إسلام ويب

شرح زاد المستقنع كتاب الرضاع [1]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • بين الله سبحانه وتعالى ما يصلح الناس في معادهم ومعاشهم.. والمعاملات في الإسلام حظيت بتفصيل دقيق ينظم للعباد شئونهم، والرضاع من الأمور التي تؤثر في العلاقات الاجتماعية، إذ به تثبت المحرمية وغيرها من الأمور التي يثبتها النسب، غير أنه لا يثبت التوارث، وهو من المسائل التي ينبغي عدم تجهاهها أو التساهل فيها.

    1.   

    تعريف الرضاع وحكمه

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الرضاع].

    شرع -رحمه الله- في كتاب الرضاع، وهذا الكتاب هو أحد الكتب المتعلقة بكتاب النكاح؛ لأن كثيراً من المسائل والأحكام التي تتعلق بالرضاع مرتبطة بأحكام النكاح؛ ولذلك يعتني العلماء -رحمهم الله- بذكر هذا الكتاب في هذا الموضع.

    والرضاع في لغة العرب: هو مص الثدي سواءً خرج منه القليل أو الكثير من اللبن.

    والمراد به في الشريعة: مص مخصوص من شخص مخصوص، من موضع مخصوص، على صفة مخصوصة. وهذا التعريف المراد به: أن الرضاع لا يمكن أن يحكم بكونه رضاعاً شرعياً إلا إذا كان من شخص مخصوص، وهو مَن دون الحولين. سواءً كان من الذكور أو كان من الإناث، إذاً: لابد أن يكون الرضاع في الحولين، واختلف فيما زاد عن الحولين إلى الستة أشهر إذا لم يفطم الصبي، فمن أهل العلم -رحمهم الله- من قال: الستة الأشهر -أي: بعد- الحولين ليس الرضاع فيها بمؤثر. ومنهم من تسامح في الشهر والشهرين، أي: ما قارب تمام الحولين، ولكن الذي دل عليه القرآن أن الأصل في الرضاعة أن تكون في الحولين؛ لأن الله تعالى يقول: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [البقرة:233]، وقال تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الأحقاف:15].

    فقد يكون للحمل ستة أشهر، وأربعة وعشرون شهراً للرضاع. لكن لا يمنع هذا أن يقع الرضاع من الكبير، وذلك في مسألةٍ مخصوصة، وهي أن يكون الشخص قد تربى ونشأ في بيت من البيوت ولا يكون بينه وبينهم قرابة أرحام، مثل: بيت الجيران، أو بيت عمه، أو بيت خاله، فزوجة العم وزوجة الخال ليست بمحرم. فينشأ بينهم كواحد من أولادهم، ثم يكبر، فإذا كبر فإنهم في الغالب لا يتحرجون منه، بل يعتبرونه كواحد من أولادهم.

    وحينئذ يُشْرَع لمثل هذا -دفعاً للحرج- أن ترضعه زوجة العم، أو زوجة الخال، لحديث سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتكت له زوجة أبي حذيفة -وهي سهلة بنت الحارث رضي الله عنها- أن سالماً كان عندها كواحد من أولادها، وأنه لما كبر وجدت في نفس زوجها شيئاً. وكأنه يتحرج ويتضايق من دخوله. فقال عليه الصلاة والسلام: (أرضعيه خمساً تحرمي عليه).

    فأثبت عليه الصلاة والسلام الرضاعة للكبير في مسألة مخصوصة.

    إذاً: فنعقب على التعريف ونقول: إن الأصل في الرضاع أن يكون في الحولين فما دون، وأما بالنسبة لما زاد عن الحولين فيفتى فيه في المسائل الخاصة كما تقدم، وكذا فيما زاد عن الحولين قريباً كالشهر والشهرين إلى نصف السنة -كما ذكرنا أنه قول لبعض العلماء- فإذا حصل فطام في الحولين فلا إشكال، بمعنى: أنه صار يغتذي بغير اللبن، لكن الإشكال إذا بلغ الحولين وأتمهما، ولكنه لا يزال رضيعاً لم يفطم، فهذا هو الذي وقع فيه الخلاف بين الحنفية والمالكية -رحمة الله عليهم- وغيرهم.

    وقولنا: (على صفة مخصوصة) من أهل العلم من يخص الرضاع بمص الثدي كالظاهرية، ولا يرون رضاعاً بغير مص الثدي، حتى أنهم يقولون: لو أن اللبن وضع في إناء أو وضع في زجاجة -كالرضاعة الموجودة في زماننا- وشرب منه الصبي فلا يوجب ثبوت الأحكام المتعلقة بالرضاع، وهذا ضعيف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت أن الرضاعة من المجاعة. وإذا شرب من الإناء فإنه يسد به الجوع، وأثبت أن الرضاع يفتق الأمعاء، وأنه ينشز العظم وينبت اللحم، والرضاع إذا كان من الإناء ينشز العظم وينبت اللحم، كالرضاع المباشر.

    وبناء على ذلك: لا فرق بين أن يكون الرضاع بالمص، وبين أن يكون بالشرب من الإناء، ثم العبرة في الرضاع بالوصول إلى الجوف، فلو أنه قطر في أنف الصبي وهو كـ(السعوط)، أو أوجر أي: صب في حلقه وهو (الوجور)، فإنه يثبت الرضاع. ويستوي في هذا أن يكون مصاً، أو يكون من الأنف كالسعود، أو يكون وجوراً، أو لدوداً. ثم كذلك أيضاً يتبع هذا ما لو صار لبن المرأة جبناً، أو خلط لبن المرأة بغيره وشربه الصبي، فإنه يؤثر وتحدث المحرمية؛ لأنه يسد الجوع وينبت اللحم وينشز العظم، هذا بالنسبة لقولنا: على صفة مخصوصة.

    والعبرة في هذا الرضاع أن يكون بالعدد المؤثر، وهو خمس رضعات، كما سيأتي إن شاء الله. لقوله عليه الصلاة والسلام: (خمس رضعات معلومات يحرمن) ولقوله عليه الصلاة والسلام: (أرضعيه خمساً تحرمي عليه). وقول عائشة رضي الله عنها: (كان فيما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر رضعات معلومات يحرمن، فنسخن بخمس، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يتلى).

    والرضاع الأصل في ثبوته وثبوت أحكامه دليل الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى: وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ [النساء:23]، وهذا في سياق ذكر المحرمات، فأثبت التحريم للأصول والفروع والحواشي فدل على أن الرضاع مؤثر، وكذلك دل على مشروعية وجواز الرضاع قوله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ [البقرة:233]، وقوله تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق:6]، إلى غير ذلك من الآيات، وكذلك دلت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها: -كما في الصحيحين من حديث ابن عباس - أنه قال: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) وكذلك حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الرضعات الخمس المتقدم. وحديث عقبة بن الحارث رضي الله عنه وأرضاه -في قصته مع زوجته- وفيه: (أن امرأة جاءته وقالت: إنها أرضعته هو وزوجته، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بفراق زوجته فقال: يا رسول الله! كيف؟! فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: كيف، وقد قيل؟!) فأثبت أن للرضاع تأثيراً، وأثبت أنه يحرم، وجاء ذلك صريحاً في الحديث الذي ذكرناه -وهو متفق عليه-: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب). فهذا يدل على أن الرضاع مؤثر، وأنه تترتب عليه الأحكام الشرعية من ثبوت أمرين، أولهما: ثبوت الحرمة، والمراد (بالحرمة) حرمة نكاح المرأة. والثاني: ثبوت المحرمية، وهذا إذا كان على الصفة المعتبرة، فتصبح من ارتضع منها له أماً، وفروعها إخواناً وأخواتٍ للمرتضع، وهكذا بقية الأحكام المتعلقة بالرضاعة.

    يقول رحمه الله: (كتاب الرضاع).

    أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالرضاع.

    1.   

    يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب

    قال رحمه الله تعالى: [يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب].

    هذه الجملة هي قطعة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المتفق على صحته، وهي قاعدة عند العلماء وأصل عند أهل العلم، قاعدة فرعت عليها فروع كثيرة، وأصل رد العلماء إليه كثيراً من المسائل والأحكام المتعلقة بالرضاع، وهذا من بليغ كلامه -بأبي هو وأمي- صلوات الله وسلامه عليه، فقد أوتي جوامع الكلم حتى أن الجملة الواحدة يتفرع عنها ما لا يحصى من المسائل.

    وقوله عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) بيَّن:

    أولاً: أن الرضاع يحرم، أي: أنه يوجب التحريم في النكاح، وقد تقدم أن القرآن قد نص على هذا.

    ثانياً: أنه أثبت المحرمية، فكما أن النسب يثبت المحرمية، فكذلك الرضاع يوجب ثبوت المحرمية.

    ثالثاً: في قوله عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) يدل على المساواة والتشريك في الحكم من جهة التحريم، لا من جهة بقية الأحكام؛ فلا يحصل التوارث في الرضاع، فالأم التي أرضعت لا ترث كما ترث الأم من النسب، وإنما قال: يحرم، وهذا يدل على اختصاص الحكم بالحرمة والمحرمية دون بقية مسائل الأحكام.

