وها نحن ما زلنا مع سورة يس المكية، فهيا بنا نصغي مستمعين تلاوة هذه الآيات المباركة المجودة، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس وما نسمع.
بسم الله الرحمن الرحيم: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس:20-27].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ [يس:20]، عرفنا بالأمس في دراسة الآيات السابقة أن هذه المدينة تسمى أنطاكية وهي في حدود اليونان، وأهلها كان يحكمهم ملك، وكانوا مشركين يعبدون غير الله، فما كان من عيسى عليه السلام إلا أن أوصى لرجلين صالحين من أتباعه وحوارييه بأن يذهبوا إلى هذه المدينة، ويبلغوا دعوة الله عز وجل؛ لعل الله ينقذ أولئك المشركين الكافرين، فذهب الرجلان وما أطاقا وما تحملا الدعوة لصعوبتها؛ لأنها في قوم لا يؤمنون بلقاء الله ولا بكتابه ولا برسوله، فعزز الله تبارك وتعالى بـشمعون فأصبحوا ثلاثة، وهؤلاء الثلاثة هل هم أنبياء أم دعاة صالحون؟
فالخلاف موجود والكل واحد، فما داموا تحملوا مسئولية الدعوة إلى الله فهم أنبياء الله ورسله، وحسبهم أن أرسلهم عيسى بأمر الله عز وجل، فهم مرسلون من قبل الله.
إذاً واشتد ضغط المشركين عليهم، وتوعدوهم بالعذاب وما استجابوا لهم، ولما شددوا عليهم وآذوهم كان هناك في خارج المدينة.. في طرفها رجل يقال له: حبيب بن النجار ، وكان مصاباً بمرض جذام أو برص، فعلم بهؤلاء المؤمنين فزارهم فدعوا الله تعالى فشفاه؛ إذ كان عيسى يشفي بإذن الله الأبرص والأكمه والأعمى، فلما شفاه الله آمن وقوي إيمانه، ولما بلغه ضغط المشركين على أولئك الرسل الثلاثة الداعين إلى الله ما كان منه إلا أن جاء إلى المدينة؛ لينصرهم ويقف إلى جنبهم، وهذا بتدبير الله عز وجل.
قال تعالى: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى [يس:20] أي: يمشي بسرعة ليخفف الضغط على أولئك الرسل الثلاثة، فقال: يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ [يس:20] أي: قال لأهل أنطاكية ملكهم وجماعتهم.
يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ [يس:20] أي: اتبعوا أولئك الثلاثة المرسلين فيما يدعونكم إليه وآمنوا، واتركوا الشرك والكفر، وتخلوا عن الفساد والشر، واستجيبوا لدعوة هؤلاء الرسل.
اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا [يس:21]، أو لو كانوا يطلبون منكم أجراً لقلتم: لا نعطي أموالنا فدعونا، لكن دعاة الحق والخير في كل زمان ومكان لا يطلبون أجرة على دعوتهم أبداً، قال تعالى: وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:109]، وهذه هي دعوة الرسل.
لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا [يس:21] والحال أنهم مهتدون إلى طريق السعادة والكمال، ألا وهو عبادة الله وحده بما شرع من العبادات وهي فعل وترك، وهذا هو الصراط المستقيم، وهذا هو الإسلام الموصل إلى رضوان الله عز وجل.
وَهُمْ مُهْتَدُونَ [يس:21] فلو كانوا ضالين مفرطين فاسدين كان لكم الحق ألا تتبعوهم، ولكن هؤلاء لا يطلبون منكم أجراً، والحال أنهم مهتدون إلى الحق عارفون بالطريق المستقيم الذي ينجي من سلكه فامشوا معهم، فلِم تحاربونهم وتتوعدونهم بالعذاب والطرد؟
فقال لهم: وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي [يس:22]، أي: أي شيء يمنعني من أن أعبد الذي خلقني؟ فأنا مخلوق وأنتم مخلوقون، فخالقي هو الذي نعبده، فأي شيء يمنعني من عبادة خالقي؟ وكيف أنصرف عن عبادته؟ وكيف أتخلى عنها؟ وكيف أتركها وأعبد الأحجار والأصنام والتماثيل؟!
وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي [يس:22] أولاً.
وثانياً: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:22] يعني: يوم القيامة بعد موتكم، ويحاسبكم ويجزيكم بأعمالكم خيرها وشرها.
فكان إذاً يقرر عقيدة التوحيد بالبعث الآخر في جملة واحدة، وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي [يس:22] أولاً، وهو خالقي ورازقي ومالك أمري.
ثم شيء آخر: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:22] أي: ليحاسبكم ويجزيكم، فكيف أتخلى عن عبادته وأعبد هذه التماثيل أو الأصنام والأحجار؟!
إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ [يس:23].
إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ [يس:23] جل جلاله وعظم سلطانه، فجاء بصفة من صفات الله عز وجل؛ إذ والله! لولا رحمته لدمرهم وأزال وجودهم، فهم كفروا بخالقهم ومالك أمرهم بعبادتهم للأصنام، ثم الله عز وجل لرحمته يعفو ويترك، فلهذا لوَّح بهذا المعنى (الرحمن) الذي رحمته وسعت كل شيء.
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ [يس:23] أي: بمرض من الأمراض، فقر.. أو غيره، لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا [يس:23]، والله! ما تغني شيئاً لا قليل ولا كثير، وهل يشفع الأصنام والأحجار وتقبل شفاعتهم؟!
ولكن هذا فقط من باب التوعية والتبصير، فلو كانوا شفعاء ما تقبل شفاعتهم؛ لأنهم يعبدونهم كالعرب على أنهم يشفعون لهم عند الله، فأخبرهم أن شفاعتهم لا تغني شيئاً.
لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ [يس:23] أي: لا ينقذوني من ذلك الألم أو المرض أو الفقر، أو.. أو..، وما إلى ذلك، وهل الأصنام والأحجار تنقذ؟! وهل القبور والقباب كما يفعل الجهال العرب تنقذ وتنفع؟!
ثم قال لهم: إِنِّي إِذًا [يس:24] أي: إني إذا دعوت هذه الآلهة وعبدتها معكم أصبحت في ضلال بين واضح؛ لأني كفرت بربي وأعرضت عن الرحمن، وعبدت الشيطان والأوثان.
إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يس:24]، أي: كيف أقع في هذا الضلال وأرضى به لنفسي من أجلكم؟! وهكذا يجذب قلوبهم لو كانوا متأهلين للإيمان.
إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يس:24] أي: إني إذا أنا عبدت هؤلاء الأصنام واتخذتهم شفعاء أصبحت في ضلال واضح بين لا يشك فيه ذو عقل.
وهنا ناصحهم حياً وميتاً فقال: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس:26-27] اللهم اجعلنا من المكرمين الذين تكرمهم في الدنيا والآخرة، وتنزلهم منازل الشهداء، كهذا العبد الصالح يا رب العالمين.
وفعل الله بقومه فقال: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ [يس:28] ما هي إلا صيحة واحدة لجبريل فأُخذت أرواحهم، وما أنزل جند ولا عساكر ولا.. ولا..، بل صيحة فقط لجبريل فخرجت أرواحهم إلى جهنم.
بيان كرامة حبيب بن النجار الذي نصح قومه حياً وميتاً، فعندما كان حياً صرخ فيهم، ولما مات تمنى لو كانوا يعلمون هذا ويدخلوا الجنة، فنصحهم حياً وميتاً، وهذا شأن الصالحين في كل زمان ومكان.
[ ثانياً: بيان ما يلاقي دعاة التوحيد والدين الحق في كل زمان ومكان من شدائد وأهوال].
بيان ما يلاقيه دعاة التوحيد من ضغط المشركين وأذيتهم، بل وضربهم وقتلهم، وذلك في كل زمان ومكان إلى اليوم وبعد اليوم، فدعاة التوحيد يكرهونهم دعاة الشرك ويبغضونهم، فيتسلطون عليهم ويريدون أذاهم في كل زمان ومكان؛ لأنهم يدعونهم إلى الله الواحد الأحد، وهم يعبدون أصناماً وأحجاراً بين أيديهم، فلا يستطيعوا أن يتخلوا عن عبادة آباءهم وأجدادهم، ويعبدون هذا الذي يدعو إليه هذا الداعي، فيحملون عليه بالضرب والقتل كما فعلوا مع هؤلاء الأربعة.
[ ثالثاً: وجوب إبلاغ دعوة الحق والتنديد بالشرك ومهما كان العذاب قاسياً ].
وجوب إبلاغ دعوة الحق والتنديد بالشرك ووجوب الدعوة إلى التوحيد، وإلى أن يعبد الله تعالى وحده ولو تحمل الداعي ما تحمل، وهذا حبيب بن النجار صرخ فقال: إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ [يس:25] فالتفوا عليه ومزقوه تمزيقاً، وما منعه الموت أبداً من أن يدعو إلى الله، فعلى الدعاة وعلى الهداة وعلى العالمين بربهم العارفين بحق الله ألا وهو أن يعبدوه وحده، وأن يدعوا ويواصلوا دعوتهم، مهما كانت الظروف والأحوال، فلا يسكتون أبداً.
[وأخيراً: بشرى المؤمن عند الموت لا سيما الشهيد فإنه يرى الجنة رأي العين].
وبشراكم أيها المؤمنون! ما من مؤمن ولا مؤمنة من عباد الله الصالحين إلا ويبشر عند موته، قبل أن تخرج روحه، فموكب من الملائكة يبشرونه واقرءوا قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ [فصلت:30] أي: عند الاحتضار، أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]، اللهم اجعلنا منهم!
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر