إسلام ويب

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [58]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الغلو في الصالحين، وأخبر أن هذا هو سبب هلاك الأمم من قبلنا، وقد وقع كثير من الناس فيما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغلوا في الصالحين، وعكفوا على قبورهم، ثم صاروا يدعون غيرهم إلى ذلك، فوقعوا في الشرك وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

    1.   

    تفصيل المراحل التي تنقل فيها المشركون حتى عبدوا تماثيل الصالحين

    كلام ابن القيم عن مراحل التنقل إلى عبادة القبور

    قال الشارح رحمه الله: [وقال ابن القيم : قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم.

    قوله: (وقال ابن القيم رحمه الله): هو الإمام العلامة محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي المعروف بـابن قيم الجوزية ] .

    إذا جاءت إضافةٌ لا بد أن تحذف (أل)؛ لأن (قيم) معناه: مدير المدرسة، و(الجوزية): مدرسة.

    قال الشارح رحمه الله: [قال الحافظ السخاوي : العلامة الحجة، المتقدم في سعة العلم ومعرفة الخلاف وقوة الجنان، المُجْمَع عليه بين الموافق والمخالف، صاحب التصانيف السائرة والمحاسن الجمة، مات سنة إحدى وخمسين وسبعمائة.

    قوله: (وقال غير واحد من السلف) هو بمعنى ما ذكره البخاري وابن جرير ، إلَّا أنه ذكر عكوفهم على قبورهم قبل تصويرهم تماثيلهم، وذلك من وسائل الشرك، بل هو الشرك؛ لأن العكوف لله في المساجد عبادة، فإذا عكفوا على القبور صار عكوفُهم -تعظيماً ومحبةً- عبادةً لها.

    قوله: (ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم) أي: طال عليهم الزمان، وسبب تلك العبادة والمُوصِل إليها هو: ما جرى من الأولين من التعظيم بالعكوف على قبورهم، ونصب صورهم في مجالسهم، فصارت بذلك أوثاناً تُعبد من دون الله، كما ترجم به المصنف رحمه الله تعالى، فإنهم تركوا بذلك دين الإسلام الذي كان أولئك عليه قبل حدوث وسائل هذا الشرك، وكفروا بعبادة تلك الصور واتخذوهم شفعاء، وهذا أول شرك حدث في الأرض.

    قال القرطبي : وإنما صور أوائلُهم الصور ليتأسوا بها ويتذكروا أفعالهم الصالحة، فيجتهدوا كاجتهادهم، ويعبدوا الله عند قبورهم، ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم فوسوس لهم الشيطان أن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها. انتهى.

    قال ابن القيم رحمه الله: وما زال الشيطان يوحي إلى عُبَّاد القبور ويُلقي إليهم أن البناء والعكوف عليها من محبة أهل القبور من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب.

    ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء به، والإقسام على الله به، فإن شأن الله أعظم من أن يُقسم عليه أو يسأل بأحد من خلقه.

    فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعائه وعبادته وسؤاله الشفاعة من دون الله، واتخاذ قبره وثناً تُعلَّق عليه القناديل والستور، ويُطاف به ويُستلَم ويُقَبَّل ويُحَجُّ إليه ويُذْبَح عنده.

    فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيداً ومنسكاً، ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم.

    وكل هذا مما قد عُلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من تجريد التوحيد وألَّا يُعبَد إلَّا الله.

    فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى أن مَن نهى عن ذلك فقد تنقَّص أهل هذه الرتب العالية وحطَّهم عن منزلتهم، وزعم أنه لا حرمة لهم ولا قدر، وغضب المشركون واشمأزت قلوبهم كما قال تعالى: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر:45] وسرى ذلك في نفوس كثير من الجُهَّال والطغام، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، حتى عادَوا أهل التوحيد ورمَوهم بالعظائم ونفَّروا الناس عنهم، ووالَوا أهل الشرك وعظموهم، وزعموا أنهم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله، ويأبى الله ذلك وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ [الأنفال:34] انتهى كلام ابن القيم رحمه الله].

    ذكر أن الجهل باللغة العربية من أسباب الوقوع في الشرك

    من المعلوم لدى كل مسلم أن الله جلَّ وعلا خلق خلقه ليعبدوه، وهذا أصل يعلمه المسلمون جميعاً؛ ولكن بعض المسلمين يجهل تفاصيل العبادة، ويجهل كذلك تفاصيل معنى (الإله).

    والسبب في هذا: الجهل باللغة العربية؛ لأن ربنا جلَّ وعلا أنزل كتابه بهذه اللغة، كما أنه أرسل رسوله عربياً؛ فصار من المبادئ التي هي مُسَلَّمة ولا ينازع فيها أحد من العلماء أن تعلُّم اللغة العربية أمر واجب ضروري؛ لأن الدين الإسلامي لا يُفهم إلَّا بها، وليس معنى (اللغة العربية) أن يخاطب الناسَ اليوم باللغة العربية، إنما المقصود باللغة العربية: أن يعرف لغة القرآن، ويعرف معاني القرآن؛ لأن اللغة العربية هي لغة القرآن، فإذا خاطبه الله جلَّ وعلا بشيء فَهِمَه؛ وإذا خاطبه الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء فَهِمَه، وإذا سمع آية من كتاب الله فهمها ولو لم يفهم جميع ما أُريد بهذه الآية، ولكن يفهم الخطاب العام الذي يفهمه العربي، هذا هو المقصود، وإلَّا فكتاب الله اشتمل على علوم عظيمة وكثيرة، ولا يزال كتاب الله طرياً، والآية الواحدة يستخرج منها الإنسان أحكاماً كثيرة؛ لأن كلام الله ينطوي على أسرار وعلوم وأشياء عظيمة، ولهذا يتفاوُت العلماء بتفاوُت معرفتهم لمعاني كلام الله.

    فالمقصود: أن يعرف ظاهر الخطاب، فيعرف -مثلاً- معنى (الإله) .. معنى (الرب) .. معنى (الله) .. معنى (الصلاة) .. معنى (الصوم)، وهكذا، ويعرف الشيء الذي يخاطبه الله جلَّ وعلا به.

