إسلام ويب

شرح العقيدة الواسطية [21]للشيخ : خالد بن عبد الله المصلح

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان، وأصل من أصوله، لا يصح الإيمان إلا بالإيمانه به، وباب القدر من أخطر الأبواب العقائد، فقد ضلت فيه فرق، وهدى الله أهل السنة لاعتمادهم في هذا الباب وفي غيره على نصوص الكتاب والسنة، ثم السكوت عما وراء ذلك، وتسليم الأمر لله سبحانه.

    1.   

    القدر أصل من أصول الإيمان

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

    وبعد:

    قال المؤلف رحمه الله: [وتؤمن الفرقة الناجية من أهل السنة والجماعة بالقدر خيره وشره].

    عقد المؤلف رحمه الله هذا الفصل؛ لبيان عقيدة أهل السنة والجماعة في أصل من أصول الدين، ومن أصول الإيمان، وهو القدر، وقد دل على ذلك حديث جبريل في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: (الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأن تؤمن بالقدر خيره وشره) فهو أصل من أصول الإيمان بدلالة السنة، وأما القرآن فالآيات التي قررت الإيمان بالقدر كثيرة جداً، ودلت هذه الآيات على أنه لا يستقيم الإيمان في قلب العبد إلا إذا آمن بالقدر، ومن ذلك قول الله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، وجعل بعض أهل العلم كل آية في تقرير التوحيد تدل على إثبات القدر، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنه: (القدر نظام التوحيد). فلا ينتظم الإيمان في قلب العبد، ولا يقر له توحيد إلا إذا آمن بالقدر.

    تعريف القدر

    واعلم أن القدر في اللغة: يراد به التقدير.

    وأما في الاصطلاح: فقد عرفه شيخ الإسلام فقال: هو علم الله، وكتابته المطابقة لمشيئته وخلقه. وهذا التعريف انتظم أركان الإيمان بالقدر، ومراتب الإيمان بالقدر، ودرجات الإيمان بالقدر، وعرفه في موضع آخر فقال: هو الحكم الكوني، وهذا تعريف واسع، فكل ما قضاه الله كوناً فإنه من قدره، فالقدر هو حكمه الكوني، وهذا تعريف جيد.

    وعرفه الإمام أحمد رحمه الله فقال: القدر قدرة الله. وهذا تعريف بديع وجيد، ولذلك استحسنه ابن عقيل من أصحاب الإمام أحمد وقال: هذا يدل على عمق فقه الإمام أحمد حيث فسر القدر بقدرة الله سبحانه وتعالى، وهو يفيد أن كل من أنكر القدر فإنه منكر لقدرة الله جل وعلا.

    بدعة القدر من أوائل البدع

    واعلم أن القدر قد ضلت فيه طوائف، وهو من أوائل ما حصل به الضلال في الأمة، فإن إنكار القدر ظهر في أواخر عهد الصحابة، في عهد عبد الله بن عمر وابن عباس وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم، وأنكره الصحابة إنكاراً شديداً كما في صحيح مسلم وغيره.

    فقد جاء جماعة إلى ابن عمر رضي الله عنه وذكروا له إنكار من أنكر القدر فقال لهم: اعلموهم أني منهم بريء وأنهم مني برآء؛ وذلك لإنكارهم أصلاً من أصول الدين، وركناً من أركان الإيمان، وسيأتينا إن شاء الله تعالى بيان تفصيل إنكار المنكرين، ودرجات إنكارهم في كلامنا على الدرجات.

    1.   

    أفعال الله سبحانه ليس فيها شر

    قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أن تؤمن بالقدر خيره وشره) فيه إثبات أن القدر فيه خير وشر، ولكن ما هو القدر الذي يضاف إليه الشر ويوصف بالشر؟ هل هو فعل الله جل وعلا وحكمه وقضاؤه؟

    الجواب: لا، إنما الشر في المقضي المقدر، أما فعل الرب سبحانه وتعالى فإنه لا شر فيه بوجه من الوجوه، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستفتاح: (لبيك وسعديك، والخير في يديك، والشر ليس إليك) فنفى النبي صلى الله عليه وسلم إضافة الشر إلى الرب سبحانه وتعالى، وبه نعلم أنه ليس في أفعال الله جل وعلا شر، ولا في ذاته شر، ولا في أسمائه شر، ولا في شيء من شئونه سبحانه وتعالى شر، بل لا يكون منه إلا الخير؛ ولذلك قال: (والخير في يديك) فأثبت الخيرية كلها في يد الله سبحانه وتعالى، ونفى عنه الشر كله.

