إسلام ويب

سلسلة القطوف الدانية - الجنةللشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الجنة هي دار الكرامة وثواب المؤمنين، وقد كثرت النصوص من القرآن والسنة في الترغيب بالجنة والدعوة إليها والحث على الإيمان والعمل الصالح للوصول إليها، حتى صارت غاية عظمى يبتغيها المؤمنون.

    1.   

    معنى الجنة وفضلها

    ماهية الجنة

    المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مشاهدي الأعزاء: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أهلاً ومرحباً بكم.

    حديثنا في هذه الليلة سيكون عن أمر عظيم من أجله أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، وبعث الأنبياء، ووعظ الواعظون، ونصح الناصحون.

    حديثنا عن أمر نفيس لا يحيد عنه إلا كل تعيس، عن نور يتلألأ وريحانة تهتز وقصر مشيد ونهر مطرد، وفاكهة نضيدة، وزوجة حسناء جملية، وحلل كثيرة في مقام عنه في خضرة ونعمة في دور عالية بهية تتراءى لأهلها كما يتراءى الكوكب الدري الغائر في الأفق.

    قصورها عالية وأنهارها جارية وقطوفها دانية، أودعها الخالق ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وجلاها لعباده الصالحين حتى عاينوها بعين البصيرة التي هي أنفذ من عين البصر، وبشرهم بما أعد لهم فيها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فهي خير البُشر على لسان خير البشر، شمر لها المشمرون، وتنافس لأجلها المتنافسون، وتسابق إليها المتسابقون.

    الجنة هي موضوع حلقتنا هذه من برنامجكم (القطوف الدانية).

    أسعد كثيراً باستضافة ضيفنا الدائم في هذه الحلقة فضيلة الشيخ: صالح بن عواد المغامسي عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين بالمدينة النبوية، نرحب بكم شيخ صالح وحياكم الله.

    وكما تعلمون حفظكم الله أن هذا الموضوع طويل وقد لا يحصره وقت حلقتنا، ونريد أن نركز حديثنا عن الأشياء التي يستفيد الناس كثيراً من طرحها، لكن قبل أن أدخل في هذه المحاور أترك لكم المجال لافتتاح الحلقة ولإعطاء تصور واف وشاف بإذن الله عن الجنة.

    الشيخ: بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن والاه.

    أما بعد:

    الجنة والنار في مذهب أهل السنة مخلوقتان الآن، لا تفنيان أبداً، هذا ظاهر كلام ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو الحق الذي ندين به.

    والجنة: دار أعدها الله جل وعلا ثواباً لأهل طاعته وكرامة لأوليائه وخاصته، من يدخلها ينعم فلا يبأس، ويخلد فلا يموت، أهلها لا يفنى شبابهم، ولا تبلى ثيابهم، جعلها الله جل وعلا مستقراً لرحمته كما جعل النار مستقراً لغضبه، جعل لها تبارك وتعالى ثمانية أبواب ورد بذلك أحاديث صحاح، كما جعل للنار سبعة أبواب ونص على هذا القرآن: لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الحجر:44].

    والجنة دار هي بغية كل مؤمن، من أجلها ترك الصالحون مضاجعهم وصاموا هواجرهم، ومن أجلها يغدو المؤمن إلى الجمع والجماعات، من أجلها تطيع المرأة ربها، وتحصن فرجها، وتبر زوجها، من أجلها يبر الرجل والديه، ويقوم بالسعي مع جيرانه وأهله في الخير، كل ذلك لا يبتغى بعده إلا أن يدخلهم الله جل وعلا الجنة، والرب تبارك وتعالى لا تصفو الدنيا إلا بذكره، ولا تطيب الآخرة إلا بعفوه، ولا تطيب الجنة إلا برؤيته.

    هي الدار التي جعلها الله جل وعلا وعداً على ألسنة رسله، قال تبارك وتعالى على لسان عباده المؤمنين: رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ [آل عمران:194]، وقال جل وعلا: كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا [الفرقان:16].

    وهي أعظم دار، وأجل مبتغى، لم يجعل الله جل وعلا فيها من نقص أي مكان ولا مقام فهي الخير المحض، كما أن النار عياذاً بالله هي الشر المحض، أما في الدنيا فما غلب خيره على شره فهو خير، وما غلب شره على خيره فهو شر، نسأل الله أن يجعلنا من أهلها إنه ربي سميع مجيب.

    الجنة التي أخرج منها أبونا آدم

    المقدم: جاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يجمع الله تبارك وتعالى الناس فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة، فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا افتتح لنا الجنة، فيقول: هل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم، لست بصاحب ذلك) .

    نريد الكلام عن دخول أبينا آدم عليه السلام وخروجه من الجنة.

    الشيخ: آدم عليه السلام هو أبو البشر، وهذا الحديث يكون يوم القيامة، (وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم) ، فيردنا إلى الأول، وهو أن الله جل وعلا خلق آدم بيده في أحسن صورة، ولهذا فأهل الجنة يدخلون الجنة على هيئة أبيهم آدم، وخلق من آدم زوجه حواء على خلاف بين العلماء هل خلق حواء من آدم قبل دخوله الجنة أو بعد دخوله الجنة، فالذين قالوا: إن الله خلق حواء قبل أن يدخل آدم الجنة، أخذوها من قول الله تبارك وتعالى: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة:35].

    والذين قالوا: خلقت في الجنة قالوا: إن آدم أدخل الجنة لوحده فاستوحش فخلق الله منه زوجه حواء ، وأخذوا ذلك من عموم آيات الأعراف: لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف:189]، فقالوا: إن السكن لا يكون إلا بعد الوحشة.

    أباح الله جل وعلا لآدم ما في الجنة كلها: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى [طه:118-119]، فوسوس إليه الشيطان، فيبقى السؤال: كيف دخل الشيطان إلى الجنة؟ وهذا لا نعلم فيه نصاً صريحاً نجزم به، والغيب لا يتوصل له بعقل ولا بتجربة، لكن النقول التي بين أيدينا مما أخذ عن أهل الكتاب أو غيرهم: أن إبليس دخل الجنة في أنف الحية، وقيل في غير ذلك.

    فلما دخل إبليس الجنة وسوس إبليس إلى آدم وهو في الجنة ونتج عن تلك الوسوسة أن أقنعه أن يأكل من الشجرة التي حرمها الله جل وعلا على آدم، أخذ إبليس يلاطف أبانا: وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:21].

    قال الله: فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا [طه:121]، أي: فانكشفت عورتاهما، قال الله: وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [الأعراف:22]، يحاولان ستر العورة، هنا أخرج آدم من الجنة في يوم الجمعة كما خلق عليه السلام في يوم الجمعة، وهذا هو الذي جعل آدم يقول: (وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم

    لكن الذي عليه جمهور أهل السنة أن الجنة التي دخلها آدم هي جنة عدن التي وعد الله جل وعلا عباده إياها، والحديث الذي في مسلم : (وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم)، فلو كانت الجنة التي خرج منها آدم غير جنة عدن لما استقام هذا القول، لكن من الناس من يقول: إن الجنة التي أدخلها آدم ليست جنة عدن التي وعد الله جل وعلا عباده.

