إسلام ويب

شرح لمعة الاعتقاد [14]للشيخ : خالد بن عبد الله المصلح

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من مذهب أهل السنة والجماعة إثبات الشفاعة بأنواعها، واعتقاد أن الجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان، وقد خالف في ذلك بعض أهل البدع، وقد ذكر الشيخ حفظه الله في هذه المادة المسائل بدلائلها وما فيها من تفصيلات.

    1.   

    أنواع الشفاعة في الآخرة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ويشفع نبينا صلى الله عليه وسلم فيمن دخل النار من أمته من أهل الكبائر، فيخرجون بشفاعته بعدما احترقوا وصاروا فحماً وحمماً؛ فيدخلون الجنة بشفاعته.

    ولسائر الأنبياء والمؤمنين والملائكة شفاعات، قال تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:28].

    ولا تنفع الكافر شفاعة الشافعين].

    هذا المقطع من كلام المؤلف رحمه الله فيه بيان لما يكون من أنواع الشفاعة في ذلك اليوم العظيم، وقد تقدمت لنا إحدى الشفاعات التي تكون في ذلك اليوم، وهي شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الموقف في أن يأتي الله جل وعلا لفصل القضاء، ومن الشفاعات التي تكون يوم القيامة: ما ذكره المؤلف رحمه الله في قوله: (ويشفع نبينا صلى الله عليه وسلم فيمن دخل النار من أمته من أهل الكبائر).

    معنى الشفاعة لغة واصطلاحاً

    الشفاعة في اللغة: من الشفع، وهو جعل الفرد زوجاً، ولذلك تسمى الركعتين شفعاً؛ فالشفع: هو جعل الفرد زوجاً. هذا من حيث اللغة.

    وأما من حيث المعنى الاصطلاحي: فالشفاعة هي التوسط في جلب الخير أو دفع الضر؛ فتكون الشفاعة دائرة على أمرين: جلب المنفعة ودفع البلاء، وشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم وشفاعة من يشفع يوم القيامة هي لدى الله جل وعلا في أن يجلب الخير للمشفوع ويدفع عنه البلاء والشر، وهذه الشفاعة التي تكون يوم القيامة أنواع ودرجات:

    منها: ما هو للمؤمنين جميعاً؛ وإن كانوا يتفاوتون في نصيبهم منها.

    ومنها: ما يكون للأنبياء.

    ومنها: ما يكون للنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره.

    فشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى قسمين:

    1- شفاعة خاصة به لا يشركه فيها غيره .

    2- شفاعة له ولغيره، أي: تكون منه ومن غيره.

    الشفاعات التي اختص بها النبي صلى الله عليه وسلم

    أما الشفاعة التي اختص بها النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره فهي أنواع:

    النوع الأول: هو شفاعته في فصل القضاء، وهي الشفاعة العظمى التي يشفع فيها النبي صلى الله عليه وسلم عند الله جل وعلا في فصل القضاء وإراحة الناس من الموقف، وقد جاء خبرها في الصحيحين وغيرهما من المسانيد والسنن، وهو أمر مجمع عليه، ولا خلاف فيه بين أهل الإسلام.

    النوع الثاني: شفاعته صلى الله عليه وسلم في دخول الجنة لأهل الجنة، كما في حديث أنس عند مسلم : (أنا أول شفيع في الجنة)، وقد جاء في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم: أن أهل الإيمان يأتون إلى آدم يطلبون منه الشفاعة في دخول الجنة، فيعتذر ويحيلهم إلى نوح، ونوح يحيلهم إلى إبراهيم، وإبراهيم يحيلهم إلى موسى، وموسى يحيلهم إلى عيسى، وعيسى يحيلهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الشفاعة التي تكون في أرض المحشر في فصل القضاء. على أن بعض العلماء يقول: هذه هي تلك؛ لأنه بعد ذكر هذه الشفاعة جاء ذكر الصراط، وما يكون من أحوال الناس في مرورهم عليه.

    لكن مما لا شك فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يشفع لأهل الجنة في دخولها، ويدل على ذلك ما في صحيح مسلم من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آتي باب الجنة فأستفتح، فيقول الخازن: من؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك)؛ فدل ذلك على أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم شفيع لأهل الجنة في دخول الجنة . هذا ثاني ما اختص به صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الشفاعات.

