إسلام ويب

مقدمات في العلوم الشرعية [35]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • علم أصول الفقه الحاجة إليه ماسة، ومن فوائده: أن يعرف الإنسان ما كلفه به ربه، وهو يشترك مع كثير من العلوم في كثير من الجزئيات، وينفرد ببعض الجزئيات التي لا تدرس إلا فيه. والكتب المؤلفة في هذا العلم على طريقتين: الأولى طريقة المتكلمين، والثانية طريقة الحنفية.

    1.   

    موضوع أصول الفقه

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:

    فقد انتهينا من المقدمة الأولى فيما يتعلق بعلم أصول الفقه وهي بيان حده وتعريفه، أما المقدمة الثانية فهي موضوعه، وقد اختلف في موضوع أصول الفقه على ثلاثة أقوال:

    القول الأول: موضوع أصول الفقه: الأدلة الشرعية الإجمالية؛ لأنه يبحث في تعريف الكتاب، وتعريف السنة، وتعريف الإجماع، وتعريف القياس.. إلى آخره، ويبحث في حجيتها، وما يعتبر حجة منها، وما يعرض لها من العوارض كالنسخ والإجمال، والتشابه، وما يزول به التعارض لو حصل، مرجحات.. إلخ.

    القول الثاني: الأحكام الشرعية، موضوع أصول الفقه هو الأحكام الشرعية، سواءً كانت الأحكام تكليفية، أو الأحكام الوضعية؛ لأنه يتعلق بأفعال المكلفين إلا بأوامر الله وحده، الأوامر دون أن تنزل على المكلفين؛ فليست في مرحلة البحث، إنما تبحث بعد أن تكون أحكاماً موجهة إلى المكلفين.

    القول الثالث: موضوع أصول الفقه: الأحكام الشرعية، وأدلتها الإجمالية، هو الجمع بين القولين السابقين، وهذا أرجح شيء؛ لأنه لا شك أن الأحكام تدرس في أصول الفقه في مقدمات، والأدلة تدرس في أصول الفقه باستفاضة، وأبواب مستقلة، كما سيأتينا في المسائل إن شاء الله.

    1.   

    واضع علم أصول الفقه

    أما واضع أصول الفقه؛ فلا يمكن أن يقال: له واضع محدد، كما سبق من أن هذا النوع من العلوم ذات الأصالة في الإسلام لا يمكن أن تنسب إلى واضع واحد، فليس هو من العلوم اللغوية كالعروض والقوافي، والصرف والنحو، التي يعرف واضعها، بل هو نتاج عمل العصور الأولى من الاجتهاد، فوضعوا قواعد للتعامل مع النصوص، وضوابط لذلك التعامل، فكانت هي أصول الفقه.

    ولكن يمكن أن يقال بدل الواضع: أول من ألف فيه. فيقال: هو الشافعي رحمه الله، فمن المعلوم أنه أول من ألف الكتاب المستقل في أصول الفقه، وهو كتاب الرسالة.

    1.   

    نسبة علم أصول الفقه

    المقدمة الرابعة: نسبته إلى غيره من العلوم، وهذه النسبة هي نسبة العموم والخصوص من وجه؛ لاشتراكه مع كثير من العلوم في كثير من الجزئيات، ولانفراده عنها بكثير من الجزئيات أيضاً، فيشترك مع علم التفسير وعلوم القرآن في دراسة تعليم القرآن والفرق بين المتواتر منه والشاذ، والبحث في حجيته، وفي سبب نزوله، في الناسخ والمنسوخ منه؛ كل هذا يبحث في الأصول، ويبحث في علوم القرآن وفي التفسير.

    ويشترك كذلك مع السنة، مع علم الحديث في البحث، في تعريف السنة وأجزائها، وصفات ناقليها، ومراتب الجرح والتعديل، والعلل كذلك، والبحث في دلالتها، ومع شرح الحديث.

