إسلام ويب

شرح العقيدة الواسطية [5]للشيخ : خالد بن عبد الله المصلح

  •  التفريغ النصي الكامل
  • في القرآن الكريم كثير من الآيات التي فيها ذكر صفات الله تعالى، كالآيات التي أخبرت عن علمه، والآيات التي أخبرت عن كمال حياته وقيوميته، والآيات التي أخبرت عن كونه الأول والآخر والظاهر والباطن، والآيات التي نفت وسلبت صفات النقص عنه وأثبتت ضدها، والقاعدة في هذا كله: أن نثبت ما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، وأن ننفي ما نفاه الله عن نفسه في كتابه ونفاه عنه نبيه صلى الله عليه وسلم في سنته.

    1.   

    بعض ما جاء في القرآن من أوصاف الله تعالى

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

    وبعد:

    إثبات الحياة له سبحانه ونفي ضدها

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله سبحانه: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد:3]، وقوله سبحانه: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان:58]، وقوله: وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [التحريم:2]، وقوله: وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام:18]، وقوله: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا [سبأ:2]، وقوله: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59]، وقوله: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ [فاطر:11]، وقوله: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً [الطلاق:12]، وقوله: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:58] ].

    ذكر رحمه الله في سياق ما مثل له من القواعد السابقة قوله: [ وقوله تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان:58] ].

    وهذه الآية مقدمة على قوله تعالى: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد:3]؛ فالنسخة المحققة فيها تقديم هذه الآية على آية الحديد .

    وهذه الآية فيها وصفان لله عز وجل:

    الوصف الأول: ثبوتي، وهو الحياة .

    والوصف الثاني: سلبي، وهو نفي الموت عنه سبحانه وتعالى، ونفي الموت لبيان كمال اتصافه بالحياة جل وعلا، فهو نظير قوله سبحانه وتعالى: الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255] ، وهذه الآية متصلة بالآية السابقة في إثبات الحياة له سبحانه وتعالى.

    كونه الأول والآخر والظاهر والباطن

    ثم قال: [ وقوله سبحانه: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد:3] ].

    هذه الآية فيها إثبات صفة الأولية لله سبحانه وتعالى وصفة الآخرية، والظاهرية والباطنية،وهذه أربع صفات فسرها النبي صلى الله عليه وسلم تفسيراً يبين معناها، وذلك فيما ثبت في صحيح مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء). فالأول هو السابق لكل شيء، وليس قبله شيء، قال: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء)، فهو الآخر سبحانه وتعالى، فله الآخرية المطلقة؛ لأنه الدائم بلا انتهاء سبحانه وتعالى، وهو الظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، وكل اثنين من هذه الأسماء الأربعة مرتبطان، فالأول والآخر مرتبطان وبهما يحصل كمال المعنى، والظاهر والباطن مرتبطان وبهما يحصل كمال المعنى المراد إثباته لله سبحانه وتعالى، فالأول والآخر فيهما إثبات الإحاطة الزمانية له سبحانه وتعالى، والظاهر والباطن فيهما إثبات الإحاطة المكانية له جل وعلا.

    ثم أكد هذه الإحاطة بقوله سبحانه وتعالى: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد:3]، و(الظاهر) مضمن معنى (العلي)، فهو ظاهر على كل شيء ظهوراً مكانياً -فهو فوق كل شيء سبحانه وتعالى- وظهوراً معنوياً.

    وأما الباطن فقد فسره بعضهم بالقريب، فقالوا: هو القريب من كل شيء، والقرب هنا ليس القرب الذي ذكره الله عز وجل لأوليائه، كقربه ممن دعاه، وقربه من الساجد؛ فإن ذلك قرب خاص، وإنما القرب هنا قرب عام، وهذا على القول بأن القرب ينقسم إلى عام وخاص، وسيأتي رأي شيخ الإسلام رحمه الله في هذه المسألة فيما يذكره من صفة القرب، وأن القرب لا ينقسم إلى قرب عام وخاص، بل القرب لا يكون إلا خاصاً.