    النوع الثالث: شفاعته في عمه أبي طالب أن يخفف الله عنه من العذاب، كما في الصحيحين من حديث العباس بن عبد المطلب : أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! عمك أبو طالب كان يحوطك وينصرك ويغضب لك، ما أغنيت عنه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار)، والضحضاح: هو الماء الرقيق على وجه الأرض الذي لا عمق له، والأصل في الضحضاح ما لا قعر له، وقد جاء في بيان ذلك: (أنه في ضحضاح من نار إلى كعبيه)، فهو أهون أهل النار عذاباً ممن يخلد فيها، وهذا التخفيف لا يفيده من حيث الواقع؛ فإنه: (عليه نعلان من نار يغلي منهما دماغه) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا إكرام للنبي صلى الله عليه وسلم في تخفيف العذاب وتهوينه؛ فهذا النوع من الشفاعة خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم.

    إذاً هذه الأنواع الثلاثة هي مما اختص به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

    شفاعة الأنبياء وقت اجتياز الصراط

    وهناك نوع من الشفاعة خاص بالأنبياء والرسل لا يشركهم فيه غيرهم، وهو شفاعتهم للناس عندما يجوزون الصراط، فإنه عندما يجوز الناس الصراط لا يتكلم أحد إلا الرسل ودعواهم: (اللهم سلم سلم) كما الصحيحين، وفي رواية سهيل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وعند ذلك حلت الشفاعة)، وهذا النوع من الشفاعة هو شفاعة لأهل الإيمان، ولكنها شفاعة خاصة بالرسل، وما جاء في جامع الترمذي من حديث المغيرة بن شعبة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (شعار المؤمنين على الصراط يوم القيامة: اللهم سلم سلم)؛ فهذا لا يعارض ما جاء من أنه لا يتكلم أحد على الصراط إلا الرسل؛ فإن الرسل يصدق عليهم وصف الإيمان.. بل هم أعلى المؤمنين إيماناً، فيكون شعار المؤمنين -الرسل- الذين يتكلمون على الصراط ولا يتكلم أحد من الناس سواهم، شعارهم ودعواهم: اللهم سلم سلم؛ لعظم الأمر وشدة الكرب؛ فهم يدعون لأنفسهم ولأممهم ولمن آمن بهم بالسلامة.

    هذه شفاعات ثلاث:

    الشفاعات المشتركة بين الأنبياء وغيرهم

    وهناك شفاعات للنبي صلى الله عليه وسلم يشركه فيها غيره من الرسل والأنبياء، وسائر أهل التقى من الصديقين والشهداء والصالحين، وذلك كشفاعته في قوم استحقوا النار أن يدخلوها فيشفع لهم ألا يدخلوها، وكذلك شفاعته وشفاعة أهل الإيمان في قوم دخلوا النار أن يخرجوا منها، وكذلك شفاعته صلى الله عليه وسلم وشفاعة أهل الإيمان في رفع درجات أهل الجنة، فهذه الأنواع الثلاثة من الشفاعات تكون للأنبياء صلى الله عليهم وسلم وتكون لغيرهم من المؤمنين، لكن نصيبه صلى الله عليه وسلم وما يكون له منها هل هو مثل غيره أو أعلى؟

    الجواب: نصيبه منها أعلى من نصيب غيره، فحظه من هذه الشفاعة أعلى من سائر الخلق.

    وهذه الشفاعات كلها جاءت بها النصوص، وأجمع عليها سلف الأمة وعلماؤها وأثبتها أهل السنة والجماعة، وخالفت فيها ثلاث طوائف.

    المعتزلة والخوارج: فهؤلاء لا يثبتون الشفاعة للنبي صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر؛ لأن من دخل النار عندهم لا يخرج منها أبداً.

    ووافقهم في إنكار الشفاعة المرجئة الغلاة: فإنه لا يدخل عندهم النار مؤمن، ولو ارتكب ما ارتكب من الموبقات والسيئات والأعمال القبيحة، فهؤلاء وافقوا الخوارج في نفي الشفاعة، وقالوا: لا شفاعة، وما جاء من نصوص الشفاعة جعلوها في رفع الدرجات، وهذا تكذيب لما دلت عليه النصوص من شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وغيره في أهل النار الذين استحقوها، أو الذين دخلوها أن يخرجوا منها.

    يقول المؤلف رحمه الله: (ويشفع نبينا صلى الله عليه وسلم فيمن دخل النار من أمته من أهل الكبائر)، أي: أهل الذنوب الكبيرة الموجبة لدخول النار، والكبائر: جمع كبيرة، وهي: كل ما جاءت النصوص بلعن صاحبه، أو التبري منه، أو ذكر عقوبة له في الدنيا أو الآخرة. هذا أقرب ما يقال في ضابط وحدِّ الكبيرة، فهؤلاء أصحاب الكبائر يستحقون النار إن لم يتوبوا منها وكانت سيئاتهم راجحة على حسناتهم، فإذا دخلوها ليمحصوا فقد يشفع فيهم النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد أهل الإيمان ليخرجوا منها، وأدلة أحاديث الشفاعة أكثر من أن تحصى.

