إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب الوديعة [1]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد حث الإسلام على حفظ الودائع وصيانتها، وهي مما توثق الروابط بين المسلمين وتزيدها صلابة، وفي طيات هذا الدرس العديد من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالوديعة وما يترتب على التفريط فيها.

    1.   

    تعريف الوديعة لغة واصطلاحاً

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [باب الوديعة].

    الوديعة في لغة العرب مأخوذة من الودع، يقال: ودع الشيء إذا تركه، ومنه قول الحق تبارك وتعالى: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:3] ما ودعك يعني: ما تركك، وما قلى، يعني: ما هجرك؛ لأن الوحي انقطع عن النبي صلى الله عليه وسلم مدة من الزمن، فقالت امرأة تهزأ بالنبي صلى الله عليه وسلم: ما أظن نجيك إلا قلاك، فأنزل الله عز وجل: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:1-3] أقسم الله بالضحى الذي هو بداية النهار فكنايته عن النهار كله، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [الضحى:2] الذي هو ابتداء الليل، فأقسم الله بابتداء الليل وبابتداء النهار، والزمان كله إما ليل أو نهار، ثم قال تعالى: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:3] يعني: ما تركك، فالودع هو الترك، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم وغيره: (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين) فقوله: (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات) يعني: عن تركهم صلاة الجمعة، (أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين) فلا ينتفعون بموعظة أبداً، فالقلب إذا خُتم عليه -والعياذ بالله- لو صبت عليه مواعظ الدنيا لم تؤثر فيه شيئاً، نسأل الله السلامة؛ لأنه يغلق عليه تماماً.

    فلذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات) يعني: عن تركهم شهود صلاة الجمعة، فالودع هنا بمعنى الترك.

    وأما الوديعة في اصطلاح العلماء، فأهل العلم رحمهم الله إذا أطلقوا هذا المصطلح الشرعي فإنهم يعنون به التوكيل في حفظ مال ونحوه.

    وبعضهم يقول: تسليط الغير على حفظ المملوك أو المحترم شرعاً، والمعنى متقارب، فإذا كان عندك مال وأردت حفظه عند شخص فقلت له: خذ هذا المال وديعة عندك فقد وكلته، وأقمته مقام نفسك بحفظ هذا المال ورعايته وصيانته، فالوديعة توكيل وتفويض من الشخص المالك للغير في أن يحفظ المال، فنزله منزلته، وذلك لأنك لن تودع إلا عند من تأتمنه؛ لأن الوديعة أمانة، فتوكيل الغير المراد به التفويض في حفظ المال، مثل أن تقول له: هذه مائة ألف ضعها عندك وديعة، وهذا كيلو من الذهب ضعه وديعة عندك، هذا كله يعتبر توكيل بشيء مخصوص وهو الحفظ.

    ولما قال العلماء: الوديعة توكيل معناه أنه تنطبق على الوديعة ما ينطبق على الوكالة، فلا بد أن تكون الوديعة -أي: الإيداع وطلب الحفظ- صادرة من شخص له حق أن يودع، أو يصح من مثله أن يودع، ومثل هذا البالغ العاقل الرشيد الذي له حق التصرف في المال، فلا تصح الوديعة من صبي إلا إذا كان مميزاً مأذوناً له بالتجارة فهذا يستثنى؛ لأننا إذا أذنا للصبي بالتجارة فإن من لازم الإذن بالتجارة أنه يحتاج إلى حفظ ماله، والقاعدة أن الإذن بالشيء إذن بلازمه، فإذا أذن الوالد لولده أن يتاجر بماله، فجلس في دكانه، فإنه يصح لمثله أن يوكل، ويصح لمثله أن يودع إذا كان في حدود ما فوض إليه كما تقدم معنا في باب الوكالة.

    كذلك: لا تصح الوديعة من مجنون، فلو أن شخصاً مجنوناً أعطى مالاً لشخص، وقال: هذا وديعة عندك لم تنطبق عليه أحكام الوديعة، وهكذا بالنسبة للمحجور عليه لسفهٍ، فإنه ليس له حق التصرف في ذلك، وليس له حق إيداعه.

    كذلك من يودع عنده يشترط فيه أن يكون عاقلاً، وأن يكون رشيداً، وأن يكون حراً، وأن يكون بالغاً إلا على التفصيل الذي ذكرناه في المأذون له بالتجارة، والسبب في ذلك أنه إذا لم يكن عاقلاً فإنه لا يستطيع أن يحفظ ماله فضلاً عن أن يحفظ أموال الآخرين، فمثله ليس بأهل لأن يحفظ الوديعة؛ ولأن الغالب فيه أن يضيع المال، فيفوت المقصود من حفظ الوديعة.

    قول العلماء رحمهم الله: توكيل الغير في حفظ المال ونحوه، وبعض العلماء يقول: توكيل الغير في حفظ المملوك أو المحترم شرعاً، مثلاً: المال يشمل الذهب والفضة وغيرها من سائر الأشياء، بل قد تقول له: عمارتي وديعة عندك، فهو يشمل الأموال والعقارات، ولكن قول بعض العلماء أو المحترم شرعاً يشمل ما ليس مملوكاً، فالقرآن محترم شرعاً وليس بمملوك -على قول من يقول لا يجوز بيعه- فحينئذٍ يدخل في الوديعة، يمكن أن يأخذ مصحفاً ويقول لشخص: هذا وديعة عندك، فهو ليس بمال على القول بأنه لا يجوز بيعه، وهذا مذهب طائفة من العلماء:

    ومنع بيعه لدى ابن حنبل وكرهه لدى ابن شافع جلي

    وقد تقدمت معنا هذه المسألة في البيع، فإذا قلنا: إن الوديعة تختص بالأموال يشكل علينا أن هناك أشياء ليست بأموال وليست في حكم الأموال ويقال: إنها وديعة وتأخذ حكم الوديعة، كما مثلنا بالقرآن وما في حكمه.

    1.   

    الأدلة على مشروعية الوديعة والحكمة من تشريعها

    الوديعة مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع، أما كتاب الله عز وجل فإن الله سبحانه وتعالى يقول: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]، فأمر الله سبحانه وتعالى بأداء الأمانات، وهذا يدل على أنها كانت محفوظة عند أهلها، ومن هنا قال طائفة من أهل العلم: هذه الآية الكريمة أصل في مشروعية الوديعة، وأصل في جواز الإيداع عند الغير، وأنه يجب على من استودع أن يحفظ الوديعة وأن يرد الأمانات إلى أهلها.

    ومن السنة قوله عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك).

    وأجمع أهل العلم رحمهم الله على مشروعية الوديعة، وأنه يشرع للإنسان أن يحفظ ماله عند الغير، ويشرع له -أيضاً- أن يقوم بحفظ أموال الناس، لكن الواجب على المسلم أن لا يتحمل مسئولية حفظ الأموال ومسئولية الودائع إلا إذا غلب على ظنه أنه يحفظ حقوق الناس، وأنه لا يخاطر بهذه الحقوق، ولا يجوز لمسلم أن يضر بمصالح إخوانه المسلمين فيمكنهم من الإيداع عنده والغالب على ظنه أن ودائعهم لا تحفظ؛ لأن هذا خلاف النصيحة.

    ومن الحكم المستفادة من شرعية الوديعة أنها تعين على جلب المصالح ودفع المفاسد والمضار، ففيها مصلحة للشخص الذي يملك مالاً ولا يستطيع حفظه، كما لو أن شخصاً أراد السفر وغلب على ظنه أنه لو سافر يضيع ماله أو يتعرض للتلف، فاستودعه شخصاً؛ فإن هذا يدفع عنه الضرر ويحقق له مصلحة بقاء المال، كذلك فيه مصلحة للشخص الذي توضع عنده الودائع، لما في ذلك من الأجر العظيم والثواب الكبير، ولما فيها من التراحم والتواصل والتعاطف؛ لأن المسلم لا يحفظ مال أخيه المسلم إلا إذا رحمه، وأحس بما بينه وبين أخيه من أخوة الإسلام التي توجب عليه أن يحسن إليه وأن يبذل له ما يستطيع بذله خاصة عند حاجته ومن ذلك الوديعة، ففي الوديعة خير كثير، ولذلك تزداد المحبة بين الناس بالودائع، فلو أن شخصاً له مائة ألف وقال للآخر: ضعها عندك وديعة، فإن الشخص الذي يدفع الوديعة سيشعر أن أخاه أحسن إليه فيحبه؛ لأن القلوب جبلت على محبة من أحسن إليها.

    أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم لطالما استعبد الناس إحسان

    فالإحسان يوجب محبة الناس وإكرامهم للمحسن.