    الشر المجرد لا يضاف إلى الله سبحانه

    تجد في كتاب الله عز وجل وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم: أن الشر المجرد لا يضاف إلى الله سبحانه وتعالى، وإنما يرد إما بإضافته إلى سببه ومن قام به وهو المخلوق، مثال ذلك: قوله تعالى: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [الفلق:2-3] فأضاف الشر إلى سببه ومحله ومن قام به وهو المخلوق، ومما يرد أيضاً في القرآن أن الشر لا يذكر فاعله إذا كان مضافاً إلى الله سبحانه وتعالى، ومن ذلك قول الجن: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ [الجن:10] فجاء بالفعل على صيغة الفعل الذي لم يسم فاعله: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ [الجن:10]، أما الخير فقال: أم أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10] فلما كان الرشد خيراً ذكر الفاعل وهو الله جل وعلا.

    ومن ذلك قول الله سبحانه وتعالى في سورة الفاتحة: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7] فأضاف الإنعام إليه، وأما الغضب والضلال فإنه لم يضفه إليه فقال: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، وهذا ثاني ما يرد الشر مطلقاً في كتاب الله عز وجل، فإنه لا يضاف إليه سبحانه وتعالى، فإما أن يضاف إلى فاعله، وإما أن يذكر مع حذف الفاعل.

    الثالث: أن يدخل في خلق الله على وجه العموم، وذلك نظير قوله تعالى: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:102]، وكل هنا من ألفاظ العموم التي تشمل كل مخلوق من خير أو شر، فأفعال الله سبحانه وتعالى لا شر فيها.

    الشر في المقدرات شر نسبي إضافي

    المفعولات المقدرات يكون فيها الشر، لكن اعلم أن هذا شر نسبي جزئي إضافي، أما الشر المطلق الكلي فإنه لا يكون في خلق الله، ولا في فعله سبحانه وتعالى، ولا في أسمائه وصفاته، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (والشر ليس إليك) ،ففهمنا من قوله: (أن تؤمن بالقدر خيره وشره) يعني: خير المقدور وشر المقدور، خير التقدير وشر التقدير، فقوله: (خيره) الضمير يعود إلى أي شيء؟ إلى القدر، والمراد بالقدر هنا المقدور، أو التقدير، وكذلك شره، أي: شر المقدور الذي هو مخلوق الله جل وعلا ومفعوله.

    لا يجوز إطلاق إرادة الشر نفياً أو إثباتاً في حق الله

    وهنا سؤال: هل يجوز إضافة إرادة الشر إلى الله عز وجل نفياً أو إثباتاً على وجه الإطلاق؟ تفكر وتأمل في قوله تعالى: قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً [الأحزاب:17] هنا أضاف السوء والرحمة!

    لا يجوز إطلاق أن الله يريد الشر، ولا يجوز إطلاق أن الله لا يريد الشر، لا يجوز هذا الإطلاق ولا هذا الإطلاق، فيمتنع أن تطلق إرادة الشر على الله عز وجل، كما أنه يمتنع أن تطلق عدم إرادة الشر على الله عز وجل؛ وذلك أن الإطلاقين نفياً وإثباتاً يحصل بهما إيهام، ويحصل بهما نفي معنىً صحيح، يعني: فيهما إيهام معنى باطل، وفيهما نفي معنى صحيح، وبيان هذا: أن الإرادة تنقسم إلى قسمين:

