إسلام ويب

شرح عمدة الأحكام [50]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من يسر الشريعة الإسلامية أنها وسعت المعاملة بين الناس وسهلتها، ووضعت لها الضوابط التي تبين الحلال من الحرام فيها، وكذلك وضعت أحكاماً يحفظ بها الحق لصاحبه، ومن ذلك الرهن، فإن به يضمن صاحب المال ماله، وفيه أيضاً التوسعة على الناس في المداينة فيما بينهم.

    1.   

    أحكام الرهن

    تعريف الرهن وبيان الحكمة من مشروعيته

    قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [باب الرهن وغيره:

    عن عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً ورهنه درعاً من حديد)].

    هذا الباب عقده المصنف لأحاديث تتعلق بموضوعات من البيوع ونحوه، وبدأ بهذا الحديث الذي يتعلق بالرهن، والرهن معروف ذكره الله تعالى في القرآن فقال سبحانه وتعالى: وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283]، وقرأها بعضهم: (فرهن مقبوضة) أي: جمع رهن، وكل شيء يمسك لأجل حق من الحقوق يسمى رهناً، ومنه قوله تعالى: كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21]، وقوله: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38] أي: مرهونة بكسبها.

    والإنسان قد يحتاج إلى سلعة يشتريها وليس معه ثمنها، وصاحبها لا يريد أن يفرط في دراهمه أو في قيمة سلعته، فيقول له: أطلب منك رهناً أتوثق به أنك تُسلِّم الدين إذا حل، أو إذا وجدته، فالرهن: وثيقة يمكن أخذ المال أو ثمن المبيع منها أو من ثمنها، فالراهن أعطى هذه السلعة للمرتهن ليتوثق من حقه، فكلاهما منتفع، والراهن قد يصعب عليه أن يجد الثمن أو يجد من يقرضه، أو يجد من يبيعه بمؤجل بدون رهن، والمرتهن قد لا يثق به، فيقول: من المصلحة أني أعطيه هذه السلعة بثمن غائب وأقبض السلعة الأخرى وثيقةً إذا حل الدين؛ إما أن يوفيني وإما أن أبيعها وأقبض دراهمي من ثمنها، هذا هو الأصل.

    ولا شك أن الله تعالى شرعه للتوسعة على الطرفين، فالراهن يتوسع حيث إنه قد لا يجد الثمن الآن، ولكن يمكن أن يجده بعد شهر أو بعد شهرين أو بعد سنة، كأن يأتيه من كسب له أو يأتيه من حق له أو يأتيه من حرفة أو من دين أو من مال أو نحو ذلك، فيطلب هذا المال، أو يطلب -مثلاً- طعاماً لأهله، أو كسوة ضرورية لأهله، أو طعاماً لضيف نزل به، أو بيتاً يستأجره، ولا يحد الأجرة، أو ما أشبه ذلك.

    والمرتهن ينتفع أيضاً، حيث يحصل له زيادة في الثمن لأجل التأجيل، فهو يبيعه هذه السلعة مؤجلة لمدة سنة، وقيمتها -مثلاً- نقداً بمائة ولكن يبيعها له بمائة وعشرة؛ لأجل الدين، ولأجل غيبة الثمن، وحينئذٍ ينتفع بزيادة الثمن ويتوثق بهذا الرهن، فإذا باعك إنسان كيساً قيمته مائة، واشتريته منه بمائة وعشرين لمدة سنة، ورهنته سيفك أو درعك، أو رهنته بيتك أو دابتك أو سيارتك ليتوثق بها، وأنت واثق بأنك ستجد قيمة هذا الكيس بعد شهرين أو بعد سنة أو نحو ذلك، فإذا وجدته دفعت له قيمة الكيس وخلصت رهنك، والبائع انتفع بزيادة ماله، وبقبضه لهذا الرهن الذي هو وثيقة.

    قبض الرهن

    لابد من قبض العين المرهونة، لقوله تعالى: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283] والمقبوضة هي: التي يمسكها المرتهن عنده، فيمسك سيفك أو يمسك جملك الذي رهنته أو كيسك أو ما أشبه ذلك؛ لأن في إمساكه توثقاً في حقه، وقد اختلف في هذا الشرط، فبعضهم يقول: يصح بدون قبض، فيصح -مثلاً- أن تقول: هذه السيارة رهن، ولكن استعملها -أيها الراهن- فهي سيارتك، وإذا لم توفني بعتها، أو هذا البيت رهني، وأنت ساكن فيه، إذا حل ديني وما أوفيتني بعته، فنقول: لعل هذا يجوز، ولكن لابد من وثيقة يقبضها، ففي الدار يقبض الحجة أو وثيقة الملكية ويمسكها حتى لا تباع، وفي السيارة يقبض الاستمارة التي لا يمكن أن تباع إلا بها؛ مخافة أن الراهن يبيعها وينتفع بثمنها، ويبطل حق المرتهن، وأما إذا رهنه ولم يقبضه فقد فرط.

    فالحاصل: أنه لابد أن يقبض المرتهن شيئاً من الرهن أو يقبض الرهن كله، فيمسك المرتهن السلاح كالدرع والسيف والقوس وكذلك الأسلحة الجديدة مثل المسدس والرشاش أو ما أشبه، كذلك أيضاً السلع الأخرى التي يمكن رهنها، لو رهن عندك ثوباً أو رهن عندك كيساً أو رهن نعلاً له قيمة أو رهن طعاماً يمكن أن ينتفع به فيما بعد أو يباع ولا يخشى فساده؛ صح ذلك.

    الأشياء التي يصح فيها الرهن

    يصح الرهن في كل شيئ يجوز بيعه، والعبد المكاتب يصح رهنه؛ لأنه يجوز بيعه، وأما الذي لا يجوز بيعه -كالأمة التي استولدها سيدها- فلا يصح رهنه.

    وهناك شيء يجوز رهنه ولا يجوز بيعه حالاً، وهو الزرع الأخضر، فالزرع الأخضر يجوز رهنه، ولا يجوز بيعه إلا بشرط القطع؛ وذلك لأن الرهن لا يباع في الحال، بل يتأنى به، فهذا الزرع إذا استحصد يمكن بيعه إذا حل الدين بشرط التبقية، ويكون للمشتري أو للبائع الثمرة أو نحو ذلك.

    وهكذا لا يجوز بيع ثمر النخل حتى يبدو صلاحه، ولا يجوز بيعه قبل أن يبدو صلاحه إلا بشرط القطع، ولكن يجوز رهنه، فيجوز أن يقول: رهنتك ثمرة هذه النخلة؛ لأنه يمكن أن يتركها إلى أن تثمر، ثم تباع إذا حل الدين.

    فإذا حل الدين فإنه يطالب بوفائه ويقول: أوفني ديني، فإذا لم يوفه قال له: خذ الرهن وبعه وأوفني من ثمنه، فإذا امتنع رفعه إلى الحاكم كقاضي البلد، والحاكم يقول له: بع الرهن واقض دينك من ثمنه، فإذا لم يفعل تولى الحاكم القاضي بيعه وإيفاء الثمن.

    حكم الرهن في الحضر

    اختلف هل يجوز الرهن في الحضر أو لا يجوز؟

    وذلك لأن الآية الكريمة قيدته بالسفر، قال سبحانه وتعالى: وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ [البقرة:283]، فقال: بعضهم لا يجوز الرهن في الحضر، ويجوز الكتاب، والكتابة وثيقة تكفي عن الرهن.

    والصحيح أنه يجوز في الحضر كما يجوز في السفر، فإن في هذا الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى طعاماً من يهودي ورهنه درعاً له)، وفي بعض الروايات: (توفي ودرعه مرهونة عند يهوديٍ بطعام اشتراه لأهله)، وهذا الحديث ثابت في الصحيحين، ولو قلت: لماذا لم يجد النبي صلى الله عليه وسلم من يقرضه؟

    فنقول: النبي صلى الله عليه وسلم محبوب عند الصحابة، ولو طلب منهم أموالهم لأعطوه ولبذلوا له ما في إمكانهم، ولكنه لا يحب أن يضايقهم، ولا يحب أن يكون على أحد منهم شيء من المضايقة أو نحوها، فعدل إلى الشراء من يهودي، وقد يكون ذلك اليهودي من يهود خيبر، أو من يهود فدك أو نحو ذلك، وقد يكون أيضاً من يهود المدينة قبل إجلائهم.

    والحاصل: أنه اشترى من هذا اليهودي طعاماً لأهله، ورهنه درعاً، ومعلوم أن هذا كان في المدينة، والمدينة أهلها حضر، ولم يكن على سفر، فدل على أنه -كما يجوز الرهن في السفر- يجوز في الحضر؛ وذلك لوجود العلة، فإن العلة هي الوثيقة، أي: كونه يجعل هذا الدين وثيقة يتوثق بها صاحبها حتى إذا حل وجد ما يؤمِّن له رد ثمنه أو رد دينه إليه.

    حكم الوثائق وذكر بعض أنواعها

    الوثائق كثيرة، فمنها: الكتابة التي تكتب بين المتبايعين إذا كان البيع مؤجلاً، وقد أمر الله بها بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة:282]، فهي وثيقة، والإشهاد وثيقة، وذلك بأن يُشهد اثنين على أن فلاناً استدان مني كذا وكذا، حتى لا يضيع حقه.

    والرهن وثيقة؛ لأنه يتوثق به على ضمان أخذ حقه عند حلوله.

    والكفيل أو الضمين وثيقة؛ لأنه إذا عجز عن أخذ حقه من المدين رجع إلى الكفيل أو الضمين وأخذ الحق منه؛ لأن هذا قد تكفل بأداء الحق أو بإحضاره أو نحو ذلك، وبلا شك أن هذا دليل على عناية الشرع بحفظ الحقوق، والنهي عن التساهل في حقوق بني الإنسان، فالناس تأتيهم حاجات، ويحتاج بعضهم إلى بعض، فأحدهم يحتاج إلى من يقرضه، يحتاج إلى من يتصدق عليه، أو ما أشبه ذلك، فما دام أنه تمسه الحاجة ولابد فإنه يأتي بما يضمن أنه يرد على صاحب الحق حقه.

    والإنسان البائع قد يربح في بيعه بالثمن الغائب، ولكن يريد أن يتوثق من ثمنه، والمقرض الذي أقرض أخاه ولم يربح عليه، ولكنه نفعه؛ يريد وثيقة يتوثق بها، وهكذا بقية المنافع.

    فشرعية هذه الوثائق دليل على أن الشرع الشريف اعتنى بالحقوق، وأمر بأن تقيد وتثبت، ونهى عن الاختلاف والتساهل بحقوق بني الإنسان، وورد الشرع بالتحذير من أخذ حق لمسلم، وأن التساهل في أخذ الحقوق يعتبر اعتداءً على المسلمين، وأن الإنسان إذا استدان ديناً فإذا وثق به أهل الدين فعليه أن يحسن الظن، وأن يوفي بالوعد، وربه يساعده، كما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله).

    1.   

    شرح حديث: (مطل الغنى ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع)

    قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه:

    [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع)].

    هذا الحديث فيه فائدتان:

    الفائدة الأولى: وجوب وفاء الدين إذا كان الإنسان غنياً.

    الفائدة الثانية: قبول الحوالة إذا أحيل على مليء.

    فأما المسألة الأولى فدل عليها قوله صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم)، والمطل هو: تأخير القضاء، سمي مطلاً لأنه يطول على صاحب الدين طلب حقه؛ لأنه كلما طلب ماله ودينه مطله، يعني: طول عليه المدة وقال: أمهلني أو اصبر عليّ أو قال: أخر عني الطلب، فلا يزال يطلب ويطلب حتى تطول المدة، وهذا يعتبر ظلماً، ولكنه خاصٌ بما إذا كان غنياً؛ لأنه قال: (مطل الغني) فدل على أنه إذا كان فقيراً فإنه معذور، ويجب على صاحب الحق أن يمهله، وأن يؤخر عنه الطلب لإعساره، قال الله تعالى: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280] أي: إذا كان صاحب الدين معسراً فأنظروه وأمهلوه وأخروا الطلب عنه إلى أن يوسر ويجد ما يوفي به دينه، هكذا دلت هذه الآية.

    نقول: لا شك أن الغني هو الذي يجد ما يوفي به حق الغرماء وحق الدين، وأنه يجب على المسلم أن يحتاط عند أخذ أموال الناس، ولا يدخل نفسه في أمور لا يستطيعها ويقدر على التخلف عنها، كما ورد في بعض الأحاديث: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)، بمعنى أن ذلك راجع إلى نيته.

    فإذا كان إنسان نيته صالحة، وما استدان هذه الأموال إلا لأجل أن يقضي حاجةً له ضروريةً لا غنى له عنها، وليس في إمكانه الصبر عنها، وقد عزم على أنه يقضي هذه الحقوق متى تيسر له القضاء، وأنه سيسعى في وفائها، فإن الله سبحانه سيعينه على الوفاء، وأما إذا كان من المسرفين المفسدين الذين يتباهون بالنفقات الطائلة التي لا يطيقونها، ويستدينون لها الأموال، وتتراكم عليهم الديون، وأحدهم يعرف أنه ليس عنده ما يوفي به، وأنه عاجز عن الكسب، أو ليس له دخلٌ يكفي لهذه الديون، ومع ذلك يقدم على استدانة الأموال والإسراف فيها؛ فإن هذا يتلفه الله، وأما إذا كان عنده ثروة وعنده غنى، وطالب صاحب الحق بحقه، فإن عليه أن يأتيه بحقه ولا يؤخره ولا يمهله عن أداء الحق الذي وجب عليه، فمطله والحال هذا ظلم وأي ظلم!

    وذلك؛ لأن الناس يرغبون في الحصول على أموالهم وجمعها وتحصيلها لديهم، ولا يستغنون عن اقتنائها وتنميتها وتثميرها والتصرف فيها، فإذا أعطوها إنساناً كقرضٍ أو كدين أو نحو ذلك، فبلا شك أن هذا المدين يلزم أن يوفي ما عليه متى قضى حاجته، ولا يماطل وهو يعرف حاجة أهل المال إلى مالهم، لكن إذا كان صاحب المال غنياً عنها، وليس بحاجة إليها وقال له: لا حاجة لي حاضرة بهذا المال، وأنت في حلٍ منه مادمت معسراً، ومادمت أنا لستُ بحاجة إليه، ولو بقي عليك سنين؛ ففي هذه الحال جائز له أن يؤخر الوفاء، وإنما يأثم إذا رأى أن أصحابه بحاجة إليه، وعنده استطاعه، وقد طالبه أهل المال بحقوقهم، وطلبوا منه الوفاء، ومع ذلك أخر الوفاء ومطلهم؛ فهذا لا يجوز، وقد ورد في حديث آخر: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته)، واللي هنا هو: التأخير، يعني: تأخيره للوفاء، والواجد هو: الغني الذي يجد الوفاء، فذكر أن ليه يحل عرضه، يعني: شكايته، ويحل عقوبته أي: يحل حبسه؛ حيث إنه قد ظلم صاحب الحق بتأخير الوفاء عنه.

    أركان الحوالة وشروطها

    قوله: (وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع)، هذا الحديث يتعلق بالحوالة، والإتباع هو: الإحالة، وقد ذكر العلماء أن أركانها أربعة:

    -المحيل.

    -والمحال عليه.

    -والمحتال.

    -والمحال به.

    فلابد من رضا المحيل؛ لأنه صاحب الدين، ولابد من رضا المحتال إذا كان المحال عليه مفلساً أو معسراً، وأما إذا كان المحال عليه مليئاً فلا يشترط رضا المحتال.

    فمثلاً: إذا كان لك دين عند زيد، وجاءك عمرو يطلب منك ديناً هو عندك له، فقلت له: أحلتك على زيد، فإن عنده لي ديناً، وزيدٌ غني قادرٌ على الوفاء، ففي هذه الحالة يلزم عمراً أن يذهب إليه، ويقبض منه حقه، فأنت المحيل وافقت على أنه يقبضه، وعمرو هو المحتال رضي بذلك، وزيد هو المحال عليه لا يشترط رضاه؛ وذلك لأنه يلزمه وفاء الدين الذي في ذمته لك أو لوكيلك، فالمحتال كأنه وكيل عنك، يقوم مقامك في القبض.

    فيشترط أن يكون المحال عليه مليئاً، فإن كان المحتال لا يعرف حال المحال عليه، يظنه من أهل الملاءة والثروة، ولكن ظهر أنه مفلس لا قدرة له على الوفاء، فيرجع إليك؛ لأنك أحلته على مفلس، فالإحالة لا تكون إلا على مليء يتمكن من الوفاء، والمليء هو المليء بقوله، والمليء ببدنه، والملي بماله.

    المليء بقوله هو: أن يكون بشوشاً سهل الجانب يتقبل طلبك، فأما إذا كان عبوساً شرساً ثقيل الكلام، سيء الأخلاق، يلقاك بوجه عبوس، ويردك رداً عنيفاً، ولو كان عنده أموال كثيرة، ولكنك إذا أقبلت عليه نفر في وجهك، وعبس عليك، واشتدت نظرته إليك؛ فأنت تحتشم أن تذهب لاقتضاء الحق منه؛ فلا تقبل الإحالة عليه.

    كذلك مثلاً: إذا كان سهل الجانب، سلس القول، لين الكلام، لطيف المقال، وكثير المال، ولكن له منصب ومكان رفيع، ولا تقدر أن تصل إليه، وإذا أقبلت إليه رُدعت دونه؛ وبينك وبينه أبواب وحجاب وحراس فلا تصل إليه، ولا تقدر أن تشتكيه؛ لكونه ذا منصب ورفعة، لا يجلس معك عند الحاكم، ولا تقدر أن ترافعه، فلك والحالة هذه أن ترجع إلى المحيل؛ لأنه ليس مليئاً بقوله وببدنه، بل لابد أن يكون مليئاً ببدنه وبقوله وبماله.

    فإذا تمت هذه الشروط انتقل الحق من ذمتك -أيها المحيل- إلى ذمة المحال عليه، وبرئت -أيها المحيل- وأصبح الحق واحداً، وبدل ما كان الحق على اثنين يصبح على واحد؛ وذلك لأنك عليك حق لزيد، ولك حق على عمرو، فجاءك زيد يقتضي، فقلت: لي حق على عمرو، فذهب إليه، فيصبح الحق واحداً بدل ما كان على اثنين.

    ولابد أن يكون الدين الذي لك والدين الذي عليك من جنس واحد، فإن كان الدين الذي عليك ذهباً، والدين الذي لك فضة، أو الدين الذي عليك ريالات سعودية، والدين الذي لك دولارات أمريكية؛ فإن الدين مختلف؛ فلا تصح الإحالة هذه؛ وذلك لأن من شرطها أن يتفق الدينان؛ ولأن الريال سيصرف من غير تقابض، والصرف -الذي هو تحويل العملة إلى عملة أخرى أو بيع نقدٍ بنقد- لابد فيه من التقابض، فاشترط فيه أن يكون الدينان من جنس واحد، حتى ولو لم يكونا نقوداً، فلو كان الدين الذي عليك طعاماً، والدين الذي لك هو طعام، فإنه تجوز الإحالة، فتحيله ببر على بر، أو بتمر على تمر، أو بقماش على قماش من جنسه، أو ما أشبه ذلك، كل ذلك الحوالة فيه جائزة، وذلك لأن هذا ونحوه مما جاءت الشريعة بإباحته، تسهيلاً على العباد، وتهويناً عليهم.

    ثم لابد أن يكون المحيل والمحال عليه في بلد واحد، أما إذا كان المحال عليه في بلد بعيد، بحيث إن المحتال يتكلف السفر، ويصرف أموالاً في السفر في الذهاب والإياب؛ فإن له ألا يقبل الإحالة؛ وذلك لأنه والحال هذه عليه مشقة.

    فعرف بذلك أن هذه المعاملة -التي هي الحوالة- الأصل فيها أنها شرعت للتسهيل على العباد، ولئلا يتكلف الإنسان الطلب مرتين، بل يكون الطلب مرةً واحدة، وأمر المحتال أن يذهب إلى المحال عليه تخفيفاً على المحيل، وأمر المحال عليه أن يدفع له، وألا يماطله، فكما يدفعه إلى صاحبه يدفعه إلى وكيله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756529602