    قالوا: بدليل أن الله جل وعلا قال: وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ [البقرة:35] والجنة ليس فيها تكليف، وقالوا: من يدخلها يخلد وهذا مخرج من الجنة.

    فقيل لهم: إن الله قال: اهْبِطُوا [البقرة:36]، قالوا: هذا ليس دليلاً؛ لأن الله قال: اهْبِطُوا مِصْرًا [البقرة:61]، وهم لم ينزلوا من السماء، لكنهم قالوا: إن هذه الجنة إما في السماء الدنيا وإما على الأرض.

    المقصود أن أبانا آدم يقول يوم القيامة: (وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم) ، حتى يأتي الأمر إلى نبينا صلى الله عليه وسلم فيقول: (أنا لها)، ويقرع باب الجنة، فيقول له الخازن: من أنت؟ فيقول: (أنا محمد) ، فيقول: أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك، هذا ما تيسر من الكلام حول خلق أبينا آدم وجنة عدن التي أدخلها.

    ثقافات غير المسلمين عن الجنة

    المقدم: نريد أن نخرج من الكلام عن الثقافة الإسلامية إلى ثقافة غير المسلمين واعتقادهم في خروج آدم من الجنة، ونجعل اليهود والنصارى نموذجاً.

    الشيخ: اليهود والنصارى يؤمنون بالجنة والنار، وقد نص القرآن على هذا: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:111]، واليهود يزعمون أنهم يدخلون الجنة إلا أنهم يعذبون في النار أربعين يوماً بحجة أنهم عبدوا العجل في تلك الفترة، قال الله جل وعلا عنهم: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:80]، وهم يقولون: إن هذه الأيام المعدودة أربعون وهي مدة عبادتهم للعجل، أما غير ذلك فهم في الجنة.

    أما قضية آدم في الثقافات الأخرى فالناس تؤمن بالأحداث التاريخية المتفق على أصلها كخروج آدم من الجنة، ولا أحد يعارض فيها من أهل الملل إلا الذين لا يؤمنون بالجنة أصلاً من الملاحدة، وهؤلاء قليل في التاريخ البشري.

    نعود إلى هذه الثقافات: مثلاً: هناك قصيدة لشاعر إنجليزي، وهذه القصيدة اسمها: الفردوس المفقود، يقصد: الجنة، ومعنى (مفقود) أنه فقد، فقد، وذلك أن النصارى يرون أن الله جل وعلا حكم عدل -وهذا حق- قالوا: ومن عدله جل وعلا أنه لن يترك الناس من دون عقوبة بسبب أن آدم أخطأ قالوا: فبعث ابنه عيسى حتى يحرر الناس من خطيئتهم، فمن آمن بعيسى على أنه ابن لله شمله عفو الله عن تلك الخطيئة، ومن لم يؤمن بعيسى على أنه ابن لله لا يشمله ذلك العفو. هذا دين النصارى في الأصل وهو محض كذب، قال الله جل وعلا: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا [مريم:89-90].

    يصور الشاعر في الفردوس المفقود أن هناك صراعاً بين الشيطان وعصبته من الجن وما بين الملائكة على الجنة، وأنه تدخل عيسى في القضية.

    والشعر الملحمي في العرف الأدبي وجميع الثقافات يعتمد على تخيل صراعات تقوم بين الملائكة وبين الشيطان، ويصور الشيطان في قوة شديدة حتى يجعل للحرب نوعاً من التوازن.

    هذه الثقافات في قضية الجنة والخروج منها تتسع للمسلمين وغير المسلمين، مثلاً: الفرزدق الشاعر الأموي المعروف، تزوج من امرأة ثم طلقها فندم على طلاقه إياها فقال:

    ندمت ندامة الكسعى لما غدت مني مطلقة نوار

    وكانت جنتي فخرجت منها كآدم حين أخرجه الضرار

    فهو يقول: إن فراقه لهذه الزوجة كفراق آدم للجنة باعتبار أن هذه جنته، طبعاً هذه المقاربة التي قالها الفرزدق يعني لا يصلح شرعاً.

    والآن يعرض فيلم في صالات السينما العالمية اسمه: جنة لان، حسب المنظور المسيحي لكنه من وجهه محدودة والذي أعلمه أن الكنيسة رافضة للفكرة أصلاً، وترى أنه صورها بصورة غير صحيحة.

    هناك رواية إلى الآن لم أقف على قراءتها لكنني وقفت على عنوانها لأحد المعاصرين السعوديين اسمها: رائحة الجنة، طبعاً نحن نرى أن الرواية في مجملها في فكرتها وفي ثنايها وقبل أن نذكر هذا قد يقول قائل: كيف حكمت عليها وأنت لم تقرأها؟

    فأقول: لكني علمت الفكرة العامة لها وسمعت بعض مفردات من أبوابها.

    إذا وجد من أخطأ في فهم السبيل إلى الجنة، فالذين هم قادرون على دحر ذلك الفهم الخاطئ هم العلماء الربانيون العالمون بالجنة، لكن إذا تدخلت ثقافات أخرى تجعل من الأخطاء التي تقع حولنا عقائد يكثر انحرافها وبعدها عن الصواب، ولا ينبغي أن تتخذ الجنة والغيبيات التي عظمها الشرع وشرائع الله عناوين لروايات أو لقصائد شعرية أو يراد بها مجاملة أحد أو رد على طائفة أو الانتقام من فئة، فإن دين الله أعظم من هذا.

    وشوقي يقول:

    وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي

    نحن قلنا مراراً من هذا المنبر وغيره: إن حب الوطن لا يتنافى مع الإيمان، بل إن الله قدم الوطن على الأهل والأبناء، لكن قول شوقي هذا باطل، ولذلك فالاستشهاد به من مدرسي الأدب أو الثقافة أو حتى الذين يكتبون عن الأوطان خطأ جداً، فالجنة لا يمكن أن تقارن بأي وطن، ومن يدخل الجنة لا يحن إلى شيء من الدنيا، هذه بعض المقاربات الثقافية في الجنة.

    العمل الصالح سبب لدخول الجنة لا ثمن لها

    المقدم: ورد في سورة الأعراف قوله تعالى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف:43]، بينما ورد في الحديث: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته)، فكيف نجمع بين الآية والحديث؟

    الشيخ: هذا الآن نحن أمام نفي وإثبات، فالآية مثبته أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف:43] أي: بالعمل، والحديث نفي: (لن يدخل أحد الجنة بعمله).

    ونحن متفقون على أن هناك نفياً وهناك إثباتاً لكننا نقول: إن المنفي غير المثبت، فالباء المثبتة باء السببية، والباء المنفية باء العوض، ومعنى العوض أنك عندما تسأل من اشترى ثوباً: بكم اشتريته؟ يقول مثلاً: بريالين. فالريالان عوض وثمن لهذا الثوب.

    فالبائع أخذ الريالين وأنت أخذت الثوب عوضاً، لكن الجنة ليست عوضاً عن أعمالنا، وهنا هو معنى الحديث، فأعمال بني آدم وعمل النبي صلى الله عليه وسلم ليست عوضاً عن الجنة، لأن الجنة أكبر من أعمالهم هذا المنفي.