    كذلك أيضاً الوديعة فيها خير بالنسبة للشخص الذي يقوم بالوديعة، فإنه إذا جاءه أخوه وقال له: ضع هذه المائة ألف أمانة عندك فإنه سيشعر أن أخاه يثق فيه، وأن أخاه قد أنزله منزلة من بين سائر الناس إذ ائتمنه على عورة من عوراته، أو على حق من حقوقه، أو على أمواله، وهذا يدل على أن منزلة المودع عنده كبيرة، ولذلك ما أقبح أن يخون الإنسان هذه الأمانة أو يضيع هذه الوديعة، ومن هنا كان يقول بعض العلماء رحمهم الله: إن من سنن الله عز وجل أنه ما خان أحد وديعته ولا فرط فيها ولا ضيعها إلا عاقبه الله في الدنيا قبل الآخرة، وتأتي العواقب على أسوأ ما يكون، خاصة إذا كان في إنكار الوديعة وجحود الوديعة فإن الله يخذله.

    وكان العلماء يستشهدون بالحادثة المشهورة التي وقعت في زمان بني العباس، أن رجلاً أراد الحج إلى بيت الله الحرام، وكان معه هميان أو كمر، وجمع فيه ماله وتجارة عمره، وكان بداخله من الجواهر الغالية الثمن التي هي كل ما يملكه في حياته، فجاء إلى رجل في السوق يعرفه بينه وبينه مودة ومعاملة في التجارة، فقال له: خذ هذا الكمر والهميان أمانة ووديعة عندك حتى أحج وأرجع، فذهب إلى الحج ولما رجع اشترى له هدية من باب المكافأة، فلما دخل عليه إذا بالرجل يتنكر له، سلم عليه فرد عليه السلام بجفاء، فجلس بجواره يظن أنه منكوب أو مكروب فقال له: أولا تعرفني؟

    قال: لا أعرفك، من أنت؟

    قال: أنا فلان الفلاني، قال: ما أعرفك، فأنكر معرفته، فقال له: بلى أنت تعرفني وقد استودعتك مالي، قال: لا أعرفك وليس لك عندي مال، فحاول الرجل أن يسترد ما أودعه عند صاحبه المرة والمرتين والثلاث حتى يئس منه، فانطلق إلى الخليفة يقال أنه المعتضد رحمه الله، وكان المعتضد من أقوى الخلفاء فراسة ودهاءً وذكاءً، وشكا إليه ما وجد، فقال له: اذهب إلى الرجل وأمهله ثلاثة أيام، واجلس كل يوم باب دكانه لعله يعرفك أو يتذكرك، فلما مضت ثلاثة أيام رجع إليه وقال: لم يصنع شيئاً، بل طردني من أمام الدكان، وقال: لا أراك بعد اليوم تجلس في هذا المكان.

    فقال له الخليفة المعتضد رحمه الله: إذا كان من الغد فإني داخل السوق، فإذا دخلت السوق فسأمر بك فكن على مجلسك، وسأسلم عليك وأنت جالس مكانك فلا تتحرك، ولا تبد اهتماماً ولا تحدث أي شيء، وأعتني بك ولا تعتن بي، ثم أنصرف عنك، وانظر ماذا يكون من الرجل، فانطلق رحمه الله ومر عليه وهو بالسوق، فلما مر عليه قام السوق وقعد لدخول الخليفة فيه، فلما مر على الرجل سلم عليه فرد عليه السلام كأي شخص، فسأله عن حاله وعن حال أولاده وأهله وإذا به على حاله لم يتحرك فيه شيء، فلما مضى الخليفة إذا بالرجل قد أصابه الرعب مما نظر، الخليفة يسلم عليه ولا يبالي ولا يكترث به، وإذا بالخليفة يسأل عن أولاده وأهله، فعند ذلك استدعاه المودع عنده ولاطفه وقال له: ربما أني نسيت من أنت؟

    فقال المودِع: أنا فلان بن فلان، تذكرت وديعتي؟

    قال: نعم، قال: فأخرج له الهميان -نسأل الله السلامة والعافية- فإذا بالخائن قد خاف من المخلوق أكثر من خوفه من الخالق، قال: فأخرج له الهميان فإذا هو بعينه، فأخذ الهميان وانطلق إلى الخليفة وقال: يا أمير المؤمنين! هذا الرجل وهذا ما صنع، فأمر به رحمه الله فجلده في السوق، وعزره تعزيراً بليغاً.

    فهذه عاقبته في الدنيا، وعاقبته في الآخرة أشد وأنكى، قل أن يخون أحد وديعة إلا عجل الله له العقوبة في الدنيا قبل الآخرة، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) يقولون: حتى منع الشخص أن يخون الأمانة مع وجود الأذية، مع أن الله يقول: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40]، فلا يقابل المسيء بالإساءة في الأمانة؛ فإذا خان فلا تخن أنت؛ فإن الأمانة أمرها عظيم.

    يقول المصنف رحمه الله: (باب الوديعة) أي: في هذا الموضوع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالودائع، وحقوق الناس المحفوظة عند الغير، وهذا يشمل بيان حقيقة الوديعة، ويشمل عقد الوديعة، وما يترتب عليه من سقوط الضمان وعدمه، ومتى يكون الشخص المودع عنده ضامناً، ومتى يكون أميناً لا يلزمه الضمان.

    1.   

    الأمر المترتب على من تعدى أو فرط في الوديعة

    قال رحمه الله تعالى: [إذا تلفت من بين ماله ولم يتعد ولم يفرط لم يضمن].

    يقول المصنف رحمه الله: إذا تلفت من بين ماله ولم يتعد ولم يفرط لم يضمن، وإذا شئت فقل بدل هذه العبارة: إن الوديعة أمانة، ويد المودَع عنده يد أمانة لا يضمن إلا إذا فرط أو تعدى؛ لأن إسقاط الضمان مع عدم التفريط والتعدي لا يكون إلا في يد الأمانة، وقد تكلمنا غير مرة في مسائل المعاملات على أن اليد تنقسم إلى يد ضمان ويد أمانة، يد الأمانة هي اليد التي لا نلزمها بالضمان إلا إذا تعدت أو فرطت، فلو حصل شيء سماوي مثل الصواعق والأعاصير فأتلفت وأحرقت هذا الشيء المودع دون أن تفرط ودون أن تتسبب في إحراقه فإنه لا ضمان عليك، هذه يد أمانة لا ضمان على الإنسان فيها إلا إذا تعدى أو فرط، وبناءً على ذلك تستطيع أن تختصر الجملة وتقول: إن الوديعة أمانة، ويد المودع عنده يد أمانة لا يضمن إلا إذا فرط أو تعدى.

    تقدم معنا مسألة التفريط فهناك أسباب لابد من وجودها وتوفرها إذا قصر الشخص في هذه الأسباب كلها أو بعضها وحصل الضرر فإنه يضمن.

    مثال قديم: لو قال شخص لآخر: خذ هذه الناقة وديعة عندك، فمن المعلوم أن الناقة إذا آوت فإنها تعقل؛ فإذا حل عقالها فهذا تفريط، وحينئذٍ يلزمه الضمان، ويخرج عن كون يده يد أمانة إلى كونه ضامناً، فلو فرت هذه الناقة لزمه ضمانها، لا نقول: إنه مودع عنده، وأنه مؤتمن ويده يد أمانة، نقول: يده يد أمانة ما لم يفرط.

    مثال آخر في زماننا: لو قال له: خذ هذه السيارة واجعلها عندك وديعة لا أسمح لك بركوبها ولا استخدامها، اجعلها عندك وديعة واحفظها في داخل الحوش، فأوقفها خارج الحوش، ثم حصل حريق فاحتقرت السيارة، نقول: عليه الضمان لأنه فرط؛ فقد أمره أن يضعها في حرز معين فلم يضعها في ذلك الحرز فيضمن.

    قال له: هذا مبلغ عشرة آلاف ريال احفظه عندك، أخذ المبلغ منه فوضعه على مكتبه دون أن يحفظه ثم ذهب، ثم جاء سارق وسرق المبلغ، فمن المعلوم أن العشرة آلاف لا توضع على المكتب، وإنما توضع في الأدراج وتحفظ وتصان، ولكنه لم يقم بصيانة المال، فهذا تفريط وإهمال، فالتفريط والإهمال يوجب الضمان على المودَع؛ فليس له أن يقول: يدي يد أمانة لا أضمن، ونقول: يدك يد أمانة بشرط أن لا تفرط، ولكنك فرطت في حقوق الناس، ولذلك يلزمك ضمان هذه الوديعة.

    والتعدي مجاوزة الحد، ويكون التعدي بتجاوز الحدود سواء كانت شرعية أو كانت عرفية، وهذه الحدود التي تعرف بالشرع أو بالعرف تصان بها الودائع، فإذا تجاوز المودع عنده هذا الحد، فحينئذٍ نقول: قد تعدى، أو تجاوز هذا الحد، ففي هذه الحالة يكون التعدي منه موجباً للضمان.

    مثال للتعدي فإذا قال له: خذ هذه السيارة وضعها عندك في المزرعة ولا تستعملها، فأخذها واستعملها فهذا تعدٍ؛ لأنه وضع له حداً وقال له: لا تستعملها. وإذا قال له: خذ هذه السيارة، آذن لك أن تستخدمها في ذهابك إلى المسجد ورجوعك، ولا آذن لك بغير ذلك، فخرج بها للنزهة والسفر، فهذا تعدٍ.

