إسلام ويب

مقصورة ابن دريد [4] -1للشيخ : عبد العزيز بن علي الحربي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أول طريق المبتدئ لاكتساب المفردات اللغوية قراءة المعاجم المختصرة، مثل مختار الصحاح، ثم الانتقال إلى المعاجم الأوسع والأشمل، وأحسن من ذلك اكتساب اللغة من خلال الشعر العربي، وقد أورد ابن دريد في مقصورته ألفاظاً غزيرة أسهب فيها الشارح فأجاد وأمتع، من ذلك: المفاعلة وخروجها عن بابها، وكثير من المفردات مثل: العتبى، وأنصبتي، والفائدة من معنى كلمة عذاب في آية حد الأمة الثيب الزانية.

    1.   

    طريقة اكتساب المبتدئ لمفردات اللغة العربية

    باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن والاه،

    وبعد:

    عندما سألني بعضكم في الدرس الماضي عن الكتاب الأول الذي يبدأ به من أراد أن يعرف مفردات اللغة أرشدته إلى مختار الصحاح، وهو كتاب صغير للرازي، اختاره من الصحاح للجوهري، الصحاح بفتح الصاد، وقيل أيضاً: بكسرها، هذا إذا أراد أن يبحث عن كلمة، أو أراد أن يتعود على قراءة الألفاظ العربية من خلال المعاجم، لكن كما ذكرت لكم من قبل أن أفضل طريقة لتعلم اللغة العربية أن يقرأ المرء اللغة العربية من خلال الشعر العربي، من خلال هذه المنظومة التي نقرؤها مثلاً، ولتكن بدايته أيضاً بالأشعار السهلة؛ لأنه لو عمد أولاً إلى مثل المعلقات، أو مثل شعر الشنفرى، وشعر الجاهليين، ومعظم أشعار الجاهليين مملوءة بالغريب، فربما يكون هذا حجر عثرة تقف أمامه فلا يستطيب المواصلة بعد ذلك، لكن خير له أن يبدأ بالأشعار الميسرة كشعر حسان بن ثابت، وشعر المتنبي، ومثل هذا، والذي اختاره أنا له أن يبدأ بمثلث قطرب.

    واللغة العربية لغة ذكية، هناك ألفاظ كثيرة في اللغة العربية إذا فتحت الحرف الأول فيها أو كسرته أو ضممته يكون المعنى واحداً، يعني لك أن تلفظ باللفظ كما تشاء، لا يلحنك أحد في ذلك، فلو قلت: مُصحف أو مَصحف أو مِصحف كل ذلك صحيح، مِغزل أو مَغزل أو مُغزل كل ذلك صحيح، ومِخدع ومقرط.. إلى آخره، ولو قلت: يونس بضم النون أو كسرها أو فتحها فيما عدا القرآن فكذلك؛ لأنه ليس كل ما جاز لغةً جاز قراءة، وكل ما جاز قراءة جاز لغة، يوسف كذلك افتح السيين أو اكسر أو ضم كما تشاء، هذه ألفاظ نطقت بها العرب بحرية.

    ولكن أحياناً اللفظ إذا فتحته كان له معنىً أو معنيان أو معان، وإذا كسرت اختلف المعنى وكان له أيضاً معنىً أو أكثر، وإذا ضممت أيضاً كذلك، هذا هو الذي بنى عليه قطرب كتيباً صغيراً سماه المثلث، وأضيف إليه بعد ذلك فصار مثلث قطرب، هذا المثلث منشور، جاء بعد ذلك من نظمه، فنظمه حتى يكون أنفع وأعذب، وجاء بعد ذلك من شرح هذا النظم، منهم من شرحه نثراً، ومنهم من شرحه نظماً، فشرحه بأبيات تحل تلك الأبيات، ومنهم من شرح الألفاظ نفسها، وهذا معروف، هو يبدأ بـ:

    إن دموعي غَمر وليس عندي غِمر

    فقلت: يا ذا الغُمر أقصر عن التعتب

    شرحه بعد ذلك بعض الشراح، يقال للماء الكثير غمر، والحقد في الصدر كذاك غمر، والرجل الجاهل غمر، فلا تكن من جملة الجهال.

    وشرحه آخر، فقال:

    بالفتح ماء كثر والكسر حقد ستر

    والضم شخص ما درى شيئاً ولم يجرب

    وهكذا، كل واحد نحا منحى؛ لأن هناك من شرحه نظماً كـالفاسي وابن مشرف وآخرين، وهناك من شرحه نثراً.

    هذه المنظومة المثلثة هناك من زاد عليها وبدأت تكبر وتكبر وتكبر، يقال في الأجسام وهي الأشياء الحسية: كبر يكبر، وفي المعاني: كبر يكبر، كما قال عز وجل: أَنْ يَكْبَرُوا [النساء:6] هذا فعله كبِر، وقال عز وجل: كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ [غافر:35]، هذا كعظُم وزناً ومعنىً، تقول: كبِر الطفل، وإذا أردت المعنى وأنه صار له مكانة ومنزلة تقول: كبُر.

    هنالك نظم موسوعي كبير لـابن مالك أيضاً بناه على الباء الذي نستشهد أحياناً بأبيات له، وهو ألفا بيت، وهنالك نظم لرجل اسمه حسن قويدر من علماء القرن الثاني عشر، كان في مصر، وهو مطبوع أيضاً، وهو نظم سلس، لكن إما أن تختار هذا أو هذا؛ لأن الذي في نظم ابن مالك موجود في نظم قويدر إلا ما ندر، وما هو في نظم قويدر موجود في نظم ابن مالك إلا ما ندر، أوله:

    يقول من أساء واسمه حسن لكن له ظن ولولاه حسن.