    وعليه فيكون معنى الباطن الذي لا تخفى عليه من خلقه خافية، فلا يحجب سبحانه وتعالى خلقه عنه شيء، بل هو المطلع على ظواهرهم وبواطنهم، وقد أطال الكلام على هذا ابن القيم رحمه الله في (طريق الهجرتين)، ولما أفهم وبين وخشي أن يكون القارئ غير مدرك لما ذكر، قال: فإذا لم تستطع فهم هذا فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع، يعني أن الإنسان لا يلزم أن يكون مدركاً لمعنى كل اسم من أسماء الله عز وجل على وجه الكمال، فإذا خفي عليه شيء، أو ضاق ذهنه أو فهمه عن إدراك معنى شيء من أسماء الله عز وجل، فالواجب عليه أن يؤمن بما أخبر الله به ورسوله على مراد الله ورسوله ويمضي.

    علمه تعالى، والنصوص الواردة فيه

    ثم قال الله سبحانه وتعالى في هذه الآية: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد:3]، وهذا لتأكيد الإحاطة، وفيه إثبات صفة العلم، وصفة العلم صفة ذاتية لله سبحانه وتعالى، كصفة الحياة، وكصفة القيومية، وإن كانت صفة القيومية ترجع إليها صفات الفعل لكن هو قيوم سبحانه وتعالى أزلاً وأبداً، قائم بنفسه ومقيم لغيره من خلقه، فالعلم صفة ذاتية، وذكرنا في السابق أن الصفات تنقسم إلى قسمين: ذاتية، وفعلية، والذاتية تنقسم إلى قسمين: صفات لازمة، وصفات متعدية، فالصفات اللازمة كصفة الحياة، والصفات المتعدية هي أكثر ما ذكر الله عز وجل من صفاته، كالسمع، والبصر، والعلم، والإرادة، والقدرة، والكلام.. فكلها متعدية، وكذلك الصفات الفعلية تنقسم هذا الانقسام، فمنها ما هو لازم، ومنها ما هو متعدٍ، فمن اللازم في الصفات الفعلية الاستواء والمجيء والإتيان، وأما المتعدي فكالرزق والإحياء والإماتة.

    ثم ذكر المؤلف رحمه الله في إثبات هذه الصفة لله عز وجل -صفة العلم- قوله تعالى: وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [التحريم:2] وفي هذه الآية إثبات صفتين لله سبحانه وتعالى: صفة العلم وصفة الحكمة، والعلم قد تقدم في قوله تعالى: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد:3].

    واعلم أن علم الله سبحانه وتعالى يتعلق بكل شيء، ولذلك جاء متعلقاً بجميع الأشياء في قوله: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد:3]، وقال سبحانه وتعالى: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً [غافر:7]، وقال: وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً [طه:98] أي: وسع علمه كل شيء، فعلم الله سبحانه وتعالى يتعلق -من حيث الزمن- بالماضي والمستقبل والحاضر، ومن حيث الأشياء يتعلق بالممكنات والمعدومات والممتنعات، ويتعلق علمه سبحانه وتعالى بفعله وبفعل غيره، فعلمه سبحانه وتعالى أحاط بكل شيء، ولبيان هذا ذكر المؤلف رحمه الله قوله تعالى: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا [سبأ:2]، (ما يلج في الأرض) أي: ما يدخل فيها، (وما يخرج منها) من النبات وغيره، (وما ينزل من السماء) أي: من الملائكة والمطر والوحي وغير ذلك، (وما يعرج فيها) أي: ما يصعد إليها من الملائكة، ومن أعمال العباد وغير ذلك مما لا نعلمه، ولبيان تفصيل علم الله عز وجل وأنه أحاط بالكليات والجزئيات قال المؤلف رحمه الله في الاستدلال في هذا: [ وقوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ [الأنعام:59] ]، و(مفاتح): جمع مفتح، وهو آلة فتح المغلق كالمفتاح، ولكن (المفتح) أفصح كما قال بعضهم، والغيب كل ما خفي على الإنسان ولم يدركه، سواء أكان غيباً كلياً أم غيباً جزئياً، فالغيب الكلي يكون في المستقبلات كعلم الساعة، والغيب الجزئي النسبي هو ما يعلمه غيرك ويخفى عليك، ومفاتح الغيب هي التي ذكرها الله عز وجل في قوله: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان:34]، وهكذا بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في الصحيح حيث قال: (مفاتح الغيب خمسة...)، وبينها بهذه الآية.