    ويشترك مع علوم اللغة العربية في كثير من المسائل، كمعاني الحروف، ويشترك مع العلوم العقلية في كثير من المسائل كالدلالات الجزئية والكلية، الدلالات الوضعية، ويشترك مع البلاغة كذلك في الدلالات هذه، تعريف الصدق والكذب، وما يتعلق بالخبر مطلقاً.

    إذاً هو مشترك مع كثير من العلوم في كثير من الجزئيات، وينفرد هو ببعض الجزئيات التي لا تدرس إلا فيه.

    1.   

    مستمد أصول الفقه

    المقدمة الخامسة: مستمده.

    مستمد أصول الفقه من الوحي، واللغة العربية، واجتهادات أهل الاجتهاد.

    1.   

    فضل علم أصول الفقه

    أما المقدمة السادسة: فهي فضله، وقد أشرت إليه في بداية كلامي، وذكرت أنه ذو فضل عظيم، وأن الحاجة ماسة إليه، وفضل كل علم إنما هو بحسب ما يؤدي إليه.

    ولا شك أن أصول الفقه يؤدي إلى تفهم كتاب الله الذي أمر الله بتدبره، فقال: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29]، وقال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، ولمعرفة أحكامه، حتى يعمل بها الإنسان، ويفتي بها غيره، ويوصلها إلى ذلك الغير، وهذا فضل عظيم في الشرع؛ ولذلك أخرج البخاري في الصحيح، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مثل ما بعثني الله من الهدى والعلم، كمثل غيث أصاب أرضاً، فكان منها طائفة نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وأصاب منها طائفة أخرى أمسكت الماء على الناس، فسقوا ورعوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماءً، ولا تنبت عشباً، فذلك مثل من نفعه الله بما جئت به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم ينفعه هدى الله الذي أرسلت به )، فهذا فضل عظيم.

    1.   

    حكم تعلم علم أصول الفقه

    ثم بعد هذا المقدمة السابعة: حكم تعلمه.

    أهل العلم يعدونه من فروض الكفايات، أي: أنه فرض كفاية في الأصل، لكن من المعلوم أن فرض الكفاية إذا لم يقم به من يكفي تعين، يعني: أصبح فرض عين.

    ومن المعلوم أن هذا العلم اليوم وبالأخص إذا اشترطنا الضابط الذي ذكرناه في تطبيقه على الواقع قل من يقوم به اليوم، فيتعين على المتفرغين له من طلبة العلم، ولا يمكن أن يكون الإنسان طالب علم جاداً، يمكن أن يمارس الكتاب والسنة إلا بعد معرفة لبعض قواعد أصول الفقه ومقدماته، لا غنى لطالب العلم عنها، ولذلك قد يتعين في كثير من الأحيان.

    1.   

    اسم علم أصول الفقه

    المقدمة الثامنة: اسمه.

    اسمه هو أصول الفقه، وقد يختصر الاسم فيقال: الأصول فقط.

    1.   

    فائدة علم أصول الفقه

    المقدمة التاسعة: فائدته.

    وأهم شيء في فائدة أصول الفقه: أن يعرف الإنسان ما كلفه به ربه؛ بأن يفهم عن الله كلامه، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم كلامه، وأن يؤدي ذلك إلى غيره، فيستطيع إيصال ما أمر الله به إلى المكلفين من عباده، ولا شك أيضاً أن زوال التقليد المطلق علم، فالتقليد ضد العلم، ولهذا قال البحتري:

    عرف العالمون فضلك بالـ ـعلم وقال الجهال بالتقليدِ

    فالتقليد لا يكون إلا عن جهل، فإذا عرفت مآخذ أهل العلم، ومن أين استنبطوه وعرف أن الرسول واحد، وأن الدين واحد، ورسول هذه الأمة واحد صلى الله عليه وسلم، وأن الدين واحد، وأن الخلافات التي تحصل هي باختلاف وجهات النظر حول الأدلة؛ هان عليك الأمر، ولم يتشعب لديك، ولم تكثر لديك الإشكالات.