    والمثبت هو السبب: أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف:43]، أي: بسبب أعمالكم لا على أن الجنة عوض عن أعمالكم، لكنها سبب، ولا شك أن الأعمال الصالحة سبب في دخول الجنة، وإلا لدخلها كل الخلق، لكن كيف التمييز؟ بالسبب، والمنفي أن تكون الجنة عوضاً عن العمل أو العمل مقابل الجنة، فالآية أثبتت شيئاً والحديث نفى شيئاً آخر.

    وقد قال بعض الصالحين: إن المؤمن يحرم على النار بعفو الله ويدخل الجنة برحمة الله، ويرث غيره في الجنة بعمله.

    معنى حديث (أعددت لعبادي الصالحين)

    المقدم: ورد في الحديث القدسي: (قال الله عز وجل: أعددت للمؤمنين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، فكيف يمكن أن نقرب المعنى الوارد في هذا الحديث؟

    الشيخ: لقد ورد في القرآن قوله: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:16-17]، وورد في الحديث ما ذكر في السؤال.

    ونحن نقول: الأعمال التي يصنعها العبد ثلاثة:

    الأول: عمل قلبي: فأنت أيها المؤمن تحب الله، هذا شيء في قلبك لا يعلمه الناس.

    الثاني: عمل يسمع: كما لو كنت عند شخص وأسمعه يقول: سبحان الله، الحمد لله، ولا إله إلا الله، أو يقرأ القرآن.

    الثالث: عمل مرئي: أي شيء تراه، فمثلاً: دخلت المسجد فوجدت أحد إخوانك المسلمين يصلي أو صائم رأيته يفطر أمامك، فهذا عبادة مرئية.

    فانظر إلى عظمة الرب جل جلاله، فأعمال القلوب يثيب عليها ما لا خطر على قلب بشر، والأعمال التي تسمع يثيب عليها ما لم تسمع أذن، والأعمال المرئية يثيب عليها ما لم تر عين.

    ولا يمكن أن تخرج الأعمال عن هذه الثلاث، وعلى هذا قال الله جل وعلا: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت) ، مقابل أعمالهم المرئية، (ولا أذن سمعت) ، مقابل أعمالهم المسموعة، (ولا خطر على قلب بشر) ، مقابل أعمالهم القلبية.

    إذاً نحن معشر المسلمين ينبغي أن نعلم أننا أمام رب عظيم جليل كريم، فلا يقصر أحدنا في عمل خوفاً من بخل المعطي، هذا محال، فنحن نتعامل مع أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، من لا تنفذ خزائنه، وليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

    معنى حديث (عينان لا تمسهما النار)

    السؤال: ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم: (عينان لا تمسهما النار، عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله) ، فهل يطلق على كل من بكى من خشية الله أنه لا يدخل النار، وجزاك الله خيراً؟

    الجواب: هذا الحديث صحيح: (عينان لا تمسهما النار، عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله) ، والأصل إمرار الحديث على ظاهره، فمن وفقه الله جل وعلا فبكى من خشية الله وأراد بذلك وجه الله تبارك وتعالى فإن الله جل وعلا قد حرمه على النار.

    مرافقة الرسول صلى الله عليه وسلم في الجنة

    المقدم: سائل يسأل عن مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة؟

    الشيخ: مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم من أسمى المطالب، ولهذا وعد النبي عليه الصلاة والسلام على بعض الأعمال الصالحة بجواره كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا) .

    و ربيعة بن كعب الأسلمي كما في الحديث الصحيح قال: (يا ربيعة سلني حاجتك؟ قال: يا رسول الله، أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أو غير ذلك يا ربيعة ؟ قال: هو ذاك يا رسول الله، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود).

    ونحن لم تكتحل أعيننا برؤيته صلوات الله وسلامه عليه؛ لكننا نرجو الله جل وعلا جواره عليه الصلاة والسلام، ولهذا ينبغي أن يكون هناك محبة له في أول الأمر، ثم يتبع ذلك اتباع لسنته، والتماس لهديه، واقتفاء لأثره عليه الصلاة والسلام.

    وهذا لا يزهد فيه مسلم، ولا يوجد عاقل يزهد في مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم.

    ويوجد حديث في المسند تكلم بعض أهل العلم في سنده، ومعنى الحديث: أن النبي عليه الصلاة والسلام يأتي الجنة فيجد امرأة على بابها تزاحمه في دخولها فيقول لها: من أنت؟ فتقول: أنا امرأة مات زوجي عن أطفال لي فرعيتهم، فالحديث من جملة فضائل الأعمال فيستأنس به ويؤخذ به، نسأل الله جل وعلا العون لكل أرملة.

    حديث إيقاد النار ألف عام ثم ألف عام ثم ألف عام

    المقدم: هل يصح حديث إيقاد النار ألف سنة ثم ألف سنة ثم ألف سنة؟

    الشيخ: حديث إيقاد النار حديث صحيح، وهو أنه: (أوقد عليها ألف عام حتى ابيضت، ثم ألف حتى احمرت، ثم ألف عام حتى اسودت فهي سواد كالجحيم)، والمقصود أن الله أرادها بهذه الكيفية حتى تكون عظيمة الأمر، وهذا لحكمة أرادها الله وهي تخويف العباد، والنبي صلى الله عليه وسلم نقل ما وقع، والله جل وعلا يقول: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ [الزمر:16]، وقد خلق الله جل وعلا السموات والأرض في ستة أيام مع أنه تبارك وتعالى قادر على أن يخلقها في أقل من ذلك؛ لكن قال العلماء: المراد تعليم عباده.

    ونحن نقول: سواء علمنا الحكمة أو جهلناها فليس لها علاقة بقدرة الله هنا، فالله جل وعلا لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهذه من اليقينيات التي لا يختلف عليها اثنان من المسلمين.

    1.   

    دخول الجنة والنار والخروج منهما

    معنى الاستثناء في آية هود

    المقدم: معلوم على القول الراجح أن الجنة باقية وأنها لا تفنى، لكن قد يشكل على البعض الآية التي يقول فيها عز من قائل: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108]؟

    الشيخ: هذه الآية في سورة هود، قال الله جل وعلا: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:105-108].

    اختلف العلماء في هذه الآية إلى ثمانية أقوال:

    فمنهم من قال: إن الاستثناء هنا للمدة التي كانت قبل أن يدخلوا الجنة.

    ومنهم من قال: إنها محمولة على عصاة المؤمنين الذين دخلوا الجنة متأخرين، يعني: كانوا قد لبثوا في النار فترة.

    لكن الحق الذي نعتقده أن المعنى المراد إظهار قدرة الله ومشيئته وأنه ليس هناك استثناء، ونظيره في القرآن: قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ [يونس:16]، فعلقها بالمشيئة لبيان القدرة، ونظيره في القرآن أيضاً قول الله جل وعلا في الإسراء: وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا [الإسراء:86]، وهذا أمر لم يقع وعلقه الله جل وعلا بالمشيئة حتى يظهر تبارك وتعالى قدرته وأنه جل وعلا رحمهم بالجنة لا عن ضعف، بل له القدرة الكاملة سبحانه هذا أفضل تخريج فيما أعلم لهذا النص.