    فإذا صرف الإنسان شيئاً من العبادة لغير الله، فقيل له: هذا توسل أو هذا تقرب إلى الولي أو هذا تشفع أو ما أشبه ذلك، فإن كان يجهل اللغة العربية فسوف يجهله، وينطوي عليه، ويظنه مما يقربه إلى الله.

    ومن المعلوم أيضاً بين المسلمين عموماً أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بدعوة الناس إلى ترك جميع من يُتَعلَّق به في العبادة، وجعل العبادة لله وحده، وكان يقول للناس: (قولوا: (لا إله إلَّا الله) تفلحوا) ويقول لهم: (أمرت أن أقاتل الناس ...) وهو لم يؤمر بالقتال إلَّا لما جاء إلى المدينة، أما قبل ذلك فكان الله جلَّ وعلا يأمره بالصبر والتحمل مع إبلاغ الرسالة والدعوة، يأمره بأن يدعو الناس بالتي هي أحسن، وأن يصبر على الأذى الذي يناله منهم، كما قال له جلَّ وعلا: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل:127] ويكرر له هذا الأمر، ويقص عليه قصص الرسل الذين سبقوه ليتسلى ويتأسى بهم، وكثيراً ما يقص عليه قصة موسى عليه السلام؛ لأن فيها معتبراً عظيماً، ولهذا كان يقول صلى الله عليه وسلم إذا أوذي: (رحم الله موسى! لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر) فكان يتأسى ويتسلى بذلك.

    ولبث صلوات الله وسلامه عليه في مكة يدعو إلى الله جلَّ وعلا وإلى التوحيد أكثر من ثلاث عشرة سنة، ولم يأمر بالقتال، وإنما كان يدعو الناس إلى قول (لا إله إلَّا الله)، وكان العرب فصحاء، نزل القرآن بلغتهم، يعرفون معنى الكلام، فإذا قال لهم: (قولوا: لا إله إلَّا الله) قالوا له: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهَاً وَاحِدَاً [ص:5] يقولون: لنا آلهة كثيرة، فإذا قلنا: (لا إله إلَّا الله) لابد أن نتركها وإلا لم يصبح التأله لله وحده.

    وكثر الداخلون في الإسلام الواحد بعد الآخر، وكان لا يدخل في الإسلام إلَّا من هو مقتنع تمام الاقتناع، حيث كان يضحي بنفسه وبماله وبأولاده وبأقاربه في سبيل ذلك ولا يبالي، وكان كل من دخل في الإسلام يصير الإسلام عنده أغلى من الأرض ومن عليها من الخلق ومن الأموال ومن المُلك، بل لا يمكن أن يوازيه شيء عنده.

    علم الكفار باللغة جعلهم يرفضون دعوة الإسلام

    فلما رأى الكفار ذلك خشوا أن يكثر الداخلون في الإسلام، فذهبوا إلى أبي طالب وهو زعيمهم وكبيرهم ولا يجرءون على مخالفته، فقالوا: نتحاكم إليك في ابن أخيك، فأنصفنا منه، فصاروا يتكلمون ويقولون له: إن كان يريد مالاً جمعنا له مالاً حتى يكون أغنى رجل فينا، وإن كان يريد نساءً زوجناه أحسن النساء عندنا، وإن كان يريد .. وإن كان يريد.. فلما أكثروا ذلك قال له عمه: هؤلاء قومك يطلبون أن تنصفهم، فقال صلوات الله وسلامه عليه: أريد منهم كلمة واحدة -لا أريد كل هذه الأشياء- فقال أبو جهل : نعطيك مائة كلمة -مائة كلمة! وليست كلمة واحدة- فقال: (أريد أن تقولوا: لا إله إلَّا الله)، عند ذلك نفروا وأبَوا وتكبروا وقالوا: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهَاً وَاحِدَاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5] وهم قالوا: نعطيك مائة كلمة، فلما قال لهم: (قولوا: لا إله إلَّا الله) أبوا كل الإباء؛ لأنهم يعلمون أن هذه الكلمة تبطل الشرك كله.

    ثم لما تمادى الأمر في المسلمين واختلط بالعرب غيرهم من غير العرب فسدت اللغة العربية وصار الإنسان لا يفهم اللغة كالعرب السابقين، فبدأ عدم الفهم للقرآن من هنا، وأول ما بدأ ذلك استنكره العلماء، حتى إن أحد العلماء من السلف سئل عن رجل يقرأ القرآن ولا يفهمه؟ فقال: كيف هذا؟! هذا من البدع التي ما كانت معروفة! والسبب هو: اختلاط العرب مع العجم، وفساد اللسان.

    فساد اللغة أدى إلى فساد الدين

    ثم كلما ابتعد الوقت ازداد الأمر بعداً، فتجد الآن في كثير من بلاد المسلمين لهجات بعيدة عن العربية، بل بعض العرب أنفسهم لا يفهمون بعضاً، وكل هذا لأنهم لا يعتنون باللغة العربية الفصحى، لا اللغة التي تحصل بها المخاطبة للناس كلهم على أشياء يتفقون عليها ويتخاطبون ويتفاهمون فيها؛ ولكن المقصود أن لغة القرآن ولغة الرسول صلى الله عليه وسلم، يجب أن تتَعَلَّم وأن يُحْرَص عليها؛ لأن الإنسان لن يفهم خطاب الله جلَّ وعلا وخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلَّا بذلك، حتى ولو تُرجمت له المعاني، فالترجمات تختلف، وكثير من العلماء يقول: ترجمة القرآن مستحيلة؛ لأن ما يترجم هو بعض كلام المفسرين، وقد تكون الترجمة خطأً، فيصبح هذا الذي يقرأ الترجمة يبتعد أكثر مما لو تُرك حتى يقيض الله جلَّ وعلا له من يفهِّمه.