    إرادة شرعية أمرية وهي: ما تعلق بالمحبة والرضا، وإرادة كونية قدرية وهي: التي لا تعلق فيها بالمحبة والرضا، فمن قال: إن الله يريد الشر يوهم أنه يريده محبة ورضا؛ ولذلك نقول: لا تطلق، ومن قال: لا يريد الشر يوهم أنه لم يقضه كوناً وقدراً، ولذلك كلا الإطلاقين فيه محظور، فيمتنع إطلاق إرادة الشر عليه نفياً وإثباتاً؛ لما تضمنه من إيهام معنىً باطل ونفي معنى صحيح، والله سبحانه وتعالى يريد من عبده الطاعة محبة ورضا، ويريد ما يكون في الكون من شر لكنها إرادة قدرية كونية لا تتعلق بمحبته سبحانه وتعالى، لكن لا ينبغي للإنسان أن يطلق ذلك نفياً أو إثباتاً.

    1.   

    درجات الإيمان بالقدر ومراتبه

    قال رحمه الله تعالى: [ والإيمان بالقدر على درجتين، كل درجة تتضمن شيئين: فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله تعالى عليم بالخلق وهم عاملون بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلاً وأبداً، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال، ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق: (فأول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، جفت الأقلام وطويت الصحف) كما قال تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70] ، وقال: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22] وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلاً ].

    الإيمان بالقدر على درجتين أي: على مرتبتين، وكل درجة تتضمن شيئين، فتكون مراتب الإيمان بالقدر على هذا أربع مراتب، وأول هذه المراتب:

    الإيمان بأن الله تعالى علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم، والخلق يشمل الجن والإنس والملائكة وكل شيء مما فيه حياة، وما لا حياة فيه، فكل ذلك من خلق الله سبحانه وتعالى، فهو يعلم ما هم عاملون بعلمه القديم، أي: بعلمه المتقدم الأزلي السابق لوجود الحوادث.

    قال: (الذي هو موصوف به أزلاً وأبداً)؛ لأن العلم من الصفات الذاتية كما تقدم بيانه.

    قال: (وعلم جميع أحوالهم) يعني: الله علم بهم على وجه الإجمال، وعلم بجميع أحوالهم، وهذا فيه أن علمه سبحانه وتعالى أحاط بدقائق العلوم، وليس فقط بالكليات، بل حتى بالجزئيات والفرعيات، علم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق.

    ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق، فهذا العلم الثابت له سبحانه وتعالى علم مكتوب في اللوح المحفوظ، فاللوح المحفوظ حوى كل ما الخلق عاملون من الدقيق والجليل، وتسميته باللوح المحفوظ؛ لأنه محفوظ من التغيير والتبديل، ومحفوظ من الزيادة والنقصان.

    وسمي في الكتاب بالحفيظ أيضاً، وهو حفيظ بمعنى: محفوظ، وحفيظ بمعنى: حافظ.

    علم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي، وهذا يتعلق بفعل العبد، فالطاعات والمعاصي من فعل العبد، والأرزاق من فعله سبحانه وتعالى، والآجال -أيضاً- من فعله سبحانه وتعالى.

    ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلائق، وما فائدة هذه الكتابة؟

    فائدة هذه الكتابة إثبات هذا العلم، وأنه علم لا يتغير ولا يتبدل كما قال موسى في جواب فرعون عندما قال له: قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى [طه:51-52] فأثبت علمها عنده سبحانه وتعالى، وأثبت أن هذا العلم في كتاب ثم قال: لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى فما كان مكتوباً فهو محفوظ مع أن الله جل وعلا غني عن هذه الكتابة، وليست خشية النسيان تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً؛ وإنما ذلك لأجل إثبات هذه المعلومات وحفظها؛ ولأجل ما قدره من استنساخ الملائكة منها وأخذهم عنها.

    قال: (فأول ما خلق الله القلم قال له: اكتب) أي أنه: أول ما خلق القلم أمره بالكتابة في أول خلقه، فالقلم أمر بالكتابة في أول خلقه، فقال القلم للرب سبحانه وتعالى: ما أكتب؟! قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، ما هو كائن يعني: ما هو حاصل وما هو جار وما سيوجد إلى يوم القيامة، وهذا يشمل كل ما هو حادث في الكون، فإنه مكتوب في هذا اللوح العظيم، وفي هذا الكتاب المبين، فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه.