    توجيه أحاديث الوعيد

    المقدم: معلوم أن من مات على الإسلام تكون نهايته في الجنة إن شاء الله؛ لكن وردت بعض الأحاديث أجزم أنها تحتاج إلى توجيه، منها حديث: (لا يدخل الجنة من كان في مثقال ذرة كبر)، (لا يدخل الجنة مدمن خمر)، (لا يدخل الجنة عاق)، فكيف نوجهها مع الأدلة الدالة على خروج المسلم العاصي من النار؟

    الشيخ: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة عاق)، وقوله: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، كما في الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهما من الأحاديث توجه بأنه يفهم منها أنهم لا يدخلون الجنة ابتداءً، فمن كان متلبساً بهذه المعاصي ومات متلبساً بها دون توبة ولم يعف الله جل وعلا عنه من غير توبة وحكم الله جل وعلا عليه بالنار؛ فإنه يدخل النار ثم يكون مآله إلى الجنة.

    فيحمل قوله صلوات الله وسلامه عليه: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، أن المقصود به: لا يدخل الجنة ابتداءً، و: (لا يدخل الجنة عاق)، أي: لا يدخلها ابتداءً لأول مرة، (لا يدخل الجنة مدمن خمر)، ولو مات على التوحيد فالمعنى: لا يدخلها ابتداءً. هذا أفضل ما قيل في تخريج هذه الأحاديث.

    معنى آية (هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابهاً)

    المقدم: من الآيات التي نحتاج إلى بيانكم لها قوله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا [البقرة:25].

    السؤال عن آخر الآية، وهو قوله: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ [البقرة:25]، ما المراد به؟

    ومعنى قوله تعالى: وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا [البقرة:25]؟

    الشيخ: الآية يأمر الله فيها نبيه أن يبشر المؤمنين بأن لهم جنات، ومن ضمن ما في الجنات فاكهة وأنعام وخيرات.

    قال الله جل وعلا عنهم: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا [البقرة:25]، أي: أهل الجنة، مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا [البقرة:25]، أي: أهل الجنة: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ [البقرة:25]، فبنيت اللام على الضم لانقطاع الإضافة، فأصبحت هذه الإضافة تحتاج إلى أن تقدر: من قبل ماذا؟

    فمنهم من قدرها بمعنى: من قبل أن يدخلوا الجنة، أي: في الدنيا، فيصبح المعنى: أنهم يرون ثماراً تشبه ثمار الدنيا، قال ابن عباس : ليس بينهما تشابه إلا في الأسماء.

    لكنني أقول: هذا بعيد، والذي نراه والعلم عند الله أن ظاهر الآية أنهم يرزقون ثمرة ثم بعد ذلك إذا رزقوا منها خلا مكانها فإذا خلا مكان هذه الثمرة جاء غيرها، فإذا لجئوا إلى غيرها بعد ذلك ليأكلوه فإنهم عندما يرونه أول مرة يحسبونه كالأول فيقولون: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ [البقرة:25]، أي: ما تغير شيء، لكنهم إذا طعموا وجدوه يختلف، ولهذا قال الله بعد: وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا [البقرة:25].

    الآن التشابه في الدنيا يعطيك خيارات لكن الخيارات في الدنيا لا بد أن يكون الترجيح بناءً على مقصد المرجح، يعني: إذا خيرت بين شيئين فاخترت أحدهما لم يدفعك إلى اختيار أحدهما إلا علو من وجه ما في الراجح، لكن الخيار الذي في الآخرة قال قتادة: خيار لا رذل فيه، يعني: لا يمكن أن يكون في أي منها نقص أو عيب.

    وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا [البقرة:25]، أي: في ظاهرها واحد لكنها مختلفة الطعم، وهذا مستمر؛ لأن الله يعبر بـ(كلا) وهي تدل على الاستمرار.

    أزواج النساء في الجنة وعدم وعدهن بالغلمان

    المقدم: إن الله عز وجل قال: وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ [الدخان:54]، والخطاب هنا كان للرجال، وبالنسبة للنساء لم يرد الخطاب لهن بمثل هذا.

    أيضاً: المرأة قد تكون تزوجت أكثر من رجل، وقد تكون ماتت قبل أن تتزوج، وقد يكون زوجها في النار، فما هو حال النساء بالنسبة للجنة إن شاء الله؟

    الشيخ: نقول: يجب أن يفهم أن الجنة دار كرامة فمن دخلها من رجل أو امرأة، جني أو إنسي، نبي أو غير نبي، فليعرف أنه سيكرم، فالمكرم في الجنة هو الله، والخوف بعد دخولها أمر منتف، والحزن كذلك: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ [الأعراف:49].

    عندما تقدم على مكان أو تشتري قصراً أو تبني فلة ومعك رهطك وأهلك تقول: أنا سأجلس في المجلس لكن أهلي أين سيجلسون؛ أين سيجلس الأبناء؟ من حقك أن تخشى وتخاف وتحقق؛ لأن الذي سيستضيفك مخلوق مثلك، لكن الجنة دار ضيافة رب العالمين جل جلاله، فعلى الرجال والنساء على السواء ألا يقع في قلوبهم خوف من نقص سيصيرون إليه، هذا محال، لأن الجنة هي الخير المحض، وهي دار كرامة ليس فيها من النقص شيء، وهذا مهم جداً في فهم القضية.

    ثم نقول بعد ذلك: الله جل وعلا وعد الرجال بالحور العين ولا نعلم أن الله جل وعلا وعد النساء بغلمان، قد يقول قائل: ما الفرق؟ فنقول: لأنه إذا دخل النساء الجنة فلن ترى المرأة حاجة أبداً إلى مثل هذا.

    أما بالنسبة إلى الأزواج فالجنة ليس فيها أعزب، هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم، أما الزوجات فهناك آثار ثلاثة فيهن انقطاع، بعضها رواها أبو علي الحراني في تاريخه، وبعضها رواها ابن عساكر في تاريخ دمشق، يقول الشيخ ناصر الدين الألباني رحمة الله تعالى عليه: إن الأحاديث بمجموعها يرتقي الحكم عليها بأنها حسنة، هذه الأحاديث تدل على أن المرأة إذا كان لها زوج صالح كتب الله له الجنة ومات قبلها ولم تتزوج بعده فإنها تكون زوجته في الجنة.

    ومن هذا قالوا: إن أسماء بنت أبي بكر كانت تحت الزبير بن العوام ، وقد كان شديداً عليها مع صلاحه وكونه أحد العشرة المبشرين، فذهبت إلى أبيها أبي بكر تشتكيه فقال: يا بنيتي اصبري فإن المرأة إذا كان لها زوج صالح ومات عنها كانت زوجته في الجنة.

    وقالوا: إن معاوية رضي الله تعالى عنه وأرضاه خطب أم الدرداء رضي الله عنها وأرضاها فامتنعت وقالت: إنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول نفس المعنى، أي: أنها إذا مات عنه ولم تتزوج بعده تكون زوجه في الجنة.