    قال تعالى: لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ، فبعد أن بين أن مفاتح الغيب عنده نفى علمها عن غيره، فقال: لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ، وبين شمول علمه فقال: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا ، وهذا لبيان إحاطة علمه لما في الجو؛ لأنه ذكر البر والبحر، ثم ذكر الجو في قوله: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ ؛ لأن الأوراق الغالب فيها أن تكون في الجو.

    قالت تعالى: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وهذا ليبين أن علمه يشمل ما خفي واندثر في باطن الأرض، قال تعالى: وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ ، وهذا يعم كل شيء، والمخلوق لا يخلو أن يكون رطباً أو يابساً من العاقلات ومن غير العاقلات، قال تعالى: إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ، فهو يعلم كل ذلك، وكل ذلك في كتاب مبين، وهو اللوح المحفوظ، وهذا يدل على سعة علم الله سبحانه وتعالى، وأنه محيط بكل شيء، فما من حركة ولا سكون في هذا الكون إلا بعلمه، فحركة الأشجار والأسماك في قاع المحيطات لا تكون إلا بعلمه جل وعلا، وهذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة، قال سبحانه وتعالى في بيان اتصافه بهذه الصفة: وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ [فاطر:11] فقوله تعالى: وما تحمل من أنثى يصدق على كل أنثى من البشر وغيرهم، (وَلا تَضَعُ) يعني: ولا تضع ما في بطنها (إِلاَّ بِعِلْمِهِ) يعني: إلا وذلك بعلم منه سبحانه وتعالى، فالباء هنا للمصاحبة والملابسة، أي أن ذلك حاصل بعلم منه سبحانه وتعالى.

    قال رحمه الله تعالى: [ وقوله: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً [الطلاق:12] ].

    هذا أيضاً فيه إثبات سعة علمه سبحانه وتعالى، وأن علمه محيط بكل شيء.

    الفرق المخالفة لأهل السنة في صفة العلم

    واعلم -بارك الله فيك- أن صفة العلم خالف فيها طوائف، وأشدهم مخالفة الفلاسفة الذين قالوا بأن الله سبحانه وتعالى لا يعلم الجزئيات، إنما يعلم الأمور الكليات. فليس عنده علم بجزئيات ما يفعله العباد، إنما يعلم الكليات والأمور العامة، وأما الجزئيات فإنه لا يعلمها، وسبب ذلك أنهم قالوا: إنه يلزم من إثبات علمه بالجزئيات تجزؤ علمه. فانظر كيف الشبهة تدخل عليهم فتحملهم على تكذيب ما جاءت به الرسل، وما اتضحت وظهرت أدلته في الكتاب والسنة!

    ونقول لهم: خبتم وخسرتم؛ فإن الله سبحانه وتعالى قد أخبر بأن علمه محيط بكل شيء، وفي قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ [الأنعام:59] رد مفحم لهؤلاء القوم؛ لأن الله تعالى أثبت أنه يعلم كل شيء حتى الورقة التي تسقط من الشجرة يعلمها سبحانه وتعالى، ولا تخفى عليه، هذا من وجه.

    ومن وجه آخر أن ما أخبر الله به في كتابه من تفاصيل ما وقع من الأمم السابقة والأنبياء فعلاً وقولاً يدل على أنه سبحانه وتعالى قد أحاط علمه بالجزئيات، فالعلم بالجزئيات ثابت له سبحانه وتعالى، ولا يلزم عن ذلك نقص، بل إنما هو وهم وخيال فاسد، والواجب إثبات ما أثبته الله في الكتاب والسنة، ولا شك أن من قال بهذا القول فهو كافر بتكذيبه ما جاء في الكتاب وما جاء في السنة، وما دل عليه العقل من أن الله متصف بالعلم الواسع لكل شيء.