    والمقصود: أنه لا يمكن للإنسان أن يعرف الحقوق الواجبة التي أوجبها الله جلَّ وعلا عليه تمام المعرفة التي يتيقن بها إلَّا إذا تعلم هذه اللغة وعرفها.

    أقول ذلك لأن وقوع كثير من الناس في عبادة القبور وعبادة الأولياء هو بسبب الجهل باللغة العربية، وهناك عوامل أخرى لأغراض معينة لأناس معينين: أهل رئاسة، وأهل مناصب، وكذلك الذين يريدون الاستيلاء على أموال الناس ولو بالباطل، وهم يعرفون الحق، ويزينون لهم عبادة القبور، ويجعلون لها من طرق التعظيم والوسائل التي تجلب الناس الشيء الكثير، ويكونون مباشرين أو غير مباشرين، حتى يمكنهم أن يسلبوا أموال الناس التي تقدم إلى هذه القبور، باسم النذور وحقوق الأولياء والقرابين التي تقدم، لأجل ذلك.

    حرص المسلمين الأوائل على سد الذرائع لتعظيم القبور

    لما كان المسلمون على الحق لم يكونوا يقرون بالبناء على القبور، ولا كان يُمَيَّز قبر الصحابي الفلاني أو الإمام الفلاني من غيره، بل تعلموا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسووا القبور كلها، وألَّا تجصص وألَّا يبنى عليها بناء، بل لا يوضع عليها من غير ترابها الذي أُخرج منها شيء؛ لأنهم علموا مثل هذه الوقائع التي قصها الله جلَّ وعلا علينا وفهموها تمام الفَهم، وأنها سبب لخروج الإنسان من دينه ودخوله في الكفر، تعلموا ذلك من كتاب الله ومن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم.

    ولهذا لما فتحوا المدائن وجدوا في خزائن الملوك رجلاً على سرير -وقد مات من أزمان متطاولة- ووجدوا عنده كتاباً، فتُرجم الكتاب، يقول أبو العالية : فأنا أول من قرأه.

    فقيل له: وماذا فيه؟

    قال: فيه حليكم وعليها أوصافكم وسيرتكم وما سيقع لكم.

    فقال له السائل: من تظنون هذا؟ وماذا كانوا يصنعون به؟

    قال: كانوا إذا تأخر المطر خرجوا به فسألوا الله جلَّ وعلا به فيُسقون.

    فقال له السائل: ومن كان هذا الرجل؟

    قال: هو دانيال -ودانيال نبي من الأنبياء-.

    فماذا صنع الصحابة به؟

    حفروا ستة عشر قبراً أو ثلاثة عشر قبراً في النهار متفرقة، فدفنوه في واحد منها وسووها كلها ليُعَمُّوا ذلك على الناس؛ لأنهم خشوا الفتنة في هذا.

    يقول بعض العلماء: هذا لو ظفر به المتأخرون لجالدوا عليه بالسلاح.

    والمقصود من هذا: أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يعرفون الفتنة في القبور من خطاب الله جلَّ وعلا لهم ومن القصص التي قُصَّت عليهم، فكانوا من أبعد الناس عن تعظيمها أو البناء عليها أو الكتابة عليها.

    ثبت في صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا تَدَع قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا صورة إلَّا طمستها) فهذا الأمر بتسوية القبور وطمس الصور هو من أجل أن الفتنة في القبور وفي الصور فتنة عظيمة يمكن أن يخرج تعظيمها عن الدين الإسلامي.

    قصة أول شرك حدث في الأرض

    هذه القصة فيها معتبر، وهؤلاء الذين صوروا صور هؤلاء الصالحين ما كان عندهم في زمنهم شرك؛ لأنهم ذرية آدم؛ وآدم نبي، خاطبه الله جلَّ وعلا وأمره أن يتبع، وبين له الأوامر، وكان أولادُه على طريقته، ما كانوا يخالفون في ذلك، فبقوا وقتاً طويلاً، يقول ابن عباس : عشرة قرون، وقد اختلفوا في تحديد القرن فمنهم من يقيده بمائة سنة، ومنهم من يقيده بمائة وعشرين، ومنهم من يقول أقل، ومنهم من يقول أكثر.

    ثم حدثت هذه الحادثة وهي: أنه كان فيهم خمسة رجال من الصالحين المجتهدين فيهم، فماتوا واحداً بعد الآخر في زمن متقارب، فأسفوا عليهم وجزعوا لذلك، فدعاهم الجزع عليهم وحبهم والتعظيم لهم أن صوروا صورهم، ونصبوها في المجالس التي كانوا يجلسونها ويعبدون الله فيها، ووضعوها لغرض أنهم إذا رأوها يجتدهون في العبادة، لا لأجل أنهم يعبدونهم، وإنما لأجل أن يتذكروا أفعالهم إذ رأوا صورهم؛ ولكن الشيطان فرح بهذا؛ لأن الشيطان له نظر بعيد، يعرف كيف تئول الأمور، وهو يشم القلوب ويعرف ميلها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) يعني: يعرف ماذا يميل إليه الإنسان، فيميله بشهواته.

    فلما صوروا هذه الصور فرح بهذا؛ لأنه فقيه في الشر يعرف كيف يدعو إليه، فسكت عن هذا الأمر حتى مات هؤلاء الذين يعرفون السبب، ومات أبناؤهم الذين علمهم آباؤهم السبب، وجاء من لا يعرف ذلك، ولهذا يقول ابن عباس : (فنُسي العلم) يعني: العلم بسبب التصوير نُسي وذهب، عند ذلك جاءت فرصة الشيطان، فجاء إليهم وقال: آباؤكم ما صوروا هذه الصور إلَّا ليتوسلوا بها ويجعلوها وساطة بينهم وبين الله، فيطلبون الله بها، ويستغيثون بها ويتشفعون بها، فوقعوا في الشرك بدعوة الشيطان هذه، وهذا هو أول شرك وقع في الأرض، وإنما كان بسبب الصور والغلو في الحب الذي لم يشرعه الله، وإن كان حب الصالحين مشروعاً، إلا أن محبتهم ليست لذواتهم، فلا تحب الصالح لأنه لحم ودم، ولأن صورته كذا وطوله كذا، ولأنه ابن فلان، وإنما تحبه لأنه يعبد الله، ولأنه مجتهد في طاعة الله، ولأنه صلح في اتباع أمر الله واجتناب نهيه، هذا أمر مشروع؛ ولكن هؤلاء تعدوا هذا الأمر فزادوا وتجاوزوا فيه إلى أن فعلوا هذه الأفاعيل فصارت سبباً في الشرك، فكل تجاوز عن المشروع لابد أن تكون نتيجته سيئة جداً مثل هذه.