    إذا قال له: خذ هذه السيارة وديعة عندك، وآذن لك أن تستفيد منها بشرط أن لا تتجاوز السرعة بها عن مائة، فتعدى وتجاوز المائة والعشرين فلو حصل تلف أو حادث فإنه يضمن.

    إذاً: الوديعة لا تضمن إذا لم يتعد ولم يفرط، وسيذكر المؤلف رحمه الله صوراً جميلة هي تقارب السبعة أو الثمانية، وبعضهم يوصلها إلى التسعة، وهذه الصور كلها يخرج فيها المودَع عن كونه أميناً إلى كونه ضامناً، ولذلك المسائل في الوديعة غالبها يدور حول سؤال واحد: متى يكون المودَع ملزماً بالضمان ومتى يسقط عنه الضمان، متى نبقيه على الأصل فنقول: لا ضمان عليه، ومتى نخرجه عن هذا الأصل ونقول: ليست يده يد أمانة ويلزمه الضمان، وهذا الذي يبحثه العلماء رحمهم الله في مسائل الوديعة، ولما بحث أهل العلم رحمهم الله هذه المسائل بحثوها بالأمثلة، ويجعلون لكل سبب من أسباب الضمان ضابطاً، وربما في بعض الأحيان هذه الأسباب يدخل بعضها تحت بعض، يعني: التعدي والتفريط ممكن أن تعتبره أصلاً للجميع، فإما متعدٍ وإما مفرط، ولا يخرج عن كونه متعدياً أو مفرطاً كما سيأتي.

    1.   

    الإيداع يكون بالقول والفعل

    الوديعة عقد من العقود على أصح أقوال العلماء، بناءً على ذلك الوديعة يكون عقدها بالأقوال وبالأفعال، وقد تكون هناك أفعال معروفة تدل على الايداع، الوديعة تكون بالأقوال يقول له: خذ هذه السيارة وديعة عندك، فهذا صريح، أو يقول: خذ هذه السيارة واحفظها، وهذا ضمني، فعندنا لفظ صريح في الإيداع، ولفظ دال على الإيداع ضمناً مثل احفظها.. اتركها عندك.. أبقها عندك، وفي عرفنا نقول: خليها عندك، لكن هذا يدل على أنه يريد الوديعة.

    إذاً الوديعة تكون بالقول.

    وتكون بالأفعال كل عرف بحسبه، فإذا وجدت أفعال معينة تدل على أنه يريد الإيداع..

    مثلاً: شخص معروف أنه يحفظ ودائع الناس، فيعطيه شخص شيئاً محفوظاً، يعطيه صندوقاً، أو يعطيه كيساً مربوطاً ويكتب عليه اسمه، جرت العادة أنه يحفظ هذه الودائع بدون مقابل، فيأتي ويودعها عنده، قد لا يتكلم وإنما يأتي إليه مباشرة ويعطيه الصندوق، فيكتب البيانات الموجودة على الصندوق، مواصفات الصندوق ثم يكتب: ثلاثة أشهر أربعة أشهر دون أن يتكلم، حينئذٍ نعلم أنها وديعة.

    الطالب يريد أن يسافر إلى أهله جرت العادة أنه يجمع متاعه في سكنه الطلابي ونحوه، ويأتي ويغلف ما عنده ثم يضعها في مكان معد لهذه الأمور، نعرف أن هذه الأفعال دالة على الوديعة.

    فإما أن تكون معرفة الإيداع عن طريق الألفاظ صريحة كانت أو غير صريحة، وإما أن يكون الإيداع معروفاً بالأفعال، والأفعال تنزل منزلة الأقوال كما بينا في مسألة بيع المعاطاة.

    فالوديعة تقوم على الإيجاب والقبول، فإذا قال له: أودعتك هذه السيارة، فإنه يقول: قبلت، وفي زماننا يقول: لا يهمك، لا تشيل هم، لا يكون في بالك شيء، هذه كلها ألفاظ جرى العرف بها للدلالة على الرضا.

    1.   

    الوديعة عقد جائز لا لازم

    يرد السؤال: هل الوديعة تعتبر من العقود اللازمة التي لا يملك أحد الطرفين الرجوع عنها إلا برضا الطرفين معاً، أم هي عقد جائز؟

    تقدم معنا مسألة العقود الجائزة في أول البيوع، المسألة التي معنا الآن: لو جاء شخص ووضع سيارته عند شخص وقال له: هذه السيارة وديعة عندك شهراً، ثم جاء بعد يوم أو يومين وقال: أعطني سيارتي، هل تقول له: لا، أنت وضعتها وديعة عندي شهراً فلا تأخذها إلا بعد شهر؟ هذا معنى لزوم العقد.. فلا يملك أحد المتعاقدين الرجوع إلا إذا رضي الآخر، مثل البيع إذا تم بين الطرفين لم يملك أحدهما الرجوع إلا إذا رضي الطرف الثاني، فهل الوديعة لازمة أو جائزة؟

    الوديعة من العقود الجائزة من الطرفين، أي: سواء رجع صاحب الوديعة أو رجع الشخص الذي تكفل بالوديعة.

    فلو جاء شخص وقال لك: خذ هذه السيارة وضعها عندك وديعة شهراً، فقلت: قبلت، ثم بعد ساعة طرأ لك ظرف فقلت له: لا أستطيع.. خذ السيارة، ورددتها فإن من حقك ذلك، أي: أنك لست بملزم في عقد الوديعة.

    إذاً: عقد الوديعة ليس بلازم، وإنما هو من العقود الجائزة للطرفين للمودِع والمودَع، لا يلزم أحدهما به، إنما يلزم بمضمون الوديعة يلزم المودَع بأن يقوم بالوديعة بحقوقها وواجباتها كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

    من أحكام الوديعة وجوب الحفظ والرعاية والصيانة على المودَع، فيقوم بحفظ مال أخيه المسلم ورعايته على الوجه التام، ويترتب عليها أنه لا يضمن لأن يده يد أمانة، ومن أحكام المودَع أنه يجب عليه رد الوديعة إلى صاحبها ودفعها إليه متى طلبها.

    1.   

    المعتبر في الحرز الذي توضع فيه الوديعة

    قال المصنف رحمه الله: [ويلزمه حفظها في حرز مثلها].

    (ويلزمه) أي: المودَع (حفظها) أي: حفظ الوديعة، (في حرز) الحرز دائماً يكون صيانة ووقاية للشيء، فالحرز واق بإذن الله عز وجل للأشياء، مثلاً: السيارات لها حرز، الدواب لها حرز، الأموال لها حرز، كل شيء له حرز، حرز الأموال في الصناديق المقفلة والخزانات الحديدية التي تحفظ المال بإذن الله عز وجل، لكن لا يمكن أن نقول أن حرز الأموال أكياس الورق، ليس هناك أحد يضع عشرة آلاف في بيته في كيس ورق؛ لأن كيس الورق ليس بحرز للمال، ولا بحفظ للمال.

    كذلك يكون الحرز للدواب الزريبة؛ زريبة الإبل، زريبة الغنم، زريبة البقر، توضع هذه الحيوانات في زرائبها، وقس على هذه المسألة غيرها من المسائل.

    فيجب على المودَع أن يحفظ الوديعة في حرز مثلها، فلو أعطاه ذهباً، فحرز الذهب الخزانة من الحديد.

    فإذا وضع الذهب في صندوق حديد مقفل، واحتاط فوضعه في داخل الدار -إذ لابد أن يكون هناك وعاء يحفظ المال- وكان المكان الذي يوضع فيه الذهب أميناً، فجاء شخص واعتدى على البيت وسرق هذا الصندوق، فإنه في هذه الحالة لا يلزمه ضمان؛ لأنه وضع الذهب في حرز مثله الذي هو الصندوق المقفل، في مكان أمين في داخل البيت، لكن لو جاء ووضع الصندوق المقفل أمام الناس أمام داره، فلا شك أن هذا يعرضه للسرقة ويعرضه للأخذ، فهو وإن وضعه في وعائه لكنه لم يضعه في مكانه المأمون الذي يمكن أن يكون محفوظاً فيه.

    ولو أعطاه سيارة وقال له: خذ هذه السيارة وضعها عندك وديعة -والسيارات تحفظ في جراش مخصوص- فجاء ووضعها في جراش البيت وأقفل عليها الجراش، فلو حصل شيء أو ضرر أو احترق بيته واحترقت السيارة؛ وهي في جراش البيت بدون تفريط وبدون تعدٍ منه ولم يمكنه إخراجها فحينئذٍ لا ضمان عليه؛ لأنه حفظ السيارة في حرز مثلها، ولم يتعد ولم يفرط فلا ضمان عليه.

    إذاً: يجب على المودَع أن يحفظ الوديعة في حرز مثلها.

