح، حتى إنه لما أمرهم بأن يحلقوا وبأن يتحللوا توقفوا، وقالوا: أنحلق قبل أن نكمل عمرتنا؟! فامتنعوا كلهم، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم سلمة فأخبرها أنه يأمر ولا ينفذ أمره، فأرشدته إلى أن يخرج ويدعو الحلاق فيحلق رأسه، فلما رأوه بدأ يحلق رأسه أخذ بعضهم يحلق لبعض، فكراهيتهم لذلك كلهم يدل على أنهم يحبون أن يقاتلوا المشركين ولا يرجعوا قبل أن يكملوا عمرتهم، ومنهم عمر ، ولكن الرافضة ما توجهوا إلا على عمر .

    وفاة النبي وطعنهم في عمر بصرف الخلافة عن علي

    لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم زاره بعض أصحابه فأخذ يوصيهم بوصايا قال: (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بما كنت أجيزهم، وسكت في الثالثة أو نسيها، وقال في تلك الحال: ائتوني بكتاب أكتب لكم عن كتاب لا تضلوا بعده)، وكان في البيت أصوات، فقال عمر رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تعب وشق عليه فدعوه وعندنا كتاب الله تعالى لا نضل بعده، فلم يكتب لهم، هكذا ورد الحديث عنه أنه قال: (عندنا كتاب الله) والرافضة قالوا: هذا حقد من عمر ، أراد بذلك أن يصرف الإمامة عن علي، وإن الرسول لما طلب كتاباً ما أراد بذلك إلا أن يكتب الخلافة لـعلي ، ولكن عمر لما فطن لذلك صرفهم عن الكتاب ومنع الرسول أن يكتب الكتاب، فجعلوا ذلك عيباً لـعمر ، ويذكر أن ذلك يذكره صاحب الكتاب الذي عنوانه (ثم اهتديت)، وهو مغربي ضل لما زار الرافضة ونصرهم، وصاحب كتاب (المراجعات)، وكذلك ابن المطهر .

    فالحاصل أنه في هذه الحال ما أراد إلا الرفق بالنبي صلى الله عليه وسلم لما رآه متعباً مجهداً، وعلم أيضاً أن في الكتاب ما يدل عليه في كتاب الله تعالى، فهل يكون عليه عيب في هذا؟ نقول: لا شك أنه ليس عليه عيب، بل الأصل أنه رضي الله عنه ما أراد إلا خيراً، ولم يرد أن يصرف النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء يريده، ثم أيضاً أهل السنة يقولون: إنه لو استخلف لما استخلف غير أبي بكر ، ويدل عليه أنه استخلفه في الصلاة، وأنه قال: (يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر)، وغير ذلك من الأدلة التي أشار إليها تدل على أن الخليفة بعده أبو بكر ، فلو كتب كتاباً في الولاية لما ولى غير أبي بكر .

    إذاً الرافضة في قولهم: إن عمر أراد بذلك أن يحقد على علي، وإنه أراد بذلك صرفه عن أي وصية لـعلي هذا من بهتانهم وكذبهم.

    ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وتحقق موته أنكر ذلك كثير من الصحابة، ومنهم عمر ، وظنوا أنه إغماء، فكان عمر يقول: لا تقولوا مات، إنه حي، وسيجلد أناساً قالوا ذلك. وما أرد بذلك إلا إحسان الظن، وأن الله تعالى سيمتعه حتى يعيش، وفي نظره أنه مغمى عليه وأنه لم يمت، ولكن الرافضة حملوا فعله هذا على محمل بعيد، فقالوا: ما أراد بذلك إلا أن ينشئ انشغالاً عن استخلاف علي حتى يأتي أبو بكر ، وكان أبو بكر غائباً، فأراد بذلك أن ينشغلوا، وإلا فإنه متيقن بأنه قد مات وبأن الموت واقع لا محالة، ولكن لما خاف أنهم يقولون: إنه استخلف علياً ، وإنه ولى علياً . أراد بذلك أن يشغلهم.

    وعلي لم يقل: إني خليفة. ولم يقل أحد: إنه خليفة. ولم يقل أحد: إنه إمام وإنه استخلفه أو ولاه. وأبو بكر أيضاً لم يقل: إني مستخلف. ولم يكن يطلب خلافة، ولكن يظنون الظنون البعيدة، فيحملون الكلام ما لا يطيقه وما لا يتحمله.

    ثم توفي النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد جهز جيشاً إلى الشام وأمر عليهم أسامة بن زيد ، وأمر أن يكون فيهم أبو بكر وعمر ، فلما توفي صلى الله عليه وسلم كان أبو بكر قد استخلف وأصبح والياً على المسلمين، فلابد أن يجلس في المدينة ، ومن الضروري أن يجلس معه عمر؛ لأنه معه كالوزير، أما الجيش فإنه جهزه أبو بكر وأرسله إلى الشام، فأغار على الدور ورجع سالماً غانماً، فجعلوا هذا أيضاً من المثالب، فقالوا: لماذا تخلفوا عن جيش أسامة ؟ ما أردوا بذلك إلا أن يظلموا علياً حقه، وأن يبخسوه ويتولوا الولاية ويأخذوها عنه. ونحو ذلك، وكل هذا أيضاً من البهتان والكذب عليهم.