    ونقل عن حذيفة رضي الله تعالى عنه وأرضاه أنه قال ذلك لزوجته.

    لكن -كما قلت- هذه الأحاديث الثلاثة يوجد انقطاع في اثنين منها، أما حديث معاوية فليس فيه انقطاع، لكن فيه رجل غير معروف وهو العباس بن صالح ، لكنها بمجموعها ترتقي إلى درجة الحسن؛ وهي هنا أولى من الرأي وأولى من القياس؛ لكن أعود وأكرر: أن المرأة أو الرجل لا يمكن أن يهان في الجنة مثقال ذرة أو طرفة عين.

    1.   

    كيف دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجنة

    المقدم: بعد هذا التحليل لكثير من القضايا وكثير من هذه النصوص دعني أنتقل إلى محور مهم جداً، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أفضل الدعاة الذين دعوا إلى الجنة وقد دعا إليها بأمور مختلفة في قضايا متنوعة، أتمنى لو تشير إلى هذه القضايا!

    الشيخ: ما دعا إلى الجنة أحد أكرم من الأنبياء، وأكرم الأنبياء نبينا صلى الله عليه وسلم، بل إن الله بعث الرسل مبشرين بالجنة ومنذرين من النار، والجنة جعلها النبي عليه الصلاة والسلام حجر الزاوية في دعوته، فلنأخذ عدة أمور:

    الأمر الأول: الأعمال الصالحة: دعا النبي عليه الصلاة والسلام إلى الأعمال الصالحة ثم ربط هذه الأعمال بالجنة قال عليه الصلاة والسلام مثلاً: (من بنى لله بيتاً ولو مثل مفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة) وقال: (من صلى لله اثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتاً في الجنة).

    وقال: (من قرأ قل هو الله أحد عشر مرات في اليوم والليلة بنى الله له بيتاً في الجنة).

    فهذه أعمال ربطها النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة.

    إذاً أول معيار طرقه النبي عليه الصلاة والسلام في قضية الجنة أن جعلها مرداًً للأعمال الصالحة حتى يرغب الناس في العمل لدخول الجنة.

    الأمر الثاني: تعظيم الجنة وتحقير الدنيا: النبي صلى الله عليه وسلم يزهد الناس في الدنيا، وإذا زهدهم في الدنيا فلا بد أن يضع بديلاً فوضع البديل الجنة، وهذا أسلوب القرآن: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ [آل عمران:14-15]، أي: الذي مضى كله: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ [آل عمران:15]، فجعلها الله جل وعلا بدلاً عن الشهوات الدنيوية.

    أهدي له صلى الله عليه وسلم قطعة من حرير فجعل الصحابة يلمسونها ويتعجبون منها، فقال عليه الصلاة والسلام: (أوتعجبون من هذه، لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها)، إذاً: هنا ربط تحقير الدنيا بالمعيار الثاني وهو تعظيم الجنة.

    دخل عليه عمر وقد أثر الحصير في جنبه فكأنه رق لحاله صلى الله عليه وسلم وقال ما قال، فقال عليه الصلاة والسلام: (أوفي شك أنت يا ابن الخطاب ؟ أولئك أقوام عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا).

    يراهم يحملون الحجر فيقول عليه الصلاة والسلام: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة)، يذكرهم بالجنة وهذه هي الطريقة الصحيحة.

    الأمر الثالث: جعل النبي صلى الله عليه وسلم الجنة جزاء للصابرين، فإذا رأى أحداً ممن ابتلي بصرف النظر عن نوع الابتلاء علق أمله بالجنة حتى يكون الطمع في دخولها عوناً له على البلاء الذي هو فيه، فمر عليه الصلاة والسلام على آل ياسر وهم يعذبون في أوائل العهد المكي فقال عليه الصلاة والسلام: (صبراً آل ياسر) ، كلمة صبر وحدها لا تكفي، فقال بعدها: (فإن موعدكم الجنة)، فنزلت هذه الكلمة عليهم رضي الله عنهم وأرضاهم كالماء البارد، وفعلاً قتل ياسر وزوجته سمية والموعد الجنة كما أخبر صلى الله عليه وسلم.

    يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقول: ما لعبدي إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم صبر واحتسب جزاء إلا الجنة) ، فقبض الأصفياء -نسأل الله لنا ولكم العافية- أمر يحز في القلب ويورث الحسرة لكن النبي صلى الله عليه وسلم يعلق الأمر بالجنة حتى يكون هناك صبر ويكون هناك نوع من القدرة على تحمل ذلك الابتلاء، وهذا هو الأمر الرابع.

    الأمر الخامس: الأخلاق الحميدة ونشرها في المجتمع: وله طرائق عدة، مثلاً الجدال والمراء يقول عليه الصلاة والسلام: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً)، فلما أراد من الناس أن يتركوا كثرة القيل والقال ويبعدوا عن الجدال الذي لا نفع فيه ذكر صلوات الله وسلامه عليه أنه زعيم أو كفيل ببيت في الجنة لمن تركه.

    وقال: (أيها الناس! أطعموا الطعام وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)، فجعل عليه الصلاة والسلام من الجنة رمزاً وطريقاً ومحوراً للدعوة، وكل دعوته تصب في هذا الباب؛ لأنها أعظم العطايا وأجل السخايا كما بينا في أول اللقاء.

    1.   

    خلق الجنة والنار

    المقدم: من المسائل التي كثر فيها كلام أهل العلم من أهل السنة والجماعة ومن غيرهم مسألة: هل الجنة مخلوقة الآن أو أنها لم تخلق إلى الآن، فما هو الحق في ذلك؟

    الشيخ: قلنا في السابق: الجنة مخلوقة موجودة الآن، هذا ظاهر كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو الحق الذي لا محيد عنه، ومن زاغ عنه من أهل الفرق إنما كان ذلك بسبب تحكيمه للعقل والقياس وتركه للنصوص.

    ذكر عليه الصلاة والسلام في حديث المعراج: (أنه دخل الجنة فرأى أكثر أهلها المساكين)، واطلع صلى الله عليه وسلم على النار، وأخبر تبارك وتعالى في كتابه الكريم أن الجنة مفتحة الأبواب.

    وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا أقبل رمضان فتحت أبواب الجنة...).

    والحجر الذي سمعه عليه الصلاة والسلام وقال: (هذا ألقي في النار واستقر في قعرها).

    فهذه الآثار وغيرها مما لا يحصى جعلت أهل السنة يقولون: إن الجنة مخلوقة موجودة الآن.

    يقول عليه الصلاة والسلام لـبلال : (بم سبقتني إلى الجنة؟ فما دخلت الجنة إلا سمعت خشخشتك -أو دف نعليك- أمامي).

    1.   

    حال المؤمن في القبر ومنزلة الشهيد

    المؤمن في القبر يرى مقعده من الجنة، فرؤية المرء مقعده فضل من الله لا يمكن أن يتصوره عقل، فإن الإنسان يكون في مرقده في قبره والناس على الأرض يتشاجرون على أموالها وهو يرى مقعده من الجنة وفيه عطايا لا توصف لكنها لا تكون إلا لمن أخلص لله النية وسيأتي هذا.