    وفي المقابل من نظر إلى هذه المذاهب على أنها مسلمات ظن أن الدين عدة أديان، وأن المجتهدين الذين يقلدهم الناس يغلون فيهم بمثابة الرسل، وأن كلامهم في حد ذاته دليل، وحينئذٍ سيتحير.

    تكاثرت الضباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد

    فإنما يزول هذا التحير، وتعرف مآخذ أهل العلم من أصول الفقه، ولذلك كان فائدته كبيرة جداً.

    1.   

    مسائل علم أصول الفقه

    المقدمة العاشرة: هي مسائله.

    الغالب في ترتيب الأصوليين لمسائل هذا العلم أن يبدءوا بالمقدمات، ويذكر فيها الحكم الشرعي، وأقسامه والحاكم، والمحكوم به، والمحكوم عليه الذي هو المكلف، وشروط التكليف، ثم بعد ذلك الباب الأول من الأدلة طبعاً في الكتاب، ويدرجون معه مباحث الألفاظ، كالعموم والخصوص، والأمر والنهي، والإطلاق والتقييد، والبيان والإجمال وغيرها.

    ثم الباب الثاني في السنة: ويدرجون معها حال النقالة، حال ناقليها، ثم الباب الثالث في الإجماع، والباب الرابع في القياس، والباب الخامس في الاستدلال، ويقصدون به الأدلة المختلفة في دلالتها، كالإجماعات الفرعية، كإجماع أهل المدينة، وإجماع أهل الكوفة، وإجماع الخلفاء الأربعة الراشدين، وإجماع المذاهب، وإجماع الأكثر، وكذلك الاستصحاب، والاستحسان، والاستصلاح، والأخذ بالأحوط، وشرع من قبلنا، والقياسات الفرعية أيضاً، القياس الشفهي، والقياس بالدلالة، والاستدلال بالعلة على المعلول، والمعلول على العلة، وبأحد المعلولين على الآخر، وكذلك ما يضاف إلى هذا من الأدلة الأخرى الفرعية جداً، التي يقول بها بعض المذاهب دون بعض، فتختص ببعض المذاهب دون بعض؛ فهذا هو الاستدلال.

    الباب السادس: التعارض والترجيح، إذا تعارضت هذه الأدلة.

    الباب السابع: الاجتهاد: ويشمل شروط المجتهد، ومراتب الاجتهاد، وبيان المقلدين، ومن يقلده المقلد، وهل العامي مذهب؟ وإذا تعارضت الأقوال على العامي ماذا يفعل؟ وعلى المقلد كذلك ماذا يفعل؟ وهل رجوع المجتهد عن قوله الأول نسخ له أو لا؟ وهكذا.. هذا هو باب الاجتهاد، وهو الباب السابع والأخير.

    إذاً هذه هي مسائل أصول الفقه.

    1.   

    الكتب المؤلفة في علم أصول الفقه

    أما الكتب المؤلفة في هذا العلم فإن الناس فيها سلكوا في الأصل طريقين، اشتهرت الأولى بطريقة المتكلمين، والثانية بطريقة الفقهاء، أو طريقة الحنفية.

    التأليف على طريقة المتكلمين

    أما طريقة المتكلمين، فقد أخذ بها علماء الأصول من مختلف المذاهب الفقهية.

    ومن أشهر الكتب المؤلفة فيها كتب الإمام أبي بكر محمد بن الطيب القاضي الباقلاني، ومن كتبه التقريب الكبير، والصغير، والأوسط، والتمهيد، له كتب كثيرة في الأصول، وهو في الواقع مرجع المدرسة الكلامية في الأصول.

    وكذلك كتب القاضي عبد الجبار المعتزلي، ومنها العمد، والعهد، وكذلك كتب القاضي أبي الحسين البصري المعتزلي، ومن أهمها كتاب المعتمد، وكتاب الشرح العمد، شرح فيه القاضي عبد الجبار.