    وأنا أظن أن الطالب إذا انتهى من هذا سوف تتولد لديه بعد ذلك ملكة لغوية، ثم يتوسع بعد ذلك حتى يكون عبقرياً من العباقرة وباقعةً من البواقع، وسوف يعرف بعد ذلك ما للغة من مكانة عظيمة، وما لها من أثر في فقهه وحياته وسلوكه وخلقه ومعاملته، لا نريد أن نطيل في هذا، لكن هذه إشارة وكليمة أردت أن أشير من خلالها إلى الطريقة الصحيحة للدخول إلى باب اللغة الكبير.

    قال ابن دريد في مقصورته:

    [ يا دهر إن لم تك عتبى فاتئد فإن إروادك والعتبى سوا

    رفه علي طالما أنصبتني واستبق بعض ماء غصن ملتحى

    لا تحسبن يا دهر أني ضارع لنكبة تعرقني عرق المدى

    مارست من لو هوت الأفلاك من جوانب الجو عليه ما اشتكى

    لكنها نفثة مصدور إذا جاش لغام من نواحيها غمى

    رضيت قسراً وعلى القسر رضا من كان ذا سخط على صرف القضا

    إن الجديدين إذا ما استوليا على جديد أدنياه للبلى

    ما كنت أدري والزمان مولع بشت ملموم وتنكيث قوى

    أن القضاء قاذفي في هوة لا تستبل نفس من فيها هوى

    فإن عثرتُ بعدها إن وألت نفسي من هاتا فقولا لا لعا

    وإن تكن مدتها موصولةً بالحتف سلطت الأسا على الأسى ]

    1.   

    شرح قول الناظم: (يا دهر إن لم تك عتبى فاتئد...)

    قوله رحمه الله:

    [ يا دهر إن لم تك عتبى فاتئد فإن إروادك والعتبى سوا ].

    (يا دهر): هذا منادى مفرد، وقد تكلمنا عن الدهر ومعناه واختصاصه.

    بيان كيف صار الفعل تكون إلى تك

    (إن لم تك)، هذا الفعل مخفف أصله تكون، فدخلت عليه لم فأصبح تكون، فحذفنا الواو لالتقاء الساكنين، ولماذا لم نحذف النون؟

    لأن هنالك ما يدل على الواو وهو الضمة، فإن الواو أمُّ الضمة، والضمة بنت الواو، وهذه الحركات الفتحة والكسرة والضمة، يقول أهل اللغة: إنها بنات واي، هذه الحروف التي هي الألف والواو والياء، فالكسرة بنت الياء، والضمة بنت الواو، والفتحة بنت الألف، هذا السبب الأول؛ لأن هناك ما يدل عليها.

    والسبب الثاني أنها ضعيفة، والأمر للقوي، من الذي يغلب القوي أم الضعيف؟ النون أقوى من الواو فحذفنا الواو، فأصبحت تكن، لكن أين النون؟ حذفناها أيضاً، وهذا الحذف للنون ليس لعلة نحوية، ولكنه للتخفيف؛ لأن المعنى يتضح مع حذف هذه النون، فأصبحت الكلمة تك، إذا وقفنا عليها في قوله عز وجل: وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا [مريم:20]، تقف عليها (ولم أكْ) هكذا من غير شيء آخر بسكون الكاف، ولك أن تأتي بالروم والإشمام، ويحسن في هذه المقامات الروم والإشمام للإشارة إلى أصل الحركة؛ لأنه قد لا يفهم السامع ماذا تريد، وهو أيضاً ليس محل وقف، لكنهم يقولون: إن هنالك وقفًا اضطراريًا، وهناك وقف اختياري، أما في الاختيار فلا، فهذه اللفظة موجودة في القرآن مخففة، وأحياناً لا تخفف مثل: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا [البينة:1]، حذفنا الواو، فلا بد من حذف الواو هنا، وشكلنا النون من أجل (أل)، وكسرناها بعد ذلك بكسرة عارضة وليست بأصلية، هذه الكسرة من أجل التقاء الساكنين.

    معنى كلمة (عتبى)

    (إن لم تك عتبى)، العتبى: فسرها الشيخ بالسخط، وهذه عبارة ليست دقيقة، وأحياناً الشارح لا يتحرى الدقة؛ لأن الذي يقرأ يعمل بالأصل، هنالك بعض الشراح قالوا: العتبى الرضا، وهذا خطأ ليس بصحيح، فإن العتبى هي العتاب، ولو كانت العتبى هي الرضا لما صح أن يقال: (لك العتبى حتى ترضى)؛ لأن المعنى يصبح لك الرضا حتى ترضى، وهذا ليس بصحيح، هذا اللفظ جاء في الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه وهو آت من الطائف، ويختلف الحفاظ في تصحيحه.