    بقي شيء: لو اختصم اثنان المودَع والمودِع الذي هو صاحب الوديعة، وقال له: فرطت إذ لم تحفظ وديعتي في حرز مثلها، قال المودَع: بل حفظت وديعتك ولا ضمان علي، واختصما عند القاضي، فماذا يفعل القاضي؟ يسأل أهل الخبرة عن هذا الشيء الذي كانت فيه الوديعة هل هو في حرز مثلها أم لا، هذه المسألة تتفرع على القاعدة المشهورة عند العلماء وهي إحدى القواعد الفقهية الخمس: العادة محكمة، وهي الرجوع إلى الأعراف في الأشياء سواء في قيم المتلفات، أو في حرز ونحو ذلك، يرجع إلى أهل الخبرة ويقال: هل حرز الذهب في مثل هذا؟ هل السيارات تحرز في مثل هذا؟ هل الكتب تحرز في مثل هذا؟ فإذا جرى العرف أن مثل هذه الأشياء التي وضعت فيها الوديعة حرز لمثلها فإنه لا ضمان عليه.

    1.   

    المترتب على إحراز الوديعة في غير المكان الذي عينه المودِع

    قال المصنف رحمه الله: [فإن عينه صاحبها فأحرزها بدونه ضمن].

    هناك قرابة تسعة أسباب سيذكرها المؤلف يخرج بها المودَع عن كونه أميناً إلى كونه ضامناً، وبعضهم يختصرها وبعضهم يفصل فيها، فهنا سيشرح بالتفصيل بالنسبة للحرز، يجب الضمان على المودَع إذا قصر في حفظ الوديعة، إذاً التقصير في حفظ الوديعة هو السبب الأول من أسباب كون المودَع ضامناً.

    التقصير في حفظ الوديعة يكون بعدم حفظها في حرز مثلها كما ذكرنا، ويكون التقصير أيضاً بمخالفة صاحب الوديعة فيما عينه.

    مثلاً لو قال له: هذا الكيلو من الذهب ضعه وديعة عندك، قال له: قبلت حفظه، قال: سآتي بعد شهر وآخذه منك، إذا قال له: خذ هذا الكيلو من الذهب وديعة عندك وسكت صاحب الوديعة فهنا نرجع إلى الأصل، ونحتكم إلى العرف هل وضعها في حرز مثلها عرفاً أو لا.

    إذا قال له: خذ هذا الكيلو من الذهب وضعه في صندوق الدكان -والرجل المودَع تاجر وعنده صناديق في الدكان وعنده صناديق في البيت- فقال له المودِع: ضعها في صندوق الدكان، فجاء ووضعها في صندوق الدكان فاحترق الدكان، فلا ضمان عليه؛ لأنه التزم بالتعيين الذي عينه له صاحب الوديعة، فأصبح صاحب الوديعة هو المسئول عن وديعته، لأنه قال: ضعها في صندوق الدكان، ففعل ورقع الاحتراق ولم يكن هناك تعدٍ من صاحب الدكان فإنه لا ضمان عليه.

    لو قال له: ضعها في صندوق الدكان فذهب ووضعها في صندوق البيت، أو ووضعها في خزنته في المزرعة أو خارج المدينة، فإنه بمجرد مخالفته لأمر صاحب الوديعة يلزمه الضمان، ولذلك ينبغي أن يتقيد بأمر صاحب الوديعة.

    قال المصنف رحمه الله: (فإن عينه صاحبها فأحرزها بدونه ضمن).

    فإن عينها يعني: عين الحرز، فأحرزه يعني: أحرز الشيء المراد حفظه والقيام عليه بدونه، يعني: في غير المكان الذي أمره به، لكن هذا الغير ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

    إما أن يكون مثل الحرز الذي طلب منه، وإما أن يكون أفضل منه، وإما أن يكون أدنى منه، فلو قال له: خذ هذه المائة ألف وضعها في صندوق من خشب، فذهب ووضعها في صندوق حديد، إذاً: عين صاحب الوديعة، فوضع المودَع الوديعة فيما هو أفضل مما عين، هذه صورة الأفضل أن يأمره أن يضعها في صندوق خشب فيضعها في حديد، يأمره أن يضعها في صندوق من حديد عنده في الدكان من نوع ضعيف وعنده صندوق في البيت من نوع جيد فيضعها في البيت؛ لأن فالبيت أستر وأضمن وأيضاً الحديد الذي فيه أجود، فهنا يكون أفضل وأجود من جهة المكان ومن جهة المحل الموضوعة فيه.

    كذلك يكون الحرز أدنى منه عكس ما سبق، كما لو أمره أن يضعها في صندوق من حديد فوضعها في صندوق من خشب، قال له: ضعها في البيت فوضعها في الدكان، فالخطر الذي في الدكان أشد منه في الخطر الموجود في البيت، ففي هذه الحالة يكون الحرز الذي اختاره أقل وأردأ.

    وقد يكون الحرز مثله ومساوياً كما لو كان الضرر الموجود في الدكان كالضرر الموجود في البيت، واحتمال الضياع الموجود في الدكان موجود في البيت بنسبة واحدة، والصندوق الذي وضعها في البيت مثل الصندوق الذي وضعها في الدكان، مثله نوعه ووضعه، فإذاً إما أن يحرزها فيما هو أضمن وأحفظ، وإما أن يكون حرزه دون ذلك، وإما أن يكون حرزه مساوياً لما أمره به.

    فإن كان طلب منه حرزاً معيناً فأحرزه في مثله أو أفضل منه فلا ضمان، قالوا: لأنه لما أحرز في مثله وافق قوله ولم يخالفه، وكان بذلك غير متعدٍ ولا مفرط؛ لأنه مثله لا فرق بينهما، تيسر له هذا المثل فوضعه فيه، لكن لو أحرز فيما دون ذلك حينئذٍ يكون مفرطاً ويلزمه الضمان.

    قال المصنف رحمه اللا: [وبمثله أو أفضل فلا].

    (وبمثله) بمثل ما أمر به ومساوياً له، (أو أفضل) يعني: أن الحرز أقوى حفظاً وأكثر صيانة، كما لو قال: ضعها في وعاء من زجاج فوضعها في الحديد، ووعاء الحديد أبلغ فهو لا شك أفضل.

    1.   

    قطع العلف عن الدابة المودعة دون إذن صاحبها

    قال المصنف رحمه الله: [وإن قطع العلف عن الدابة بغير قول صاحبها ضمن].

    هذا السبب الثاني: التضييع للوديعة، التضييع للوديعة يضيع أكلها، وعلاجها ودواءها، لو قال له: خذ هذا الفرس وديعة عندك، آخذه منك بعد شهر، أخذ الفرس فقطع عنه الطعام فمات الفرس، أو أصابه الهزال، أو لم يقطع عنه الطعام لكن كان طعامه رديئاً أو قليلاً فمرض الفرس، فإنه في هذه الحالة يضمن، لكن لو قال له صاحب الفرس: أطعمه كل يوم من نوع كذا وكذا من الطعام سواء كان فرساً أو فحلاً أو ناقة أو شاة، كما لو قال: أطعم شياهي من الشعير، أعطها كل يوم صاعين من شعير، ثم بعد ثلاثة أيام قال: أعطها صاعاً واحداً، فأنقص الطعام لكن بإذن صاحب الوديعة، إذا أذن له وقال له: أنقص الطعام، أو قال: اقطع عنها الطعام فإنه في هذه الحالة لا ضمان عليه، لكن السؤال: لو قال له: لا تطعم البهيمة، فهل من حقه أن يفعل ذلك؟

    الجواب: إذا قال له: لا تطعم البهيمة، يقول له: هذا محرم؛ لأنه تعذيب للحيوان وإفساد في الأرض، وهذا لا يأمر الله عز وجل به؛ لأن من الإفساد في الأرض إهلاك الدواب، لو كان يريد تذكيتها وذبحها فلا بأس، أما لو حبس عنها الطعام ماتت وصارت ميتة لا ينتفع بها، وهذا لا شك من إضاعة المال، وقد نهى الله عن إضاعة المال فهل نطيعه، فالجواب أن يقول له: إما أن تأخذ وديعتك أو تسمح لي بإطعامها، أما أن يطيعه في معصية الله، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

    1.   

    إذا عين المودِع جيب المودَع مكاناً للوديعة فتركها في كمه

    قال المصنف رحمه الله: [وإن عين جيبه فتركها في كمه أو يده ضمن، وعكسه بعكسه].

    هذا سبب ثالث يتعلق بالتعيين والمخالفة في التعيين، وبعض العلماء يجعل هذا السبب والسبب الأول الذي ذكرناه واحداً، لكن ذكر العلماء مسألة الكم والجيب؛ لأن الجيب أحفظ من الكم، لأنهم كانوا يضعون الأشياء بأكمامهم، فالكم ليس في الحرز كالجيب، فالجيب أحفظ وأصون، ولذلك يقولون: الكم قد تسقط منه الأشياء بخلاف الجيب فإنه يحفظ الأشياء أكثر، فلو أعطاه شيئاً وقال له: ضعفه في كمك، فوضعه في جيبه فالجيب أحرز، فحينئذٍ لا ضمان عليه ولو سرق، ولو قال له: ضعه في جيبك فوضعه في كمه وسرق أو سقط وتلف فإنه حينئذٍ يضمن لأنه خالف.