    فلما وقعوا في هذا الشيء ازداد الأمر واتسع، وصار من بعدهم يستشهد بهم، فكل من جاء من الناس يوجِد له معبوداً شبيهاً لهذه المعبودات حتى انتشرت المعبودات جداً عندهم، وكثرت المعبودات التي تُجعل واسطة بين الإنسان وبين ربه، فعند ذلك أرسل الله جلَّ وعلا إلى أهل الأرض نوحاً عليه السلام، وهو أول رسول، أما والده آدم فإنه كان نبياً؛ لأن النبي يكون في الأمة المؤمنة بمنزلة العالم الذي يكون في هذه الأمة؛ يبين الحق ويكون مرجعاً عند الاختلاف وما أشبه ذلك، وليسوا بحاجة إلى رسالة جديدة، وإنما الرسالة تكون إلى القوم الكافرين المشركين، وهذا هو الفرق بين الرسول والنبي.

    فجاء نوح عليه السلام يدعوهم إلى عبادة الله وحده، وترك ما كانوا عليه من هذه الأصنام؛ ولكنهم كانت قلوبهم قد أُشْرِبَت حبَّها، وقد مضى على ذلك كثير منهم متمسكين بها، فصارت سُنَّة ماضية، وصار يوصي بعضهم بعضاً بعدم الاستجابة لنوح، ويبالغون في ذلك أشد المبالغة؛ لأن النفوس -في الواقع- تحب الباطل وتميل إليه وتكره الحق، هذا شيء مغروس في الإنسان، والكل يدرك ذلك، والحق قد يكون ثقيلاً عند أكثر الناس؛ والسبب في هذا أنه لا حظ للنفس فيه؛ لأنه أمر الله جلَّ وعلا، وهو شيء ليس جزاؤه العاجل بل جزاؤه الحقيقي هو المنتظر، وقد يستبعد الإنسان ذلك.

    مجاهدة نوح عليه السلام في الدعوة إلى التوحيد

    فصار نوح عليه السلام يشكو إلى ربه ويقول: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلَاً وَنَهَارَاً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارَاً [نوح:5-6] يفرون من التوحيد وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ [نوح:7] لئلا يسمعواكلامه وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ يعني: غطوا عيونهم بثيابهم حتى لا ينظرون إليه، وهذا من المبالغة في الإعراض، فكانوا يغطون وجوههم ويصمون آذانهم، وَأَصَرُّوا [نوح:7] على فعلهم الذي هم عليه من عبادة غير الله، وجعلوا هذه الأشياء وسائط يتشفعون بها، وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا [نوح:7] عن دعوة نوح استكبارً متكرراً ومبالَغاً فيه.

    ثم يقول عليه السلام: إنه حاول بجميع الطرق: دعوتهم جهاراً ودعوتهم في الليل والنهار، ودعوتهم في السر والعلن ولكن ما أفاد شيئاً، فيقول: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارَاً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارَاً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارَاً [نوح:10-12] يعني: في الدنيا، فجاءهم بالترغيب والترهيب، وبالأفراد وبالجماعات، ولكن لم يُجدِ شيئاً، إلى أن قال في شكايته إلى ربه: قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارَاً [نوح:21] من هو هذا الذي لم يزده ماله وولده إلَّا خساراً؟

    هو الذي يتبع غير دين الله، فالمال والولد يزيده بعداً عن الله، فيكون خاسراً، ثم يذكر وصايتهم في التمسك بأمواتهم، وأنهم كانوا يوصي بعضهم بعضاً: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ [نوح:23] أي: كل من كانت عنده آلهة فليتمسك بها، أما الآلهة الخاصة المقدَّمة العظيمة التي هي أول ما حدث من أجله الشرك، فهم الذين ذكروهم بقولهم: وَلا تَذَرُنَّ وَدَّاً وَلا سُوَاعَاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرَاً [نوح:23]، فهذه منهم وصية خاصة بعد الوصية العامة، فأوصى بعضهم بعضاً.

    أولاً: بالتمسك بكل المعبودات.

    ثانياً: بالتمسك بهؤلاء الخمسة الذين ذُكرت قصتهم، والذين كانوا في الأصل أسماء رجال صالحين فيهم، فماتوا ثم صوروا صورهم ونصبوها ليتذكروا أفعالهم؛ فيجتهدوا كاجتهادهم، فصاروا فيما بعد من أكبر المعبودات، ومن أعظم ما يصد عن دعوة رسول الله نوح صلى الله عليه وسلم.

    إلى أن قال في شكايته إلى ربه: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارَاً [نوح:26] أي: لا تترك واحداً من الكافرين يسكن في الأرض، ولماذا؟

    لأنه حاول كل المحاولات، وكرر وأبدى وأعاد، وبقي معهم ألف سنة إلَّا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله، ومع ذلك ما أجدى شيئاً، فتمسك بكل من جاء من شبابهم الذين يظن ويرجو أنهم لا يكونون مثل آبائهم، ولكن لم يجد شيئاً، بل أوصاهم آباؤهم ولقنوهم وعلموهم -وربما بالقوة- وحذروهم من سماع قول نوح، ولهذا دعا عليهم فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارَاً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ [نوح:26-27] والله علام الغيوب ولا شك، ونوح لم يدع علم الغيب الذي عند الله جلَّ وعلا، ولكن الله جلَّ وعلا قد قال لنوح وأوحى إليه: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [هود:36].