    الأصل في العتب هو كل مكان أو كل شيء ناتئ، مثل عتبة الباب، وهي شيء بارز، حجر أو خشبة أو شيء، هذه يقال لها: عتبة الباب، ويكنى بها على المرأة؛ لأن الإنسان يدخل عليها كما يدخل من جهة العتبة، كما جاء في حديث ابن عباس في الصحيح أن إبراهيم أوصى المرأة بأن تبلغ إسماعيل بأن يغير عتبة الباب، وفي المرة الثانية أن يبقيها على ما هي عليه، فالعتب والمعتبة في نفس الإنسان شيء ناتئ، شيء غليظ، والعتاب في الأصل لا يأتي إلا إذا كان عن سخط كما قال، فهو أحياناً يعبر عن الشيء بما يئول إليه، كما قال: إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا [يوسف:36]، هو يعصر عنباً لكنه يئول إلى خمر، فالذي يعاتبك هو في الأصل سخط عليك لشيء، ولكنه ازدحم في صدره الحب والسخط فولد العتاب، ولذلك قالوا: استبقاك من عاتبك، وزهد فيك من لم يعاتبك، وقال الشاعر:

    (ويبقى الود ما بقي العتاب)، ولا يعاتبك إلا من يحبك، ومن يريد أن يرضيك، فهذه اللفظة ما جاءت في القرآن كثيراً، جاءت في قوله تعالى: وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ [فصلت:24]، (يستعتبوا) يعني: يطلبوا العتاب، دائماً السين والتاء في اللغة العربية للطلب، إلا في ألفاظ يسيرة مثل استجاب أي: أجاب الله دعاءه، حصرها العلماء، ولم هذه اللفظة؟ (إن يستعتبوا) يطلبوا العتاب، (فما هم من المعتبين) تقول: أعتبت فلانًا أي: أزلت العتاب الذي في نفسه؛ لأن الهمزة تأتي في اللغة للإزالة، تقول: أشكيت فلان، أي: أزلت شكواه وعالجتها، فهذا معنى قوله عز وجل: وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ [فصلت:24]، أي: يبقى سخطهم وما في صدورهم من عدم الرضا على ما هو عليه ولا يزال، هذا معنى قوله: (يا دار إن لم تك عتبى فاتئد).

    والاتئاد: المراد منه الترفق، يعني: ترفق، فاتئد أي: ترفق.

    (فإن إروادك): هذا الآن يظهر لك المعنى وهو أن العتبى ليست هي الرضا؛ لأنه سوف يصبح الترفق والرضا سواء، وهو لا يريد هذا، إنما يريد الإرواد وعدم الإرواد، وعدم الإرواد هو: العتبة، والعتبة: هو السخط أو ما في معناه، فإن إروادك والعتبى سواء، يقال في اللغة العربية: أرود يرود إذا لطف بالشيء، فحينما تقول لفلان: رويدك يعني: تمهل وترفق لا تستعجل.

    معنى الإرادة والمراودة

    والإرادة من نفس المادة، قال الراغب الأصبهاني: الإرادة قوة مركبة من شهوة وأمل وحاجة، حينما تريد شيئاً تريده لأنك تهواه، وتحتاج إليه، وتؤمل أن تناله، أما المراودة فهي منازعة غيرك لإرادتك، حينما نقول: راود فلان فلانة عن نفسها، أي: نازعها في إرادتها، هي لا تريد أن تنيله طَلِبته أو طِلْبته أو بغيته، فراودها نازعها في تلك الإرادة التي في نفسها، ومنه الآية: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ [يوسف:23]، فإن إرادتها كانت تختلف عن إرادته، هو لا يريد وهي تريد، يعني: هناك عدم إرادة وإرادة، فأرادت أن تنازعه في هذا، وعبر عن هذا براودته؛ لأن المراودة هي مفاعلة، ولعله تأتينا مناسبة نتكلم فيها عن فقه المفاعلة، لا بد أن يكون هناك منازعة مثل الغصب، كلمة غصب ليس فيها مفاعلة، ولكن أصل الغصب ما هو؟ أصل الألفاظ في اللغة معانٍ حسية؛ لأن الذين كانوا يتكلمون بأي لغة رأوا أشياء حسية فعبروا عنها، ثم بعد ذلك توسعوا في هذه الألفاظ فأطلقوا مثلها أو تلك الألفاظ نفسها أو ما اشتق منها على أمور معنوية؛ لأن الغصب في الأصل هو أن تسلخ جلد الشاة، جلد الشاة حينما تسلخه من الشاة كأن هنالك من ينازعك؛ لأنك تسلخه بقوة، هو لا يريد أن ينسلخ، وأنت تسلخه، هذا هو الأصل في الغصب، ولذلك بعض الأحكام الفقهية لا نعرفها إلا من الدلالة اللغوية، الفقه اللغوي هو الذي يقول لك: الحكم صحيح في اللغة العربية كذا وكذا، وكثير من المسائل الفقهية مبني على الدقة اللغوية، من أين عرفنا أن السرقة لا بد أن تكون من حرز، وأن تكون خفية؟ هذا عرفناه من مادة سرق؛ لأن من أخذ الشيء بقوة ونازعك فيه فهو غصب، وإذا أخذته خطفاً ولم ينازعك فهذا اختطاف، وإذا أخذته كذلك لكن خفية فهو اختلاس، وأما إذا كان من حرز وخفية فهو سرقة، فلا يطبق حد السرقة إلا على من فعل هذا الفعل بهذه الصفة، فنحن نسترق هذه الأشياء من مفهوم السرقة، وهكذا في ألفاظ كثيرة.

    الجواب عن إشكال في قوله تعالى: (فإِذا أحصن فإن أتين بفاحشة ...)