    أما الشهيد فقد ثبت في الحديث أنه يلبس تاج الوقار، وأنه يغفر له مع أول قطرة من دمه، وأنه يشفع في سبعين من أهل بيته، والحديث لم يأت مقيداً بأنه يشفع للأقرب أو أنه يختار من أهل بيته من يريد، فما أبقاه الله أو رسوله صلى الله عليه وآله وسلم مطلقاً لا نستطيع نحن أن نقيده، وظاهر الأمر أنه مخير من باب إكرامه، والشهداء من أرفع الناس درجة.

    أما تزاور الأرواح في القبر فقد قال به بعض العلماء، وأكثر ابن القيم رحمة الله عليه في كتابه الروح وفي غيره من الأدلة على إثباته، ولا أستطيع أن أجزم به؛ لكن هذه حياة برزخ الله أعلم بكنهها، وقلت: هناك آثار لكنها ليست بتلك القوية لكنها في مجملها قابلة للأخذ بها.

    1.   

    الجمع بين أحاديث الوعد والوعيد في حق من عمل الطاعات والمعاصي

    السؤال: جاء في حديث نفي دخول الجنة لمن في قلبه مثقال ذرة من كبر، وفي حديث أن من حافظ على ثنتي عشرة ركعة بني له بيت في الجنة، فإذا كان الإنسان متكبراً وحافظ على الركعات، فما حاله؟

    الشيخ: تتضح الصورة كالتالي: لو فرضنا أن رجلاً يحافظ على اثنتي عشرة ركعة.

    وفي قلبه مثقال ذرة من كبر، فهذا لا يدخل الجنة ابتداء تطبيقاً لحديث: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) ، وفي نفس الوقت إذا أخرج من النار وأدخل الجنة يجد له بيتاً مبنياً في الجنة بسبب صلواته التي كان يصليها جمعاً بين الحديثين.

    ونحن لا نتكلم عن أحد بعينه، بل نتكلم عن نصوص كيف نجريها، أما فضل الله فواسع، والله جل وعلا منجز وعده لا محالة، أما وعيده فيقول: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].

    1.   

    حالة قلب المؤمن

    السؤال: نرجو توجيهاً للمغرقين في التفاؤل وحسن الظن بالله عز وجل، كما يقال: التقوى في القلوب وإن الله غفور رحيم؟

    الشيخ: المؤمن يكون قلبه بين الخوف والرجاء، فهما له مثل جناحي طائر ورأسه محبة الله.

    أحياناً يغلب جانب الرجاء وأحياناً جانب الخوف، فنحن نحسن الظن بالله ونرجو عفوه، وفي نفس الوقت لا نأمن مكر الله، فلا يوجد مؤمن تقي يعرف الله حقاً يأمن مكر الله: قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ * رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [المؤمنون:93-94]، وهذه من أعظم آيات التخويف في القرآن؛ لأنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لربه: إذا جاء أمرك وحكمت عليهم بالعذاب والسخط فنجني من العذاب ولا تجعلني مع القوم الظالمين، فما يقول من دونه.

    وفي نفس الوقت نحن نؤمل كثيراً برحمة ربنا جل وعلا ونرجو عفوه؛ لأنه جل وعلا الذي قال: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وقال: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186].

    1.   

    إفراد الجنة وجمعها في النصوص

    المقدم: ورد التعبير عن الجنة بصيغ مختلفة، فوردت بصيغة الإفراد وبصيغة التثنية وبصيغة الجمع، فقد يشكل على البعض هل هي جنة واحدة أو أنها جنان متعددة؟

    الشيخ: هي في الأصل جنة واحدة، الجنة في اللغة من (جنَّ) أي: خفي واستتر، فيقال للجن جن لأنهم لا يرون، ويقال للمخلوق في بطنه أمه جنين لأنه لا يرى، وقال الله: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ [الأنعام:76]، يعني: أظلم واستحالت الرؤية.

    فالجنة من حيث هي كيان عام واحدة، ثم في داخل الجنة جنان فمن الناس من له جنتان ومنهم من له أكثر من ذلك كما قال عليه الصلاة والسلام: (بل هي جنان) ، وقد قال الله: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]، ثم قال بعدها بآيات: وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ [الرحمن:62]، قال في الأولى: ذَوَاتَا أَفْنَانٍ [الرحمن:48]، وقال في الثانية: مُدْهَامَّتَانِ [الرحمن:64]، وقال: فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ [الرحمن:52]، وهناك حدد فقال: فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرحمن:68]، في الأوليين قال: فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ [الرحمن:50]، وقال فيما بعد: فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ [الرحمن:66].

    1.   

    العمل من أجل الجنة أو من أجل إرضاء الله

    المقدم: هل هناك فرق بين أن تعمل لدخول الجنة والخوف من النار وبين أن تعمل حباً وشوقاً وتحصيلاً لرضا الله عز وجل؟

    الشيخ: هذه متلازمة لا انفكاك بينها: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة:16]، فنحن نعمل برضوان الله الذي بسببه ندخل الجنة ونجار من النار، قال الله تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185].

    1.   

    تزاور أهل الجنة

    المقدم: سائل يقول: من هم الذين يدخلون الجنة بغير حساب؟

    ويتساءل يقول: هل يرى المرء أهله في الجنة، وكيف يكون ذلك إذا اختلفت منازلهم؟

    الشيخ: أما دخول الجنة بغير حساب فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن هؤلاء السبعين ألفاً يدخلونها على أعمال القلوب.

    أهل الجنة يتزاورون كما ثبت في ذلك الآثار، والله جل وعلا يقول: وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ [الرعد:23]، إلى غير ذلك من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الثابتة.

    والذي نريد أن نقوله: إن أهون أهل النار عذاباً يرى أنه أشد أهل النار، مع أن أقل أهل الجنة -وليس فيها قليل- يرى أنه أكثرهم عطاءً، والتزاور أثبته الله جل وعلا قال: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور:25-28].

    وقد ثبتت فيه آثار أخر، وحتى الأنبياء والمرسلون يزورهم من آمن بهم وأحبهم في الدنيا.

    1.   

    رفع الوالدين إلى منزلة الابن في الجنة

    المقدم: إن من نعم الله على أهل الجنة أن تلحق بهم ذريتهم الذين اتبعوهم بإيمان، فإذا كان الابن صالحاً وكانت درجته أعلى من درجة والديه في الجنة فهل يرفعان إليه؟

    الشيخ: نعم يرفعان إليه ويزورانه فيها.

    1.   

    أمة محمد صلى الله عليه وسلم أكثر أهل الجنة

    المقدم: ورد أن أكثر أهل الجنة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فنرجو منكم توضيح ذلك؟

    الشيخ: هذه الأمة من حيث الجملة أمة مرحومة، وفي الحديث: (وإني لأرجو الله أن تكونوا ربع أهل الجنة) ، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (إني لأرجو الله أن تكونوا ثلث أهل الجنة) ، ثم قال: (إني لأرجو الله أن تكونوا شطر أهل الجنة) فكبروا.