    ومن هنا قال بعض العلماء: إن الأم من الرضاع، والقرابة من الرضاع، ليس لهم في الحق من الزيارات وصلة الرحم ما للنسب؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خص الرضاع بثبوت الحرمة والمحرمية، فدل على أنه لا يشابه النسب من كل وجه، ولكن هذا لا يمنع الإحسان، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخذت هوازن في الأسر، وكان فيهم بنو سعد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع من قسمة الغنيمة -غنيمة حنين- وكان ينبغي قسمتها بعد انتهاء الغزوة، ولكن أخر ذلك إلى أن فتح الطائف، ثم رجع بعد فتح الطائف وكل هذا -كما ذكر بعض أهل العلم رحمة الله عليهم واختاروه-؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قصد أن لا يبادر بأذيتهم لمكان الرضاعة التي في بني سعد، من أجل أن يأتوا إليه عليه الصلاة والسلام قبل أن تقسم الغنائم، فلما تأخر هذا التأخير ولم يكلموه عمد عليه الصلاة والسلام إلى القسم، فلما رجع إلى الجعرانة وقسمه فزعوا إليه عليه الصلاة والسلام بعد الله عز وجل فقال شاعرهم:

    امنن علينـا رسول الله في كـرم فإنك المـرء نرجـوه وننتظر

    امنن على نسوة قد كنت ترضعها إذ فوك يملؤه من محضها الدرر

    فخشع عليه الصلاة والسلام، ولما قام خطيبهم، وقال: (يا رسول الله! والله! إن اللائي في الحظائر، ما هن إلا أمهاتك وأخواتك من الرضاعة وخالاتك من الرضاعة)، فكاد أن يبكي عليه الصلاة والسلام وقال: (ما كان لي ولبني هاشم فهو لكم)، فأحسن عليه الصلاة والسلام ورد الإحسان بأفضل منه، وما كان عليه الصلاة والسلام إلا كذلك، فإنه يقابل الحسنة بأحسن منها. فلا يمنع هذا أن الأم من الرضاعة يكون لها حق الإحسان والتفقد، وإذا احتاجت أن يسد حاجتها وأن لا يقطعها من خير وبر؛ فذلك لا شك أنه من رد المعروف فقد قال عليه الصلاة والسلام: (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه).

    يقول المصنف رحمه الله: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) وهذا أدب مع السنة، وهكذا ينبغي للعالم والفقيه ومن يعلم الناس أن يحرص على الالتزام بالكتاب والسنة، وأنه متى أمكن التعبير بنص القرآن والسنة فذلك أتم وأعظم أجراً، وهو دليل صادق على فقه العالم؛ لأنه إذا قدم كتاب الله وسنة رسوله قدم ما حقه التقديم، دون أن يكون له فضل في ذلك، فقال المصنف: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب). ولذلك هذه المتون الفقهية تساير النصوص، وتمشي مع النصوص الشرعية، وإن كانت لا تأتي بالحديث نصاً، لأنها لم تتخصص في رواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما دلت على ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

    وقوله: (يحرم من الرضاع) يعني: بسبب الرضاع، فمن: سببية. كقوله: (إنما الماء من الماء)، وقوله تعالى: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ [نوح:25]. أي: بسبب خطيئاتهم. وقيل: المراد بها: الجهة أي: (يحرم من جهة الرضاعة ما يحرم من جهة النسب)، والنسب: الإضافة، يقال: نسب الشيء إلى فلان، إذا أضافه إليه. وسمي النسب نسباً؛ لأن الإنسان يضاف إلى ذويه، فيقال: محمد بن علي بن صالح مثلاً، فهذه إضافة، فالنسب لا بد فيه من الإضافة، ويقال: خال فلان. وعم فلان. وكله مبني على الإضافة. والمراد بالنسب: القرابة.

    وتفرعت عن هذا الحديث عدة مسائل:

    أولاً: التحريم من جهة النسب؛ فتحرم الأم من الرضاعة، والبنت من الرضاعة، والأخت من الرضاعة، وبنت الأخت من الرضاعة، وبنت الأخ من الرضاع، وكذلك العمة من الرضاع، والخالة من الرضاع، هؤلاء كلهن محرمات من جهة الرضاع، كما أنهن محرمات من جهة النسب.

    كذلك أيضاً: فيه دليل على أن الرضاع يشابه النسب، فقد يكون الأخ من الرضاع شقيقاً، وقد يكون الأخ من الرضاع لأب، وقد يكون الأخ من الرضاع لأم، وصورة ذلك: أن محمداً لو ارتضع من عائشة وهي زوجة لعلي، فجميع من تنجبه عائشة يكون أخاً لمحمد، كما أنه في النسب أخ له، ولكن إذا كان الذي أنجبته عائشة من علي فهو أخ له شقيق، وإن أنجبت من زوج سابق -قبل الزواج بعلي- أولاداً؛ فهم إخوة -من الرضاع- لأم. ثم إن علياً -الزوج- لو أنجب أولاداً من زوجة أخرى -قبل عائشة أو بعدها-؛ فهم أخوة من الرضاع لأب؛ لأنهم شاركوه من جهة الأب، ولم يشاركوه من جهة الأم، وهذه تفريعات كالنسب سواء بسواء.

    وعلى هذا: أثبت العلماء التحريم بالرضاع من جهة مشابهة النسب.

    كذلك أيضاً: أخذ منه بعض أهل العلم -وقد وقع عليه الإجماع، لكنهم يستدلون بهذا الحديث- كالحافظ ابن رجب وغيره رحمة الله عليهم، يقولون: إن الجمع بين الأختين من الرضاع محرم كالجمع بين الأختين من النسب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت في الرضاع ما يثبت في النسب، فكما أنه لا يجوز الجمع بين الأختين من النسب كذلك يحرم الجمع بين المرأة وأختها إذا كانت أختاً لها من الرضاع. سواء كانت أختاً شقيقة أو أختاً لأب أو أختاً لأم، لعموم قوله تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ [النساء:23]، وكذلك أيضاً: يحرم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها من الرضاعة، كما أنه يحرم في النسب الجمع بين المرأة وعمتها من النسب، والمرأة وخالتها من النسب، لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وغيره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها)، كذلك في الرضاع يحرم أن يجمع بين المرأة وعمتها من الرضاعة أو خالتها من الرضاعة، وذلك لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).كذلك: أخذوا منه دليلاً على أنه تثبت فيه المحرمية من جهة المصاهرة، فإذا تزوج امرأة فابنتها من الرضاع ربيبة، كما أن ابنتها من النسب ربيبة، وكذلك العكس، فلو تزوج امرأة حرم عليه أن ينكح أمها من الرضاع، كما أنه إذا نكحها حرم عليه أن ينكح أمها من النسب، وهذا كله متفرع من قوله عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).

    1.   

    عدد الرضعات التي ينبني عليها التحريم

    قال رحمه الله: [والمحرم خمس رضعات في الحولين].

    إذاً: يشترط العدد ويشترط فيه الزمان، والتفصيل كما يلي:

    أولاً: أن تكون الرضعات خمساً، ومفهوم العدد أنه لو كان الرضاع دون الخمس لم يحرم. فلو ارتضع منها أربع رضعات، فإنه لا يثبت له حكم الرضاع، ويشترط في هذه الخمس رضعات أن تكون مشبعة، فلا يكفي أن يمص الثدي ثم يؤخذ عنوة منه، إنما الشرط أن تكون الرضعة مشبعة، وحقيقة الإشباع: أن يرضع الصبي الثدي باختياره، ثم يتركه باختياره، فعند الترك بالاختيار تحتسب له رضعه، فإن تركه قهراً أو بغير اختياره ثم رجع، فإنها رضعة واحدة، فلو تركها قهراً كأن تكون أمه نزعت ثديها من فمه ثم أرجعته إليه مرة ثانية، أو هو هجم على الثدي ثانية بعد أن أجبر على تركه؛ فهي رضعة واحدة.

    وهكذا لو دهمه عطاس فعطس ثم رجع، فهذا بغير اختيار، فحينئذ تحتسب رضعة واحدة. إذا: لا بد أن تكون خمس رضعات مشبعات وضابط الإشباع: أن يدع الثدي باختياره، فإذا ترك الثدي وتركه باختياره ثم عاد مرة ثانية فهي رجعة مستأنفة، وبناء على ذلك: قد تقع الخمس رضعات في مجالس متعددة وقد تقع في مجلس واحد، وعلى هذا لا يشترط الاختلاف في المجالس وتعددها.

    قوله: (خمس رضعات) هذه الخمس رضعات تأتي على ثلاث صور:

    الصورة الأولى: أن تثبت التحريم للأب والأم معاً -أي: لصاحب اللبن (الزوج) والمرضعة (زوجته)- فيكون صاحب اللبن أباً، وتكون المرضعة واحدة وهي الأم، وتارة يثبت حكم الرضاع لصاحب اللبن دون اللائي أرضعن، وتارة العكس، أي: يثبت للتي أرضعت دون صاحب اللبن.

    أما تفسير ذلك: فإن كان هذا الرضيع قد رضع خمس رضعات من امرأة واحدة من لبن زوج واحد؛ فإنه حينئذ ابن لهذه المرأة وابن لذلك الرجل، مثلاً: محمد زوج لعائشة، ارتضع خالد منهما، من لبن عائشة حال قيام الزوجية بينهما خمس رضعات، أو بعد تطليقه إياها وقبل دخول الزوج الثاني عند بعضهم، أو بعد دخوله وقبل الحمل منه، في هذه الصور كلها يكون ابناً للاثنين -للأب وللأم- لأنه استنفد الخمس رضعات من ماء الزوج ومن لبن المرأة؛ لأن اللبن يفور بوطء الزوج.

    وبناء على ذلك: يثبت الحكم كما قلنا، فيكون هذا أباه وهذه أمه.

    الصورة الثانية: أن يكون الرضاع متعلقاً بالأم دون الأب. مثلاً: عائشة أرضعته -وهي عند محمد قبل أن يطلقها- ثلاث رضعات، ثم أرضعته بعد زواجها من أبي بكر رضعتين، فإنه في هذه الحالة ينتفي تأثير اللبن من جهة الفحل؛ لأنه لم يتمحض عدد خمس رضعات لفحل واحد، وإنما جاء من أكثر من فحل فلا يثبت؛ لأنه لم يتمحض لواحد منهما خمس رضعات، فيثبت الرضاع للأم، وتكون أماً له، ولا يكون له أب من الرضاع. ولذلك يقولون: هل يوجد رضيع له أم، ولا أب له من الرضاع؟ تقول: إذا ارتضع خمس رضعات من امرأة واحدة كانت عند رجل ثم طلقها فتزوجها آخر، والعكس قد يحدث؛ فلو أن محمداً تزوج عائشة، فارتضع هذا الرضيع من عائشة ثلاث رضعات، ثم انتقل إلى ضرتها -زوجة محمد الثانية- وارتضع رضعتين، أكمل خمساً من ماء الفحل الذي اللبن لبنه، ولم يكملها ويتمها من إحدى نسائه، فحينئذ له أب من الرضاعة ولا أم له من الرضاعة، يقولون: هل يوجد رضيع لا أم له من الرضاعة وله أب من الرضاعة؟ تقول: إذا لم يستنفد خمس رضعات من امرأة واحدة، وإنما من نسوة متعددات متزوجات برجل واحد، هذا بالنسبة لمسألة الخمس الرضعات.

    واشتراط الرضعات الخمس محل خلاف بين العلماء رحمهم الله. فأصح أقوال العلماء -رحمهم الله- أن العبرة في الرضاع أن يكون خمس رضعات، والدليل على ذلك حديثان قويان صريحان في الدلالة على اعتبار أن هذا العدد مؤثر في الرضاعة:

    الأول: حديث سهلة بنت الحارث رضي الله عنها وأرضاها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: أرضعيه خمساً تحرمي عليه)، وهذا الحديث رواه مسلم في الصحيح وغيره. ولفظ: (خمساً) جاء في معرض البيان، ولو كان الحكم يبنى على الأقل من الخمس لذكره لها، وإنما ذكر العدد الذي لا يمكن أن يؤثر ما دونه، فقال: (أرضعيه خمساً تحرمي عليه) ففهمنا أنه لو أرضعته أربعاً لم تحرم، ولو أرضعته ثلاثاً لم تحرم، ولو أرضعته ما دون ذلك لا تحرم.

    ثانياً: حديث أم المؤمنين عائشة في الصحيحين أنها قالت: (كان فيما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم (عشر رضعات معلومات يحرمن) فنسخن بخمس، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يتلى من القرآن) هذا الحديث بين أنه كان في شرع الله عز وجل -بنص القرآن- أن العبرة في التحريم بالرضاع عشر رضعات، ثم خفف الحكم إلى خمس رضعات.

    (عشر رضعات معلومات يحرمن) فهذا يدل على أنه لابد أن تكون معلومة، وأن لا تكون مبنية على الشك، وأن تكون مشبعة، لأن الرضعة المعلومة هي المشبعة، قالت: (فنسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يتلى من القرآن) فأثبتت أن العشر قد نسخت، وأن الخمس محكمة حكماً لا تلاوة، والقرآن منه ما نسخ تلاوة وحكماً، ومنه ما هو محكم تلاوة وحكماً، ومنه ما هو محكم تلاوة منسوخ حكماً، ومنه ما هو منسوخ تلاوة ومحكم حكماً.

    قالت: (توفي الرسول صلى الله عليه وسلم، وهن مما يتلى من القرآن) أي أن هناك أناساً يتلون هذه الآيات، وقد نسخت في العرضة الأخيرة التي عرضها جبريل؛ لأن جبريل عليه السلام كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم. كما في الصحيحين من حديث ابن عباس في الصحيحين: (كان يعرض عليه القرآن كل رمضان). وفي آخر سنة من حياة النبي صلى الله عليه وسلم عرض عليه القرآن مرتين، وهذه تسمى بالعرضة الأخيرة التي استقر عليها المصحف في زمان أبي بكر رضي الله عنه، ومن بعده من الخلفاء الراشدين.

    فهذه العرضة الأخيرة نسخ ما عداها من العرضات السابقة، فهناك من الصحابة من حفظوا شيئاً من العرضات السابقة، ولا زالوا يتلونه، ولم يبلغهم أنه منسوخ؛ لأن كل واحد يعمل بما علم.

    والشاهد من الحديث: أنه أثبت أن الخمس توفي صلى الله عليه وسلم وهن مما يتلى من القرآن، وأن الخمس محكمة، ولم يأت نص ينسخ هذه الخمس، وقد اعترض على هذا الحديث باعتراض مشهور وهو قولهم: إن هذا الحديث إن قلتم: إنه من القرآن فالقرآن لا يثبت بالآحاد، وإن قلتم: إنه سنة فعائشة تقول: (إنه توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يتلى من القرآن) فأثبتته قرآناً، وإن قلتم: إنه قرآن، فالقرآن لا يثبت بالآحاد؛ لأنه -بالإجماع- لا يثبت القرآن إلا بالتواتر. وبناء على ذلك: يقع الاعتراض على هذا الحديث فيسقط الاستدلال به؛ لأنك لا تستطيع أن تعتبره سنة؛ لأن أم المؤمنين رضي الله عنها روته قرآناً، وإن أردت أن تثبته قرآناً فلا تستطيع أن تثبته قرآناً؛ لأنه جاء برواية الآحاد، ولم يأت برواية التواتر.

    ومن حفظ الله للقرآن لهذه الأمة أنه منقول بالكافة عن الكافة نقلاً متواتراً، وهذا من الحفظ الإلهي الذي حفظ به الكتاب، حتى كيفية النطق ومخارج الحروف، فسبحان من حفظ كتابه وكلامه، فهذا الأصل عند العلماء. فإذاً: الحديث ليس بقرآن -لأنه آحاد- ولا هو بسنة؛ لأنها حكته قرآناً، وأجيب عن هذا الاعتراض بأقوى الأجوبة وهو الذي اختاره شيخ الإسلام الإمام عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي ) رحمه الله، وكذلك اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أئمة الأصول، قالوا: إن هذا الحديث فيه جانبان: جانب التلاوة -أي: إثبات كونه قرآناً، وكونه يتلى كالقرآن- وجانب العمل بما في المروي؛ للحكم وليس للتلاوة.

    فأما كونه قرآناً فقد ثبت عندنا بالتواتر أنه منسوخ؛ لأنه ليس في العرضة الأخيرة إجماعاً، فهذا لا نثبته قرآناً وليس لنا فيه كلام، ولكن الذي يعنينا ما بقي، وهو الشرط الثاني: إثبات الحكم، وإثبات الحكم لا يشترط فيه التواتر، ولا يشترط فيه أن يكون قرآناً فالآية قد تنسخ تلاوتها، ولكن تبقى حكماً وهم يسلمون بهذا؛ وبناء على ذلك: يدفع ما ذكروه، وخاصة وأن عندنا حديثاً آخر يغني عنه وهو: (أرضعيه خمساً تحرمي عليه) وهذا يدل دلالة قوية على أن العبرة بالخمس.

    أما الذين خالفوا فمنهم من يقول: قليل الرضاع وكثيره يحرم، كالحنفية ومن وافقهم، ومنهم من يقول: الثلاث رضعات محرمة، والرضعتان لا تحرم، ومنهم من يقول: العشر رضعات محرمة. فهذه الثلاثة الأقوال تخالف القول الذي اخترناه.

    أما من قال: قليله وكثيره يحرم، فاحتج بقوله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ [البقرة:233]، وقال تعالى: وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ [النساء:23]، ولم يشترط عدداً معيناً، وقالوا: لو أن شخصاً ارتضع من امرأة رضعة واحدة فهي أمه التي أرضعته، إذ لا يوجد في القرآن (أرضعنكم خمس رضعات) قالوا: إن القرآن أطلق ولم يقيد -هذا وجه الدلالة- فنقول: هذا الإطلاق قيدته السنة، وبناء على ذلك لا تعارض بين مطلق ومقيد، فالإطلاق الذي ورد من كتاب الله: وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ [النساء:23]. لم يبين الله عز وجل فيه عدد الرضعات، ثم جاءت السنة تحدد وتبين عدد الرضعات.

    ثانياً: كما أنكم تقولون: إن الإطلاق في قوله: وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ [النساء:23]. مقيد بالحولين، لقوله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة:233]. فأنتم تقيدون الرضاع بالحولين مع أن الله يقول: وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ [النساء:23] عموماً، فما خص الحولين ولا غيره، وبناء على ذلك: كما أنكم قيدتم بالكتاب فقيدوا -أيضاً- بالسنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    أما الذين قالوا: إن الثلاث رضعات تحرم، فاستدلوا بحديث: (لا تحرم المصة ولا المصتان، ولا الإملاجة ولا الإملاجتان) وهذا الحديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو حديث عقبة بن الحارث في الصحيحين- وفيه: أن رجلاً شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن زوجتي رضعت من امرأة أرضعتني رضعتين. فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تحرم المصة ولا المصتان، ولا الإملاجة ولا الإملاجتان) الإملاج: هو مص الثدي.

    قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحرم المصة ولا المصتان) فمعناه: أن الثلاث تحرم، وهذا يسمونه مفهوم العدد، ويقولون: دل على أن الثلاث تحرم؛ لأنه لو كانت الثلاث لا تحرم، لكان يقول: (لا تحرم المصة ولا المصتان ولا الثلاث ولا الأربع) لكنه قال: (المصة والمصتان) وسكت.

    وهذا القول ضعيف من وجوه:

    الوجه الأول: أنه استدلال بالمفهوم، وحديث: (أرضعيه خمساً) استدلال بالمنطوق، والقاعدة: (أن المنطوق إذا عارض المفهوم قدم المنطوق على المفهوم). ثانياً: أن هذا الاستدلال استدلالٌ بالمفهوم في معرض السؤال، والقاعدة: (أن المفهوم إذا كان في معرض السؤال يضعف اعتباره) أي: أنه حينما يأتي إنسان ويقول مثلاً: الطالب المثالي محمد، نفهم أن من عداه ليس مثالياً، لكن لو أن شخصاً سأل وقال: هل محمد طالب مثالي؟ قال: محمد طالب مثالي. فإنه حال كونه يجيب عن سؤال، لا يفهم أن ما عداه لا ينال هذه الصفة؛ لأنه خص هذه الصفة بهذا الشخص، فما عداه لا يأخذه ولا يشاركه من باب المفهوم؛ لأنه لو أن شخصاً سأل عن هذا الشخص، فمعناه أنه لا يقصد أن ما عداه ليس مثله، إنما سئل: هل هذا الشخص مثالي أم لا؟! وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن رضعتين -كما ورد في الرواية- فقال: (لا تحرم المصة ولا المصتان، ولا الإملاجة ولا الإملاجتان) وبناء على ذلك لا يصح الاستدلال بهذا الحديث؛ لأن مفهومه في معرض سؤال، ومثل هذا المفهوم ضعيف، مثل النص إذا خرج مخرج الغالب لم يعتبر مفهومه.

    أما قول من قال: إن العشر الرضعات تحرم ولا يحرم ما دونها، أقول: هذا مذهب شاذ، يحكى عن أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها، والصحيح: أن الخمس الرضعات هي المحرمة؛ كما ذكرنا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة.

    قوله (في الحولين) يدل على أن ما بعد الحولين لا يحرم، فنستثني حديث سالم مولى أبي حذيفة ، وهذا استثناه بعض أئمة السلف كـأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، وعطاء الخراساني وداود الظاهري وكذلك طائفة من أهل الحديث، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه إذا وجدت حاجة فلا بأس أن يرتضع الرجل الكبير، إذا كان قد تربى في حجر تلك المرأة.

    الحولان مثنى الحول، والحول: هو العام. وسمي العام حولاً؛ لأن الإنسان يتحول فيه من حال إلى حال، وفيه الفصول الأربعة، وغالباً أنه يتحول حاله، فإن لم يتحول في الصيف، فإن الشتاء يحوله، وكذلك أيضاً لتحول الناس، فقد يبتدئ الإنسان غنياً ثم يفتقر، وقوياً ثم يضعف، ففي الغالب أنه تتبدل فيه أحوال الناس، ولذلك سمي الحول حولاً من هذا، وهو اثنا عشر شهراً، ودليل هذا الأصل قوله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [البقرة:233]. فبين أن الأمد الذي تقع فيه الرضاعة هو الحولان، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا رضاع إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم)، وهذا لا يكون إلا في الحولين. وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام -في حديث الترمذي بسند ثابت-: (لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان في الحولين) . هذا كله يدل على أن الأصل أن الرضاع لا يعتبر إلا إذا كان في الحولين، ثم جاءت السنة بشيء خاص فلا تعارض لدينا، ويبقى ما عداه -على الأصل- يوجب عدم تأثير الرضاعة.

    1.   

    صور للرضاع المحرَّم

    قال رحمه الله: [والسعوط والوجور ولبن الميتة، الموطوءة بشبهة أو بعقد فاسد أو باطل أو زنا؛ مُحَرِّم].

    الرضاع بالسعوط

    (والسعوط) تقدم معنا في أكثر من مسألة، كما في الصوم، ولا يكون إلا عن طريق الأنف بالتقطير، أسعط الشيء إذا تناوله عن طريق الأنف، واللبن يكون سعوطاً، إذا قطر منه قطرات في الأنف؛ لأنه في بعض الأحيان يمرض الصبي أو يأبى أخذ اللبن بفمه، أو يمرض مدخل حلقه، أو فمه، ولا يمكن إعطاؤه عن طريق الفم، فيضطر إلى تقطير اللبن عن طريق الأنف، فهذا يسمى سعوطاًً.

    الرضاع بالوجور

    (والوجور) يصب في حلقه صباً، يفتح فمه ثم يصب اللبن داخل حلقه، وغالباً يقهر عليه الصبي قهراً.

    فبيَّن رحمهُ الله أنه إذا وصل اللبن عن طريق المص -الذي هو الطريق الطبيعي-، أو عن طريق الصب بالاختيار، أو بدون اختيار أنه مؤثر، كأنه يقول: العبرة بوصول اللبن إلى الجوف، وهذا صحيح؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (ما فتق الأمعاء) ، وإذا نزل عن طريق الأنف إلى الأمعاء أثر فينشز عظماً وينبت لحماً، ولا إشكال في كونه عن طريق الأنف أو عن طريق الفم.

    أما الدليل على أن الأنف ينفذ إلى الجوف فحديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً). فالصائم يحرم عليه أن يوصل شيئاً إلى جوفه، وإذا أراد الصائم الاستنشاق فقد نهاه الشرع أن يبالغ خشية أن يدخل الماء من الخياشيم إلى الحلق. فدل على أن الأنف متصل بالجوف، وهذا ثابت طبعاً وشرعاً. وبناء على ذلك: فلو أن اللبن وضع في أنفه فقطر ووصل إلى جوفه فإنه مؤثر وموجب للحكم بالتحريم.

    (والوجور) وكذلك (الوجور ) إذا صُبَّ في حلقه صباً؛ والظاهرية يقولون: إنه لابد أن يمص الصبي، ويرتضع، ومراد المصنف: أن الرضاعة لا تختص بالمص فقط، فلو أنه صنع منه جبناً فأكله المرتضع، أو وضع لبن المرأة في زجاجة أو إناء ثم خلط به ماء وخفف أو خلط به غيره -مثل العقاقير التي توضع مع لبن المرأة للدواء أو نحو ذلك- فهذا مؤثر؛ لأن مادة اللبن موجودة، ويتغذى بها الجسم ويرتزق، ويفتق أمعاءه وينشز عظمه وينبت لحمه، وبناء على ذلك: سواء كان خالصاً أو مشوباً، وسواء كان عن طريق الفم أو غيره مما يصل إلى الجوف، فإنه مؤثر.

    الرضاع من لبن المرأة الميتة

    قال رحمه الله: [ولبن الميتة].

    (ولبن الميتة) أي: المرأة إذا ماتت وشرب صبي لبنها هل يثبت التحريم؟ نحن قلنا: خمس رضعات تحرم، فلو ارتضع أربع رضعات، ثم جاءت سكتة قلبية للمرأة وماتت، وشرب الرضعة الخامسة بعد موتها -وقد تقع هذه في بعض الحوادث والأحوال- والارتضاع من الميتة وارد، وحتى في زماننا -في مثل حوادث الزلازل التي وقعت- وجد صبي رضيع قد عاش مع أمه ما لا يقل عن أسبوعين، وسخر الله له ثديها مع أنها ميتة. فكان يعيش على لبن هذا الثدي، فالشاهد: إذا ماتت هذه المرضعة وبقي عدد من الرضعات ارتضع منها وهي ميتة فإن حكمها ثابت، خمس رضعات. ولنفرض -مثلاً- أن صبياً احتاج إلى لبن -وما عندنا إلا امرأة ميتة ماتت الآن- فأراد أن يرتضع منها، وأرضعناه منها خمس رضعات، يأخذ الثدي اختياراً ويتركه اختياراً خمس مرات. فهل لبن الميتة يحرم؟!

    هناك وجهان للعلماء رحمهم الله، قال بعض أهل العلم -وهم الجمهور-: لبن الميتة مُحَرِّم. وهو الصحيح، وذلك لقول الله تعالى: وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ [النساء:23]، أي: وقع الإرضاع منهن، وهذا لا شك أنه قد ارتضع لبنها، كذلك اعترض بعض العلماء -رحمهم الله- على الذين قالوا: إن الميتة لا يحرم لبنها باعتراض -وهو من أوجه الاعتراضات وأجملها- فقالوا: أرأيتم لو أن هذه الميتة حلبت لبنها في إناء، ثم ماتت فشربه الصبي، هل يثبت التحريم؟!! قالوا: نعم. قال: إذاً: لا فرق بين كونه يشربه وهو داخل الثدي، أو يشربه وهو خارج الثدي. وفي الحقيقة: أن الخوف عندهم أن يكون اللبن قد استنفد واستهلك، وهذا طبعاً وبلا إشكال أنه إذا تبين أن اللبن مستنفد وفاسد فقد يضر -بل قد يقتل- الصبي. لكن نحن نتكلم عن لبن صحيح، أي: شرب لبناً صحيحاً، أما كيف يعرف أنه صحيح فمعروف بالفطرة أن الصبي إذا عاف اللبن تركه؛ لأنه في بعض الأحيان يكره على رضاع اللبن الطبيعي بقوة، فضلاً عن أن يكون فيه زنخ أو يكون مستنفداً مستهلكاً، إذ ليس من السهولة بمكان أن يقدم الطفل على الرضاع من ثدي خالٍ من اللبن أو متغير اللبن؛ لأن الله يقول: الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50]، هدى: دلَّ، فالنحلة -وبقية الحيوانات- هداها الله عز وجل كيف تحصل أقواتها، وحتى الكلب المسعور -أعاذنا الله وإياكم- يسعر، ثم فجأة ينطلق إلى الحديقة التي فيها مئات الأنواع من الأزهار ومن الأعشاب، ويأتي إلى عشب مخصوص أو إلى وردة معينة فيشمها وينتهي ما به!! من دله وهداه؟! دله اللطيف الخبير وهداه الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50]. فالطفل من حيث هو فيه هداية فطرية، ولا يمكن أن يمتص لبناً فاسداً، والغالب أنه لا يرتضع إلا لبناً صالحاً، فإذا رأيناه يرتضع ثم يترك الثدي، ثم يرتضع، ثم يرجع إليه خمس مرات أمامنا، علمنا ظاهراً أن اللبن صالح، وحكمنا بهذا الظاهر، وهذه من المسائل التي يحكم فيها على الظاهر؛ لأن دلالة الحال تدل على أن اللبن في ظاهره صالح، وبناء على ذلك: يثبت التحريم.