    ثم كتب القاضي حسين الشافعي، وكتب إمام الحرمين الجويني، ومن أهمها كتاب البرهان الذي يسمى لغز الأصول؛ لصعوبة مسالكه، ثم تلامذة الجويني وأشهرهم الغزالي، ومن كتبه المستصفى، والمنخول.

    وكذلك كتب الشيرازي ومن أشهرها شرح اللمع، فاللمع نفسه شرحه، والتبصرة كذلك، وكتب الإمام ابن القصار، ومن أشهرها الرسالة، وكتاب الأبهري كذلك، وكتاب ابن خويز منداد وكلاهما يسمى بالأصول، وكتاب القاضي عبد الوهاب بن نصر البغدادي، واسمه المقدمة الأصولية.

    ويمكن أن نركب الكتب ترتيباً آخر على مقتضى المذاهب فنقول: بالنسبة لهذه المذاهب الثلاثة:

    المذهب المالكي أشهر كتبه كما ذكرنا الباقلاني، وابن القصار، والأبهري، وابن خويز منداد، والقاضي عبد الوهاب، ثم بعده الباجي، وكتابه إحكام الأصول من أهم كتب المالكية في الأصول، وله كتاب آخر اسمه الإشارات في الأصول أيضاً مختصر، والباجي هو سليمان بن خلف الأندلسي، وهو شارح الموطأ أيضاً، وصاحب كتاب التعديل والجرح في رجال الصحيحين.

    وكتب ابن جزي، ومن أشهرها كتاب التقليد، ثم كتب القرافي، ومن أشهرها كتاب نفائس الأصول في شرح المحصول للقرافي، ومنها أيضاً تنقيح الفصول، وهو مختصر، وشرحه شرح التنقيح، ثم الموافقات للشاطبي، وهذا لم يقتصر على طريقة المتكلمين فقط، بل سلك ترتيب من يختلف عن ترتيبهم، وذكر مقدمات قد أهملوها، وأتى بكثير من الاختراعات الجديدة مثل: مقاصد الشريعة، ومقاصد المكلفين، وأسباب الخلاف.. وكثير من المسائل التي لم يتعرض لها السابقون فكان فعلاً كتاباً اختراعاً.

    ولكن الواقع أنه ما خدم خدمته التي ينبغي أن يخدمها، فكثير من تفريعاته ما فهمت إلى الآن فهمها الصحيح، ولم يشرح الكتاب شرحاً كافياً.

    وبعده كتب تلميذه أبي بكر بن عاصم الغرناطي، ومنها مهيع الأصول وهو نظم طويل، ومنها كذلك مرتقى الأصول، وهو نظم دونه، وكلاهما مطبوع.

    ثم كتب ابن الحاجب، ومنها المختصر الذي هو من أشهر كتب أصول الفقه، وقد تداوله الناس شرقاً ومغرباً، وكثرت شروحه، فشرحه السبكي تاج الدين وشرحه الأصفهاني، وشرحه العضد الإيجي، وشرح العضد اشتهر، وعليه حواشٍ كثيرة، منها حاشية الرهاوي وحاشية السعد التفتازاني، وحاشية الشريف الجرجاني، وأيضاً خرجت أحاديثه مستقلاً ومع غيره.

    وقد ألف الزركشي كتاب المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر، وألف السيوطي كتاب تخريج أحاديث المختصر وحده، فخدم خدمة جليلة، هذا في الواقع، وهو يستحق ذلك، ولكن مع هذا نظراً لصعوبة أسلوب ابن الحاجب وتعمقه في العلوم العقلية تجده يستدل ببعض الأدلة العقلية التي لا يتفق الشراح على شرح لها، فيشرحها كل شخص على حسب وجهة نظره، وقد يكون كثير منهم على خطأ في شرحها.