    نقول: هذه الأمة أمة مرحومة، فأمة محمد صلى الله عليه وسلم لهم باب خاص يدخلون منه وهم شركاء الناس فيما دون ذلك من الأبواب، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الصديق رضي الله عنه يدخل من هذه الأبواب كلها هذا ما يتعلق بالأمة.

    وأنا أقول: لا نحب في هذا اللقاء عن الجنة أن نعرج على المفردات، وإنما نتكلم عن الطرائق العامة، وستأتي الغاية من الدرس وهي معرفة السبيل إلى دخول الجنة.

    1.   

    الاسترقاء ومنعه من دخول الجنة بغير حساب

    المقدم: هنا السائل يقول: ورد في الحديث: (لا يسترقون) ، هل هم الذين لا يطلبون أن يقرأ عليهم أحد أم أنه غير ذلك، أوضح لنا هذا الأمر الذي أشكل علينا كثيراً، فإني أتحاشى هذا الأمر رغبة فيما عند الله؟

    الشيخ: أقول: هذا مشكل؛ لأنه ورد في الرواية الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم رقته عائشة ورقى نفسه وطلب لبعض أهل بيته الرقية، ورقاه جبريل، وقال: (استرقوا لها فإن بها النظرة)، واسترقى لأبناء جعفر بن أبي طالب .

    هذه تحصل في البيت النبوي وهي التي جعلت بعض العلماء يتحفظون على الزيادة الموجود فيها: (ولا يسترقون) وأنا أتوقف في المسألة ولا أستطيع أن أجزم بشيء.

    1.   

    منزلة قارئ القرآن في الجنة

    المقدم: جاء في الحديث أن قارئ القرآن يرقى في الجنة حسب ما لديه من القرآن، فما معنى ذلك؟

    الشيخ: الأعمال الصالحة لها دور كبير في قضية العلو في الجنة، وقارئ القرآن من أعظم أهل الجنة مكانة، بل أهل القرآن هم أهل الله جل وعلا وخاصته.

    والجنة درجات متفاوتة، ويقال كذلك: إن النار درجات ولكنها يقال لها (دركات).

    والجنة درجات متفاوتة، أكثر من مائة درجة، وبين الدرجتين مثل ما بين السماء والأرض، وهذه مبنية على العمل، ولقد قلنا مراراً: إن الناس يدخلون الجنة بفضل الله لكن منازلهم في الجنة مختلفة، فمنازل الأنبياء والمرسلين غير منازل غيرهم، وكل بحسب ما قدمه من عمل صالح.

    1.   

    أسباب دخول الجنة

    المقدم: ما هي أعظم الأسباب التي ممكن أن يدخل الإنسان بها الجنة؟

    الشيخ: الجنة جعلنا الله وإياكم من أهلها من أعظم الغايات وأجل العطايا وأصفى الهبات، الجنة دار وعدها الله جل وعلا عباده، قال ربنا تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا [الكهف:107-108].

    وقال عن أوليائه المتقين: الجَنَّة عَرَّفَهَا لَهُمْ [محمد:6].

    وأعظم سبيل إلى الجنة توحيد الرب تبارك وتعالى، وحظ الإنسان من ربه جل وعلا بقدر ما لله تبارك وتعالى من قدر في قلبه، قال الله جل وعلا ينعي على أهل الإشراك عدم معرفتهم بربهم: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [الأنعام:91].

    وقال جل ذكره: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67].

    الطريق إلى الجنة لا يمكن أن يمر بلا توحيد لله تبارك وتعالى، التوحيد أمر الله به الملائكة -وهم غير مكلفين- لكنهم جبلوا عليه.

    أمر الله به الجن والإنس: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].

    أمر الله به الأنبياء والرسل: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف:45].

    وقال الله جل وعلا في أكثر من آية يبين لخلقه وعباده أنه ما أرسل الرسل ولا أنزل الكتب ولا أقام الآيات والشواهد والبراهين إلا ليوحد تبارك وتعالى دون سواه ويدعى من دون غيره: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ [الأحقاف:5].

    فكلما حقق الإنسان توحيد الرب تبارك وتعالى على الوجه الأتم والنحو الأكمل كان حقاً على الله جل وعلا أن يدخله الجنة، قال معاذ : (قلت: يا رسول الله! ما حق الله على العباد؟ قال: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً)، فلما أخبرهما ما حق العباد على الله إن وحدوه قال: (أن يدخلهم الجنة).

    فالسبيل الأعظم من حيث الجملة توحيد الرب تبارك وتعالى، والإنسان لن يصل إلى طاعة ولن يفر من معصية إلا إذا كان عالماً بالرب جل جلاله.

    والعلم بأسماء الله وصفاته أسمائه الحسنى وقدرة الله تبارك وتعالى من أعظم ما يقرب العبد من ربه الله جل وعلا، فقد نثر الآيات وأقام البراهين وأبان الحجج حتى تدل على كماله جل وعلا وعلى وحدانيته وعلى أنه الخالق وحده دون سواه، وجعل للناس أبصاراً يرون بها هذه الآيات، يرى ذلك البر والفاجر، والمؤمن والكافر؛ لكن المؤمنين الصالحين القانتين الراغبين بما عند الله يرون هذه الآيات ببصيرتهم، فإذا رأوها ببصيرتهم دلتهم على الله: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:190-191].

    فإذا حشر العباد على أرض بيضاء نقيه لم يعص الله جل وعلا فيها طرفة عين وليس فيها ملك لأحد، جاء أولئك الذين رأوا تلك الآيات فدلتهم على ربهم تبارك وتعالى فأدخلوا الجنة، ثم يكرمهم الله برؤية وجهه الأكرم الذي هو أعظم الغايات، كما قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]، والزيادة: رؤية وجه الرب تبارك وتعالى.

    وفي حديث صهيب عند مسلم في الصحيح: (إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو ألم يثقل موازيننا، ألم يبيض وجوهنا، ألم يجرنا من النار، ألم يدخلنا الجنة؟ فيكشف الحجاب فيرون وجه ربهم تبارك وتعالى فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم هو أعظم ولا أجل من رؤية وجه الله تبارك وتعالى).

    والله جل وعلا حتى يربط العباد بهذه النعمة أظهر لهم ضعف المخلوقين أجمعين، فشج رأس نبينا صلى الله عليه وسلم حتى لا يتعلق به الأصحاب، وتكسف الشمس، ويخسف القمر، وتمور الأرض، وتكور الشمس، وتنسف الجبال، وتنشق السماء وتصبح كالمهل، كل ذلك حتى لا يبقى للناس تعلق بأحد إلا الله.

    ألا يرى المؤمن أن الله جل وعلا رزق إبراهيم ابنه إسماعيل على الكبر فتعلق قلب إبراهيم بإسماعيل، فلما أراد الله جل وعلا أن يخرج حب إسماعيل من قلب أبيه إبراهيم حتى لا يكون في قلب إبراهيم أحد إلا الله أمره الله جل وعلا بذبحه، فساق الأب ابنه إلى الموت فوضعه على الجبين حتى لا تلتقي العينان فيتغير العزم الذي فيهما، يقول الله: فَلَمَّا أَسْلَمَا [الصافات:103]، أي: إسماعيل وإبراهيم من قبل قلبهما لله ولم يبق في قلبهما أحد غير الله، قال الحق تبارك وتعالى: قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:105-17].