    يقول رحمه الله: (فيخرجون بشفاعته بعد ما احترقوا وصاروا فحماً وحمماً)، يخرجون بعدما احترقوا وعذبوا وعوقبوا وصاروا إلى هذه الحال.. فيخرجون فحماً وحمماً من جراء الاحتراق بالنار والاصطلاء بها. نسأل الله السلامة والعافية، فيلقون في نهر الحياة عند أبواب الجنة، فينبتون فيه كما تنبت في حميل السيل، فينتعشون ويحيون ويكونون من أهل الجنة، فيدخلون الجنة بشفاعته صلى الله عليه وسلم.

    ثم قال رحمه الله: (ولسائر الأنبياء والمؤمنين والملائكة شفاعات)، وإنما قدم شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم مع أن غيره يشركه في هذا النوع من الشفاعة؛ لكونه صلى الله عليه وسلم أعظم الناس شفاعة، وأعظم الخلق شفاعة، فشفاعته فوق كل شفاعة، وإلا فإن الأنبياء والمؤمنين يشفعون والملائكة تشفع.

    شروط الشفاعة

    قال رحمه الله: ( قال الله تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:28])، هذا فيه بيان أن أهل الإيمان والملائكة يشفعون، وأنهم لا يشفعون إلا لمن رضي الله عنه، وهذا فيه بيان شرط الشفاعة، وأنه لا يُشفع إلا فيمن رضي الله عنه، فمن لم يرض الله عنه لا تنفع فيه شفاعة.

    (وهم)، أي: هؤلاء الشافعون وهم الملائكة (من خشيته مشفقون)، وهذا يبين لنا أن شفاعة الشافعين لا تكون عن استحقاق للشفاعة وإنما هي محض فضل الله عز وجل على الشافع والمشفوع.

    ولذلك كانت حقيقة الشفاعة: إكرام الله عز وجل للشافع في أن يخلص المشفوع فيه؛ فهي كرامة للشافع بسبب توحيده، وإقراره لله بالإلهية، فيكرمه الله عز وجل بالشفاعة وينفع بها المشفوع، لكن لا يمكن أن تكون الشفاعة إلا بشرطين: برضا الله جل وعلا عن الشافع والمشفوع وبإذنه، قال تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء:28]، مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255] وقال تعالى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم:26]، فتبين لنا من هذا: أن الشفاعة لا تكون إلا لمن رضي الله عنه، ولمن أذن له جل وعلا في أن يشفع.

    الشفاعة المنفية في القرآن عن الكافرين

    قال رحمه الله: (ولا تنفع الكافر شفاعة الشافعين)، قال الله تعالى في ذلك: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:48]، ونفى الله عز وجل الشفاعة في مواضع كثيرة من كتابه، والشفاعة المنفية في القرآن العظيم هي الشفاعة في أهل الشرك، أو الشفاعة التي يزعمها من يزعمها من المشركين، أو التي يظنها ويتوهمها من لم يفهم كلام الله وكلام رسوله من أن أحداً يشفع فيه دون إذنه ورضاه.

    وقوله رحمه الله: (ولا تنفع الكافر شفاعة الشافعين)، موافقة لقوله تعالى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:48] فنفى الله عز وجل عن أهل الكفر نفع الشفاعة، وهل هذا نفي للنفع بالكلية؟

    الجواب: هذا هو الأصل، إلا أن السنة دلت على أن من الكفار من ينتفع بالشفاعة لكنه ليس نفعاً تاماً، إنما هو نوع تخفيف، ومن ذلك الشفاعة الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب ، وقد وسع بعض أهل العلم الدائرة فجعلها شفاعة تشمل كل من نصر النبي صلى الله عليه وسلم من الكفار، ومعلوم أن الكفر درجات، وليس على مرتبة واحدة، فكما أن الإيمان شعب ودرجات؛ فكذلك الكفر يتفاوت فيه أهله، قال الله عز وجل: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة:37]، فجعل النسيء : وهو تأخير الأشهر الحرم وتقديمها والتلاعب بها مما يزيد كفر الكافر، والنار معلوم أنها دركات، وهذا التفاوت في دركات النار إنما هو بتفاوت درجات الكفر، فالكفار لا تنفعهم شفاعة الشافعين في رفع العذاب وإزالته، ولكن في تخفيفه، وذلك في مثل عم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو واضح؛ حيث بين النبي صلى الله عليه وسلم نفعه له حيث قال: (إنه في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار)، والحديث في الصحيحين.