    ومنها كذلك كتابه الذي اختصر منه المختصر، وهو منتهى الوصول والأمل من علمي الأصول والجدل.

    ثم للمتأخرين المالكية كتب أكثرها منظومات مراقي السعود مثلاً: سلم الأصول، أو شروح للكتب السابقة كشرح حلولو على جمع الجوامع، شرح حاشيته أيضاً على تنقيح الفصول، وحاشية البناني على شرح المحلي على جمع الجوامع لـابن السبكي، كما سنذكره.

    وبالنسبة للمذهب الشافعي فمن أشهر كتبهم في الأصول بعد كتب القاضي حسين: كتب الجويني، وأهمها كما ذكرنا البرهان، وله أيضاً الورقات، ثم كتب الغزالي، وأهمها المستصفى، ثم المنخول، ثم كتب الآمدي، وأهمها إحكام الأحكام، وأيضاً هناك كتاب ثانٍ الذي هو: نهاية السول في علم الأصول، ثم كتب فخر الدين الرازي، وأشهرها على الإطلاق المحصول، ثم كتاب المنهاج للبيضاوي، وقد خدم كثيراً فشرحه أيضاً السبكي، وشرحه الأسنوي، وخرجت أحاديثه بعدد من التخريجات، ثم كتاب ابن السبكي الذي هو الجامع لكتب الأصوليين تقريباً وهو جمع الجوامع، وهو من أهم الكتب في الأصول على الإطلاق؛ لاحتوائه على أكثر من مائة مصنف في الأصول.

    وقد قال في مقدمته: "نحمدك اللهم على نعم يؤذن الحمد بازديادها، ونصلي ونسلم على نبيك محمد، هادي هذه الأمة إلى رشادها" .. إلى أن قال: "ونضرع إليك اللهم في منع الموانع لإكمال جمع الجوامع، الوارد من الأصلين مورد ذوي الجد والتشمير، الحاوي لزبدة الوارد من زهاء مائة مصنف منهلاً يروي ويمير، المحيط بزبدة ما في شرحي على المختصر، والمنهاج مع مزيد كثير".

    من زهاء مائة مصنف، وارد من زهاء مائة مصنف منهلاً يروي ويمير، وفعلاً هو جمع فيه فأوعى، وقد شاع الكتاب وألقى الله عليه القبول، وحسده كثير من معاصريه، فانتقدوه في مواضع رد هو عليهم فيها بكتابه منع الموانع لجمع الجوامع، وقد انتشر كتاب جمع الجوامع، وكثرت خدمته.

    ونظمه السيوطي في الكوكب الساطع، يقول في مقدمته:

    لله حمد لا يزال سرمدا يؤذن بازدياد منٍّ أبدا

    ثم على نبيه وحبه صلاته وآله وصحبه

    وهذه أرجوزة محررة أبياتها مثل النجوم مزهرة

    ضمنتها جمع الجوامع الذي حوى أصول الفقه والدين الشذي

    إذ لم أجد قبلي من أبداه نظماً ولا بعقده حلاه

    ولم يكن من قبله قد ألفا كمثله ولا الذي بعد اقتفى

    جمع الجوامع لم يؤلف من قبله في أصول الفقه مثله، ولا الذي بعده اقتفى.

    وربما غيرت أو أزيد ما كان منقوصاً وما يزيد

    فليدعها قارئها والسامع بكوكب ولو يزاد الساطع

    ويقول في نهايته:

    بألف بيت عدها يقينا وأربع المئين مع خمسينا

    بحيث إني جازم بأن لا يمكن الاختصار منه أصلا

    وإن يرم أحد أن ينشيها يأتي بها أكثر من ضعفيها

    وشرحه عدد من الشارحين، فشرحه الزركشي تشنيف المسامع، وشرحه المحلي بشرح وضع الله عليه القبول، وكثرت حواشيه وخدماته، وعليه حاشية العطار، وحاشية البناني، وحاشية الشربيني، كلها حواشٍ على الشرح جلال المحلي، وعليه أيضاً شرح القاسم بن عباس الآيات البينات، وهو من أهم شروحه القديمة، وقد أصبح عمدة المتأخرين في الأصول.