    وطائفة ثانية ضلت في هذا الباب في صفة العلم، وهم غلاة القدرية، فقالوا: إن الله لا يعلم بالأشياء إلا بعد وقوعها، أما قبل وقوعها فإنه لا يعلمها؛ لأنه لو علمها لكان ظالماً -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً-.

    وهذه البدعة أول ما ظهرت في أواخر عهد الصحابة رضي الله عنهم، وعرضت على ابن عمر فقال لمن أخبره عن هؤلاء: أخبروهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني، والذي يحلف به ابن عمر لو أن أحدهم أنفق مثل أحد ذهباً لم يتقبل منه حتى يؤمن بالقدر.

    وهذه بدعة مهجورة مندثرة؛ لأن أصحابها تبين لهم أن قولهم أن الله لا يعلم بالأشياء إلا بعد وجودها مضادة واضحة لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب الله عز وجل وفي سنته صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك قال الشافعي : ناظروهم بالعلم فإن أقروا به خصموا وإلا كفروا، وهذه البدعة بدعة كفرية، فمن قال: إن الله لا يعلم بالأشياء إلا بعد وقوعها فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الذي أنزل عليه يدل على أن الله سبحانه وتعالى عالم بالأشياء قبل وقوعها.

    وممن ضل في هذه الصفة مثبتتة الصفات، وهذا اسم يتكرر في كلام شيخ الإسلام رحمه الله وفي كلام غيره ممن يتكلم عن العقائد، فمن هم مثبتة الصفات غير أهل السنة والجماعة؟

    هم الأشعرية والكلابية والماتريدية، وغيرهم ممن يثبت شيئاً من الصفات، لكن هذه الطوائف هي أبرز الطوائف من مثبتة الصفات، فهؤلاء يثبتون العلم لله سبحانه وتعالى كما يثبتون غيره من الصفات الذاتية التي يسمونها الصفات المعنوية؛ لأن المعنى قد دل عليها، وهي سبع صفات معروفة نظمها بعضهم فقال:

    له الحياة والكلام والبصر سمع إرادة وعلم واقتدر

    فهذه هي السبع الصفات التي يقر بها مثبتة الصفات، وينبغي أن يعلم أن إقرارهم بهذه الصفات ليس كإقرار أهل السنة والجماعة، فإيمان هؤلاء بهذه الصفات مخالف لما عليه سلف الأمة، ولنأخذ لذلك مثلاً في هذه الصفة التي نحن نبحث فيها، وهي صفة العلم، فأهل السنة والجماعة يثبتون أن لله علماً أزلياً، وأنه سبحانه وتعالى العليم بكل شيء قبل أن يكون، وأنه سبحانه يعلم بالأشياء بعد وقوعها، كما أنه يعلم بها قبل وقوعها، أما هؤلاء فإنهم يقولون: إن العلم واحد أزلي لا يتجدد كسائر الصفات، والسمع أزلي واحد لا يتجدد، والبصر أزلي واحد لا يتجدد، وسمع الله لكلامنا ليس بسمع حادث في هذه اللحظة، إنما هو السمع القديم الذي في الأزل، وبصر الله لنا ونظره إلينا ليس ببصر حادث متجدد في هذه اللحظة، إنما هو بصر أزلي قديم، وكذلك علمه بما نقول ليس بعلم حادث متجدد، إنما هو بعلم قديم، وقالوا في سبب هذا: إنه إذا أجزنا تجدد وحدوث هذه الصفات لزم من ذلك أن تقوم به الحوادث، ومن قامت به الحوادث فهو حادث، هكذا زعموا، وهذه شبهتهم.