    وهذا القلم هو أحد الأقلام التي جرت في المقادير، فهي أقلام متعددة تكلم عليها ابن القيم رحمه الله، ولا نريد الإطالة بذكر ما ذكر رحمه الله، وهذا القلم الذي كتب الله سبحانه تعالى به مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة هو أعظمها.

    قال: (فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه) أي: لم يكن ليتجاوزه ويتعداه (وما أخطأه) يعني: ما تجاوزه وتعداه إلى غيره (لم يكن ليصيبه) يعني: لم يكن ليرجع عليه، ولا أن ينال منه شيئاً بل ذلك كله وفق تقدير عزيز حكيم.

    قوله: (جفت الأقلام، وطويت الصحف) هذا فيه بيان أن ما كان من تقدير فإنه قد فرغ منه علماً وكتابة؛ ولذلك قال: جفت الأقلام، أي: انتهى الأمر، فليس هناك علم يحدث للرب جل وعلا لم يكن يعلمه قبل، بل علمه لا يسبق بجهل سبحانه وتعالى، فقوله: جفت الأقلام، وطويت الصحف، بناءً على أن ما كتبه الله من مقادير الخلائق فإنه قد فرغ منه.

    وقوله: (جفت الأقلام) يفهم من هذا أنه ليس الذي يكتب به قلم واحد، بل الذي يكتب به أكثر من قلم، لكن الذي كتب في اللوح المحفوظ هو القلم الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (فأول ما خلق الله القلم قال له: اكتب) وهذه الدرجة تضمنت مرتبتين:

    المرتبة الأولى: العلم، والثانية: الكتابة.

    قال رحمه الله: (كما قال تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) هذه الآية فيها الإعلام بأن الله سبحانه وتعالى أحاط علمه بما في السماء والأرض، وأن هذا العلم في كتاب؛ ولذلك قال: إِنَّ ذَلِكَ أي: علمه سبحانه وتعالى بما في السماء والأرض في كتاب، أي: مكتوب في اللوح المحفوظ: إِنَّ ذَلِكَ أي: العلم والكتابة عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي: عليه جل وعلا هين سهل.

    والآن لو قيل لك: اكتب ما يجري منك في يوم واحد: كل ما يصدر منك من قول أو فعل، أو يدور في خلدك! أو يدور في قلبك! أو يطرأ على بالك! سجل كل ذلك! صعب هذا في يوم واحد، فكيف بالذي قدر مقادير الأشياء منذ تلك الساعة إلى قيام الساعة وكل ذلك مكتوب مسجل؟! سبحان الله! إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ، وقال: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ [الحديد:22] أي: إلا في مكتوب مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا وهذا فيه سبق الكتابة للخلق مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا أي: من قبل أن نخلقها إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي: كتابة ذلك على الله يسيرة، وعلم ذلك على الله يسير، ومن لازم الكتابة ثبوت العلم؛ لأنه لا يكتب إلا المعلوم فهذه الآية دلت على هاتين المرتبتين في هذه الدرجة.

    أنواع التقدير

    ثم قال رحمه الله:

    [ وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلاً، فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء، وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه: (بعث إليه ملكاً فيؤمر بأربع كلمات، فيقال له: اكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد) ونحو ذلك، فهذا التقدير قد كان ينكره غلاة القدرية قديماً، ومنكروه اليوم قليل ].

    هذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلاً، أي: أنه يحصل الإجمال بما في قدر الله عز وجل، ويحصل في مواضع التفصيل، فهناك إجمال وتفصيل في تقدير الله عز وجل فما في اللوح المحفوظ هو: ما هو كائن إلى قيام الساعة، ثم إن ما في اللوح المحفوظ لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، ويطلع الله جل وعلا من شاء من خلقه على بعض ما فيه، ولذلك فالملائكة لا تعلم ما في اللوح المحفوظ، ليس لها علم بما فيه إلا ما أطلعهم الله سبحانه وتعالى عليه، ودليل ذلك في القرآن، فإنهم لم يعلموا فضيلة آدم بل لم يعلموا خلقه، فلما أخبروا بخلقه تعاظموا ذلك: قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30] استغربوا أن يخلق خلق في الأرض، فبين الله عز وجل لهم الحكمة من الخلق.