    فالحاصل أنهم بذلك وجهوا هذه المثالب إلى الصحابة رضي الله عنهم يريدون بذلك التشفي وتبرير مواقفهم ومعتقداتهم.

    مكفرات الذنوب للصحابة

    معلوم أن الصحابة كغيرهم بشر ليسوا معصومين، فإذا قدر أن أحداً منهم وقع منه ذنب فنحمله على أنه قد تاب منه، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.

    ثانياً: أن يكون عمل أعمالاً صالحة تمحو عنه ذلك الذنب.

    ثالثاً: أن يكون غفر لهم بفضل سبقهم إلى الإسلام وسابقتهم إليه، فيكونون أحق بأن تغفر لهم تلك الذنوب.

    رابعاً: أنها تغفر لهم بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم أولى الناس بشفاعته لكونهم أهل صحبته وأهل رفقته والاجتماع معه، فإذا كان هذا في الذنوب الحقيقية أنها تغفر له بالتوبة أو بالأعمال الصالحة، أو لسابق الإسلام، أو بالشفاعة، أو بالابتلاء والامتحان والمصائب التي حصلت عليهم، أو باستغفار السلف لهم ودعاء الأمة لهم -وإلى الآن وهي تترضى عنهم وتترحم عليهم- إذا كان هذا في الذنوب الحقيقية فكيف بتلك الأمور التي وقعت منهم وليست ذنوباً، ولكنها اجتهادات منهم رضي الله عنهم؟! والاجتهاد معروض على النظر، فإن كانوا مصيبين فلهم أجران: أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وإن كانوا مخطئين فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور؛ لأنهم لم يتعمدوه.

    1.   

    موقف أهل السنة من الفتن التي وقعت بين الصحابة

    نكف عما شجر بينهم ووقع من الخلاف، ولا نتأوله، ونكف عما حصل بينهم، وكذلك نكلهم فيما جرى بينهم على التأويل، ونلتمس لهم الأعذار، ونعتذر عما حصل بينهم، ولاشك أنه حصل بينهم شيء من الخلافات، ولكنها محمولة على الاجتهاد، فمثلاً الذين ثاروا على عثمان ليسوا من الصحابة، وإنما هم من جفاة الأعراب الذين انتقدوه في نظرهم انتقادات خاطئة، فكان من آثارها أنهم ثاروا عليه إلى أن قتلوه، والله يتولى جزاءهم.

    فيقال: أمرهم إلى الله تعالى.

    ورأيت في بعض نشرات الرافضة المعاصرين أنهم يفتخرون بأن شيعتهم الذين ثاروا على عثمان حتى قتلوه، فجعلوا أولئك الأعراب الجفاة شيعتهم، هكذا يدعون.

    وعثمان لما قتل رضي الله عنه قتل في موسم الحج، وكان كثير من الصحابة بمكة، ومنهم الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وأولاد الزبير وغيرهم، فلما سمعوا بخبر قتله قالوا لا بد أن نذهب حتى نقاتل أولئك الجفاة من الأعراب الذين في حدود العراق، فتوجهوا وذهبوا معهم بـعائشة أم المؤمنين ومعهم جمع، ولما سمع علي رضي الله عنه بذهابهم أهمه أمرهم، وذلك لأنه أحب أن تجتمع الكلمة ويجتمع المسلمون ويبايعوه جميعاً قبل أن يحصل هذا القتال، فلما بلغه أمرهم لم يجد بداً من أن يذهب في أثرهم إلى العراق، ولما تقابلوا هناك التف مع جيشه كثير من الثوار الذين لهم سبب في قتل عثمان رضي الله عنه، ثم اجتمعوا وتفاوضوا واتفقوا في مساء ذلك اليوم على أنهم سوف يقتلون قتلة عثمان كانوا رؤساء قبائل، فلما سمعوا بذلك قالوا: لابد في آخر الليل أن نوقع قتالاً بيننا وبين جيش طلحة. ودبروا هذه المكيدة في آخر الليل وأوقعوا القتال ونشبت الحرب واستمرت يوماً أو يومين، وكانت عائشة في وسط المعركة على جمل لها، وسميت تلك الواقعة (واقعة الجمل) وقتل فيها طلحة والزبير وخلق كثير، وهي من الفتن، بعد ذلك انصرفوا بعد أن حصل ما حصل.

    هؤلاء أيضاً معذورون، فـعلي رضي الله عنه في هذا القتال لم يكن متعمداً، وما أراد بذلك إلا جمع الكلمة وردهم حتى يبايعوه، بعد ذلك مناصري عثمان والزبير وطلحة ومن معهم ما أرادوا القتال، لكن الذي دبره هم أولئك الثوار، إذاً فهم محمولون على أنهم مجتهدون فنعذرهم بذلك، ونقول: القاتل منهم والمقتول مجتهد. ولا نعيب أحداً منهم، ونكل أمرهم إلى الله تعالى.

    وبعد ما استقر أمر علي في العراق وبايعه أهلها واستتب له مر بلغه خبر أهل الشام الذين تحمسوا لقتل عثمان وجاؤوا بحدهم وحديدهم يريدون أن يقاتلوا قتلة عثمان، فالتقوا بموضع يقال له (صفين)، وقالوا لـعلي : سلم لنا قتلة عثمان فقال: بايعوني، فإذا اجتمعت الكلمة عند ذلك نتمكن نحن وأنتم من أولئك القتلة ونقتلهم واحداً واحداً مهما كانوا. فامتنعوا فوقعت المعركة بين الفريقين أهل العراق وأهل الشام.