    ومن التخفيف للكفار: حديث الشفاعة العظمى؛ فإن الناس يجتمعون يوم القيامة ويأتون إلى الأنبياء طالبين منهم الشفاعة عند رب العالمين في فصل القضاء، هذه الشفاعة هل الذي يطلبها الكفار أو أهل الإيمان؟

    كثير من النصوص جاءت مطلقة: (أن الناس يأتون إلى آدم)، ولفظ الناس يصدق على المسلم والكافر، وفي بعض روايات الحديث عند الإمام مسلم في صحيحه قال: (فيجتمع المؤمنون؛ فيأتون آدم) فيكون الطالب للشفاعة هم أهل الإيمان، لكن حتى على هذه الرواية فإن طلب الشفاعة فيه نوع شفاعة للكفار، لكنها شفاعة تخفيف وليست شفاعة رفع؛ لأن ما يقبلون إليه أعظم وأشد مما أدبروا عنه، والمراد أن قوله تعالى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:48]، هل يدخلها التخفيف أو لا يدخلها؛ لأن تخفيف العذاب لا ينتفع به الكافر انتفاعاً تاماً، وإنما يحصل النفع الكامل في رفع العذاب وإزالته.

    فـأبو طالب مع عظيم نفع النبي صلى الله عليه وسلم له في هذه الشفاعة نصيب؛ حيث إنه صار أهون أهل النار عذاباً، فهل ينتفع بهذا؟ لا، فهو يرى أنه أعظم أهل النار عذاباً، وهذا مصداق قول الله تعالى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:48].

    1.   

    وصف الجنة والنار ووصف أهلهما

    قال رحمه الله: [والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان، فالجنة مأوى أوليائه، والنار عقاب لأعدائه، وأهل الجنة فيها مخلدون: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [الزخرف:74-75] ].

    الجنة هي دار النعيم الكامل التي أعدها الله عز وجل لعباده الصالحين، والنار: هي دار العذاب التام التي أعدها الله عز وجل للكافرين والعصاة.

    عقيدة أهل السنة أن الجنة والنار مخلوقتان

    يقول المؤلف رحمه الله: (مخلوقتان)، أي: الآن، وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة، وأجمع عليه سلف الأمة، ودل عليه الكتاب والسنة؛ ففي القرآن يقول الله عز وجل عن الجنة: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، ويقول عن النار: أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:24]، ويقول: إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا [النبأ:21]، ولا يكون هذا إلا فيما أعد ووجد.

    وأما الأحاديث فهي أكثر من أن تحصى، ومن أبرزها ما رواه الإمام مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما خلق الله الجنة والنار، قال لجبريل: اذهب فانظر إلى الجنة وما أعددت لأهلها فيها، فيأتي إلى الجنة فينظر إليها فيقول: يا رب! لا يسمع بها أحد إلا دخلها، ثم توضع المكاره حول الجنة فيقول الله عز وجل: اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فينظر فيأتي فيقول: إني خشيت ألا يدخلها أحد لما حفت به من المكاره، ثم يرسله الله إلى النار لينظر إليها وإلى ما أعد لأهلها فيها، فيقول جبريل عليه السلام للرب جل وعلا: إنه لا يسمع بها أحد فيدخلها، فتحف بالشهوات، فيأتي إليها فينظر إليها فيقول: إني خشيت ألا ينجو منها أحد لما حفت به من الشهوات).

    الشاهد في هذا الحديث: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لما خلق الله الجنة والنار)، فالجنة وما أعده الله لأهلها موجود، والأدلة على هذا في السنة أكثر من أن تحصى، منها ما رواه أنس وعائشة وابن عباس في الصحيح من قول النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخسوف: (رأيت في مقامي هذا الجنة والنار، وهَمَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يتناول قطفاً من الجنة، ولما رأى النار يحطم بعضها بعضاً تأخر)، فالأدلة على وجود الجنة والنار في الكتاب والسنة كثيرة، وهذا مما أجمع عليه أهل الإسلام.

    أما أهل الاعتزال الذين بلاهم الله بمحاكمة النصوص إلى عقولهم فقد قالوا: ما فائدة وجود الجنة والنار الآن؟ لا فائدة، ووجودها الآن عبث، والله منزه عن العبث، وعليه فالجنة والنار ليستا موجودتين، فنفوا وجود الجنة والنار، وقالوا: يخلقهما الله عند الحاجة إليهما، وكذبوا بذلك النصوص الدالة على وجود الجنة والنار، لكن هذا التكذيب هل معهم فيه نص؟ هل لهم فيه بينة؟

    الجواب: لا، إنما معهم عقول كليلة وبصائر حسيرة حكموا بها على النصوص، فأبطلوا ما دلت عليه من وجود الجنة والنار، وما ذكره المؤلف رحمه الله من الأدلة على أن الجنة والنار مخلوقتان واضحة وظاهرة يدركها كل من قرأ كتاب الله عز وجل، أو سمع ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.