    المهم أن الأدلة تدل على أن ما في اللوح المحفوظ ليس معلوماً للخلق، ولكن الله سبحانه وتعالى يطلع من شاء على ما شاء مما تضمنه هذا الكتاب الذي أحاط بما هو كائن إلى يوم القيامة.

    ثم إن هذا التقدير السابق لخلق السماوات والأرض يعقبه تقدير بالنسبة لبني آدم عند نفخ الروح فيه، فإنه إذا خلق الجسد قبل نفخ الروح فيه بعث الله سبحان وتعالى إلى هذه المضغة المخلقة ملكاً، وهذا من عناية الله عز وجل ببني آدم: (فيأمر بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد) بأربع كلمات، وهذا يسمى: التقدير العمري.

    ثم إن هناك تقديراً حولياً، وهو: ما يكون في ليلة القدر، فيكتب فيها ما هو كائن إلى ليلة القدر من العام القادم: تكتب فيها الآجال والأرزاق والأعمال.

    ثم إن هناك تقديراً يومياً، وهو: ما أشار إليه قوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29] سبحانه وتعالى.

    مراتب القدر هذه تجدها مفصلة ومجملة، فما يجمل في محل يفصل في محل، وهذا معنى قوله رحمه الله: [وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلاً].

    فحفظ رزقك مثلاً الذي يكون في التقدير العمري هل هو مفصل: إنه سيأكل كذا، ويشرب كذا .. أم أنه مجمل؟ الظاهر أنه مجمل، وقد يكون مفصلاً، لكن شقي أو سعيد: هذا فيه إجمال، يكتب أنه من أهل السعادة مثلاً، ويكتب تفاصيل العمل في التقدير الحولي، وفي التقدير اليومي.

    قال: [ونحو ذلك، فهذا التقدير قد كان ينكره غلاة القدرية].

    هذا التقدير من مراتب الإيمان بالقدر، وكان ينكره غلاة القدرية قديماً أي: في أول ظهورهم.

    انحسار مذهب غلاة القدرية

    قوله: [ ومنكروه اليوم قليل ] أي: في زمنه رحمه الله، وهم قليل من قبل زمنه، وذلك أن القدرية أول ما خرجوا كانوا يقولون: إن الأمر أنف، يعني: مستأنف، وإن الله سبحانه وتعالى لم يقدر الأقدار قبل الخلق بل هو سبحانه وتعالى عالم بما الخلق، عاملون بعد وجود أعمالهم، أما قبل وجود العمل فلا علم له بما يكون، وبعضهم قال: إن العلم هو العلم الكلي، وهذا قول الفلاسفة، أما غلاة القدرية فإنهم نفوا أن يكون الله سبحانه وتعالى عالماً بأعمال العباد قبل خلقها، فنفوا العلم والكتابة عن الله سبحانه وتعالى.

    ثم إن أهل السنة والجماعة وعلى رأسهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابن عمر ، وابن عباس ، وواثلة بن الأسقع وغيرهم من الصحابة ناظروا هؤلاء، وبينوا لهم خطأ قولهم، وضلال مذهبهم، وأن بل مذهبهم كفر وتكذيب بالقرآن الكريم؛ لأن من لم يؤمن بالقدر فقد أنكر التوحيد؛ ولذلك سمي هؤلاء مجوس الأمة؛ لأنهم لم يفردوا الله سبحانه وتعالى بتوحيد الربوبية، فوقع عندهم الشرك في توحيد الربوبية، فلما نوقشوا رجع منهم طائفة، وأصبح أكثر الناس يقرون بالعلم السابق والكتابة، ويناقشون ويجادلون في المرتبتين الأخريين، وهما مرتبتا المشيئة والخلق.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755815044