    تلك المعركة أيضاً معركة عظيمة حصل فيها من القتل خلق كثير، فنعذرهم أيضاً لذلك، فنقول: معاوية ومن معه مجتهدون في طلبهم للثأر، وعلي رضي الله عنه ومن معه مجتهدون في طلبهم الأمان والبيعة. ونكل أمرهم إلى الله، فنكف عما شجر بينهم، ولا شك أن هذا من الفتن التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم وبين أنها ستقع، وحث من أدركها على أن يبتعد عنها، وكان ممن اعتزل تلك الفتن: سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فإنه انعزل وصار في البادية وصار يستوحش من الناس، حتى إنه كان ينشد بيتاً يقول فيه:

    عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى وصوت إنسان فكدت أطير

    يعني: إنني أستوحش بصوت الإنسان وأستأنس بالذئاب، وأستوحش من الناس مخافة أن يدخلوني في هذه الفتن.

    وجاء كثير منهم إلى عبد الله بن عمر واستجاشوه وأثاروه، وقالوا له: ألا تقاتل معنا والله تعالى يقول: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [البقرة:193]؟ فقال عبد الله رضي الله عنه: (قاتلناهم حتى لم تكن فتنة، وأنتم تقاتلون حتى تكون الفتنة) فالذين اعتزلوا الفتنة هم الذين حازوا الصواب، وعلى كل حال نحمل ما وقع منهم على التأويل ونكلهم إلى الله عز وجل.

    1.   

    وصايا المصنف لأهل السنة والجماعة

    قال الشيخ الحافظ أبو بكر الإسماعيلي رحمه الله تعالى في بيان اعتقاد أهل السنة أثناء كلامه على الصحابة ومحاسنهم وفضائلهم: [مع لزوم الجماعة والتعفف في المأكل والمشرب والملبس، والسعي في عمل الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإعراض عن الجاهلين حتى يعلموهم ويبينوا لهم الحق، ثم الإنكار والعقوبة من بعد البيان، وإقامة العذر بينهم وبينهم. هذا أصل الدين والمذهب، واعتقاد أئمة أهل الحديث الذين لم تشنهم بدعة ولم تلبسهم فتنة، ولم يخفوا إلى مكروه في دين، فتمسكوا معتصمين بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا عنه، واعلموا أن الله تعالى أوجب محبته ومغفرته لمتبعي رسوله صلى الله عليه وسلم في كتابه، وجعلهم الفرقة الناجية والجماعة المتبعة، فقال عز وجل لمن أدعى أنه يحب الله عز وجل قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]، نفعنا الله وإياكم بالعلم، وعصمنا بالتقوى من الزيغ والضلال بمنه ورحمته]. انتهى ما قاله رحمه الله.

    الوصية الأولى: لزوم الجماعة

    في هذه الخاتمة وصايا، منها لزوم الجماعة، والمراد بالجماعة هنا جماعة المسلمين، وعبروا بالجماعة عن أهل الحق الذين هم على طريقة السلف وعلى طريقة النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كانوا قلة في بعض الأزمنة، ولو كثر المخالفون لهم فإنهم الجماعة، وهم أهل الحق والصواب، يقول ابن القيم في النونية لما ذكر إجماع أهل الحق:

    هذا وسادس عشرها إجماع أهل العلم أعني حجةً الأزمان

    من كل صاحب سنة شهدت له أهل الحديث وعسكر القرآن

    لا عبرة بمخالف فهم ولو كانوا عديد الشاء والبعران

    فلا عبرة بمن خالفهم ولو كانوا أكثر من الشاء والإبل، إنما العبرة بمن كان متمسكاً بالحق وكان على السنة والطريقة المحمدية، هؤلاء هم أهل الجماعة ولو قلّوا في بعض الأزمنة، وذلك لأن قدوتهم سلف الأمة وصحابة النبي صلى الله عليه وسلم.

    ورد في تفسير الفرقة الناجية قوله صلى الله عليه وسلم: (وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: الجماعة)، وفي رواية: أنهم الجماعة، أي: جماعة المسلمين وسوادهم.

    وورد أيضاً في تفسيرهم في سنن الترمذي وغيره: (هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي).

    إن الذين يتمسكون بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم لا شك أن هؤلاء هم أهل السنة وهم أهل الجماعة، فهم الذين يلزم أن نتمسك بسيرتهم ونسير على نهجهم، ولا شك أن منهم أئمة الحديث، فإنهم أولى بأن يكونوا هم الجماعة وهم أهل السنة، وذلك لأنهم اشتغلوا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، واشتغلوا بمتابعة أوامره ونواهيه، فكانوا أولى بأن يتمسكوا بهذه السنة وبهذه الشريعة، لذلك أهل الحديث الذين جعلوه شغلهم لم يوجد فيهم مبتدع إلا ما ندر، وذلك لأن توغلهم في الحديث وسماعهم له يحملهم على أن يعملوا به ويتبعوه، لذلك نقول: الزموا السنة، وعليكم بسنة المسلمين، وعليكم بجماعة المسلمين.