    أما في المذهب الحنبلي، فمن أهم الكتب الأصولية كتاب التمهيد لـأبي الخطاب، وله كتب في الأصول سواه، والعدة للقاضي أبي يعلى، والمسودة لآل تيمية، والواضح لـابن عقيل أبي الوفاء.

    وبعد هذه مختصرات المتأخرين وهي كثيرة، كمختصر ابن اللحام، ويندرج في إطار المختصرات أيضاً كتاب الروضة لـابن قدامة، فهي تقريباً اختصار للمستصفى، وإن كان زاد فيها بعض المسائل التي ليست في المستصفى أخذاً من كتاب المنخول للغزالي أيضاً.

    وكذلك من مختصرات الحنابلة المفيدة الكوكب المنير، وشرحه الفتوح أيضاً كتاب مهم.

    ومن أهم كتب المتأخرين مختصر الروضة في شرح الكوكب المنير، والكوكب المنير لـابن النجار، ومختصر البلبل للطوفي، وهو اختصار للروضة، وقد شرحه أيضاً.

    وفي المذهب الظاهري الإحكام لـابن حزم، والنبذ له أيضاً.

    ومن الكتب المؤلفة على مذهب الحنفية على طريقة المتكلمين: كتاب المنار للنسفي، وهذا الكتاب أصبح عمدة الحنفية قديماً في الأصول، وكثرت الشروح عليه والحواشي.

    ومن الكتب المؤلفة على طريقة المتكلمين أيضاً لدى الحنفية، كتاب مسلم الثبوت، وعليه عدة شروح منها فواتح الرحموت للبخاري علاء الدين، ومنها كذلك كتاب صدر الشريعة عبيد الله بن مسعود الحصكفي، كتاب عبيد الله بن مسعود صدر الشريعة، وقد شرحه هو ثم حشاه السعد التفتازاني في التوضيح على التوشيح، على التلويح.

    ومن كتب الحنفية كذلك على طريقة المتكلمين: كتاب المغني في أصول الفقه، وله كتب سوى هذا على طريقة المتكلمين.

    التأليف على طريقة الفقهاء

    أما الطريقة الثانية وهي طريقة الفقهاء أو طريقة الحنفية، فأكثر المؤلفين عليها من الأحناف، والفرق بينها وبين طريقة المتكلمين أن هذه الطريقة ينطلق أصحابها من الفروع الفقهية، فيجمعون الفروع، ويؤصلون لها، يجعلون لها أصلاً، ويكثرون من الأمثلة الفرعية، ويهتمون بالأدلة التفصيلية، بخلاف طريقة المتكلمين فإنهم يضعون القواعد، وقد لا يمثلون للقاعدة إلا بمثال واحد، ولا يذكرون من الأدلة التفصيلية إلا ما دعت الحاجة إليه كمثال فقط، ومن الكتب المؤلفة على هذه الطريقة، كتاب أصول البزدوي، وقد شرحه علاء الدين البخاري أيضاً في شرح مهم كشف الأسرار.

    وكذلك أصول السرخسي، وأصول الجصاص، وأصول الدبوسي، وهذه كلها على طريقة الحنفية، طريقة الفقهاء.

    ولا يرعبنك هذا الحشد الكبير من أسماء كتب الأصول، فإنك تحتاج إليها في المقارنة عند البحث، وقلما يغني بعضها عن بعض حتى كتب المذهب الواحد، وأيضاً فإن استيعاب المسائل يحتاج فيه الإنسان إلى مقارنة، ولهذا حاول الزركشي أن يجمع كل المسائل الأصولية في كتابه البحر المحيط، وقد اختصره الإمام الشوكاني في كتبه إرشاد الفحول.