    الرضاع من لبن الموطوءة بشبهة

    قال رحمه الله: [والموطوءة بشبهة].

    (والموطوءة بشبهة) لو أن امرأة بكراً كانت نائمة، فجاء رجل فظن أنها زوجته فوطئها وحصل حمل، وثاب لبن بسبب هذا الحمل، فهذا اللبن لبن مبني على وطء شبهة، كذلك لو تزوج زواجاً فاسداً، وظنه صحيحاً كنكاح الشغار، فحملت المرأة ودرت اللبن، ثم أرضعت هذا اللبن طفلاً، فالوطء شبهةً كالوطء الصحيح، واللبن للمرء الشبهة كاللبن للمرء الصحيح.

    التحريم بلبن الموطوءة بعقد فاسد أو باطل

    قال رحمه الله: [أو بعقد فاسد أو باطل]

    وهكذا إذا كان بعقد فاسد، مثل: أن تتزوج امرأة بدون ولي، فهذا النكاح -عند الجمهور- محكوم بفساده. قال صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل). والفاسد والباطل لا فرق بينهما عند الجمهور في المعاملات، فحكمنا ببطلان النكاح وفساده، فإن حصل من هذا النكاح لبن، فرضعه رضيع، فإن هذا الرضاع يثبت له ما يثبت من الوطء الصحيح في عقد نكاح صحيح.

    قال رحمه الله : [أو زنا]

    وهكذا -والعياذ بالله- لو زنا رجل بامرأة، فحملت ثم ثاب اللبن من هذا الوطء المحرم، وشربه صبي، فإنه تثبت له أحكام الرضاعة، ولكن في الأم دون الأب، قال صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش، وللعاهر الحجر) فلم يجعل للزاني شيئاً في الزنا، ومن هنا قال طائفة من أهل العلم -واختاره الجمهور-: إنه لا ينسب الرضيع للأب من الزنا. كالحال في النسب، ولذلك ينسب الولد إلى أمه في الزنا، ولا ينسب إلى أبيه، كذلك في الرضاع ينسب إلى أمه ولا ينسب إلى أبيه الزاني.

    قال رحمه الله: (محرم).

    أي: لا فرق أن يكون هذا اللبن ثاب بوطء في نكاح صحيح أو بنكاح فاسد، أو وطء شبهة، فكل ذلك الحكم فيه سواء؛ لأنه لبن فتق الأمعاء وأنشز العظم وأنبت اللحم، وأعطاه الشرع هذا الحكم لوجود هذه الخاصية.

    1.   

    صور لرضاع غير محرم أو مختلف فيه

    قال رحمه الله: [وعكسه البهيمة].

    فلو أن اثنين شربا لبن شاة ما نقول: هذه أمه من الرضاعة، ولو أنهم أخذوا علبة حليب وشربوا منها فلا يثبت بهذا ما يثبت للرضاع -شرعاً- من آدمية، لكن لو جفف لبن امرأة وصار مثل المسحوق، وشربه صبي ثبت حكم الرضاعة، لكن بالنسبة للبهائم لا يثبت، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله.

    أحد المعاصرين من طلبة العلم لما سئل عن اثنين ارتضعا من شاة قال: هما أخوان من الرضاعة -أعوذ بالله من القول على الله بدون علم- ومن هذه الفتاوى. حتى أن أحدهم أراد أن يدرس الفقه فجاء إلى كتاب القصر، فقيل له: المغرب تقصر أو لا تقصر؟ قال: هناك قولان، فقيل له: كيف نصليها ركعة ونصف؟ أيسجد أو لا يسجد، أو يقدم السجود؟! - نسأل الله السلامة ونعوذ بالله من الزلل والزيغ.

    قال رحمه الله: [وغير حبلى].

    (وغير حبلى) بعض العلماء يشترط أن يكون اللبن قد ثاب من وطء، فإذا حصل اللبن من وطء حكم به، أما إذا كان لم يثب من وطء -وهذا يقع في بعض الأحيان أن المرأة تدر اللبن قبل الزواج أي: درت هذا اللبن من غير وطء-؛ فبعض العلماء يرى أن لبن البكر لا يحرم، والصحيح: أنه يحرم؛ لأن الطفل يغتذي به، وبعضهم يبني المنع منه على أنه نادر، والحكم للغالب لا للنادر، يقول: كلبن الرجل، والرجل لا يوجد له لبن، لكن قد يقع في بعض الأحيان أن يرتضع من رجل كما يقولون، وهي مسألة أندر من النادر، يقولون: لا يثبت، وقد يقع في الخنثى المشكل إذا تبين أنه ذكر، ثم ثاب منه لبن بسبب الهرمونات والاختلال في جسمه، ففي هذه الحالة يقولون: إنه إذا كانت المرأة صغيرة وثاب لبن فيها من غير وطء، أو من غير حمل، فيحكم بأنه رضاع مؤثر وهو ابن لهذه المرأة، وهذا هو أصح القولين: أنه لا يشترط وجود الحمل، لكن المصنف بين أنه عكس الأصل.

    قال رحمه الله: [ولا موطوءة].

    ومثال غير الموطوءة: البكر، فإذا ثاب من ثدييها اللبن من غير وطء، ومن غير حمل، وكذلك تكون ثيباً خلواً، ومن بعد ذلك ثاب منها اللبن؛ قالوا: إن هذا ليس باللبن المعتاد على الصفة المعتادة، فيحكمون بأنه لا تأثير له ؛ لأنه خرج عن الأصل المعتاد.

    1.   

    الأسئلة

    كيفية حساب الرضعات الخمس إن كان اللبن في إناء أو كان اللبن قد تحول جبناً

    السؤال: كيف تثبت الخمس رضعات ويحصل تمامها، إذا كان شرباً من الإناء أو أكلاً إذا تحول جبناً؟

    الجواب: فأما بالنسبة للإناء فذكر بعض العلماء أن الإبانة عن الفم كالإبانة عن الثدي، أي: أنه إذا أخذ الإناء ثم أبانه عن فمه فهذه رضعة كاملة، وبناء على ذلك تحتسب خمس مرات أن يأخذ الإناء ويبينه؛ ثم يأخذ الإناء ويبينه؛ لأنه لا يبينه إلا بعد حصول الارتواء من أجل النفس، وبعض أهل العلم يرى أن الحكم يختلف في الشرب من الإناء عن الرضاع، ويرى أن العبرة بالمجالس، فلا بد أن يتكرر ذلك في خمسة مجالس، وأن كل مجلس يعتبر رضعة؛ لأن فيه اشتباهاً، والحقيقة أن المذهب الذي يقول: إن المعتبر هو الإبانة من الفم فيه قوة، فالشرب من الإناء ثم إبعاده هذا يعد رضعة، فإذا استتم كان في حكم الخمس رضعات المعلومة.

    عدم اشتراط الرضا في ثبوت الرضاع المحرِّم

    السؤال: هل من شروط الرضاعة أن يكون الأب موافقاً؟

    الجواب: لا يشترط في الرضاعة أن يكون الأب موافقاً، ولذلك الحكم مترتب على وجود الرضاع؛ لأنه إذا شرب هذا اللبن، نبت لحمه ونشز عظمه، رضي أو لم يرضَ، وهذا يسمونه الحكم بالأسباب، فقد جعل الشرع الحكم هنا مرتباً على وجود سبب وهو الرضاع، سواء أذن صاحبه أو لم يأذن. ولذلك في بعض الأحيان لا الأم ترضى ولا الأب، كأن تكون نائمة وهجم عليها صبي والتقم ثديها وهي نائمة أو ظنته ولدها، في هذه الحالة لا يكون هناك رضا -لا من الأب ولا من الأم-؛ وفي بعض الأحيان قد تحمله ولا تشعر إلا وقد أخذ ثديها ورضع بدون خيارها، فلا يشترط الرضا في الرضاع والعبرة في هذا الحكم بالسبب وهو وجود الرضاع، سواء كان هناك رضا أم لم يكن، والله أعلم.

    معنى قوله تعالى: (إلا ما قد سلف) من قوله: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف)

    السؤال: أشكل علينا قوله تعالى: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22]ما معنى قوله: (إلا ما قد سلف)؟

    الجواب: (إلا) استثناء موجب للعطف المشرك للحكم، وهذا معروف في لسان العرب، ولذلك يكون قوله تعالى: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22] أي: ولا ما قد سلف، لا تستديموهن ولا تبقوهن. أي: ما كان من الوطء بنكاح منكوحة أبيه، ومن بقيت معه بعد نزول الآية فعليه أن يفارقها، ويكون معنى قوله: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ أي: لا تستبقوهن، وقالوا في قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً [النساء:92]، أي: ولا خطأ، وذلك بتعاطي الأسباب الموجبة للتساهل حتى يحصل القتل. وهذه اللغة استشهد بها الإمام ابن قدامة رحمة الله في هذه المسألة وفي مسألة بيع الكلب المعلم للصيد، في الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب إلا كلب صيد) أي: ولا كلب صيد؛ لأن العرب كانت مشهورة بالصيد، فخاطب البيئة التي نزل فيها القرآن بما ألفت، فقوله: (إلا كلب صيد) أي: ولا كلب صيد، فإذا كان كلب الصيد -للحاجة- لا يجوز فمن باب أولى تحريمه لغير الحاجة؛ لأنه قد يظن شخص أن الإذن به للصيد يبيح ويحل بيعه، فقال عليه الصلاة والسلام: (إلا كلب صيد) أي: ولا كلب صيد، فدل على أنه لا يجوز بيع الكلاب وشراؤها، ولو كان مأذوناً باتخاذها، فالعطف هنا للمأذون، واستشهد الإمام ابن قدامة بقول الشاعر:

    وكـل أخٍ مفـارقه أخـوه لعمـر أبيـك إلا الفرقـدان

    أي: والفرقدان، فهذا عطف موجب للتشريك في الحكم، وما ذكرناه ذكره بعض أئمة التفسير في الآية الكريمة.