    إذا عين صاحب الوديعة مكاناً أو صفة وجب عليه أن يلتزم بذلك؛ لأنه صاحب المال وهو أدرى بماله وأدرى بطريقة الحفظ، فلا يجوز له أن يخالفه، فإذا خالفه ضمن، في بعض الأحيان قد يكون وضع الشيء في يده أحفظ منه في جيبه، مثلاً: يقول له: هذا الشيء ضعه في جيبك، فوضعه في يده، فالوضع في الجيب قد يكون مفضياً للهلاك أكثر من اليد، مثلاً: لو أعطاه بيض دجاج بيضة أو بيضتين، وقال له: ضعها في كيس، لو وضعها في جيبه ودخل في زحام فانكسرت، فوضعها في الجيب أخطر من وضعها في اليد؛ لأنه يمكنه أن يقيها من الكسر بيده، لكن لماذا العلماء اختاروا الكم؟ لأن أغلب الأشياء حفظها في الجيب أقوى من حفظها في اليد والكم، وعلى هذا فإنه لا يمتنع أن توجد بعض الأشياء التي يكون المخالفة فيها في اليد والجيب تكون من حق المودَع أن تكون في اليد أكثر من وضعها في الجيب.

    1.   

    نقل المودَع الوديعة إلى طرف ثالث

    قال المصنف رحمه الله: [وإن دفعها إلى من يحفظ ماله أو مال ربها لم يضمن].

    هنا سبب آخر نقل الوديعة من عنده إلى طرف ثالث، هو ينقله بنفسه إلى شخص ثالث عنهما، في هذه الحالة من حيث الأصل لا ينقل الوديعة، من حيث الأصل هو مطالب بحفظها، لكن قد تأتي ظروف وأحوال ينقل فيها الوديعة إلى الغير، ويكون ذلك أصون وأحفظ وأمكن لرعاية الوديعة، فإذا دفع الوديعة إلى شخص آخر وكان هذا الشخص يأتمنه على ماله، ومن عادته أن يضع عنده ماله، فإنه ينزل منزلته، فقه المسألة أن الشخص المودع إذا قال له: خذ سيارتي وديعة عندك معناه أنه نزله منزلة نفسه، ولذلك يصدق في قوله ويؤتمن؛ لأنه ليس هناك أحد يعطي سيارته أو ماله إلا لشخص ينزله منزلة نفسه، ومن هنا قالوا: المودَع أمين، فإذا أعطاه سيارته أو أعطاه أي شيء من أملاكه وقال له: ضعه عندك وديعة، فمعناه أنه نزله منزلة نفسه في حفظه وصيانته، فإذا نزله منزلة نفسه في حفظه، فإنه إذا قام هذا الشخص بنقل الوديعة إلى مكان هو يأمن بهذا ويحفظه لنفسه كان بمثابة المودِع نفسه؛ لأنه رضيه متسلطاً على ماله، ولذلك بعض العلماء يقول: تسليط الغير على حفظ المال، فتضمنت الوديعة التوكيل والتفويض، وبناءً على ذلك فهو إذا وكل غيره وفوض غيره وكان ذلك الغير يوكله على ماله هو بنفسه فقد رضي لأخيه ما رضي لنفسه، وحينئذٍ يكون مثل ما لو نقل الوديعة إلى حرز يماثل الحرز الذي أمره بوضعها فيه، فانتقلت من عنده إلى شخص مثل نفسه ونزله منزلة نفسه فلا ضمان عليه.

    أو إلى شخص من عادة صاحب الوديعة أنه يضع أمواله عنده ويودع عنده، فإذا نقل الوديعة إليه فلا ضمان عليه.

    قال المصنف رحمه الله: [وعكسه الأجنبي والحاكم، ولا يطالبان إن جهلا].

    وعكسه الأجنبي، يعني: شخص أجنبي، أجنبي هنا أصل المجانبة بمعنى البعد، مادة جنب تطلب بمعنى القرب وتطلق بمعنى البعد، تقول: فلان بجنبي يعني: قريب مني، وفلان مجانبني بمعنى: أنه مباعد ومبتعد عني، ومنه الجنابة لأنها تبعد الإنسان عن الصلاة والطواف بالبيت ودخول المسجد إذا تلبس بها، فهي من ألفاظ الأضداد، فمقصود العلماء بالأجنبي هو الطرف الثالث الذي يضع عنده المودَع الوديعة؛ فإذا قلت له: هذه السيارة وديعة عندك، هذا المنزل وديعة عندك، فأنت قد حددت الشخص الذي تكون عنده الوديعة، فإذا صرف الوديعة إلى طرف ثالث فهو أجنبي بالنسبة لكما كمتعاقدين أي أن كل واحد من الناس غيركما يعتبر أجنبياً؛ لأنه ليس داخلاً في العقد، فهو أجنبي بهذا المعنى، لكن إذا كان هذا الأجنبي تضع عنده مالك وتأتمنه على مالك، وتضع عنده الأشياء التي تهمك فأنت قد نزلت وديعة أخيك منزلة وديعتك ولا إشكال كما لو حفظتها عندك.

    فإن خرجت عن هذا المكان الذي هو أنت المودَع ومن يأتمنه صاحب الوديعة ومن تأتمنه أنت، صارت إلى أجنبي، فإنه يجب عليك الضمان بصرفها، وهذا من أسباب الضمان أن يصرفها لأجنبي.

    ومن هو الأجنبي؟

    الأجنبي هنا هو الذي لا تضع ودائعك عنده ولا يضع صاحب الوديعة، يعني: لا يؤتمن على وديعته لا من المودِع ولا من المودَع، ففي هذه الحالة يجب الضمان.

    قال رحمه الله: (وعكسه الأجنبي والحاكم) لو جاء ووضعها عند القاضي فإنه يضمن؛ لأنه لم يؤمر بوضعها عند أجنبي، والقاضي أجنبي، صحيح أن له ولاية عامة على أموال الناس، لكن بشرط ألا يكون هذا على سبيل حقوق الناس نفسها، فالوديعة حق لصاحبها يودعها إلى من يريد.

    القاضي أجنبي عن هذا، ولايته عامة على الأموال التي لا يعرف صاحبها، لكن الأموال التي عرف أصحابها والودائع التي يعرف أصحابها لا سلطان للقاضي عليها، فإذا أودعها عند القاضي فالقاضي منزل منزلة الأجنبي، وحينئذٍ يضمن.

    ولا يطالبان إن جهلا، لا يطالبان بضمانها إن جهلا، لو أن المودَع أعطى السيارة لأجنبي، فتلفت عند الأجنبي ولم يكن يأتمنه لا هو ولا المودع عنده، فإنها إذا تلفت وجب الضمان على المودَع، والأجنبي إن فرط وحصل منه تعدٍ أقام المودَع دعوى ضد هذا المفرط وطالبه بالضمان، لكن لو تلفت بآفة سماوية كالمزرعة تحترق أو يأتي سيل ويجرفها فإنه يجب على الأجنبي أن يضمنها للمودَع، وعلى المودَع أن يضمنها لرب الوديعة وصاحبها، هذا إذا علم، أما إذا لم يعلم الأجنبي أو الحاكم وتلفت بآفة سماوية فإنه لا ضمان عليه؛ لأنها في حكم الوديعة؛ لأنه يظن أنها ماله، فلما استودعه قبل الأجنبي هذه الوديعة، على أنها مال للمودَع، فعنده شبهة تسقط عنه الضمان، من الذي يضمن الآن؟ المودَع.

    صورة المسألة: عندك سيارة أعطيتها لزيد، وقلت: يا زيد! خذ هذه السيارة وديعة عندك، فأخذ زيد السيارة وذهب بها إلى شخص لا يودع عنده ولا تودع أنت عنده؛ فهو أجنبي، فأخذ الشخص هذه السيارة وأوقفها في بيته ولم يتعد ولم يفرط، فالشخص الأجنبي حين قبل من زيد سيارته قبلها على أي أساس؟ على أنها وديعة، فعنده شبهة أنه مؤتمن، وإلا ما كان يدخل نفسه في شيء يوجب الضمان عليه، فلما قبل وهو يظن أنه يملك السيارة وأدخلها في حرز مثلها وجاءت صاعقة فأحرقتها أو جاء سارق وسرقها نقول: هذا الشخص الأجنبي الذي يجهل أنها وديعة عندك وقبلها على أنها وديعة لا ضمان عليه لأنه لا يعلم، لكن إن علم أن هذه السيارة لصاحبها الفلاني، وأن المودَع تعدى وأعطاه إياها فإنه يضمن، هذا معنى قوله: إن جهلا، فإن علم الحاكم والأجنبي أنه صرف الوديعة عن محلها ضمن، ويكون ضمانهما للمودع، والمودَع يضمن لصاحب الوديعة، لكن إذا جهلا يكون الضمان فقط على المودَع، ولا يضمن الحاكم ولا الأجنبي.