    فلما جاءه الوحي بأنه لن يؤمن من قومه إلَّا من قد آمن دعا هذا الدعاء: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارَاً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ [نوح:26-27] أي: عبادك المؤمنين الذين سيولدون، أما الموجود منهم فهو ضال، وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرَاً كَفَّارَاً [نوح:27] يعني: أولادهم يكونون مثلهم، ثم دعا لنفسه ولوالديه وللمؤمنين ولمن دخل بيته مؤمناً، وهذه الدعوة ينبغي أن يقتدي المسلم بنوح عليه السلام فيها.

    الزيادة في المشروع قد يؤدي إلى الشرك

    والمقصود بهذا: أن يتبين لنا أن سبب الوقوع في الشرك، هو زيادة المشروع من الحب في الصالحين وتعظيم الصور.

    وهنا ما ذُكِرت القبور، وإنما ذكرت هذه القضية، والفتنة في القبور ليست بأقل من الفتنة في الصور، بل هي أعظم، ولهذا أبدى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعاد، وأكثر من القول والتحذير في المبالغة فيها، بل حرَّم أن يصلي الإنسان عند القبر صلاة لله، وأمر أن تسوى القبور بالأرض، وألَّا يُبنى عليها، وألَّا تُجصص، وألَّا تُسرج، ولعن من فعل ذلك.

    وليس هذا كما يقول بعض الفقهاء الذين يقولون: إن تحريم الصلاة في القبور هو لأجل النجاسة، فإن هذا كلام من لا يعرف دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنما جاء النهي عن الصلاة عند القبور خوف الافتتان بها، خوف أن تكون الصلاة لها، كما ذكر ابن القيم هنا: أن التدرج فيها كان على مراحل، فيقول: إن الناس في هذا تدرجوا شيئاً فشيئاً فصاروا خمس درجات، ينقلهم الشيطان من درجة إلى درجة، إلى أن وصل بهم الدرجة الخامسة:

    الدرجة الأولى: أنه دعاهم إلى تعظيمها، والبناء عليها، ووضع الستور لها، والكتابة عليها: هذا قبر فلان بن فلان الفلاني، وللأسف لأن مثل هذا يقع من بعض العلماء، فإنهم يكتبون في تراجم الأموات -يقول بعضهم: وإن كانوا لا يقصدون الدعوة إلى عبادة القبور؛ ولكنها صارت دعوة في الواقع-: إجابة الدعاء عند قبر فلان مجربة، وهل إذا سمع الإنسان مثل هذا يتركه؟ الجواب: لا، فإذا كان مجرب الإجابة فإنه يقول: سأذهب وأدعو؛ لأن الدعوة مجابة عند هذا القبر، وربما كانت الإجابة قدراً قدره الله، فقد يذهب جاهل من الجُهَّال -ولما في قلبه من تعظيم الموتى ذهب في ذلك المكان يظن أنه أرجى إجابة من المسجد الذي هو بيت الله- فيدعو ويحصل له مراده، فينتشر هذا بين الناس، ويصير فتنة لمن لم يعرف دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وحقيقة الإسلام، ويقول الناس بعد ذلك: إن قبر فلان الفلاني يُعظَّم ويُزار، وهذا كثير جداً في تراجم العلماء، حتى إنك لا تكاد تجد كتاباً من الكتب التي تكتب في التراجم إلَّا وكتب هذا فيها، إما تساهلاً وإما غير ذلك.

    والواقع أنه لا يجوز أن يُتساهل في هذا؛ لأنه صار سبباً لعبادة هذه القبور، وهو أمر عظيم جداً، والرسول صلى الله عليه وسلم حذر منه، حتى إنه يوجد في بعض الكتب: قبر فلان الترياق المجرب، كما قيل ذلك في قبر معروف الكرخي ، وللأسف أن هذا يُكتب ويطبع ويُنشر في الناس (والترياق) يعني: الدواء الناجع المفيد الذي جُرِّب فنفع، وكذلك إذا ترجم بعضهم لإنسان يريد نشر فضائله وما أشبه ذلك يقول -مثلاً- مما روي عن جنازته: تزاحم عليه الناس فصاروا يتبركون بكفنه، ويتلمسون البركة من ذلك، ولكن هذا كان في الأزمنة المظلمة بعدما اختلط الحابل بالنابل، وقد لا يسلم من هذا أحد حتى من الأئمة؛ مثل الإمام الشافعي رحمه الله ومثل الإمام أحمد ومثل الإمام أبي حنيفة وغيرهم، يوضع عليهم من هذا القبيل أشياء.

    ثم صار لهذا المبدأ قوم يتبنونه ويدعون إليه، ويكتبون الكتب فيه، ولا تزال الكتب تكتب وللأسف في هذا؛ لأن كل قوم لهم وارث، فالصالح له من يرثه، والطالح الفاسد له من يرثه، فبعضهم يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغاث به كما يستغاث بالله، فكل شيء تستغيث فيه بالله يجوز لك أن تستغيث فيه بالرسول صلى الله عليه وسلم، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى أن يقول: قوله جل وعلا: (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ [الفتح:9] المقصود: وتسبحوا الرسول! هكذا يقولون ويكتبون في الكتب يقولون فيه: سبحانك، إلى هذا الحد! والذي يقول هذا ما هو جاهل من العوام، لا، بل هو من العلماء الذين يكتبون الكتب وينشرونها، ويكونون قدوة لبعض الناس.

    ثم تمادى الأمر إلى غيره صلوات الله وسلامه عليه فصاروا يقولون: يجوز أن تتوسل بالصالح، بل يستحب أن تتوسل بالصالحين، بل بعضهم قد يوجب ذلك! والصالح من هو؟ يعينون ناساً الله أعلم هل كانوا صالحين أو طالحين، وما هو التوسل؟ التوسل أن تذهب إلى قبره وتدعوه، وتقول: يا فلان! أنا أتوسل بك في كذا وكذا، وأريد أن تتوسط لي عند الله، تخاطبه!