    فإذا قيل: إن عندنا فرقاً وأحزاباً فأي الأحزاب أولى بأن يكونوا على الصواب قلنا: لا تنظروا إلى تلك الأحزاب، ولكن انظروا إلى أعمال هذه الأحزاب، فإذا كانت موافقة للسنة النبوية وللشريعة الإسلامية فاعملوا بها وكونوا معهم، فإذا كان هذا الحزب باطلاً فخذوا الحق الذي معه ودعوا الباطل.

    ومعلوم أنه في هذا الأزمنة كثرت الأحزاب حتى وصلت في بعض الدول إلى مائة حزب، أحزاب متعددة، وكل حزب يتسمى باسم، فننظر من هم أهل الجماعة من تلك الأحزاب ونتبعهم ونؤيدهم، ونصوب رأيهم، ونأخذ من كل حزب ما معه من الحق ونصوبه، ونقول: أصبتم في هذا وأخطأتم في هذا، وهذا الخطأ عليكم أن تتركوه.

    كذلك أيضاً إذا رأينا تلك الأحزاب وعرفنا أن أهدافهم ما هي إلا الحق وقصد الخير ونصر الدين حرصنا على أن نجمعهم ونقرب بينهم، ونبين لهم أنه لا خلاف بينهم ما دام كل منهم قصده الحق والصواب، فإذا رأينا -مثلاً- حزباً من الأحزاب يتسمى بأهل السنة شجعناهم، ولكن نحثهم على أن يتمسكوا بالسنة، وإذا رأينا حزباً آخر يسمى بأهل التوحيد شجعناهم وقلنا لهم: نعم ما تسميتم به، فتسموا بهذا وحققوا الاسم ووحدوا الله تعالى وأطيعوه. وإذا رأينا حزباً آخر يتسمى أنصار الدين. قلنا: هذه تسمية جميلة طيبة تنصر الدين. وإذا رأينا حزباً تسمى بأهل الإصلاح قلنا: نعم ما فعلتم، فاحرصوا على الإصلاح، وحققوا دينكم، وأصلحوا بين إخوتكم. وإذا رأينا جماعة يتسمون بأهل الدعوة قلنا: نعم ما فعلتم، فأنتم أهل دعوة، ولكن تكون دعوتكم إلى حقيقة الإسلام، وإذا رأينا من يتسمى بأئمة السلف أو أهل السلف أو أتباع السلف. قلنا: نعم ما فعلتم من هذا، ولكن عليكم أن تحققوا ذلك الاتباع، وأن تكونوا من السلف حقاً متبعين لهم، وهكذا بقية الفرق.

    ثم لا شك أنه قد يحصل بين هذه الأحزاب شيء من التفرق ومن الاختلاف، فنحثهم على أن يتقاربوا وأن لا يكون بينهم شيء من الشنآن ولا البغضاء والأحقاد حتى يجتمعوا وتكون كلمتهم واحدة؛ فإن ذلك أهيب لهم، وأقوى لمعنوياتهم، ويكونون مهابين عند الأعداء والمبتدعة.

    فالمبتدعة إذا رأوا كلمة أهل السنة والجماعة واحدة واتفاقهم ودعوتهم إلى شيء واحد هابوهم، ولم يتجرؤوا على أن يردوا عليهم ولا أن يضللوهم أو يبدعوهم.

    إذاً فنحن نقول: هنيئاً لكم أيها الجماعة، أنتم أهل السنة وأنتم أهل الجماعة، فاجتمعوا حتى تكونوا إخوة هدفكم واحد، كلكم طلبتم الحديث والعلم، وكلكم على عقيدة أهل السنة في الأسماء والصفات والأفعال وأركان الإسلام وأركان الإيمان وأسماء الإيمان والدين وفي الصحابة والتابعين وتابعيهم، ومتبعون للحق مع من كان لا تقولون ببدعة من البدع، وتتبرؤون من المبتدعة من جبرية وقدرية ومرجئة وأشعرية ومعتزلة ورافضة وصوفية أو قبوريين، تتبرؤن منهم جميعاً وتحقدون عليهم، إذاً فما الفرق بينكم؟ دعوا هذه الفروق اليسيرة التي تدعون أنها مخالفات، وتقاربوا فيما بينكم، واصطلحوا على أن تكون همتكم وأهدافكم واحدة حتى لا يقع التفرق الذي هو تحزب يؤدي إلى الاضطراب، فإن الله تعالى يعيب الذين يتحزبون، ويقول تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ البينات [آل عمران:105]، مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:32] ذم لهم على هذه الأفعال: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ [الروم:31]، فالحاصل أن لزوم الجماعة يستلزم التمسك بالسنة الحقة.

    الوصية الثانية: التعفف في المأكل والمشرب

    في الحقيقة هذه الوصايا عظيمة، ولو أعطيناها حقها لكانت كل وصية تعتبر درساً، وذلك لأنه جمع فيها مثل هذه الإرشادات العظيمة.