    والجواب أن يقال: إن الله سبحانه وتعالى فعال لما يريد، فهو يعلم الأشياء قبل وقوعها،ويعلمها بعد وقوعها، ولذلك قال سبحانه وتعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142]، وقال سبحانه وتعالى: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ [العنكبوت:11]، وقال سبحانه وتعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ [محمد:31]، وكل هذا العلم علم حادث بعد أن لم يكن، لكن هل هذا العلم سبقه جهل؟

    الجواب: لا، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وبهذا ينحل الإشكال عند كثير من المفسرين في هذه الآيات التي تثبت حدوث العلم لله عز وجل، فهم يقولون: هذا العلم علم الظهور الذي يحصل به الإثابة والأجر، فهو علم ظهر به حال الإنسان، لكن هذا العلم لا يعارض أن يكون قد حدث، بل ظاهر القرآن أنه حدث بعد أن لم يكن، ولا نقص في ذلك، وأنت -يا أخي- اعمل بالقاعدة المتقدمة أن (ما أثبته الله لنفسه فأثبته)، ولا تخش شيئاً، وإذا قيل لك: ما دليله فعندك حجة من الكتاب أو السنة.

    واعلم أنه لا يمكن ومن المحال أن يترتب على ما جاء في الكتاب والسنة أي لازم باطل، بل كلها خيالات فاسدة وأوهام كاذبة، تتساقط عند الحجة والبرهان من الكتاب والسنة؛ ولذلك نثبت هذا الأمر ولا نبالي.

    وكذلك السمع والبصر، فالله سبحانه وتعالى أثبت سماعه للكلام، وأثبت استمرار هذا السماع، فقال سبحانه وتعالى في سورة المجادلة: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة:1]، و(سمع) فعل ماض، فهو إخبار عما مضى، قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ [المجادلة:1] .

    ثم قال: وَاللَّهُ يَسْمَعُ [المجادلة:1]، وهذا يدل على أن السماع حادث بعد أن لم يكن، وكيف نقابل ربنا وبأي حجة عندما نقول: إن السمع الذي حصل بكلام المخلوقين هو بالسماع الأزلي، والله يقول في كتابه: وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا [المجادلة:1]؟ ولذلك كل من استمسك بالنصوص سلم من الاضطراب والتناقض، وكل من أعرض عنها فهو كما قال الله عز وجل عن المكذبين بما جاءت به الرسل: فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ [ق:5].

    أخي الكريم! ما هناك بدعة من البدع إلا وهناك من يقول بها في هذا العصر لا سيما البدع المشهورة، كبدعة الاعتزال، فإنها مثل التراب في الأمة الآن، وبدعة الأشاعرة لا حصر لهم ولا عد، والآن نسمع من الذين يطالعون الانترنت أن هناك محاضرات عبر الانترنت في إنكار الاستواء، فكيف يقال: إننا لا نحتاج إلى أن نطرق هذه المذاهب ونناقشها ونبينها؟ بل نحن بحاجة إلى معرفة المذاهب المبتدعة القديمة لنربطها بالبدع الحديثة، ولنتمكن من الرد على المحدثات الجديدة؛ لأنه إذا لم نكن على علم بطريقة سلفنا الصالح في الجواب على شبه هؤلاء ومناقشتهم فإننا ندخل الميدان بلا سلاح، وإن كان معنا الكتاب والسنة لفظاً بدون معنى، فإن الكتاب والسنة سلاح ماض في يد من تدبر وفهم وعقل عن السلف الطريقة التي ساروا عليها في كتاب الله وسنة رسوله.

    فهذا السؤال يتكرر: لماذا ندرس بدعة المعتزلة وبدعة الخوارج وبدعة الرافضة والبدع الأخرى؟

    فنقول: ندرسها لأنها موجودة وإن تغيرت المسميات، مع إن كثيراً من البدع باقية باسمها، فالمدرسة الاعتزالية موجودة، وللأسف أنها موجودة حتى في كثير ممن ينتسبون إلى السنة، وهم لا يشعرون بذلك، فالواجب العناية بهذه المذاهب ومعرفتها؛ حتى نتمكن من الرد على أصحابها، وعلى ما يتجدد من البدع مما يتفرع عنها.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756179426