    انتشار المرائي عن تأثير الموتى والكذب في الحديث لذلك

    ومن الدعايات الباطلة أنهم صاروا ينشرون بين الناس مرائي: أن فلاناً رأى في النوم أن من في القبر الفلاني خرج، وعمل كذا وعمل كذا، وأنه قال له كذا، وقال له كذا.. وتنشر، وهذه كثيرة.

    ثم إن بعض هؤلاء -ما هو كلهم بل بعضهم- صاروا يضعون الأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي مكذوبة كذباً صريحاً، ويقولون: إنه يقول: (إذا أعيتكم الأمور فلوذوا بأصحاب القبور)، وهذه دعوة صريحة إلى أهل القبور، وينسبون ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كذباً وزوراً، ويقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه)، وما أشبه ذلك من الأحاديث المكذوبة التي وضعوها على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ولا فائدة في تعيين الأشخاص أو تعيين الكتب، والكتب موجودة وتتجدد طباعتها ونشرها وللأسف، وتجد لها أصحاباً يسوقونها، ويتاجرون بها، ويدعون إليها، فهي مسألة مقصودة في الواقع من أشخاص قلوبهم مريضة، تحب عبادة القبور.

    ثم ذكر ابن القيم الدرجة الثانية: وهي أنه إذا نقلهم إلى هذه الحالة ينقلهم إلى العكوف والجلوس عند القبور لطلب البركة، والعكوف في مساجد الله عبادة كما هو معروف في شرع الله، والعبادة لا يجوز أن تكون لغير الله جل وعلا، وهذا شيء معلوم في الشرع، فإذا جعلت العبادة لغير الله فقد وقع الإنسان في الشرك.

    تطور الشرك من درجة إلى درجة

    يقول: ثم ينقلهم إلى الدرجة الثالثة: وهي أن تحري الدعاء عندها والصلاة عندها أفضل وأحرى إجابة من المساجد، فالصلاة والدعاء عند القبر ليس شركاً لذاته، ولكنه بدعة منكرة، فإذا ذهب الإنسان وصلى لله عند القبر أو كان عند القبر يدعو ربه؛ لا نقول: إن هذا شرك، ولكن نقول: هذه بدعة، والبدعة: هي كل عبادة لم تشرع ولم يأت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نهى عن هذا صلوات الله وسلامه عليه، وهذه البدعة من وسائل الشرك.

    ثم ينقلهم من هذه الدرجة إلى أن يدعو أصحابها إلى أن يقصدوا القبر ويدعوا صاحبه : يا فلان! جئنا لنطلب منك كذا وكذا، يا سيدنا كذا، يطلبون منه طلبات معينة وغير معينة، وهذا شيء معروف وموجود ومنتشر ولا ينكر هذا، ثم يقولون: ما يفعل هذا إلا الجهال أو الصوفية الذين تمادوا في الباطل وما أشبههم، أما الناس المثقفون أو الناس العقلاء فإنهم لا يقعون في مثل ذلك، ولكن هؤلاء الجهال كثيرون، فلماذا يتركونهم يهلكون في هذا، ويقولون: هم جهال لا يعرفون؟! لو عرفوا لتركوا ذلك، وهم كثيرون، حتى ذكر بعض العلماء الذين يشاهدون بعض هذه الأشياء: أن في مدينة من المدن، في وقت من الأوقات، يقصد القبر في تلك المدينة أكثر من ثلاثمائة ألف، ويجتمعون عنده رجالاً ونساءً، فهل بعد هذا كله نقول: نتركهم، ونقول: هؤلاء جهال، وهذا لا يؤبه به، ولا يلتفت إليه؟!

    ليس بصحيح، فهذا أمر مهم، ولا يجوز أن يترك المسلم يعبد غير ربه جل وعلا، يجب أن يحذر؛ لأن عبادة غير الله شرك، وإذا مات الإنسان على الشرك فقد أخبر الله أنه لا يغفر أن يشرك به.

    ثم يقول: إذا وصلوا إلى هذه الدرجة نقلهم إلى دعوة الناس إلى عبادتها، فيصيرون دعاة، كما ذكرنا أنهم يضعون فيها الأحاديث والكتب، فإذا كانوا دعاة فمعنى ذلك أنهم صاروا في الواقع مضادين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولدعوته تمام المضادة، ووجد منهم من يفضل هذه المشاهد على المشاعر!

    يقول: ثم إذا وصلوا إلى هذا الحد نقلهم إلى درجة أخرى، وهي أن من نهى عن ذلك وحذر منه، وأمر بعبادة الله وحده؛ اتخذوه عدواً، وأوجدوا فيه المطاعن بأنواعها، واتهموه بأنه لا يحب الصالحين، وأنه من أعداء الأولياء، وأنه ينهى عن حب الأولياء، حتى قالوا: إنه لا يحب الرسول صلى الله عليه وسلم.

    من المعلوم أن الذي لا يحب الرسول يكون كافراً؛ لأن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم يجب أن تقدم على محبة النفس فضلاً عن محبة الولد والمال والآخرين، لأن حبه دين، فهذه الدرجات التي يزينها الشيطان، وينقل الإنسان من درجة إلى أخرى حتى يوصله إلى العبادة لغير الله.

    ومن المعلوم أن الإنسان ليس له إلا حياة واحدة وعمر واحد، فإذا انتهت هذه الحياة وانتهى عمره ولم يكن في هذه الحياة وهذا العمر قد اكتسب السعادة بطاعة الله جل وعلا فقد خسر، وهل هذه الخسارة تشبه خسارة الدنيا؛ لأنه من ذهب رأس ماله في الدنيا فقد خسر؟

    الواقع أنها لا تشبه هذا؛ لأنه خسر نفسه، وهل توازن النفس بالمال؟ لا.