    وكثير من العلماء حاروا في قوله تعالى: فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [النساء:25]، قالوا: فماذا نصنع بالأمة إذا كانت ثيباً وزنت؟ الرجم ليس له نصف، والله يقول: (( فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ))، فماذا نقول؟ منهم من قال: إنها ترجم أيضاً، فهذه الآية جاءت بالحكم الذي نطبقه على المرأة التي هي أمة إذا زنت، سواء كانت ثيباً أو غير ثيب، لكن هنالك لفظةً في هذه الجملة دلتنا على أنها لا ترجم وهي كلمة العذاب، فإن العذاب لا ينطبق إلا على الجلد، وهو نوع من العذاب، كما قال تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2].

    أما الرجم فإنه قتل وليس بعذاب، وهو إماتة، فلا يحتاج إلى أن نبحث فيه: هل نجلدها خمسين جلدة أم لا؟ لا نبحث في هذا؛ لأن بعضهم قال: نجعل نصف العقاب إذا كانت ثيباً أن نجلدها النصاب كاملاً مائة جلدة، وليكن هذا كأنه نصف، لكن هذا كما قلنا: لا يقبل المناصفة، الموت ليس فيه نصف موت، فنستدل بكلمة العذاب على هذا المعنى، وهو أن المراد بهذا العقاب أو بهذا الجزاء إنما هو الجلد، فليس هنالك عقاب آخر غير الجلد، سواء كانت ثيباً أو كانت بكراً.

    وقوله: (فإن أروادك والعتبى سوا)، البيت معناه واضح، فهو لا يزال يخاطب الدهر الذي رمى عليه كل الأثقال وكل الأعباء وكل الهموم والمصائب التي جاءته، وقال: إنها جاءته من الدهر على عادة العرب في ذلك، يقول له: يا دهر إن لم تك منك معاتبة فرقق، ثم قال بعد ذلك: لا شك أن ترققك وعدم ترققك كله سواء عندي، وهذا الكلام يقوله اليائس الذي قد يئس من الشيء كما قالت العرب: سواء علينا قاتلاه وسالبه، وقاتلاه وسالبه كلهم سواء، وكما قال الله عز وجل: سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا [إبراهيم:21]، هذا الكلام يقولونه في مقام قد يئسوا فيه من أي شيء آخر إلا العذاب.

    يقول: إن لم يكن منك يا دهر رجوع إلى مرادي فترفق، واعلم أنّ تمهلك وعتباك سواء، واليأس هو الذي جعله كذلك، كما يقول الكافرون يوم القيامة: سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ [إبراهيم:21].

    1.   

    شرح قول الناظم: (رفه علي طالما أنصبتني...)

    ثم قال رحمه الله تعالى:

    [ رفه علي طالما أنصبتني واستبق بعض ماء غصن ملتحى ]

    فقه اللغة العربية في دلالة ألفاظها على معانيها

    (رفه): فعل أمر، وهو كلمة خفيفة تدل على معنىً لطيف، وكما سوف يأتيكم إن شاء الله من خلال الدروس القادمة في فقه اللغة أن الألفاظ العربية في كثير منها أو ربما كلها تدل بلفظها على معناها، فإن من تمرس في اللغة العربية يعرف بعد ذلك أن هذه الكلمة تدل على معنىً قوي، أو على معنىً ضعيف، أو على معنىً لطيف، فالحروف الضعيفة تدل على معنى ضعيف، واللطيفة تدل على معنى لطيف، وما هي اللطيفة؟ حروف ضعيفة ومتوسطة.

    ففي فقه اللغة أي كلمة آخرها ميم مشددة، هذه تدل في الغالب على أنه في شيء يعني في أعلى الضم على الجمع، هكذا ضم وغم وهم كلها تدل على هذا المعنى.

    الكلمة التي يكون آخرها حاء في الغالب تدل على انفتاح واتساع وانشراح دائماً، إلا ما ندر، فتح وشرح وسبح وفرح وكل الكلمات المختومة بحاء، أحياناً هذا المعنى يلغيه تدخل حرف آخر مما يسبب المشكلة، فهناك حروف لها أثر في هذا، وهذا سوف ندرسه إن شاء الله تباعاً بالتدرج.

    كلمة (الرفاهية) قال ابن فارس: الراء والهاء والفاء أصل واحد يدل على نعمة وسعة مطلب، هذا ما نقلته من ابن فارس في معجم مقاييس اللغة، يعني ليس له إلا أصل واحد الراء والفاء والهاء، الرفاهة يقال: رفاهة، والرفاهية بتخفيف الياء، والرفهمية كبلهمية وزناً ومعنى، يقال: فلان في رفاهة ورفاهية ورفهمية وبلهمية من العيش، أي: رغد من العيش، في سعة ودعة وجفنة مدعدعة، يعني في مرح وبرح، فيقال في اللغة العربية: رفُه مثل كرُم، ورَفَه الرجل لان عيشه، والرهفة الرحمة.