    1.   

    حال الوديعة عند سفر المودَع

    قال المصنف رحمه الله: [ فإن غاب حملها معه إن كان أحرز، وإلا أودعها ثقة ].

    شرع المصنف رحمه الله في بيان موجب من موجبات الضمان في الوديعة، فإذا أعطى إنسان إنساناً وديعة فلا يخلو من قسمين:

    القسم الأول له حالتان: الحالة الأولى: أن يأذن له بالسفر بها إذا أراد أن يسافر.

    الحالة الثانية: أن يلزمه بأخذها معه إذا سافر.

    والقسم الثاني: أن يسكت.

    فإذا ألزمه بأخذها معه، فإنه حيئنذ يجب عليه أخذ الوديعة إذا أمره، ويكون مخيراً إذا خيره. فإن قال له -وهذه الحالة الأولى، وهي حالة الإذن-: إذا سافرت فإن شئت فخذها معك، وإن شئت فأبقها فيكون حينئذٍ مخيراً. كرجل أعطى رجلاً ساعة ثمينة وقال له: هذه الساعة وديعة عندك، وكان طالباً يدرس في مكان ففي مدة الدراسة يجلس في سكنه ثم يسافر في العطل، فقال له: إذا سافرت في العطلة؛ فإن شئت أخذتها وإن شئت حفظتها في درجك أو في مسكنك. في هذه الحالة خيره بين الأمرين؛ فإن سافر بها فلا ضمان عليه، وإن أبقاها في درجه فلا ضمان عليه؛ فهو مخير بين الأمرين؛ لأنه التزم ما أمره به صاحب الوديعة.

    الحالة الثانية : أن يلزمه بأخذها معه إذا سافر فيقول له : هذه الساعة وديعة عندك، ولكن إذا سافرت فخذها معك، هذه السيارة أمانة ووديعة عندك فإذا سافرت فلا تبقها، وسافر بها، ففي هذه الحالة لا يجوز له أن يتركها، فإذا تركها وحصل شيء ضمن، وإذا سافر بالسيارة وحصل عليها ضرر بحيث لم يتعد ولم يفرط فلا ضمان عليه، لأنه التزم ما أمره به صاحب الوديعة.

    هناك حالة أخرى تقتضيها القسمة العقلية تلتحق بهذا القسم: وهي أن ينهاه عن إخراجها، فيقول له: إذا سافرت فلا تأخذها.

    إذاً إما أن يأمره صاحب الوديعة بأخذ الوديعة معه إذا سافر، أو يأمره بإبقائها إذا سافر، أو يخيره بين الأمرين، فإن أمره بالإبقاء أو بالأخذ وخالف ضمن، وإن خيره فلا ضمان عليه، سواء أبقاها أو أخذها، ففي هذه الصور الثلاث تكلم صاحب الوديعة، وأمر، أو نهى، أو أذن، كل هذا نعتبره موجباً للضمان في حال المخالفة، ولا يوجب الضمان إذا لم يخالف المودِع.

    وإذا سكت صاحب الوديعة ؛ يقول المصنف رحمه الله تعالى: [فإن غاب حملها معه إن كان أحرز، وإلا أودعها ثقة].

    إذاً في حال سفر المودَع إذا سكت صاحب الوديعة-وهذا هو القسم الثاني إذا سكت صاحب الوديعة فلم يأمره ولم ينهاه ولم يأذن له، في هذه الحالة نقول : ما هو الأصلح والأفضل لهذه الودائع؟ هل بقاؤها في السكن، أو بقاؤها في الخزائن، أو بقاؤها عند ثقة، والسفر بدونها أفضل وأكثر أماناً أو العكس؟ فحينئذٍ نحاسبه على حسب العرف؛ فإن كان السفر بها يوجب حفظها أكثر ويمنع من ضياعها وسرقتها، فحينئذٍ يجب عليه السفر بها، فإن لم يسافر بها فقد قصر فيلزمه الضمان، وأما إذا كان الأفضل أن يبقيها -لأن السفر فيه خطر عليه، وقد يتأخر تسليمها الى أصحابها كما لو كان من بلد بعيد ويصعب عليه ردها إلى أصحابها أو يتحمل أصحابها المشقة- فالذي يجب حينئذٍ أن يحفظ الوديعة عند الثقة الأمين .

    أما الدليل على كونه يعطي الوديعة أميناً وثقة، فلما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما أراد الهجرة، وأذن الله له بالهجرة من مكة إلى المدينة، قام بإعطاء الودائع لـأم أيمن رضي الله عنها وأرضاها حاضنته، وأمر علياً أن يرد هذه الودائع إلى أهلها، فلم يسافر صلى الله عليه وسلم بالودائع، وإنما تركها وأمر علياً رضي الله عنه أن يقوم بردها إلى أصحابها وأهلها. وبناءً على ذلك قال العلماء : من السنة إذا كان هناك الثقة والعدل الذي يرضى لحفظ الوديعة والغالب أنك إذا سافرت بها عرضت الوديعة الى الخطر، فإنك تحتاط في صيانتها فتعطيها إلى الثقة حتى تتمكن من القيام بما أوجب الله عليك. ولذلك قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58] . أمرنا بأداء الأمانات إلى أهلها، والأمر بالشيء أمر بلازمه، فلا تستطيع أن تؤديها إلا إذا حفظتها، فلما كان السفر بها يؤدي إلى ضياعها وعرقلتها عن أهلها ولربما يؤدي إلى سرقتها، فإنه يجب عليك أن تحتاط بإعطاء ثقة هذه الودائع ليردها إلى أهلها.

    1.   

    التصرف في الودائع والانتفاع بها

    قال المصنف رحمه الله: [ومن أُودع دابة فركبها لغير نفعها، أو ثوباً فلبسه، أو دراهم فأخرجها من محرز ثم ردها، أو رفع الختم ونحوه، أو خلطها بغير متميز فضاع الكل ضمن].

    (ومن أُودع دابة فركبها لغير نفعها): ومن أودع دابة فركبها لغير نفعها، هذه مسألة التصرف في الودائع بالركوب والانتفاع. مثل رحمه الله بالدابة : في القديم كان الرجل يعطي الرجل حصانه ويعطيه ناقته ونحو ذلك مما يركب من الدواب. فإذا قال له: خذ هذا البعير وديعة عندك وجب عليه أن يحفظه، وأن لا يتصرف فيه، لأنه مؤتمن، وأن لا يقوم باستغلال هذا الشيء الذي أودع عنده؛ لأن استغلاله بالعمل والحركة يضر بذلك الشيء.

    الدابة إذا ركبها الإنسان فإن هذا قد يضر بالدابة، وقد يعرضها للتلف، وقد يعرضها للعطب، وقد يعرضها لحصول ضرر في جسدها، ولذلك ينبغي أن يحفظها وأن لا يتصرف بها.

    فشرع المصنف رحمه الله في بيان سبب من أسباب الضمان وهو التصرف في الودائع .

    إذا تصرف في الوديعة بركوبها كما مثل المصنف بالدابة، أو السيارة في زماننا، فإذا أعطاه سيارة وركبها بمجرد ركوبه للسيارة وإخراجها من حرزها يكون ضامناً، فلو حصل عطل في السيارة، أو ضرر حتى ولو لم يكن بيده يعني لم يكن بوسعه إنما كان بسبب سماوي، أو اعتدى عليه أحد أو سرق منها شيء ولم يعثر على سارقه، فإنه يضمن ذلك كله؛ لأن يده اعتدت بإخراج الوديعة.

    إذاً لا يجوز لمن وضعت عنده وديعة أن ينتفع بها بالركوب أو الاستخدام ما لم يأذن له صاحبها، فإذا قال له صاحبها: أذنت لك بركوب السيارة وجب عليه أن يتقيد بهذا الإذن، فإذا كان إذناً في داخل المدينة فيكون غير ضامن إذا ركبها داخل المدينة، وضامناً إذا ركبها خارج المدينة، إذا قال له: أذنت لك أن تركبها لقضاء مصلحة ما، فخرج عن هذه المصلحة إلى مصلحة ثانية وجب عليه الضمان.

    إذاً من أُودع دابة وفي زماننا السيارة؛ فلا يخلو صاحب الوديعة من حالتين : إما أن يأذن له بالتصرف فيها، وإما أن لا يأذن له فيمنعه من التصرف فيها بركوبها واستغلالها، فإن أذن له بركوبها واستغلالها والانتفاع بها لم يخل إذنه من حالتين : إما أن يكون مطلقاً، وإما أن يكون مقيداً.

    يقول له: هذه سيارتي وديعة عندك، وإذا شئت فاركبها في أي وقت وفي أي ساعة فقد أذنت لك، بمعنى أنه فوض إليه أن ينتفع ويرتزق بالمعروف، فلا يضمن في هذه الحالة إذا قيد أو أطلق إلا إذا اعتدى، فلو حمَّل السيارة حمولتها وفوق طاقتها فحينئذ يضمن، ولا نعتبر إذن صاحب الوديعة؛ لأن إذنه بالمعروف، وكونه يحمل السيارة فوق ما تحتمل خارج عن المعروف، فيجب عليه ضمانها.