    والتعفف في المأكل والمشرب والملبس يريد به الاقتصار على الحلال والبعد عن الحرام والبعد عن المشتبه، ومعلوم أن التعفف معناه: التورع. وذلك لأن الكسب ينقسم إلى ثلاثة أقسام: حلال صريح، وحرام صريح، ومشتبه، وقد ذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان المشهور: (الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)، لذلك أمرنا بالتعفف في المأكل والمشرب والملبس، أي أني لا أقدم على الشيء الذي أخشى أن يكون فيه شبهة وأن يكون من الحرام، بل أبتعد عنه حتى يسلم ديني، وذلك لأن التغذي بالحرام يكسب البدن سوء تغذية، فإذا تغذى بهذا الحرام أو بهذا المشتبه تغذى بدنه على شيء محرم مما يكون سبباً في عدم قبوله للنصائح وعدم انصياعه للأوامر والإرشادات وما أشبه ذلك، فيقال: هذا لا تؤثر فيه الموعظة. هذا لا يقبل النصيحة. هذا لا يتأثر بالإرشادات ولا بالنصائح ونحوها. والسبب هو أن لحمه نبت على سحت وتغذى بحرام فأثر ذلك في قسوة قلبه وصدوده عن الخير.

    إذاً فالتعفف سبب لين القلب، وكذلك الاقتصار على الحلال سبب لرقته ولإقباله على الله ولتقبله النصائح والعظات.

    الوصية الثالثة: السعي في عمل الخير

    الخير هو كل شيء محبوب عند الله تعالى، ولا شك أيضاً أن النفوس المطمئنة والطيبة تعرف الخير والشر بطبعها وإن لم يكن عليه نصٌ، ولكن هناك نفوس منتكسة، وبسبب المعاصي والخلافات انتكست تلك النفوس، فأصبحت ترى الشر خيراً والخير شراً، وترى الطيب خبيثاً والخبيث طيباً، أما النفوس المطمئنة الطيبة فإنها تعرف عمل الخير، ولا حاجة إلى التوسع في ذلك، فالخير هو كل ما يحبه الله تعالى، فالإحسان إلى الناس من الخير، ونصيحتهم من الخير، ودلالتهم على الله تعالى وإرشادهم إلى ما ينفعهم من الخير، وكذلك التوسعة عليهم ونفعهم وإرشادهم وإعانة الضعيف منهم وتجهيز المنقطع والصدقة عليهم، والتوسعة على الفقير والعاجز ونحوه، والشفاعة لمن يستشفع أو يطلب شفاعة، وكذلك أيضاً كف الشر والذب عنهم بدلالتهم على الشر وتحذيرهم منه، كل هذا داخل في السعي في عمل الخير، وعبر بالسعي؛ لأن السعي في الأصل هو شدة المشي وقوة المسير، كما قال الله تعالى: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9]، ولكن السعي هنا سعي عملي، بمعنى أن الإنسان يسعى في عمل الخير، فإذا سعى في جمع المال الطيب سعى في تفرقته وتوزعته على المستحقين صار في وجه البر والخير، وإذا سعى في إصلاح المسلمين وسعى في التأليف فيما بينهم وإزالة ما عندهم وبينهم من الشحناء والبغضاء ونحو ذلك كل ذلك سعي في عمل الخير.

    الوصية الرابعة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

    وهي أيضاً من واجبات الإسلام، والتوسع فيها لا مناسبة له.

    والمعروف هو ما أمر الله به ورسوله. والمنكر هو ما نهى الله تعالى عنه ورسوله، وسمي هذا معروفاً لأن النفوس الطيبة تعرفه وتألفه، وسمي هذا منكراً لأن النفس الطيبة تنكره وتستقبحه، فكل شيء تستقبحه النفوس الطيبة فإنه من المنكر، فيقال -مثلاً-: المسكرات من المنكرات، والفواحش من المنكرات كالزنا ومقدماته. ويقال: التبرج والاختلاط الذي يؤدي إلى فساد هذا من المنكرات، ويقال أيضاً: إن السباب واللعن والغيبة والنميمة والتنقص والسخرية والاستهزاء بالمسلمين وما أشبه ذلك من المنكرات. كما يقال: إن أضدادها من المعروف، فالإحسان إلى الناس ومدحهم، وإيصال الخير إليهم، والنصيحة لهم ودعوتهم إلى الله في الصلوات والمساجد وعمارتها كل ذلك من عمل الخير والمعروف، وكذلك ذكر الله تعالى، وتلاوة الكتاب، ودعا الله تعالى وإخلاص الدين له، وتعلم العلم وتعليمه والعمل به ونشره وما أشبه ذلك من المعروف.

    ثم الأمر يستدعي الإلزام، فإنك إذا أمرت فإنك تأمر بإلزام أو بإرشاد، فتارة تقول: أيها الإخوة! أيها المسلمون! أدعوكم إلى كل معروف، أدعوكم إلى أن تكونوا متحابين متوادين في ذات الله تعالى، أدعوكم إلى أن تكثروا من ذكر الله تعالى وتلاوة الكتاب، وأنهاكم عن المنكرات فلا تشربوا دخاناً ولا مسكراً، ولا تسهروا على لعب، ولا تستمعوا إلى غناء وباطل ونحو ذلك، فكل هذا من المنكر.