    الأفعال التي لا تحتاج إلى فاعل على رأي المبرد

    (طالما)، معروفة المعنى، لكن الشيخ هنا ذكر ثلاثة أبيات في أفعال تدخلها ما، وتكون مكفوفة عن العمل، فلا تحتاج إلى فاعل، وهنالك أفعال أخرى لا تدخلها ما ولكن أيضاً ليس لها فاعل، هذه زعمة زعمها المبرد، ما من فعل إلا وله فاعل، فقال الناظم:

    خمس من الأفعال ليس يوجد فاعلها كما روى المبرد

    كثرما وقلما وطالما وفعلي التوكيد والحصر كما

    كان أصح علم من تقدما وكادرجي ادرجي المعارف فاعلما

    هل المعنى واضح؟ خمسة من الأفعال ليس يوجد فاعلها كما روى المبرد، ما هي؟ كثرما أين الفاعل؟ ما تحتاج أن تبحث عن فاعل، هذا على رأي المبرد لا تبحث عن فاعل، وهذا مثل (إنما) في حديث: ( إنما الأعمال بالنيات )، إن تنصب أو لا تنصب؟ تنصب، والأعمال مرفوعة لم تنصب من أجل ماذا؟

    من أجل (ما) هذه كفت، فجعل هذا مثل هذا، كثرما، وقلما، وطالما.

    الرأي الآخر الصحيح أن كثر لها فاعل وهو ما، وطال أيضاً لها فاعل وهو ما، وتلك الأفعال ما الذي أدرى المبرِد أو المبرَد أنه ليس لها فاعل؟ أنا أدعي أن لها فاعلاً، من الذي يستطيع أن يقول: إنه ليس لها فاعل، هذه الدعوى ادعاها بعض العلماء، وهو الذي جاء بهذه البدعة.

    وفعلي التوكيد، يعني: عندما تقول: حضر حضر، الأول ليس له فاعل، والثاني له فاعل، والحصر أيضاً مثل: ما خلا، وما عدا، فهو يقول: ما خلا فعلي التوكيد والحصر، وفعلي التوكيد ذكرنا مثاله، والحصر الاستثناء، مثل ما خلا وما عدا، يقول: ليس لها فاعل.

    (كما كان أصح علم من تقدما)، كذلك أيضاً من الأفعال التي لا تحتاج إلى فاعل كان حينما تكون زائدة،

    وقد تزاد كان في حشو كما كان أصح علم من تقدما

    كما قال ابن مالك في الألفية، كان زائدة، وإذا كانت زائدة فلا تحتاج إلى فاعل، يكفي أنها زائدة وقبلناها، فلا نقبل أن تأتي بفاعل معها، (وادرجي ادرجي) هذا مثال للتوكيد لا نحتاج إليه، و(المعارف فاعلما) هذا تكميل للبيت.

    معنى كلمة انصبتني

    نعود إلى البيت يقول: (رفه علي طالما أنصبتني)، مادة (رفه) هل هي موجودة في القرآن أم لا؟ ليست موجودة في القرآن، (أنصبتني)، هذه لفظة قرآنية، قال الله عز وجل: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ [المائدة:90]، وقال: لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ [فاطر:35]، وقال: عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ [الغاشية:3]، وقال: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ [النساء:53]، وقال: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ [الشرح:7]، كلها هذه مادة واحدة، النون والصاد والباء، وأنصبتني أي: أتعبتني؛ لأن معنى (( لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ ))، أي: تعب.

    إذاً مادة النصب لها معنيان: والنصب الذي هو التعب، وكذلك الشيء الذي ينصب ويقام على الأرض، وأما الأنصاب فليست من معنى المادة التي ذكرناها وهي التعب والنصب، كما تقول: هذا شيء منصوب، علم منصوب، فلا أستطيع أن آتي بتأويل وأجعل المعنى واحداً إلا بتكلف، ولكن: وما أنا من المتكلفين.

    قوله رحمه الله: ( واستبق بعض ماء غصن ملتحى )، هذا كقول طرفة:

    أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض

    يقول: (واستبق بعض ماء غصن)، (الغصن): معروف، (والملتحى): المكسور الذي أخذت منه لحاءه، يقول في المعنى:

    خفف علي بتوسيع عيشي فلطالما نتفت ريشي قسرًا، وأرهقتني من أمر عسرًا، واستبق بعض الذي صار كالعود اليابس، ولا تجعل عاقبة أمري خسرًا.

    1.   

    شرح قول الناظم: (لا تحسبن يا دهر أني ضارع ...)

    ثم قال رحمه الله بعد ذلك:

    [ لا تحسبن يا دهر أني ضارع لنكبة تعرقني عرق المدى ]

    معنى ضارع وبيان أصلها وتوضيح النكبة والتعرق

    (ضارع)، ضرع الرجل ضراعةً بمعنى: أنه ذل وضعف، هذه المادة معروفة يقال: إنها مأخوذة من ضرع الطفل إلى ضرع أمه، وحينما يضرع إلى ثدي أمه يكون في ذل وضعف وفي حاجة، وكذلك الإنسان حينما يضرع إلى الله، أو يتضرع إلى من هو أعلى منه، فإنه يكون في ضعف كضعف الطفل.

    (النكبة)، النكبة ما هي؟ المصيبة، والأمر الشديد، لكنها في الأصل مثل الكدية التي عرفناها هناك، وهي الشيء الناتئ، الذي إذا مشى عليه الإنسان يتعب ويتعثر، ولذلك قال الله: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا [الملك:15] مناكب: مرتفعات ومنخفضات، وكذلك المنكب، هذا أيضاً كأنه شيء ناتئ، وهذه المادة في القرآن: عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ [المؤمنون:74]، فهي موجودة، لكن النكبة هنا الأمر الشديد.