    يقول ربنا على لسان الخليل نفسه: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:87-89].

    يدخل الجنة ويفوز برؤية الله من سلم قلبه من الشرك وملئ بالتوحيد، من سلم قلبه من البدعة وملئ بالسنة، من سلم قلبه من الغل والحقد والحسد وملئ بالإيمان وحب الخير للناس؛ فهذا أعظم ما يدخل الناس الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة ينشر له تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مد البصر، فيقول الله له: يا عبدي أظلمك كتبتي الحافظون؟ أتنكر مما ترى شيئاً؟، يقول: لا يا رب، فيقول الله جل وعلا له: إن لك عندنا بطاقة، فيقول: يا ربي! وما تغني هذه البطاقة أمام هذه السجلات)، وفي البطاقة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، قال عليه الصلاة والسلام: (ووضعت البطاقة فرجحت فطاشت السجلات) ، ولا يثقل مع اسم الله شيء.

    هو دين رب العالمين وشرعه وهو القديم وسيد الأديان

    هو دين آدم والملائك قبله هو دين نوح صاحب الطوفان

    هو دين إبراهيم وابنيه معاً وبه نجا من لفحة النيران

    وبه فدى الله الذبيح من البلى لما فداه بأعظم القربان

    هو دين يحيى مع أبيه وأمه نعم الصبي وحبذا الشيخان

    وكمال دين الله شرع محمد صلى عليه منزل القرآن.

    المقصود: أن السبب الأعظم في دخول الجنة توحيد الله ومحبته وإجلاله وتعظيمه، والله جل وعلا ذم أهل الكفر بقوله: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ [الصافات:35]، فاستكبارهم عن هذه الكلمة: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]، كل ذلك رده الله تبارك وتعالى.

    1.   

    حدود الجد الذي تتبعه ذريته في الجنة

    السؤال: بالنسبة للآية الكريمة: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور:21]، فإذا كان أحد من الصحابة رضي الله عنهم داخل الجنة وتوجد ذريته الآن في هذا الزمان، فهل الذرية تتبع هذا الصحابي؟

    الجواب: الأصل الشرعي في الذرية الجد الخامس، هذا الذي يعلق به الذرية عموماً ولا يجزم به في هذه القضية، لكن مثلاً نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم من بني هاشم، فهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، إذا أخذنا بالذرية على إطلاقها فأبناء الصحابة اليوم يحلقون بهم، لكن الذي يتبادر من كلام الله وكلام رسوله أنهم لا يدخلون إلا إذا كانوا قريبين، أي: الجد الثالث أو الجد الخامس، والأفضل عندي أن نعتبر بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، وهو الجد الثالث.

    وحصره في الجد الخامس عليه أعمال الناس؛ لكن الشرع يدل على ربطه بالجد الثالث.

    1.   

    الحور العين لسن من نساء الدنيا

    المقدم: سائلة تسأل عن نساء الدنيا هل يصبحن حوراً أم ماذا؟

    الشيخ: هذا فيه خلط، فالحور العين لسن من نساء الدنيا، بل خلق ينشئه الله جل وعلا في الجنة، أما النساء المؤمنات في الدنيا اللاتي يدخلهن الله الجنة فلسن من الحور، بل الحور ينشئهن الله على سن آدم على هيئة حواء، يعني: بطول آدم.

    قال تعالى: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً [الواقعة:35].

    ومعنى (حور عين) (عين): جمع عيناء أي: واسعة العين، و(حور) جمع حوراء، وهي شديدة بياض العين شديدة سواد العين في نفس الوقت.

    والعرب: المتحببة المتغنجة لزوجها ونظيره قول جرير :

    ... فؤادك غير ...

    ... .......

    تقول ......... ... فؤادي من هواه

    ..... على رماحي عراباً لم ... مع النصاري ولم يأكلن ...

    فعراب: أي: متقربة إلى صاحبها على القول بأن هذا .... ، قال آخرون: بمعنى أنه ....

    1.   

    معنى: (لا أجمع لعبدي أمنين ولا خوفين)

    المقدم: سائل يسأل عن حديث: (لا أجمع لعبدي أمنين ولا خوفين، إن أمن في الدنيا خاف في الآخرة ...

    الشيخ: ... هذا أثر لا أعلمه عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    لكن المعنى صحيح، فإن الله لا يجمع أمنين لكن الأمن نسبي والمعنى: أنه إذا وجد إنسان أمن الله تماماً فهذا كافر أي: إذا قال: إن الله جل وعلا لن يدخلني النار فهذا كفر، وهذا هو ما زعمته اليهود من قبل، قال تعالى: قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ [البقرة:80]، لكن المتلبسين بالمعاصي ليسوا كذلك.

    1.   

    كثرة النساء في الجنة والنار

    المقدم: هناك قضية قد تشكل على بعض الأخوات، وهو ما ورد أن النساء أكثر أهل الجنة وأهل النار، وورد أيضاً أنهن أكثر أهل الجنة، فكيف يجمع بين الحديثين؟

    الشيخ: لقد جمع بينهما بعض العلماء كـالقرطبي وغيره، والذي يظهر والله أعلم أن خلق الله للنساء أكثر من خلقه للرجال، ينعكس عليه أنه قبل أن يخرج عصاة المؤمنين من النار يكون النساء في الجنة قليل، فإذا خرج عصاة المؤمنين بما فيهم النساء من النار صرن أكثر من الرجال، فهذا باعتبار أن خلق النساء أكثر من خلق الرجال، هذا تخريج!

    التخريج الآخر قالوا: هذا بالنظر إلى الحور العين؛ لأن المؤمن يعطى حوريتين في الجنة إضافة إلى أهلها من نساء الدنيا، فتكون النساء أكثر إذا نظرنا إليهن بمجموع النساء الحور وغير الحور، وتكون النساء أقل إذا أخرجنا الحور.

    1.   

    توجيه للمرأة المسلمة حول التغريب

    المقدم: نرجو أن تختم بإشارة يسيرة فيها توجيه للأخوات حول ما يثار الآن من تغريبهن؟

    الشيخ: جعل الله البيت جنة للمؤمنات في الدنيا، والمؤمن يتحسر عندما يرى بعض أبناء جلدتنا ممن يدينون بالإسلام يسعون إلى إخراجها من ما كتب الله جل وعلا أن تستقر فيه.

    أخاطب المرأة نفسها، فإنه لا يحبب المرأة إلى الرجل أكثر من حيائها، هذا من حيث الحظ الدنيوي، ومن حيث الحظ الأخروي فإن الله جل وعلا جعل من النساء كـخديجة وآسية ومريم عاكفات في بيوتهن فيما يظهر من سيرتهن العطرة رضوان الله تعالى عليهن أجمعين.

    كل ما أريد أن أقوله: إنها بالانحلال توضع في شراك ينبغي عليها أن تتحرز منه، وأن تتقي الله في الدنيا حتى يكرمها الله جل وعلا بها برؤيته في الآخرة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755766691