    الوصية الخامسة: الإعراض عن الجاهلين

    وذلك حتى يعلمهم ويبين لهم الحق، قال الله تعالى: خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]، فما دام أنهم جاهلون فأعرض عنهم حتى يتبين لهم الحق، ويتبين لهم أنهم على غير الحق، فإذا علمتموهم بعد ذلك فألزموهم، فبين ثم الإنكار والعقوبة يكونان بعد البيان وإقامة الحجة عليهم، ومنهم الجهلة الذين يصدر منه بعض الأشياء التي تدل على جفاء وإعراض ونحو ذلك، فهذه الكلمات تدل على أنهم جهلة، كما في قصة ذلك الأعرابي -عيينة بن حصن- حينما دخل على عمر رضي الله عنه، وكان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من قادة العرب وأشرافهم، وكان يتألفهم ويعطيهم من المال ما يتألفهم به، فلما قوي الإسلام في عهد عمر جعلهم كأفراد الناس، فجاء ودخل على عمر رضي الله عنه وهو خليفة المسلمين فقال له: هيه يا ابن الخطاب، فو الله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل. فـعمر رضي الله عنه أغضبته هذه الكلمة، وكان عنده الحر بن قيس، وهو ابن أخي عيينة ، فقال: يا أمير المؤمنين! إن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]، وإن هذا من الجاهلين. قال: فو الله ما جاوزها عمر، وكان وقافاً عند كتاب الله تعالى.

    معنى الإعراض عن الجاهلين

    ذكر المؤلف في الوصايا التي ختم بها عقيدته الإعراض عن الجاهلين.

    والمراد بالإعراض عنهم عدم عتابهم وعدم الأخذ عليهم ما داموا جاهلين، ولكن لابد أن نعلمهم حتى يزول الجهل، ولا نتركهم على جهلهم، ولا نعرض عنهم دائماً، بل نبدأ بتعليمهم ونوصيهم بالتعلم، ولكن إذا أصروا وعاندوا ولم يقبلوا فإن الإعراض عنهم أولى حتى يشعروا من أنفسهم بالنقص، قال الله تعالى في صفة بعض أوليائه: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص:55]، هكذا حكى الله عن بعض أوليائه، واللغو هو الذي يسمعونه من الكلام الباطل أو السيئ الذي يعمرون به المجالس من خوض فيما لا فائدة فيه ولا أهمية له من صياح ولغط ونحو ذلك، فأولياء الله الصالحون إذا سمعوا هؤلاء اللاغين أعرضوا عنهم، ثم نصحوهم وقالوا: لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ، أي: نحن بريئون منكم ومن أعمالكم التي منها هذا اللغو لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ، وهذا دليل على أن أولئك الذين يخوضون في اللغو جاهلون.

    وكذلك أيضاً أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ثم أمر المؤمنين بالإعراض عن مجالس اللهو والباطل والاستهزاء والسخرية وما أشبهها، فأنزل على محمد صلى الله عليه وسلم: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام:68]. يعني: إذا لم تستطع أن تردهم وترشدهم وتهديهم إلى الصراط السوي وتدلهم عليه وتصرفهم عن هذا الخوض في آيات الله باستهزائهم بها فاجتنبهم ولا تجلس معهم حتى يخوضوا في حديث غيره.

    وهذه الآية نزلت في مكة خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان الخطاب -بغير شك- يعم جميع المؤمنين، فكأن المؤمنين لم يعملوا بها أو بعضهم، فعاتبهم الله في سورة مدنية فقال تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً [النساء:140]، فعاتبهم عتاباً أشد من العتاب الأول بقوله: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ يعني: إذا جلستم معهم وهم يخوضون في آيات الله فإنكم تكونون شركاء لهم في هذا الاسم. فهذه الآية عامة، فإذا جلست مع أناس في مجلس ورأيتهم يستهزئون ويسخرون بالملتزمين وبأهل الدين، أو يسخرون ببعض شعائر الإسلام ويلوكون بها ألسنتهم ويتنقصون بعض الشعائر وبعض أهل الخير ويعيبونهم بكذا وكذا، ويعيبون أهل الدين بجهلهم به كما عابت الكفار من جاء من مضر بأنهم رجعيون لم يتمسكوا بنص من الوحيين جاء به الأثر، فهؤلاء إن قدرت على أنك ترد عليهم وتبطل ما يقولونه وتقنعهم بأنهم على شر وأن عملهم عمل سيئ فإنك تفعل، أما إذا لم تقدر على ذلك فقم عنهم، وقل: إني بريء منكم لي عملي ولكم عملكم، أنتم بريئون مما أعمله وأنا بريء مما تعملون. فقم عنهم واترك مجالستهم حتى تسلم من الإثم ولا تعمك هذه الآية: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً .

    فالحاصل أن الله تعالى أمر بالإعراض عن الجاهلين حتى يتعلموا ويُبين لهم الحق، فإذا أصروا على جهلهم وعنادهم فيجب الإنكار عليهم، والعقوبة بعد البيان، وذلك لأنهم بعد البيان إذا أصروا على التجاهل كانوا ليسوا بجهلة ولكنهم مارقين.

    والناس من حيث العموم أربعة أقسام، كما ذكروا ذلك عن الخليل بن أحمد، ذكروا أنه كان مرة يُقطع أبياتاً من الشعر، فاستهجنه ابنه فقال لتلامذته: إن أبي أصابه هوس أو جنون. فدخلوا عليه فذكروا ذلك له، فقال: الناس أربعة:

    الأول: عالم ويدري أنه عالم، فهذا كامل فسودوه.

    الثاني: عالم ولا يدري أنه عالم، فهذا غافل فنبهوه.