    (تعرقني): عرق العظم إذا أزال جميع ما عليه، ومادة العين والراء والقاف تدل على معان لها أصول منها: الإزالة، ومنها الامتداد، ومنها العراق، قالوا: لأنه على امتداد الشاطئ، وأيضاً من معاني مادة عرق العرق الذي يسيل من الإنسان، أي: لها أصل مستقل، هو يخرج منه، ولا تستطيع أن ترده إلى المعاني الأخرى أو الأصول الأخرى إلا بتكلف، لكنهم يقولون: إن منه عرق الفرس عرقاً أو عرقين، يعني: أنه جرى شوطاً أو شوطين، لكن لماذا؟ لأنه إذا جرى سال منه العرق، فعبروا عن هذا بمثل هذا اللفظ؛ لأنه يئول إليه، فيحصل منه هذا العرق، هذه ثلاثة أصول، وهناك أصل آخر من مادة عرق، وهي عروق الشجر وعروق الإنسان.

    علاقة التسمية بالمشاهدات

    الأصل في التسمية أنها كانت بأشياء يشاهدها الناس، ثم بعد ذلك على سبيل التشبيه فشبهت أشياء حسية بأشياء حسية، وأشياء معنوية أطلقوها عليها بجامع من الجوامع، العروق هي عروق الشجر في الأصل، ثم بعد ذلك أطلقوها على عروق الإنسان.

    قد يقول إنسان: من الذي قال: إن هذا هو الأصل كما قال ذلك من أنكر المجاز، قال: متى تكون الكلمة المجازية هي كلمة منتقلة من أصل إلى فرع؟ ومن قال لك: إن هذا أصل وهذا فرع؟ أنا أدعي أنّ هذا أصلاً وهذا أصلاً، هذا وإن قال به بعض الكبار ولكن إذا تأملتم في مثل هذا الكلام تجدون فيه مكابرةً، نحن لا نستغرق عقولنا في فهم هذه الأشياء لنعرف.

    والآن توجد ألفاظ كثيرة نطلقها على أشياء، ثم بعد ذلك ننقلها إلى معان أخرى، فحينما نقول عن هذا: كرتون مثلاً، هل يعني الكرتون أولًا أو الإنسان؟ يعني: لماذا أنا أطلقت عليه هذا، هل نقلت هذا اللفظ أم لم أنقله؟ نقلته، ما كان مستعملاً في الأصل في الإنسان، كذلك عندما أقول: رأيت أسداً، من الذي سوف يقول: إن الأسد هنا هو الرجل الشجاع؟ إنْ فهم هذا الفهم فهو مخطئ، وإن ادعيت على المتكلم هذه الدعوى فأنا مخطئ، لا يجوز أن أتكلم بهذا الكلام وأقصد به هذا المعنى إلا بقرينة، إذاً فإذا أطلق اللفظ إطلاقاً أولياً على شيء دل على أنه الأصل، كل الناس يفهمون أن الأسد إذا أطلق فالمراد به الحيوان المفترس، وإنما شبهت زيداً بالأسد لأنه شابهه في مسألة الشجاعة.

    فإذا قلت: رأيت أسداً لا بد أن أقول: يرمي، أو تكون هناك قرينة حالية أو سياقية في الكلام يصح معها أن أقول: رأيت أسداً من غير قرينة لفظية، لكن هنا قرائن أخرى دلت على المراد، أما إذا قال هكذا من غير قرينة فمن الذي يستطيع أن يدعي بأن المراد هو المعنى الثاني، وإذا كانت هناك حساسية من لفظ حقيقة ومجاز فقل: أصل وفرع، لا مشكلة في مسألة الاصطلاح، الاصطلاح لا مشاحة فيه، في أحيانٍ كثيرة هناك مساحة في بعض الأمور، لكن هنا لا يترتب على المسألة شيء، وليس هنالك ثمرة، وهذا باب ندرسه إن شاء الله في باب البلاغة في الحقيقة والمجاز، فالذي أخرجنا إلى هذا المعنى أن مادة عرق يطلق على عروق الشجر وكذلك عروق الإنسان.

    المدية .. معناها وما تصرف منها

    ما وزن كلمة مُدى؟ مدى على وزن فُعَل، مثل: كبرى وكبر، مفردها مدية، والمدية هي السكين، وأنا كتبت هنا أنا الشيخ بتكليف مني، ولكنني بحثت بعد أن طبعت الكتاب، فلم أجد إلا الكسر والضم، أما الفتح فلم أجده، فمن وجده فليأتنا به، قال ابن مالك في المثلث: (والمدية السكين.. ) بالنسبة للمدية، المدية مثلثة مُدية ومَدية ومِدية، لكن المدى ليست مثلثة إنما هي بضم الميم وكسرها، والمدية السكين ميمها اعتلى مثلثاً بواسطة الخطاب.

    وهنا نصف بيت يقول فيه الشاعر: (وكل يوم تراني مدية بيدي). مدية هذه جملة مستقلة بعضهم يعربها حالاً، يعني ليست مفعولاً به، إذا فكرت بذكاء في معنى البيت فاعرف أنها كلمة جديدة، يعني في كل يوم تراني، ثم بعد ذلك قال: مدية بيدي.

    1.   

    شرح قول الناظم: (مارست من لو هوت الأفلاك من...)

    قال رحمه الله بعد ذلك:

    [ مارست من لو هوت الأفلاك من جوانب الجو عليه ما شكى ].