    ثم كيف خسر نفسه؟ هل خسر نفسه لأنه مات فقط؟ لو كان هذا لكان الأمر سهلاً، ولكن خسر نفسه بأنه صار في العذاب الأبدي خالداً فيه ما دامت السماوات والأرض، وكيف النجاة من هذا؟ بالإخلاص، وهل يمكن أن يعود؟ لا يمكن أبداً، انتهت القضية، ويتمنى أن يقضى عليه بالموت ولكن لا يحصل ذلك.

    فعلى الإنسان أن يهتم بهذا الأمر أكثر من اهتمامه بتحصيل المال، وأكثر من اهتمامه بتحصل المسكن، وغير ذلك مما يعد من الأمور الضرورية، فهذا أمر ضروري جداً، فالإنسان عليه أن يهتم بنفسه، وأن يعرف دين الله ويتبعه، ويعرف ما يخالف الدين ويجتنبه؛ لأن هذا هو الذي يمكن أن يكون قد أنجى نفسه، مع الاستعانة بالله جل وعلا، وهو خير معين.

    1.   

    العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح

    قال الشارح رحمه الله: [ وفي القصة فوائد ذكرها المصنف رحمه الله، ومنها: رد الشبه التي يسميها أهل الكلام عقليات، ويدفعون بها ما جاء به الكتاب والسنة من توحيد الصفات وإثباتها على ما يليق بجلال الله وعظمته وكبريائه.

    ومنها : مضرة التقليد ].

    يقول: وفي القصة فوائد، منها: رد ما يزعمه المتكلمون من العقليات التي ردوا بها صفات الله جل وعلا، والواقع أن الذي يقوله المتكلمون ليس عقليات، وإنما هو ظنون وشكوك وشبه؛ لأن العقل الصحيح السليم لا يخالف الوحي، بل يتفق معه، ولكن العقل لا يستطيع أن يستقل بما جاء به الوحي، فإنه يحار ولا يستطيع أن يدرك ما جاءت به الرسل، ولكن لا يخالف ذلك، فليست عقليات في الواقع، وإنما هي جهليات، ينبغي أن تسمى جهليات لا عقليات، وأصل المبدأ عندهم في هذا أنهم جعلوا العقل هو الأصل الذي يرجع إليه في كل شيء، ولكن عقل من؟

    فمن المعروف أن عقول الناس تختلف، ولا يمكن أن يكون عقل أبي بكر الصديق رضي الله عنه كعقل أبي جهل ، فالعقول تختلف على اختلاف المواهب التي يهبها الله جل وعلا لأصحابها، فكيف نرجع إلى شيء لا ضابط له، ولا سيما إذا كان الحكم في أمور غيبية لا تدرك بالعقل، وإنما تدرك بالوحي؟ فهذا من أضر ما يكون على الإنسان إذا تبنى هذا الشيء، وجعل الوحي راجعاً إلى ما يسميه عقلاً، ويحكم العقل عليه، وليس هذا في زمن كان فباد، بل لا يزال إلى الآن كثير من الناس يتبنون هذا المبدأ، وكلما جاء أمر من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا: هذا لا يعقل، وهذا يخالف العقل، فيردونه بهذه الدعوى!

    أهل الكلام أهل نزاع وخصام

    المتكلمون هم الذين صار دينهم الكلام، وكثرت المجادلات فيما بينهم، كل يجادل الآخر في أمور يدعونها، وكل يدعي أن العقل معه؛ فلهذا كثر بينهم الكلام والنزاع والخصام فسموا أهل الكلام، بخلاف أهل الوحي الذين يعتصمون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنهم لا اختلاف بينهم، ولا يجوز شرعاً أن يقع بينهم اختلاف؛ لأن الله نهاهم عن ذلك، والشرع يمنع أن يقع الخلاف بينهم، لأن الله جل وعلا يقول: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103].

    ومن الشيء المسلم به في العقائد وغيرها أن أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم يسمون أهل السنة والجماعة، فالجماعة وصف لهم؛ لأن الاجتماع ملازم لهم، فيجب أن يجتمعوا ولا يتفرقوا، أما هؤلاء فهم أهل كلام وأهل تنافر وأهل خصام، تأتي فرقة جديدة ثم لا يمضي عليها وقت إلا وقد افترقت إلى فرق متعددة، بسبب ما يسمونه عقليات، ولا سيما إذا كانت الأمور في صفات الله جل وعلا، ومبدؤهم أنهم يقولون: الذي دلنا على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم هو العقل، يعني: عرفنا صدقه بالعقل، فعندهم أن العقل هو الأصل الذي دل على صدق الرسول، ولا يكون محكوماً عليه، بل لا بد أن يكون هو الحاكم، لأننا نرجع إليه، فمبدأ قولهم من هنا.

    ثم صاروا يبنون على هذا من باب القياس العقلي، والقياسات وإن لم تكن بارزة متلفظاً بها فهي كامنة في الأنفس، فلهذا نفوا صفات الله جل وعلا على هذا القياس، مثال ذلك: أنهم قالوا: لو وصفنا الله جل وعلا بأنه يتكلم للزم من ذلك أن يكون له فم، وله لسان، وله شفتان، وله لهوات، وله حبال صوتية... إلخ.

    ما معنى هذا؟ معنى هذا أنهم ما عرفوا من الكلام إلا ما عرفوه من أنفسهم، فصار التشبيه عندهم مستكناً أولاً، ثم صاروا ينفون هذا التشبيه المستكن في أنفسهم، فقالوا: إن الله لا يتكلم لئلا يلزم التشبيه الذي كان في أنفسهم، والله جل وعلا يقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، فلما قال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] صار هذا نفياً عاماً مطلقاً يدل على عدم وجود شيء من الأشياء تماثله.

    ثم أخبرنا جل وعلا أن هذا النفي العام المطلق لا يدعوكم إلى أن تنفوا عن الله جل وعلا صفاته التي اتصف بها فقال: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، فنص على السمع والبصر؛ لأن السمع والبصر يوصف بهما المخلوق، فكون المخلوق يوصف بأشياء لا يمنع أن الله جل وعلا يوصف بها، ولكن صفات المخلوق خاصة به لا يشاركه الله جل وعلا فيها، وصفات الله جل وعلا خاصة به لا يشاركه المخلوق فيها، تعالى الله وتقدس، ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.

    ضلال أهل الكلام

    أهل الكلام سلكوا هذا المسلك في جميع الصفات، وقالوا: إن العقل يدل على ذلك، ونحن نلتزم بالعقل، أما هذه الأخبار التي تأتي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصفات فهي أخبار آحاد، ولا نثبت الأمور القطعية إلا بأمور برهانية، وهي العقليات، هكذا يقولون! والواقع أن الأمر بالعكس تماماً، فالذي يأتي به الرسول صلى الله عليه وسلم هو البرهان، وما يقولونه هو شكوك وظنون، بعضها كاذب، وبعضها خطأ.

    وإذا كان الدليل من كتاب الله، فإن ثبوت القرآن أمر مقطوع به، ولا أحد يشك فيه؛ لأنه متواتر، نقلته الأمة بعضها عن بعض من زمن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الآن، ما انفرد به ألف أو مائة ألف أو مليون، بل الأمة كلها تنقله، فهو أمر متواتر لا يمكن أن يطعن فيه؛ وإذا كان كذلك قالوا: دلالته ظنية، يعني: كوننا نعين أن هذه الآية تدل على كذا وكذا؛ هذا أمر مظنون فيه؛ فلا نعتمد عليه، وإنما نعتمد على الأمور اليقينية البرهانية، والأمور اليقينية البرهانية زعموا أنها محاكاة الأفكار، وزبالة الأذهان، وكل ما كان الإنسان منهم أذكى صار أسرع إلى الحيرة وإلى الشكوك التي تأكل قلبه، ويصبح لا يستطيع أن ينام، لأنه ما يدري ماذا يعتقد، ويتمنى أن يكون في الاعتقاد مثل عوام المسلمين، أو مثل العجائز التي في دُورها، ويقول: يا ليتني أموت على ما تموت عليه العجائز، وهذا بسبب أنه سلك مسالك مختلفة لاختلاف العقول، يأخذ مسلكاً يرى أنه براهين وعقليات ثم يأتيه آخر ويبطلها، ثم يأتي آخر بأدلة تعارض أدلته فتصبح الأدلة عنده متعارضة؛ فيبقى حائراً لا يدري ماذا يقول، ولا يدري ماذا يعتقد!!

    ذكر المترجمون لأحد هؤلاء أنه توغل في هذا حتى بلغ الغاية، وكان له صديق من أهل السنة، فدخل عليه يوماً وهو في بيته مستغرق التفكير، فسلم عليه فلم يشعر به ولم يرد عليه السلام، ثم أعاد السلام مرة أخرى فلم يرد عليه، فقال في نفسه: لا بد أنه دهاه أمر، إما أنه ذهب عقله، وإما يوجد أمر ليس طبيعياً، فوقف متحيراً، ثم هم أن يرجع ما دام بهذه المثابة!

    عند ذلك انتبه فرفع رأسه وقال له: يا فلان! ماذا تعتقد؟ فضحك ساخراً منه!! وقال: ماذا أعتقد؟! أعتقد ما يعتقده المسلمون والحمد لله، فأطرق رأسه وجعل يبكي، وقال ولكني -والله- ما أدري ماذا أعتقد! هذا بعدما أمضى في التعلم والقراءة أكثر من سبعين سنة، ويقول وهو بهذه المثابة: ما أدري ماذا أعتقد!!

    لماذا؟ لأنه ترك الوحي الذي به الهداية، الله جل وعلا يقول لرسوله: وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ [سبأ:50]، الرسول صلى الله عليه وسلم يهتدي بالوحي، فكيف يمكن أن يهتدي غيره بغير الوحي، هذا مستحيل لا يمكن، فالمقصود أن هذه التي يقولون عنها: عقليات، فيها إبطال العقليات، والواقع أنها ليست عقليات، بل هي شبه وأمور تدعو إلى الحيرة والشك.

    والعقل في الشرع ليس مهدراً، ولكن لا يستقل بالهداية؛ ولهذا يذكر الله جل وعلا أموراً كثيرة وينبه العقول عليها كما قال جل وعلا: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:164] يعني: يدل العقول على أن تفكر في هذه الأمور، والعقول لا تستطيع أن تستقل بالهداية، ولو كان كما يقولون فما الداعي إلى إرسال الرسل؟ لا داعي من ذلك إذا كان الأصل هو العقل، وإذا كان ما يأتي به الرسول نرجعه إلى العقول فلماذا إرسال الرسل؟ يكفي العقل لو كان كما يقولون، ولكن هذا يدل على بطلان قولهم، فإنه لا بد من إرسال الرسل، والناس لا يهتدون إلا بالرسل الذين أرسلهم الله جل وعلا.

    1.   

    ضرورة إعادة الأمة إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم علماً وعملاً

    قال الشارح رحمه الله: [ ومنها: ضرورة الأمة إلى ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم علماً وعملاً بما يدل عليه الكتاب والسنة ].

    لأن العقل لا يستطيع أن يستقل بالهداية، ولا أن يعرف الطريق الذي يوصل إلى السعادة، ويكون فيه طاعة الله جل وعلا وطاعة رسوله، فلا بد من الرسالة، فالناس في أمس الحاجة إلى رسالة الرسول، أكثر من حاجتهم إلى الأكل والشرب، والأكل والشرب غايته إذا تركه الإنسان أن يموت، والموت ليس هو الشقاء، بل الشقاء أن يموت الإنسان على غير الإسلام، على غير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا هو الشقاء في الواقع.

    إذاً: تكون الضرورة إلى معرفة رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم أشد من الضرورة إلى الأكل والشرب وما يشابهه من الضروريات التي لا يمكن أن يستقيم أمر الإنسان بدونها، فهو أمر ضروري جداً؛ لأن به سعادة الإنسان، وإذا فقده شقي، [ فإن ضرورة العبد إلى ذلك فوق كل ضرورة ].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755977516