    الجنة والنار لا تفنيان

    قال المؤلف رحمه الله: ( لا تفنيان) أي: لا تضمحلان وهما باقيتان، وهذا الذي عليه جمهور أهل العلم من السلف والخلف، والأدلة عليه دالة.

    واعلم أنه لا خلاف بين أهل السنة وأهل الإسلام في بقاء الجنة وأنها لا تفنى، وإنما الخلاف الذي وقع بين أهل السنة في فناء النار، فذهب جماعة من السلف والخلف من أهل السنة والجماعة إلى أن النار تفنى، ونقل ابن القيم هذا القول عن جماعة من الصحابة منهم عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما وغيرهما، والذي عليه جمهور السلف والخلف: أن النار باقية، فإن الله سبحانه وتعالى ذكر عذاب النار وخلوده، وذكر تأبيده في ثلاثة مواضع من كتابه.

    فما ورد من النصوص مما يوهم انقطاع عذاب النار يجب حمله على المحكم الدال على بقائه وتأبيده، فمثلاً قول الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ [هود:106] خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:107]، فقد قيل: إن قوله تعالى: (إلا ما شاء ربك) يدل على عدم الخلود، وكذلك قوله تعالى: لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [النبأ:23]، أي: مدداً متطاولة، لكن قالوا: هي مدد متطاولة تنتهي، وما أشبه ذلك من النصوص التي ليس فيها ذكر التأبيد. ولكن مثل هذه النصوص يجب حملها على ما جاء من النصوص الدالة على أن عذاب النار ممتد مؤبد لا ينقطع، وقد ذكر الله ذلك في ثلاثة مواضع من كتابه.

    الموضع الأول: في سورة النساء في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء:168-169]، ولا يمكن أن يقال: هذا لا خلود فيه، فإن الله ذكر الخلود والتأبيد.

    والموضع الثاني: في سورة الأحزاب في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [الأحزاب:64-65].

    والموضع الثالث: في سورة الجن في قول الله تعالى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [الجن:23].

    فهذه المواضع ذكر فيها التأبيد، وهي تقضي على غيرها من النصوص التي قد يتوهم أو يفهم منها أن النار تفنى، فعلم بهذا صحة ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله وذكره في عقد أهل السنة والجماعة، حيث قال: (لا تفنيان)، وهذا هو الصحيح الذي نؤمن به ونجزم بأنه الصواب، بدلالة الكتاب والسنة، لكن هل هذه المسألة يبدع فيها المخالف؟ الجواب: لا، لأنه قد نقل عن بعض سلف الأمة هذا القول؛ فهو من المسائل التي وقع فيها الخلاف بين أهل السنة.

    والذي انفرد بقول: إن الجنة تفنى هو جهم بن صفوان وتبعه عليه من تبعه، وهو قول محدث لم يسبق إليه، ولم يسبقه إليه أحد من السلف ولا من الخلف. فيميز بين فناء النار وفناء الجنة!

    صفات أهل الجنة والنار

    قال رحمه الله: (فالجنة مأوى أوليائه) أي: أي مصير ومآل أوليائه، والأولياء هم أهل التقوى، قال الله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63]، فكل من حقق الإيمان واتصف بالتقوى فإنه من أولياء الله عز وجل الموعودون بالجنة، كما في الصحيحين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، فالأولياء هم الصالحون الذين أصلحوا بواطنهم وظواهرهم.

    قال: (والنار عقاب لأعدائه)، وهم كل من حادَّ الله من أهل الكفر والمعصية، ولكنها متفاوتة؛ فالنار دركات: منها ما يكون للعصاة، ومنها ما يكون لأهل الكفر.

    ثم قال رحمه الله: (وأهل الجنة مخلدون)، وسكت رحمه الله عن ذكر حال أهل النار، لكنه أجاب عن حالهم بالآية، والسبب -والعلم عند الله-: أن أهل الجنة لا خلاف في أنهم مخلدون، فلا قائل من السلف ولا من الخلف بأن أهل الجنة لا يخلدون، لكن لما كان الخلاف في أهل النار قال المؤلف رحمه الله: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ *لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [الزخرف:74-75]، فأتى بالآية الدالة على تخليد أهل النار.

    والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756485043