    هذا البيت هو الذي قتله، وقد شكى حتى كان يبكي ويئن ويصيح كما يصيح الطفل في آخر عمره، ومن الذي يقدر على المصائب التي تنزل عليه أو الأمراض أو الأذايا والبلايا، لكن الإنسان ضعيف حينما يكون صحيحاً يظن أنه يتحدى هذه الأشياء، فإذا ما نزلت عليه بعد ذلك عجز عن ذلك، وسوف يأتينا في الشرح كلام لـأبي علي الفارسي.

    أفعال المشاركة أو المفاعلة

    (مارست)، هذه كلمة نستعملها الآن، أي: خالطت، التاء مفتوحة، أي: خالطت، أي: الدهر خالطه وهو خالط الدهر، دائماً (فاعَل) تدل على هذا، هذا هو الصحيح باطراد، فعندما يأتي إنسان ساخط عليك يعاتبك، عادةً تراجعه أنت، وتعاتبه أيضاً، وتقول له، أو تعتذر، أو نحو ذلك، يعني: تراجعه في هذا الكلام، وإلا فلو لم يعاتبك، وكان عندك عذر سابق لسبقته في العذر وما احتاج إلى عتابك، فأيضاً الفعل موجود من الاثنين، لكن واحد غلب الآخر.

    كذلك حينما تقول: قاتل زيد عمراً، من الذي قاتل الآخر؟ من الفاعل؟ زيد وعمرو كلاهما فاعل، فلو أردت أن أتفلسف في هذا الأمر لقلت: إن زيداً فاعل، وعمرواً أيضاً فاعل؛ لأن كلاً منهما قد قاتل الآخر، ولكن لو قلنا: قاتل عمرو زيدًا نفس الكلام، ممكن، لكنهم ما فعلوا ذلك؛ لأنهم لحظوا معنىً دقيقاً وهو مراعاة من بدأ بالقتال، أو مراعاة من غلب في القتال، أو مراعاة من كثرت منه ظاهرة القتال، فالمتكلم العربي الدقيق يراعي هذا، حينما تقول: قاتل وتقدم الفاعل زيداً، لا بد أن تكون قد حددت هذا المعنى.

    ولذلك حينما قال الشاعر: وقد كان يمشي في أرض مفعاة، ويعني بالأرض المفعاة: التي فيها أفاعٍ وحياتٍ وثعابين، فكان يمشي في هذه الأرض، ومعروف أن الثعبان في الأصل كما يقولون: إنه لا يعتدي عليك إلا إذا خاف أن تدوس عليه أو أن تؤذيه، وأما لو وجدك نائماً فإنه لا يعضك، فكان هذا الرجل يمشي في هذه الأرض المفعاة وهناك حيات كثيرة، وكل واحدة تريد أن تتربص به، يعني: أن تتغذى به قبل أن يتعشى بها، ولكن سلمت قدماه، فعبر عن هذا الشاعر - وهذا البيت أورده في اللسان، وأورده أيضاً صاحب تاج العروس - قال:

    قد سالم الحيات منه القدما الأفعوان والشجاع القفعما.

    قد سالم الحيات، سالم: فعل ماض، الحيات: فاعل، القدما: مفعول به، والفعل الآن بين القدم والحيات كلاهما يصح أن يكون فاعلًا، ثم قال: الأفعوان والشجاع القفعما، الأفعوان هو: ذكر الأفاعي، والشجاع أيضاً: الضخم منها، القفعم: الكبير، هذا بدل بعض من كل، يعني: أصل الكلام أنه قد سالم الحيات، فلو أردت أن تلغي الحيات فإنك تقول: قد سالم الأفعوان أو الشجاع أو القفعم لصح ذلك؛ لأن البدل يصح أن يكون مكان المبدل منه، فالبدل كما تعرفون في الإعراب يأخذ حكم المبدل منه، والأصل أن يرفع؛ لأننا رفعنا المبدل منه وهو الحيات، لكنه لم يرفع هنا وجاز له ذلك، ولا يجوز له في غير هذا المكان، إلا فيما يماثل هذا المعنى فقط، لماذا جاز له؟ لأنه لحظ معنى المفاعلة في الكل، فالحيات تصح أن تكون مفعولاً، القدم سالمت الحيات، هو لم يدسها برجله، والحيات أيضاً كذلك لم تعظ قدميه، لا حصل هذا ولا حصل هذا، فكل منهما سالم الآخر، فالحيات يصح أن تكون فاعلاً، ويصح أن تكون مفعولاً، لكنه راعى في هذا اللفظ فرفع الحيات، ثم بعد ذلك راعى المعنى فنصب البدل، وأعطانا المعنيين كليهما، هل هذا واضح؟ هذا شيء من فقه المفاعلة.