    الحالة الثانية: أن لا يأذن له بركوبها، ولا يأذن له بالانتفاع، قال له : يا محمد! هذه سيارتي وديعة عندك، هذا مسجلي وديعة عندك، هذه ساعتي وديعة عندك، هذا قلمي وديعة عندك، فالواجب أن يحفظ الوديعة كما هي، فإن احتاج إلى إخراجها كالسيارة تركب، والدابة كما ذكر المصنف تركب، فيجوز له أن يركبها ويخرجها إذا كان في مصلحة الوديعة نفسها، مثلاً السيارات في زماننا إذا جلست وديعة عند الإنسان سنة، ربما تتضرر بطول الوقوف، ربما أخرجها بسبب انتقاله إلى بيت آخر أو إصلاح شيء فيها لازم، فهذا الإخراج إخراج بالمعروف لا ضمان عليه، لكن لو أخرجها لمصلحته هو، كأن يصل إلى مكان أو يوصل منقطعاً، فإنه يجب عليه الضمان.

    إذاً الضابط عندنا أن الوديعة من حيث الأصل لا يتصرف فيها الإنسان إلا بإذن صاحبها -الذي هو المودِع- فإن خرج عن حدود هذا الإذن، أو تصرف تصرفاً خارجاً عن المعروف وجب عليه الضمان، وبناءً على ذلك لا يضمن إذا أبقاها، ولا يضمن في حدود ما أذن له، ولا يضمن إذا كان تصرفه بالمعروف. هذا كله متعلق بمسألة التصرف في الودائع.

    الآن الأدوات الكهربائية الموجودة في زماننا؛ كالغسالات، والثلاجات، والمكيفات؛ لو أن شخصاً أعطى شخصاً مكيفاً وديعة، أو أعطاه ثلاجة وديعة، وجب عليه أن يحفظها، وعدم تحريكها وتشغيلها؛ لأنه لا مصلحة له في تشغيلها، فإذا جاء صاحبه ولو بعد عشرات السنين يعطيه إياها كما هي، لكن هناك أشياء لابد من استصلاحها ولابد من تحريكها حتى يكون ذلك أرفق وأحفظ بها، فهو لما أذن له بحفظها من حفظها أن يغير زيتها، من حفظها أن يتفقدها عند الحاجة. إذاً الإذن بالشيء إذن بلازمه ومن لوازم الحفظ القيام بذلك، فلا ضمان عليه إذا تصرف في حدود المعروف.

    (أو ثوباً فلبسه) إذا قال له: خذ هذا الثوب وديعة عندك، فأخذه فالواجب عليه أن يحفظه وأن لا يلبسه وأن لا يعرضه للتلف، فإذا أخذه وحفظه وصانه حتى جاء صاحبه فدفعه إليه فلا إشكال أنه لا ضمان عليه، فلو أخذه وحفظه وجاء ضرر على الثوب من حريق أو نحوه دون تعدٍ أو تفريط، فلا ضمان عليه، لكن لو أنه لبس الثوب، فأثناء دخوله لمكان انشق الثوب، أثناء قفزه لحفرة انقطع الثوب مثلاً، فهذه كلها أضرار دخلت على الثوب بسبب اللبس، ففي هذه الحالة إذا كان لبس الثوب بالمعروف؛ بمعنى أنه خاف على الثوب الضرر فلبسه، كيف يخاف على الثوب الضرر؟ كالعثة مثلاً؛ لأن الثوب إذا ترك في مكان فيه عثة مدة تصيبه العثة فتؤثر عليه، فحينئذٍ لابد أن ينقله إلى مكان آخر ليس فيه عثة، افرض أن بيته كله فيه عثة وليس هناك أمين يضع عنده الثوب، فحينئذ يلبس الثوب أو يحمله معه إذا أمكنه الحمل دون ضرر.

    (أو دراهم فأخرجها من محرز ثم ردها) أو كانت الوديعة دراهم فأخرجها من محرز، هذه كلها أمثلة مثل بها المصنف رحمه الله، الدابة تخرج إلى الضمان بالركوب وفيها منفعة الركوب، الثوب فيه منفعة اللبس، الدراهم معروف منافعها، وقد يأخذها لمنفعته ويتزين بها ويتجمل بها، كما في الحلي ونحوه إذا كان من ذهب أو فضة.

    مسألة الدراهم ؛ إذا أعطى إنسان إنساناً دراهم، أو نقوداً ورقية، فالواجب عليه إذا أعطاه إياها وديعة أن يحفظ عين المُعطى، أن يحفظ عين الورق، ولا يتصرف في ذلك الورق ولا يستبدل به ورقاً آخر، فإن فعل ذلك وجب عليه الضمان. بل إن الفقهاء يعتبرون إخراجها من محرز فقط يعني لو أعطاه إياها داخل محفظة وقال له: خذ هذه المحفظة فيها خمسة آلاف ريال وديعة عندك، فأخرجها فقط ونظر فيها وجب عليه الضمان؛ لأن الوديعة تحفظ كما هي. إذا كانت هذه الخمسة آلاف الموجودة في المحفظة ردت بعينها، وردت داخل المحفظة، ومع ذلك وجب عليه الضمان بالإخراج فقط؛ لأنها أمانة، والشريعة تنظر إلى حقيقة الوديعة كوديعة، فما بالك إذا أخذ الخمسة آلاف واشترى بها وباع، أو أعطاها شخصاً آخر، ثم رد مثلها في العدد هل تكون وديعة؟ الجواب: لا.

    ومن هنا تتفرع مسائل الوديعة المصرفية الموجودة في زماننا، فالودائع المصرفية في زماننا، تنقسم إلى أقسام:

    هناك ودائع توضع لسحبها عند الحاجة، وهناك ودائع توضع كما هي وتؤخذ دون أن يتصرف البنك أو المصرف بأي تصرف تحفظ بعينها كما هي، ويمكن العميل من أخذ عين ماله وعين الشيء المودع دون أي تصرف للبنك.

    القسم الأول : يعرف في زماننا بالحساب الجاري، والحساب الجاري: أن يضع الشخص مبلغاً من المال في البنك تحت رقم معين، والتزام البنك أنه يمكنه من سحب المبلغ كله أو بعضه متى شاء وفي أي وقت، فلو جاء مثلاً بمليون ووضعها في البنك، وبعد دقيقة جاء وسحبها، مكنه البنك من سحبها، يلتزم بهذا، وأيضاً يلتزم البنك بإعطاء هذا المبلغ الذي وضع في الحساب الجاري للشخص نفسه ولغيره، وكالة بطرق معينة عن طريق الشيك، ونحو ذلك من الوثائق التي تثبت التوكيل بالسحب وأخذ المبلغ.

    بالنسبة لهذا النوع، وهو وضع المال في حساب معين، وسحبه عند الحاجة، لا تنبطق عليه أوصاف الودائع، لا من قريب ولا من بعيد، فليس هو في وديعة حقيقة، فتسميته وديعة مصرفية من ناحية العرف، وجريان هذا الاسم لا يمت إلى الحقيقة من جهة المصطلح الشرعي بصلة؛ لأن الوديعة تترك كما هي، ويؤخذ عين المال المودع. إذا ثبت هذا تفرع عليه أن المال إذا وضع يكون حكمه حكم القرض، بمعنى أنه بمجرد ما تضع مبلغاً في الحساب أصبحت مقرضاً للبنك ذلك المبلغ؛ لأنه لا ينطبق عليه وصف الوديعة، فليس بملتزم أن يرد لك عين المال، وليس بملتزم بحفظ المال، إنما التزم لك بمثل المال في أي وقت تشاؤه، إما أصالة أو نيابة بوكالة لشخص آخر.

    وقد تكلمنا على مسائل الوديعة المصرفية وفصلنا في أحكامها في دروس الربا والصرف، وبينا المشروع منها والممنوع وبينا المصطلحات الموجودة في زماننا، وحتى القوانين الوضعية توافق الشريعة الإسلامية في كون الوديعة المصرفية قرض وليست بوديعة، فتسيمتها وديعة ليس له حقيقة من جهة المصطلح الشرعي، وهذا أمر نحب أن ننبه عليه طالب العلم حتى لا يكون هناك اغترار بالاسم، وهنا ننبه على أنه ربما يكون هناك اختيار لبعض المصطلحات الشرعية من قبل عامة الناس وينخدع بها طالب العلم، وربما يظن أنها وديعة ويخضع لها أحكام الوديعة وهي ليست كذلك، وهذه هي فائدة التعريفات الاصطلاحية.