    وقيل في معناها -على وجه-: أي: عفوت فيما وقع منكم فيما قد سلف، فاستأنفوا الحكم، كما قال عليه الصلاة والسلام: (أسلمت على ما أسلفت من خير) وكما قال الله تعالى: عَفَا الله عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنه [المائدة:95]، فيكون من باب التنبيه على أن النفوس تتحرج، حتى إن العرب في الجاهلية كانوا إذا توفي الرجل وخاف الابن على زوجة أبيه يرمي ثوباً عليها حتى لا يتزوجها غيره، ومعنى ذلك: أنه يريد أن ينكحها، فهذا من عادات الجاهلية، فيرمي ثوبه عليها، فتعلم أنه يريد نكاحها، فإذا نكحها مقتته العرب، وكانوا يمقتون هذا مع أنهم كانوا يفعلونه، إلا أنهم كانوا ينظرون إليه نظرة مستبشعة، وكما قال تعالى: إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا [النساء:22]، أي: أن نكاح زوجة الأب ممقوت، حتى في أعرافهم الجاهلية.

    وعلى كل حال: الآية تدل على أحد أمرين: إما عطف موجب للتشريك في الحكم، كما ذكرنا، فلا إشكال، فيكون ما يستفاد منها: أنه لا تبقوا النكاح الذي كان في الجاهلية، ويجب أن تفارقوهن، فالآية الكريمة جمعت بين تحريم نكاح زوجة الأب ابتداء واستدامة؛ فابتداءً لقوله تعالى: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ [النساء:22]، واستدامة لقوله تعالى: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22] أي: لا تبقوهن ولا تستديموا نكاحهن.

    وأما الاحتمال الثاني: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ المراد به: استأنفوا الحكم، فما كان مما قد سلف فإن الله قد عفا عنه؛ لأن الله لم ينزل فيه شرعاً؛ ولذلك أعذر فيه سبحانه وتعالى، وأسقط المؤاخذة. والله تعالى أعلم.

    الفرق بين العبد المدبَّر وأم الولد في الإجزاء في كفارة الظهار

    السؤال: في كفارة الظهار في الرقبة، يجزئ إخراج المدبَّر ولا تجزئ أم الولد، فما الفرق بينهما مع أن كل منهما يعتق بموت السيد؟

    الجواب: أم الولد عتقها لا إشكال فيه، لكن المدبر فيه خلاف وذكرنا هذا في مسائل التدبير أنه من حق السيد المدبِّر أن يرجع عن عتق المدبَّر، وبناء على ذلك: صار المدبَّر أضعف حالاً من أم الولد، ومن هنا يجوز التفريق، فإذا كان أحدهما أقوى من الآخر، فلا يمكن أن يسوى بينهما؛ فالمدبَّر يمكن أن يُرجع عن تدبيره ؛ لأن المدبَّر هو أن يعلق عتق عبده على موته، فيقولون: عتق عن دبر، ودبر الشيء: آخره، فكأنه إذا أدبر ومات عتق عليه عبده، فقيل له: المدبَّر؛ أي: الذي يعتق بعد وفاة سيده، وفي بعض الأحيان يقول: إذا مت فاعتقوا عبدي فلان، ثم يرجع عن هذا التدبير، قالوا: لأنه مثل الهبة، والهبة لا تملك إلا بالقبض، ولا تثبت إلا بعد ثبوت حكمها من حيث القبض، وهنا ما حصل الموت، فمن حقه أن يرجع، وعلى هذا قالوا: إنه يجوز، وحملوا عليه عتق الرجل الذي أوصى أن يعتق عبيده، وكان عليه دين فرد النبي صلى الله عليه وسلم وصيته، وهذه وصية عن دبر، أي: أوصى بعتق عبيده بعد موته، فهو كالتدبير، وهذا أصل لمن يقول بجواز الرجوع عن التدبير.

    وعلى كل حال: الفرق بين المدبَّر وأم الولد واضح، وبناء على ذلك لا يرد الاعتراض ؛ لأن الحكم يكون مساوياً إذا كانا في منزلة واحدة ودرجة واحدة من القوة. والله تعالى أعلم.

    الجمع بين حديث: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين)، وحديث: (إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)

    السؤال: كيف يمكن الجمع بين حديث: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين)، وحديث: (إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها).

    الجواب: لا تعارض بين الحديثين، والحمد لله؛ كلاهما خرج من مشكاة واحدة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون)، على رواية الرفع، المراد به: أن الإنسان إذا ألم بمعصية ثم ستره الله بستره، وذهب وتكلم جهاراً بما ألمَّ به، فقد هتك ستر الله، وهذا يقع من بعض أهل الضلال، والفسوق والفجور، يفعلون المعاصي، ثم يأتي إلى صديقه ويقول: فعلت.. وفعلت.. وحدث.. وحصل، فيتفاخر ويتباهى.

    فهذا -نسأل الله السلامة والعافية- سلب الله منه العافية؛ لأن من العافية أن يصرف الله عن عبده الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فإذا أذنب وألَمَّ بخطيئة وستر الله عليه؛ عوفي في علانيته. أما إذا أصبح يهتك ستر الله، ويأتي يفاخر ويباهي بذنبه ويقول: فعلت وفعلت، فهذا عافاه الله علانية فلم يرضَ عافية الله؛ فجمع بين بلاء السر وبلاء الظاهر والعلانية.

    أما بالنسبة لحديث: (إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها). فدل الحديث الأول على أن من ستر فهو معافى، فكيف يجمع بينه وبين هذا الحديث فيمن فعل المعصية في الخلوة؟ الجواب: أنه في حديث ثوبان رضي الله عنه: (أعرف أقواماً من أمتي يأتون بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء، فيجعلها الله هباءً منثوراً، قالوا: يا رسول الله! صفهم لنا، جلهم لنا، لئلا نكون منهم ونحن لا ندري، قال: أما إنهم منكم يصلون كما تصلون، ويأخذون من الليل كما تأخذون، إلا أنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) أي: أن عندهم استهتاراً واستخفافاً بالله عز وجل، فهناك فرق بين المعصية التي تأتي مع الانكسار، والمعصية التي تأتي بغير انكسار، بين شخص يعصي الله في ستر، وبين شخص عنده جرأة على الله عز وجل، فصارت حسناته في العلانية أشبه بالرياء وإن كانت أمثال الجبال، فإذا كان بين الصالحين أَحْسَنَ أيما إحسانٍ؛ لأنه يرجو الناس ولا يرجو الله، فيأتي بحسنات كأمثال الجبال، فظاهرها حسنات، (لكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) فهم في السر لا يرجون لله وقاراً، ولا يخافون من الله سبحانه وتعالى، بخلاف من يفعل المعصية في السر وقلبه منكسر، ويكره هذه المعصية، ويمقتها ويرزقه الله الندم، فالشخص الذي يفعل المعصية في السر، وعنده الندم والحرقة ويتألم، فهذا ليس ممن ينتهك محارم الله عز وجل؛ لأنه -في الأصل- معظم لشعائر الله، لكن غلبته شهوته فينكسر لها، أما الآخر فيتسم بالوقاحة والجرأة على الله؛ لأن الشرع لا يتحدث عن شخص أو شخصين، ولا يتحدث عن نص محدد، إنما يعطي الأوصاف كاملة.

    من الناس من إذا خلا بالمعصية خلا بها جريئاً على الله، ومنهم من يخلو بالمعصية وهو تحت قهر الشهوة وسلطان الشهوة، ولو أنه أمعن النظر وتريث، ربما غلب إيمانُه شهوته وحال بينه وبين المعصية، لكن الشهوة أعمته، والشهوة قد تعمي وتصم، فلا يسمع نصيحة ولا يرعوي، فيهجم على المعصية فيستزله الشيطان، قال تعالى: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ [آل عمران:155]، فإذا حصل الاستزلال من الشيطان، فزلت قدم العبد، لكن في قرارة قلبه الاعتراف بالمعصية، والله يعلم أنه لما وقع في المعصية أنه نادم، وأنه كاره لها، حتى إن بعضهم يفعل المعصية وهو في قرارة قلبه يتمنى أنه مات قبل أن يفعلها، فهذا معظم لله عز وجل، ولكنه لم يرزق من الإيمان ما يحول بينه وبين المعصية، وقد يكون سبب ابتلاء الله له أنه عير أحداً أو أنه عق والداً أو قطع رحمه، فحجب الله عنه رحمته، أو آذى عالماً أو وقع في أذية ولي من أولياء الله؛ فآذنه الله بحرب، فأصبح حاله حال المخذول، مع أنه في قرارة قلبه لا يرضى بهذا الشيء، فيخذل عند التعرض للمعاصي.

    ومحاربة الله للعبد على صفات، منها -والعياذ بالله- أن يأكل الربا فيأذن بحرب من الله عز وجل، فيأتي إلى المعاصي فيسلب التوفيق، ويأتي إلى المظالم فتجده في بعض الأحيان يقع في ظلم أخيه فيستغرب كيف وقع هذا؟! لأن الله خذله، ويكون الخذلان لأسباب: إما أنه عير مبتلى فعاقبه الله، أو أصابه غرور بطاعته فعاقبه الله ووكل إلى حوله، وأشياء أخرى كثيرة، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216]، فهذه الأمور لا ينظر الإنسان فيها إلى شخص معين، وإنما ينظر إلى أحوال الناس، فمن الناس من يكون عنده حسنات في الظاهر كأمثال الجبال، ولذلك تجد بعضهم إذا وقف مع الناس فهو ذلك الرجل اللين اللسان، الطيب الجنان، فإذا غاب عنهم حقد عليهم وسبهم وشتمهم، وربما يجلس في مجالس الخير والذكر، وكأنه واحد من أصحابهم، فإذا غاب عنهم أخذ يغتابهم ويذمهم ويلومهم، ولا يعظم الله ولا يرعوي عن حرمات المسلمين، فعنده جرأة -والعياذ بالله- على معصية الله، ولكن إذا وقع العبد في معصية وهو في قرارة قلبه يكره أن يقع في هذا الشيء ولو أنه أُعطي التوفيق من الله تعالى بتعاطي الأسباب لما ابتلي بهذا، وإذا وقع في الذنب صحبه الندم والألم، فهذا ممن رجا رحمة الله عز وجل، ومن هذا الذي رجا رحمة الله وخيبه الله؟ وكيف يكون العبد تائباً إلا من ذنب?