    خروج المفاعلة عن بابها

    المفاعلة قد تخرج عن بابها أحياناً، فلا تكون على بابها، مثل سافر، مع من سافر فلان؟ هنالك من لحظ أيضاً معنىً في بعض الأفعال التي قالوا: إنها خارجة عن المفاعلة، وقال: لا، هي موجودة أيضاً، نقول: سافر هو مع الأرض هي تمشي وهو يمشي، هو يقطعها وهي تقطع، أو يكون في الغالب المسافر مع غيره، وكذلك طارقت النعل، أنت تطارقها وهي تحدث صوتاً، لكن المفاعلة غير واضحة فيها، يعني تكون واضحة في مثل قوله تعالى: فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [البقرة:191]، في قراءة فَإِنْ قَتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [البقرة:191]، كيف يكون ذلك؟ ((ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه فإن قتلوكم فاقتلوهم)) قراءة سبعية، هل يمكن للإنسان أن يقتل بعد أن قتل؟ لا، لكن المعنى: أن المسلمين جسد واحد، المجاهدون جسد واحد، فإن قتلوا بعضكم فاقتلوهم، من بقي منكم يقتل من بقي منهم، هذا هو المعنى، أو فإن أرادوا؛ لأن (إن) تفيد احتمال الوقوع، إن أرادوا قتلكم فاقتلوهم.. وهكذا.

    يقول: ( مارست ) أي: خالطت، ( من لو هوت الأفلاك )، (الأفلاك): جمع فلك كملك، وأما فلْك فيستعمل مفرداً ويستعمل جمعاً، نحو: فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [الشعراء:119]، فسرها الأحناف بالنجوم، وهي في الحقيقة المجرى أي: مجاري النجوم، مواقع النجوم.

    (الجو) هو: الهواء الذي في السماء، هذا الفراغ اسمه الجو، يجمع على أجواء، يقال: الأجواء اليوم كذا وكذا، وأجواء مفردها جو، وهل جاء الجو في القرآن؟ نعم، جاء الجو في القرآن قال تعالى: فِي جَوِّ السَّمَاءِ [النحل:79]، ولعله فقط في هذا المكان.

    أما (الأفلاك) بهذا اللفظ فلا توجد، لكن الفلك موجود في القرآن.

    يقول: خالطت أيها الدهر رجلاً شديد البأس، طويل الصبر، لو سقطت عليه الكواكب من كل جانب ما شكى ولا ذل ولا اعتل، وقد شكى رحمه الله مما هو أقل من ذلك بكثير، وكان يصيح صياح من يمشي على المسامير من جراء الفالج الذي ألم به، وهو شلل، وكان أبو علي الفارسي يقول: إن الله عاقبه بقوله هذا، وقد أخطأ مرتين في سب الدهر بكلامه، وذهوله عن ضعفه الذي هو أصلي ذاتي؛ لأن الله خلق الإنسان من ضعف، وجعل نهايته إلى ضعف، وقد كان رحمه الله في العقد التسعين، والإنسان إذا كان في هذه السن يكون ضعيفاً بل في أضعف مراحله، كما قال الشاعر:

    وابن تسعين عاش ما قد كفاه واعتراه وساوس وسقام

    والقصيدة بتمامها:

    وابن عشر من السنين غلام رفعت عن نظيره الأقلام

    وابن عشرين الصبا والتصابي ليس يثنيه عن هواه ملام

    والثلاثين قوة وشباب وهيام ولوعة وغرام

    فإذا زاد بعد ذلك عشراً فكمال وقوة وتمام

    وابن خمسين مر عند حياة فيراها كأنها أحلام

    وابن ستين صيرته الليالي هدفاً للمنون فهي سهام

    وابن سبعين لا تسلني عنه فابن سبعين ما عليه كلام

    فإذا زاد بعد ذلك عشراً بلغ الغاية التي لا ترام

    وابن تسعين عاش ما قد كفاه واعتراه وساوس وسقام

    فإذا زاد بعد ذلك عشراً فهو حي كميت والسلام

    1.   

    شرح قول الناظم: (لكنها نفثة مصدور إذا...)

    قال رحمه الله:

    [ لكنها نفثة مصدور إذا جاش لغام من نواحيها غمى ].

    يقول: هو لم يكتفِ بقوله مخاطباً للدهر في البيت السابق:

    (مارست من لو هوت الأفلاك من جوانب الجو عليه ما شكى).

    هو يشتكي منذ الصبح، ولكنه استدرك بهذا فقال: (لكنها نفثة مصدور)، (المصدور) هو: الذي به داء في صدره، والمبطون: الذي به داء في بطنه، والممعود: الذي به داء في معدته.. وهكذا قس على هذا.

    لكنها (نفثة) أي: تفلة، أصل النفث هو تفل يكون فيه شيء من الريق، وهذه المادة في القرآن في سورة الفلك وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ [الفلق:4]، أي: النساء السواحر، اللواتي ينفثن في العقد.

    (لكنها نفثة مصدور إذا جاش) يعني: صار، الشين في الكلمة تدل على شيء منتشر، وهذا المادة ليست في القرآن.

    و(اللغام) هو: ما يكون في فم البعير من الزبد، وغمى يعني: رمى، فيقال: لغم الجمل رمى بلغامه، والملاغم ما حول الفم من الداخل، فاللغام أصله الزبد الذي يلقيه البعير من فيه، ومنه الملاغم وهي ما حول الفم، يقول: لكن ما أبثه من شكوى هو نفثة من يشتكي مرضاً في صدره كالزبد الذي يكون في فم البعير يجتمع في فمه فيتخلص من بعضه، وقد قيل لـعبيد الله بن عتبة بن مسعود أحد الفقهاء السبعة: أتقول الشعر على شرفك؟ فقال: لا بد للمصدور أن ينفث، يعني المهموم لا بد أن ينفس عن نفسه قليلاً، لو كان في صدره هم وغم فلا بد أن يتكلم بكلام لعله يزحزح ما في صدره، ولعلنا نقف عند هذا البيت.

    وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756471926