    الثالث: جاهل ويدري أنه جاهل، فهذا مسترشد فأرشدوه.

    الرابع: جاهل ولا يدري أنه جاهل، فهذا مارق فاتركوه. وهو شر الأقسام، ويسمى الجاهل المركب الذي يكون جاهلاً ويدعي أنه عالم، يقول بعضهم في وصفه:

    لما جهلت جهلت أنك جاهل جهلاً وجهل الجهل داء معضل

    ويقول الآخر:

    ومن أعجب الأشياء أنك لا تدري وأنك لا تدري بأنك لا تدري

    تعتقد أنك عالم وأنت في الحقيقة جاهل، وبين الجاهلين تقلب.

    فالحاصل أنا نعرض عن الجاهلين حتى يتعلموا ويبين لهم الحق، فإذا تعلموا وبُين لهم الحق ففي ذلك الوقت لا نتركهم، بل نُنكر عليهم ونعاقبهم ونقيم العذر بينهم، ونأخذ الحق منهم، وما دموا جاهلين فإننا نرشدهم ونعلمهم.

    1.   

    الأسئلة

    رد الاحتجاج بتقديم علي على عمر لأسبقيته بالإسلام

    السؤال: إذا احتج الرافضة على تقديم علي على عمر رضي الله تعالى عنهما بأن علياً أسلم قبله بل هو من السابقين إلى الإسلام فكيف نرد عليهم؟

    الجواب: لا يلزم أن يكون أولى بالخلافة منه؛ لأن الخلافة لها أهل يناسبونها، والإسلام له فضل، فـعلي رضي الله عنه بسبقه هذا له فضيلة السبق، ولكن معلوم أن الخلافه تستدعي حزماً وقوة وأهلية، فإذا رأى أبو بكر رضي الله عنه أن عمر أولى أن يكون هو الخليفة لذلك فإنه رأي له وجهه.

    ثم أيضاً نقول: لما أسلم عمر رضي الله عنه كان إسلامه فتحاً؛ إذ لما هداه الله تعالى ودخل في الإسلام انتصر المسلمون، أما علي رضي الله عنه فقد أسلم وهو صبي ابن ثمان سنين أو عشر، وأما عمر فأسلم وهو رجل، ولما أسلم كان الصحابة الذين أسلموا قبله نحو الأربعين وكانوا مختفين في دار الأرقم، فقال عمر علاما نختفي؟ ألا نخرج؟ نحن أولى بأن نخرج وبأن نظهر ديننا. فخرجوا في صفين في أحد الصفين حمزة وفي الصف الثاني عمر ، فاستاء المشركون لما رأوا قوتهم، ثم لما استخلف رضي الله عنه كانت خلافته نصراً وأدى حزمه وقوته إلى انتصار المسلمين بسبب تجهيزه وتدبيره لهم في تلك المعارك.

    ثم بعد إسلامه حاز فضلاً، فكان قريناً للنبي صلى الله عليه وسلم لا يفارقه في سفر ولا حضر، حتى شهد له علي لما دفنه بجانب أبي بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم، يقول علي رضي الله عنه: (لقد ظننت أنهما سيدفنان إلى جانبه لأني كثيراً ما أسمع بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر ، وذهبت أنا وأبو بكر وعمر ، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر ، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر) فدائماً كانا مرافقين له وقرينين له.

    إذاً فهو له هذه المزية، وله هذه الأهلية التي جعلته وزيراً خاصاً للنبي صلى الله عليه وسلم.

    رد الاستدلال على كفر الصحابة بحديث: (لا ترجعوا بعدي كفاراً)

    السؤال: يستدل الرافضة على كفر الصحابة -على حد زعمهم- بأدلة، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض).

    الجواب: هذا الحديث قاله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، ومعلوم أن هذا في حق المستحلين، ولو كان على ظاهره لكان أول من قاتل علي ، ومعناه أن علياً قد وقع في هذا الوعيد؛ فإنه أول من وقع منه هذا القتال في معركة الجمل، فنحن نحمل الذين تقاتلوا في موقعة الجمل مع علي والصحابة الذين مع الزبير وطلحة من الصحابة والتابعين وغيرهم نحملهم على أنهم متأولون لم يستحلوا ذلك، فالحديث محمول على الاستحلال، وأيضاً فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه)، فهذا يدل على أنه يقتله لأجل نفس القتل لا لأجل أمر آخر، وعلى كل حال فهذا عليهم لا لهم؛ لأن أول من بدأ بالقتال في هذه المعركة علي ومن معه.