    وإذا أردت أن تدرس متناً من هذه المتون؛ فإن طريقة تدريسه تحوجك إلى أن تراجع غيره من الكتب والشروح، سواءً منها ما كان على طريقته، أو كان طريقة مغايرة حتى تتمكن من المقارنة، إذاً هذا أهم شيء لدينا في أصول الفقه.

    1.   

    تدريس علم أصول الفقه

    بالنسبة للذي يريد تدريس الطلاب أصول الفقه؛ ينبغي أن يبدأ بنظم من المنظومات التي ذكرناها، ومنها الكوكب الساطع للسيوطي، فإنه نظم جمع الجوامع الذي يحوي هذه المذاهب كلها، لكن الذي يشرحه لا بد أن يكون متمكناً؛ لأن النظم يطوي، فيذكر في أبيات قليلة مثلاً عشرة مذاهب أو أكثر، مثلاً يقول:

    جميع وقت الظهر قال الأكثر وقت أدائه وعليه الأظهر

    لا يجب العزم على المؤخر وقد عُزِيَ وجوبه للأكثر

    فقيل: الآخر وقيل الأول ففي سواه قاضٍ أو معزل

    وقيل: ما به الأداء اتصلا فوقته وآخر إذا خلا

    وقيل: إن قدم فرضاً وقعا إن بقي التكليف حتى انقطعا

    ومن يؤخر مع ظن موته يعصي فإن الدهر قبل فوته

    فهو أداء والقاضيان بل قضاء أو مع ظن أن يعيش فقضى

    فالحق لا عصيان ما لم يكنِ كالحج فليسند لآخر السني

    هذه أبيات قليلة مختصرة يذكر فيها مذاهب كثيرة جداً، ومسائل كثيرة متفرعة، فلا بد أن يكون الشخص مستوعباً لهذه المسائل في غير هذا النظم، ولكن يحفظ بالنظم رءوس هذه المسائل لتذكرها، ويرجع إلى الشروح الموسعة له.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    1.   

    الأسئلة

    التطهر بالماء المكرر الذي أزيلت نجاسته

    السؤال: تكرير الماء بإزالة النجس عنه وإزالة القذر، فيعود طهوراً في أوصافه الظاهرة، هل يعتبر ذلك الماء طهوراً فعلاً واقعياً أو لا يعتبر؟

    الجواب: هذه المسألة من المسائل العويصة في الفقه، والراجح أنه فيما يتعلق برفع الحدث وإزالة الخبث ليس كالطهور؛ لأن الماء المستعمل في حدث أو في خبث ولو لم يتغير يكره استعماله ثانياً في حدث أو حكم خبث، فإذا توضأ إنسان نظيف أو اغتسل بماء وجمع ذلك الماء، وليس فيه أي رائحة ولا أي لون ولا أي تغير، فإن ذلك الماء يكره استعماله ثانياً لحدث أو حكم خبث.

    ولاستعمال الماء ثانياً خمسة وعشرون صورة معروفة لدى الفقهاء؛ لأنه إما أن يستعمل أولاً في حدث أو في حكم خبث أو في سنة أو في مندوب أو في عادة، ثم يستعمل ثانياً في حدث أو في حكم خبث أو في سنة أو في مندوب أو في عادة، واستعماله في العادة لا حرج فيه مطلقاً، واستعماله في الحدث وحكم الخبث مكروه، واستعماله في السنة والمندوب محل تردد بين أهل العلم، فهذا الماء إذا كان أصله قد خالطته النجاسة فتنجس بالكلية، ثم كرر فأزيلت عنه تلك العوارض النجسة، فهل يعود طاهراً أو لا؟

    هذا محل خلاف بين أهل العلم، خلاف قديم، ويصعب علينا الترجيح فيه جداً، وينبني عليه كثير من المسائل، ويصعب التحرز منه، لكن لعلنا نأخذ بقول وسط أنه لا ينجس ما مسه، وأنه لا يطهره أيضاً، فلا يصلح به التطهير، ومع ذلك لا ينجس، فيكون هذا القول وسطاً بين الأمرين.