    فائدة وضع العلماء رحمة الله عليهم بالتعريف الاصطلاحي للمصطلحات الشرعية إنما هو معرفة ما تنطبق عليه حقيقة المصطلح الشرعي وما لا تنطبق عليه، حتى لا يصبح هناك تلاعب، وإلا ادعى كل إنسان ما شاء وألصقت المعاملات الشرعية بما ليس منها. لذلك لابد من تطبيق ضوابط الوديعة على الحساب الجاري، فلما طبقناها وجدناها أنها لا تنطبق على ذلك، يصبح حكمها حكم القرض، إذا أثبتنا أن حكمها حكم القرض يصبح أخذ أي فائدة سواء كان من العميل شرطاً أو عرفاً يعتبر موجباً للحكم بتحريمها، لأنها من الربا كما تقدم بيانه وتفصيله في دروس الربا والصرف.

    أما النوع الثاني من الودائع الموجودة في البنوك فهي الوديعة المستندية، وهذا النوع من الودائع يقوم العميل فيه باستئجار صندوق معين برقم يمكنه البنك من أخذ هذا المفتاح، وفتح هذا الصندوق، ووضع ما شاء فيه، وسحب ما شاء دون أن يكون هناك للبنك أي نظر للشيء المودع سواء كان مالاً، أو جواهر، أو مستندات، فهذا النوع لا شك أنه تنطبق عليه حقيقة الوديعة، هذا النوع الذي هو استئجار الصناديق البنكية لوضع الوثائق والمستندات ووضع الأموال، ووضع الجواهر، أو الأشياء النفيسة، لا شك أنه تنطبق عليه ضوابط الوديعة الشرعية.

    فهو توكيل في حفظ المال وما في حكم المال من محترمات كالصكوك والوثائق ونحوها، أيضاً هذا التوكيل اشتمل على رد عين الشيء الذي أودع دون أن يتصرف فيه المودَع بأي تصرف، ولذلك لا يشك أن ضابط الوديعة المستندية منطبق عليه، لكن يبقى السؤال من حيث دفع الأجرة عليه؟ الجواب: يجوز دفع الأجرة، مقابل استئجار في هذه الصناديق إذا لم يترتب على ذلك إعانة على المحرم، ويكون هذا الاستئجار استئجاراً شرعياً؛ لأن الشريعة أجازت الاستئجار لحفظ المال، ولذلك تستأجر الشخص لحفظ المزرعة، تستأجره لحفظ الدواب، ولا مانع في ذلك ولا حرج فيه.

    (أو رفع الختم ونحوه) يعني بمجرد ما يرفع الختم الموضوع على الوديعة ويتصرف فيها تنتقل يده من يد الأمانة إلى يد الضمان، ولذلك لا يتصرف في الوديعة بأي تصرف إلا في حدود ما هو مأذون به من التصرفات أو جرى العرف به لمصلحة الوديعة؛ فإذا رفع الختم أو فتح الحقائب -كما هو موجود في زماننا- ولعب بأرقامها وفتحها، أو كان يعرف الرقم الذي تفتح به ففتحها ضمن، أو فتح الصندوق حتى ولو لم يكن له أرقام فبمجرد فتحه فإنه يضمن؛ لأنه أعطيه مغلقاً فوجب أن يحفظه مغلقاً، فإذا فتحه دون وجود أمر من صاحبه فإنه يكون قد تعدى بذلك الفتح فيضمن، لربما يكون فيه وثائق، ولذلك الأشياء المقفلة في الشريعة لها حرمة، حتى سيارة الإنسان، ليس من حقه أن يفتحها إلا بإذنه؛ لأنه ربما يكون فيه حق من حقوقه وعورة من عوراته لا يأذن لأحد أن يطلع عليها، فلا يجوز فتحها سواء كانت حقائب مثل الأدراج التي في داخل السيارة، هذه لا يجوز لأحد أن يفتحها إلا إذا أذن له صاحب الدرج؛ لأن هذه الأشياء المغيبة تنطوي على عورات الناس، وحتى ولو لم يكن فيه شيء وفتحته، وقع في نفس الإنسان احتقار لصاحب الدرج؛ لأنه لابد أن يطلع على عوراته، لذلك لا ينبغي فتح هذه الأشياء المغلقة، ولا الاطلاع عليها إلا بإذن من أصحابها، ومن هنا لما قال رجل للإمام الحسن البصري رحمه الله رحمة واسعة -والقصة مشهورة-: يا إمام! عجز الزمان أن يأتي بمثلك- يعني لن نرى مثلك في العلم والصلاح، وكان رحمه الله آية في الصلاح والورع وتقوى الله عز وجل- فقال للقائل : مه -يزجره- أوتعلم على أي شيء أغلقت باب داري؟! ما تستطيع أن تزكي أحداً إلا إذا عرفت سره وظاهره، صحيح نحن كلفنا بالظاهر، لكن انظر إلى ورعه حينما زكاه التزكية العالية لما قال له : عجز الزمان أن يأتي بمثلك. فقال له: مه! أوتعلم على ماذا أغلق باب داري؟! أوتعلم ما الذي يحصل لو أغلقت باب داري؟! فكل من أغلق شيئاً فوراءه عورة من العورات، ووراءه سر من الأسرار، فلذلك لا يجوز الاعتداء على هذه الحرمات إلا بإذن شرعي، فإذا فوض الشخص بإذن شرعي أن يفتح هذا المغلق، أو أمر بذلك، فإنه لو كان مأموراً فلا يؤمر إلا ممن كان له صلاحية الأمر بفتح هذا الشيء؛ تقول له: أنا ما أفتح هذا الشيء إلا إذا أمرت به، وكان له حق الأمر عليك.

    فهذه كلها حقوق لا يجوز لأحد أن يكشفها ويفتحها؛ فالودائع إذا كان لها ختم، إذا كان لها قفل، إذا كان لها وصل معين توصل به وتغلق وأغلقت عليه وبداخله الودائع، لا يجوز لأحد أن يفتح هذه المغلقات ولا أن يكشفها، فإن فتحها بدون إذن صاحبها، أو أزال الختم الموجود عليها، فإنه يعتبر متعديا ويضمن.

    من أمثلتها في زماننا: الجوابات؛ لو أعطاه جواباً مغلقاً، الظروف الموجودة في زماننا إذا أغلقها، أو ختمها بالشمع، ففتح الظرف، فإنه يعتبر ضامناً.

    (أو خلطها بغير متميز) أو خلط الوديعة بغير متميز، سبق أن تكلمنا على مسألة المتميز وغير المتميز، في مسائل الغصب، وبينا خلط الموصوف بما يتميز وبما لا يتميز، وفصلنا في هذه الضوابط كلها، فهنا يريد أن يقول المصنف رحمه الله.

    إذا خلط المودَع الوديعة بما لا يمكن معه تمييز الوديعة من غيرها، فإنه يكون ضامناً؛ لأنه تعدى، والسبب في هذا؛ لأن الوديعة ضاعت، فلم نستطع أن نعرف أين الوديعة؛ لأنها اختلطت بغيرها مما لا يمكن تمييزها عنه، فهذا نوع من التعدي، فلذلك لايجوز خلط الودائع بما لا يمكن تمييزها. من أمثلتها في الدواب: لو أعطاه شاة فأدخل شاة من بين شياهه، وشياهه تشبه هذه الشاة، فحينئذٍ تصبح غير متميزة، فيعتبر هذا تعدياً، لكن لو كانت الشاة التي أُمر بحفظها لها لون وهي أمانة ووديعة عنده وشياهه لها لون آخر وتتميز لا يعتبر تعدياً، وهكذا بالنسبة للقلم مع الأقلام، والساعة مع الساعات، والثوب مع الأثواب، والطعام مثلاً التمر، إذا خلط التمر بتمر من نوعه، وبوصفه من الجودة والرداءة، كل هذا تقدم بيانه، ثم حينئذ يفصل في أحكامه على التفصيل الذي تقدم في الغصب.

    (فضاع الكل ضمن) فضاع الكل، أو حصل ضرر بسببه ضمن.

    قاعدة: إذا قال العلماء: ضامن؛ فمعناه: في حال حصول الضرر، فلا يضمن إلا إذا حدث ضرر، فأنت مثلاً إذا أعطيت شخصاً ساعة وديعة، وتصرف فيها، ولكن ردها هي فلا ضمان عليه، إنما أساء بالتصرف، لكن يكون الضمان إذا حدث الضرر بهذه الوديعة، فإذا حدث الضرر فيها بتلف جزء منها، أو بتلفها كلها، وجب ضمان ذلك الضرر لصاحبه.

    1.   

    الأسئلة

    حكم من تأخر عن دفع الوديعة في الوقت المحدد فتلف

    السؤال: هل يضمن الشخص إذا حدد له المودِع وقتاً محدداً ثم انقضى هذا الوقت فتلفت العين بعد مضي الوقت بيوم أو يومين؟

    الجواب: نعم يضمن إذا حدد له وقتاً للدفع وحدد له الدفع إلى شخص معين فتأخر في الدفع عن الوقت المحدد تخرج يده من يد الأمانة إلى يد الضمان، لكن بشرط أن لا يوجد عذر للتأخير، فإن وجد عذر للتأخير فإنه حينئذٍ لا ضمان عليه.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755987803