    فهناك مراتب وأحوال ينبغي مراعاتها، ومنها: أنه لا ينبغي أن نأتي ونضع منزلة المحسن للمسيء، ومنزلة المسيء -الذي هو بالغ الإساءة- للمحسن، والمسيء ظاهراً وباطناً ليس كمن يسيء ظاهراً لا باطناً، فإذا جئت تنظر إلى معصية السر، فالذي يعصي في السر على مراتب: منهم من يعصي مع وجود الاستخفاف، فبعض العُصاة تجده لما يأتي إلى معصية لا يراه فيها أحد يذهب الزاجر عنه، ويمارسها بكل تهكم وبكل وقاحة، وبكل سخرية ويقول كلمات، ويفعل أفعالاً، ولربما نصحه الناصح، فيرد عليه بكلمات كلها وقاحة، وإذا به يستخف بعظمة الله عز وجل ودينه وشرعه، لكنه إذا خرج إلى الظاهر صلى وصام، وإذا خلا بالمعصية لا يرجو لله وقاراً -والعياذ بالله- فليس هذا مثل من يضعف أمام شهوة أو يفتن بفتنةٍ يراها ويحس أن فيها بلاء وشقاء، ويقدم عليها، وقلبه يتمعر من داخله ويتألم من قرارة قلبه، ثم إذا أصاب المعصية ندم، ولذلك الشيطان تجده يلبس على بعض الأخيار، فتجد بعض الأخيار -وهو نادر- مبتلى بالعادة السرية، فيأتيه الشيطان ويقول له: أنت ممن يصدق عليهم: (إذا خلو بمحارم الله انتهكوها)، فأنت منافق.

    أبداً، هذا ليس بصحيح، وإن كان لا ينبغي للإنسان أن يفعل هذه المعاصي في السر، وعليه أن يتقي الله عز وجل في السر، حتى يتبوأ الدرجات العلى في الأولى والآخرة، لكن وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46]. فالله لا يظلم العباد، ولا ينزل عبداً جريئاً على حدود الله ومحارمه منزلة عبد يخاف الله ويرجو رحمته، ولذلك جاء في الأثر أن الله يوقف العالم بين يديه، أو يوقف الرجل الصالح بين يديه، فيقول: (عبدي! فعلت.. وفعلت.. حتى إذا رأى أنه هالك لا محالة قال: عبدي! قد كنت ترجو رحمتي؛ قد غفرت لك)، أي: مع كل هذه الذنوب ومع هذه الإساءة ترجو رحمتي، وقد علمت منك أنك كنت مشفقاً على نفسك وتخاف الله عز وجل، فإني لا أخيبك، وهذا شأنه وهو الكريم سبحانه وتعالى، وهو الذي يبتدئ بالإحسان ويتفضل بالنعم، ولا يستحق أحد ذلك؛ لأنه كله فضل الله وكرمه، لا منتهى لكرمه ولا منتهى لجوده، والحمد لله على حلمه، والحمد لله على كرمه وجوده وإحسانه ورحمته، وسع العباد جوداً ورحمة وإحساناً وبراً، فهذا الحديث ليس على إطلاقه، وإنما المراد به من كانت عنده الجرأة -والعياذ بالله- والاستخفاف بحدود الله، ونسأل الله بعزته وجلاله كما أنعم علينا بنعمة الإسلام وتوحيده والإخلاص لوجهه، والخوف منه سبحانه، أن لا يسلبنا هذه النعمة، وأن لا ينقصنا منها، اللهم زدنا ولا تنقصنا، اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وأكرمنا بطاعتك، ولا تهنا بمعصيتك، وأنت أرحم الراحمين، والله تعالى أعلم.

    حكم أمر الرجل لزوجته بالإفطار في صيام القضاء

    السؤال: هل يجوز للرجل أن يأمر زوجته أن تفطر وهي صائمة قضاء ما أفطرته في رمضان؟

    الجواب: يجوز للرجل أن يأمر زوجته أن تؤخر قضاء رمضان؛ لأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بينت في حديثها في الصحيح، أنها كانت تؤخر قضاء رمضان إلى شعبان لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، فدل على أن القضاء موسع، فإذا أرادت أن تصوم في محرم، فمن حقه أن يقول: أخري الصيام إلى شعبان، لكن إذا صامت ودخلت في الصوم، فليس من حقه أن يأمرها بالفطر ؛ لأنها إذا صامت فإنها مأمورة بالإتمام وتلزم بإتمام الصوم، ولا يجوز له أن يأمرها بالفطر؛ فالقضاء يحكي الأداء ويأخذ حكمه، فلا سبيل له لمنعها، والدليل على أنها لا تفطر في الفريضة قوله عليه الصلاة والسلام: (المتطوع أمير نفسه) فدل على أن المفترض ليس أميراً لنفسه، وبناء على ذلك: لا تفطر لأمر الزوج إذا كانت في صيام الفريضة، أو صوم قضاء إذا دخلت فيه، أما أن يؤخرها ويقال لها: أخري القضاء، فذلك له، لأن القضاء موسع، والله تعالى أعلم.

    حكم من أفطر قبل المغرب يظن أن الشمس قد غربت

    السؤال: ما حكم من أفطر في رمضان قبل المغرب يظن أن الشمس غربت؟

    الجواب: من أفطر قبل الغروب ظناً منه أن الشمس قد غربت سقط عنه الإثم ولزمه القضاء، لأن الشرع ألزمه بصوم يومه كاملاً، فإذا أفطر شيئاً من اليوم، فإنه يعذر لمكان الخطأ، ويلزم بالإتمام والقضاء، وقياس الخطأ على الأكل والشرب نسياناً قياس على الخاص، لأن ما جاء على خلاف الأصل فغيره عليه لا يقاس، والشرع استثنى الناسي، والنسيان سهو وغفلة من الشخص، وأما المخطئ فلديه نوع من التقصير ؛ لأنه لو بذل الأسباب وتحرى لانكشف له الأمر جلياً، وعليه: يفرق بين المخطئ والناسي من هذا الوجه؛ لأن العذر في الناسي أقوى منه في المخطئ، فالمخطئ لو تحرى وبذل أسباب التحري لأمكن عدم الوقوع في الخطأ، ومثال آخر للخطأ: رجل استيقظ من الليل وظن أنه لم يؤذن للفجر بعد، ثم أكل وشرب، وتبين أنه أكل وشرب بعد الفجر، فهذا لو تحرى وبذل الأسباب لانكشف له الأمر جلياً، ولكن الناسي قد ذهل وزال عن عقله ذلك الشعور وليس عنده أي سبب يمكن أن يتعاطاه تلافياً للقصور والإخلال بحق الله عز وجل، ومن هنا فرق جمهور العلماء -رحمهم الله- في هذه المسألة وقالوا: إنه يلزمه القضاء، وقال عروة رحمه الله كما في صحيح البخاري حينما قيل لهم: هل صليتم ذلك اليوم؟ قالوا: وهل في القضاء شك، فالأصل يقتضي أنهم يصومون اليوم كاملاً، وإذا حصل الخطأ، فإنه يسقط عنهم الإثم لقوله تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ [الأحزاب:5]. فأسقط الله الإثم، ولكن يلزمه ضمان، وكذلك في حقوق العباد، كما لو قتل خطأً أسقطنا عنه الإثم، لكن أوجبنا عليه الضمان، وهنا نسقط عنه في حق الله الإثم ونوجب عليه ضمان الصوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فدين الله أحق أن يقضى) فحق الله أحق وأولى، والله تعالى أعلم.

    حكم صلاة ركعتي العشاء وراء صلاة التراويح

    السؤال: هل يجوز أن أنوي في الركعتين الأوليين من صلاة التراويح أنها سنة العشاء؟

    الجواب: نعم؛ يجوز ذلك، إذا نوى بها سنة العشاء فإنه يتحقق مقصود الشرع، وحينئذ تجزئه عن راتبة العشاء، وإذا أخر راتبة العشاء إلى ما بعد وتره مع الإمام فلا بأس ولا حرج، ولكن الأفضل أن يصلي الراتبة بعد صلاة العشاء، ثم يقوم ويصلي القيام كاملاً تاماً مع الإمام، ويوتر معه، والله تعالى أعلم.

    معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (احفظ الله يحفظك)

    السؤال: ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (احفظ الله يحفظك) وكيف يكون ذلك؟

    الجواب: هذا الحديث حديث عظيم، وتفسير هذه الجملة يحتاج إلى مجالس، ولكن جماعها كله في تقوى الله عز وجل، فليس هناك حافظ حفظ حدود الله عز وجل ومحارمه مثل المتقين، أما إذا أراد الله عز وجل أن يتم النعمة على الحافظين وأن يعلي لهم الدرجة، وأن يعظم لهم الأجر والمثوبة، فإنه ينقلهم إلى درجات الإحسان، فأعظم ما يكون الحفظ أن لا يرى الله عبده حيث نهاه، وأن لا يفقده حيث يحب أن يراه؛ لأن الحفظ استخدم في الشريعة في الأوامر وفي النواهي، وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ [التوبة:112]، هذا بالنسبة للنواهي، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المعارج:34]، فحفظ أوامر الله عز وجل أن تأتي بها على أتم الوجوه وأكملها، ولا ترضى لنفسك أبداً أن تكون في الدون، مثلاً: الصلاة؛ فبدل أن يأتي الإنسان أثناء الصلاة، يأتي على أتم الوجوه وأكملها قبل الأذان، وبدل أن يصلي في الصف الثاني فحفظه على أتم الوجوه وأكملها إذا كان في الصف الأول، وإذا صلى الصلاة بدل أن يخشع في ثلثها أو ربعها أو نصفها، خشع فيها كاملة. وبدل أن تبكي عينه عند سماع الآيات، بكى عند تسبيح الله أيضاً. فإذا أراد الله أن يزيده من فضله، بكى حتى في سجوده وهو يدعو، فإذا أراد الله أن يزيده رزقه خشوع القلب والصلاة على أتم الوجوه وأكملها، حتى إنه منذ أن يكبر إلى أن يسلم وهو في ذكر لله عز وجل، وحضور القلب على أتم ما يكون ذكره، وهذه من مراتب الإحسان العلى، فتجده يكبر التكبيرة وهو يستشعر معنى قول: (الله أكبر)، إما لكونه مظلوماً مضطهداً، أو يكون غنياً قوياً، يظن أن (الله أكبر) من كل شيء، فإذا قال: (الله أكبر) وهو مظلوم تبددت جميع هموم الأرض وزالت، لأنه يعلم أن الله أكبر من كل شيء، لأن الذي يشوش في الصلاة هموم الإنسان وغمومه، إما سراء أو ضراء، فإذا قال: (الله أكبر) وهو في سراء علم كيف أن الله أغناه وهو فقير، وأعزه وهو ذليل، وأكرمه وهو مهين، ورفعه وهو وضيع، فيقول: (الله أكبر) من قرارة قلبه ومن صميم فؤاده، يعرف ما معنى هذه الكلمة، ولذا يقولها بصدق ويقين وإخلاص وحضور قلب، فإذا قال دعاء الاستفتاح، كل كلمة يستشعر معناها، فإن أراد أن يسبح ويثني على الله عز وجل، عرف كيف يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك) وكذلك أيضاً: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب)، تذكر أنه مذنب وأنه فار إلى الله عز وجل، كذلك أيضاً: إذا قرأ القرآن تدبر كل كلمة وكل حرف من كتاب الله عز وجل، ولا يزال في هذه النعمة حتى إن العبد يستفتح بكتاب الله عز وجل، ويتمنى أنه ما انتهى من التلاوة، وهذه المراتب يتفضل الله بها على عباده، فمستقل ومستكثر، ولذلك تجد بعض الأخيار والصالحين في قيام الليل، عندما يقوم الليل يبتدئ القيام وهو يريد أن يقرأ الجزء فإذا به يمضي إلى الجزئين والثلاثة إلى الأربعة، ووالله! ربما ختم العشرة -ثلث القرآن- ولربما وصل إلى نصف القرآن وهو لا يزال في الركعة الواحدة، ما وسعه الوقت لكتاب الله عز وجل، من لذة ما هو فيه، لكن سبحان من يتفضل على عباده، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

    فهذا الشعور مرتبة عالية في الحفظ، حفظ حدود الله عز وجل، وإذا أراد أن يصلي وأراد أن يكون من الحافظين تخيل أنها آخر صلاة من عمره، وأحياناً ينتقل -متفكراً- إلى الآخرة فيتخيل أن الله سيحاسبه على كل كلمة وعلى كل حرف، وهو يعرف أين يقف؟ ومن يناجي؟ ومن يسأل؟ فإذا تليت عليه آيات الله وكان مأموماً تدبر كل كلمة وكل حرف، لا يؤثر عليه الإمام ولا يؤثر عليه القارئ، وتراه غير محصور في القراءة والقراء، ولا بمسجد دون مسجد، أبداً؛ لأنه مع الله، حافظ لحدود الله، أينما كان، وحيثما كان، هذا بالنسبة للحقوق والواجبات في حق الله، وفي الحقوق والواجبات التي أمر الله فيما بيننا، فتجده في حق إخوانه المسلمين صالحين أو غيرهم، يحفظ حق المسلم على أتم الوجوه وأكملها، فهو يعلم أن الله عز وجل أمره أن يعطي لأخيه حقاً فيعطيه على أتم الوجوه وأكملها دون مِنَّة، ويعلم أن هذا أخ له في الإسلام، فإذا لقيه لقيه بقلب صافٍ من الغل والحقد والشحناء والاحتقار، ولا يمكن أن يدخل في قرارة قلبه احتقاراً لمسلم للونه، ولا لمنصبه ولا لجاهه أبداً؛ لأن الله أمره أن يحفظ هذا القلب، لئلا يدخل فيه شيء من عمل الشيطان أو كيده، فالجاهلية لا تجد منفذاً إلى قلبه، هذا بالنسبة لما يكنه لأخيه المسلم في باطنه، وأما في ظاهره فالكلام الطيب والألفة، فتجده حينما ينعم الله عليه ويكون من الحافظين فلا تجده يعامل صغيراً أو كبيراً إلا وخرج من عنده وهو يشكره على ما يكون منه من حسن عمل، ولن تستطيع أن ترى أحداً يحفظ حدود الله في حقوق إخوانه المسلمين إلا مع الضعفاء. -أما الأقوياء فلسنا بصددهم- إذا أرادت أن تزن الرجل حقيقة فانظر إليه مع الغلمان وانظر إليه مع الخدم، وانظر إليه مع من هم تحته، ممن جعل الله عز وجل فضله عليهم، فمثلاً: إذا كان عنده خادم، أو كانت المرأة عندها خادمة، فتجدها تتقي الله في هذه الخادمة، وتعطيها راتبها في وقته، ولا تؤخر راتبها ولا يمكن أبداً أن يحصل لهذه الخادمة مشكلة أو تضطر إلى معونة أو مساعدة إلا ساعدتها، حتى إن بعض الأخيار والصالحين -كما كان يذكر لنا بعض مشايخنا- يقول: والله! إنه ليأتيني الرجل الضعيف من ضعفاء المسلمين فيجعل الشيطان بيني وبينه من الحواجز والحوائل العديدة التي لا يعلمها إلا الله، كيف تعطي هذا وليس من جماعتك؟ ولا من قرابتك، ومع ذلك يكذب ويغش؟! فيأتيه الشيطان من كل حدب وصوب، قال: أتجاهل كل هذا وأتصور ما لو جاءني أعز وأقوى وأحب شخص، ماذا أفعل معه؟! فأرفع هذا الوضيع الضعيف، وأضعه منزلة ذلك الشخص المحبوب لدي، فأجلس أنصت إليه كأني أنصت لمن له عليَّ حق، أو أخاف منه أو أرجو منه نِعمِة، فإذا بالأمور تختلف تماماً، وعندها يشتري رحمة الله بتجاوزه وإرغام نفسه فيما يحبه الله، وصدق الله عز وجل في قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة:207]، يشري نفسه أي: يبيع نفسه، فهذا الذي حفظ حق الله عز وجل في عباده المؤمنين لا يمكن أن يكون إلا في مثل هذه المواقف، ولا شك أنه يتبع ذلك حقوق؛ فلا يرضى بغيبة ولا يرضى بنميمة، ولا يرضى بسب مسلم ولا بشتمه، ولا بأخذ حقه، وأما بالنسبة لمراعاة وحفظ حقوق الله في المحارم، فإنه يكون أعف الناس لساناً وأتقاهم جناناً، وأصونهم جوارح وأركاناً، لا يمكن أبداً أن يقع في حرمة من حرمات الله، كلما أراد أن يتكلم تذكر أن الله سائله عن هذا الكلام، وكلما أراد أن يعمل شيئاً تذكر أن الله سيسأله عن هذا العمل، ومن الأمور التي تساعد على ذلك: أن يتصور الإنسان دائماً أنه في هذه اللحظة في لحده وقبره، ما الذي يتمناه؟ فإذا أردت أن تقدم على أي عمل، وأردت مرتبة الإحسان، فلتتصور رحمك الله أنك الآن ممدد في قبرك، فكيف تحتاج في قبرك إلى الحسد؟! حتى إن هذا الشعور إذا صحبك تتواضع للناس وتألف الناس، وتوطئ لهم الكنف، وتبذل لهم كل ما تستطيع، فإذا أراد الله أن يتم النعمة على العبد رزقه الإحسان في العمل وأتمها عليه بالإخلاص، فأصبح لا يتحدث ولا يتكلم بهذه النعمة ولا يباهي بها، بل يتمنى أنها سر بينه وبين الله، فإذا أراد الله عز وجل أن يزيده من فضله أخذه الشعور الذي يشعر معه أنه إذا أحسن إلى الناس أن الناس هم أصحاب الفضل عليه وليس هو صاحب الفضل عليهم، ولذلك تجد من الناس من يعطي ويحسن ولكن تذهب حسناته بالمن، ومنهم من يعطي ويحسن ومع ذلك يحس أن الذي جاءه بمسألته هو صاحب الفضل عليه، قال ابن عباس رضي الله عنه: (ثلاثة أرى أن لهم حقاً عليّ: رجل نزلت به نازلة فجاءني من بين الناس). انظروا كيف هذا الكرم. وكان ابن عباس من أكرم الناس، وليس بغريب على هذا العبد الصالح الذي تربى على يدي النبي عليه الصلاة والسلام أن يقول: (إذا جاءني الرجل في حاجة عددته صاحب الفضل). وهكذا الخطيب إذا خطب وأنصت له الناس، عد أن الناس هم أصحاب الفضل، وكذلك العالم إذا درس وأفتى وعلم ووجه.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا من الحافظين لحدوده وأن يحفظنا بخيره، وأن يتم علينا نعمته، وأن يختم لنا ولكم بخاتمة السعداء، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756610618