    لزوم الحق وترك التفرق

    السؤال: توجد في بلادنا كثير من الأحزاب، ومعلوم الخلاف بينهم وما هم عليه من التفرق، فهل لا بد لي من الانضمام إلى أحد الأحزاب، أم أعتزلها جميعاً وأحاول أن أنهج منهج النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة؟

    الجواب: حاول أنت ومن معك أن تزيل ما بينهم من الخلاف وتنظر في مناهجهم وأعمالهم، فالحزب الذي يزين التوسل بالقبور والصلاة في المقابر ونحو ذلك هذا اجتنبوه، والذي يدعو إلى الثورات وإلى الخروج على المسلمين وتكفيرهم كما تفعل الخوارج اجتنبوه أيضاً، والذي يعتقد ما تعتقده المبتدعة كإنكار صفات الله تعالى وصفات الكمال ووصفه بصفات النقائص ونحوها اجتنبوه، والذي ينكر شيئاً من تعاليم الإسلام كمن ينكر الاجتماع على الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو يقول بخلق القرآن، أو ينكر صفة الكلام لله اجتنبوه إذا لم يرجع، وهكذا بقية الأحزاب التي عندها منكر، فإن كانوا كلهم موحدين وكلهم يعتقدون صفات الكمال لله، ومؤمنين باليوم الآخر وبما يكون فيه، وينكرون عبادة الأموات ودعاءهم من دون الله، وينكرون على من يقول بخلق القرآن أو يقول بأن الإيمان مجرد التصديق أو ما أشبه ذلك فلتحرص على أن تجمع بينهم حتى يصيروا جماعة واحدة وينسون ما بينهم من الخلاف، وأما إذا رأيت أنهم متمسكون بمذاهب باطلة فالزم الحق واعمل به ولو كنت وحدك.

    مناصحة الرافضة

    السؤال: هل ينصح أهل السنة الرافضة ومجادلتهم أم بتركهم وعدم الالتفات إليهم؟

    الجوب: أما كبارهم والمسنون منهم فالعادة أنهم متمسكون بمذهبهم ويصعب ردهم، وأما شبابهم الذين درسوا في المدارس الحكومية واختلطوا بالمدرسين وبزملاء من أهل السنة فهؤلاء يمكن أن يتقبلوا، فلا بأس بعرض الحق عليهم وبيانه، فإن قبلوا وإلا قامت عليهم الحجة، ولو أظهروا القبول ظاهراً نكل أمرهم إلى الله، ثم نعتقد أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.

    حكم أخذ ما زاد على القبضة من اللحية

    السؤال: ظهرت في هذه الأيام ظاهرة انتشرت بين بعض الشباب الملتزم، وهي ظاهرة تقصير اللحية، وإذا أنكر عليه أحد قال: إن هذا وارد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما؛ حيث إنه كان يأخذ ما زاد عن القبضة، وابن عمر معروف عنه شدة حرصه على الالتزام بالسنة وفعلها، فما هو التوجيه في هذا؟

    الجواب: قد قال بذلك كثير من العلماء، وقالوا: يجوز أخذ ما زاد على القبضة، ولكن الصحيح أنه لا يجوز، وابن عمر ما فعل ذلك إلا عند التحلل من عمرته، يقبض على لحيته ويأخذ ما زاد على القبضة، وهو متأول قوله تعالى: مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [الفتح:27]، فرأى أن هذا من التقصير الذي أمر الله به أو ندب إليه، ولكن هذا فعل اجتهاد منه.

    فنقول: أولاً: لم يكن ابن عمر يفعل هذا الفعل دائماً، وإنما يفعله إذا تحلل من عمرة أو حج.

    ثانياً: ابن عمر متأولٌ الآية، وقد تبين أن الرأس خص بما يستر بالعمامة، وأن اللحية والعارضين من الوجه فلا يدخلان في الرأس، ولو تأول من تأول.

    ثالثاً: العمل برواية صاحب هذا الرأي، فـابن عمر من رواة حديث: (اعفوا اللحى)، فالعمل بروايته أولى من العمل برأيه، ورأيه محض اجتهاد، وعلى كل حال فهذا هو القول الصواب الذي تؤيده الأدلة.

    حكم الذهاب إلى الكهنة والعرافين

    السؤال: إن أبي مريض منذ سنوات، وهو يطالبني أن أذهب به إلى الكهنة والعرافين، أو أن أعطيه مبلغاً من المال ليذهب إليهم، وأنا أنهاه ولم أوافقه، فبماذا تنصحونني؟

    الجواب: ننصحك بأن تقنعه بأن هذا لا يجوز، فقد ورد فيه الوعيد الشديد: (من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)، ثم احرص على أن تعالجه بالعلاج النافع عند الأطباء المعتبرين، أو القراء المخلصين الذين يستعملون القراءة النافعة بكتاب الله تعالى، أو بالأدعية النافعة، فإما أن تستعمل الأدوية المباحة عند أهل العلاج، وإما أن تستعمل القراءة المفيدة عند من يعلمها، وأما الكهنة ونحوهم فإياك وإياهم.

    كيفية حساب من جمدت أجسامهم في الثلاجات

    السؤال: بعض الأموات يبقى في ثلاجة الأموات سنة أو أقل أو أكثر للتحقيق أو غير ذلك، فهل يحاسب وهو على وجه الأرض، وإذا حوسب فكيف يعذب، وهل يجوز هذا الفعل؟

    الجواب: لا شك أنه بعد موته وإن لم يدفن ولو بقي في ثلاجة أو نحوها أنه يجري عليه حساب الله، وذلك لأن حساب البرزخ يجري على الأرواح ولو كان الجسد قد فني، ولو كان الجسد مثلجاً أو محفوظاً أو نحو ذلك، والحكم يبقى على أن الروح هي التي تتألم أو تتعذب، وأما الجسد فإنه وإن كان قد تلبس أو صار فيه هذا الأمر الذي هو كونه مثلجاً أو نحو ذلك لا يتأثر ظاهراً ولو تأثر باطناً خفياً، فالله أعلم بكيفية ذلك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755976246