    وهناك قول يجعله كالماء الطهور مطلقاً، وهذا الذي اختاره ابن بشير من المالكية، فيه يقول خليل رحمه الله: "وإن زال تغير النجس لا بكثرة مطلق فاستحسن الطهورية، وعدمها أرجح".

    قياس الأرز على البر دون بقية الحبوب

    السؤال: ما حاجتنا إلى القياس على أصل ثبت بالقياس؟ مثلاً الأرز لماذا نقيس عليه غيره من الحبوب؟ لماذا لا نقيسه على البر الذي ورد عليه الحديث؟

    الجواب: القياس على البر نفسه يقتضي التماثل في الجنسية، فنحن عندنا في الربا نعاني من أنواع الربا: ربا النسا وربا الفضل.

    فربا الفضل إنما يحرم بين الجنس الواحد، أما ما كان من جنسين فلا يحرم بينه ربا الفضل، وقد اختلف في القمح والشعير هل هما من جنس واحد أو جنسان، ومذهب الجمهور أنهما جنسان، ومذهب مالك أنهما جنس واحد.

    فالحبوب التي تشبه الأرز تقاس على الأرز حتى تكون معه من جنس، ولا تقاس على القمح؛ لئلا تكون معه من الجنس، أي: لا تثبت فيها الجنسية، وأهل العلم يذكرون أجناس الحبوب، ويجعلونها بمثابة السلالات، فيها القطان مثلاً، هي المعشرات كلها، وهي التي ينظمها علي الأجهوري فيما تخرج منه الزكاة يقول:

    قمح شعير وزبيب سلت تمر مع الأرز دخن ذرة

    وعلى صنف أم القطان العدس واللوبيا وحمص وترمس

    نسيلة والفول والجلبان لكن سنة وهي طعام اعتلاء

    وعلس حب طويل باليمن يشبه بر الخلقتين أما الفطن

    فالقطان هي هذه المجموعة، التي هي العدس واللوبيا والفول والتُرمس وإلا التِرمس والحُمبُص أو الحِمص، والبسيلة والفول والجلبان، والكرسنة على الخلاف فيها، هي سبعة أنواع، والثامن فيه خلاف.

    فهذه جنس واحد، ولا يحل بينها ربا الفضل، لكن يجوز بينها وبين القمح الفضل، أي: أن تبيع مدين من الفول بمد واحد من القمح، فهذا ليس رباً، لكن مدين من الفول بمد واحد من العدس مثلاً لا يجوز هذا؛ لأنها جنس، هذا محل خلاف، والمالكية عندهم أن القطان أجناس.

    ورغبات الناس تتفاوت في الأجناس حتى في البقول، فمثلاً منه ما يصلح للعصير ولا يصلح للأكل، وحتى في أوروبا معروف أنواع العنب التي تعتصر خمراً، والعنب الذي يؤكل ولا يعتصر خمراً، وما يقبل التزبيب من العنب وما لا يقبله، مثل التمور بعضها يقبل، فتمور بعضها يبقى دائماً رطباً أو بلحاً، ولا يتعدى ذلك، وكذلك الحبوب في أجناسها الرغبات فيها متفاوتة، فالقمح منه نوع يسمى السمراء، ونوع يسمى المحمولة، والنوع الثالث يسمى السلت، هذه ثلاثة أنواع.

    والذرة أنواع كثيرة جداً، وحتى طبائعها متفاوتة عند الأطباء، منها ما يفسد به لمرض وهو مضر على مرض آخر، فهي متفاوتة جداً، وأنواع الأرز وحده ثمانية وأربعون نوعاً.

    وأنواع الذرة أكثر من ذلك فهناك الذرة الصفراء الكبيرة، وهناك الذرة الصغيرة بأنواعه المختلفة.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755757238