والصلاة والسلام على النبي خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
[الفصل الثالث: في الوضوء
وفيه أربع مواد: المادة الأولى: في مشروعية الوضوء وفضله] فالوضوء مشروع بالكتاب والسنة وله فضل عظيم.
فالرباط له شأن عظيم يقول النبي صلى الله عليه وسلم مرغباً في هذه العبادة: ( إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط ).
ومعنى إسباغ الوضوء: تعميم أعضاء الوضوء بالماء وإسباغها، لا أن يبل موضعاً ويترك آخر، بل لا بد وأن يغسل الأعضاء كاملة، و(على المكاره) أي: في الشتاء والبرد، أو الآن بالماء الساخن الحار يسبغ ويتوضأ به؛ لأنه يكره الوضوء على المكاره، (والخطا) جمع خطوة، (إلى المساجد): المشي إلى المسجد، فأي مسجد تمشي إليه خطاك كان فضيلة عظيمة، (وانتظار الصلاة بعد الصلاة) كأن يصلي المغرب ويجلس منتظراً العشاء، أو يصلي العصر ويجلس منتظراً المغرب، أو الظهر ثم ينتظر العصر، فانتظار الصلاة بعد الصلاة هو أن يصلي فريضة ثم يجلس منتظر الأخرى.
ولهذا قلت غير ما مرة: لمَ أهل المدينة لا يجتمعون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بنسائهم وأطفالهم ورجالهم كل ليلة؟! فيوقفون العمل مع غروب الشمس، فتغلق الدكاكين والمقاهي، ويأتون إلى بيت الله، ويصبح المسجد جامعة لا نظير لها، فلا مكان لغير طلب العلم، وينتظرون الصلاة أيضاً، فهذا واجب المؤمنين في الشرق والغرب، وقد بينا وقلنا لهم: إن النصارى جيرانكم إذا دقت الساعة السادسة مساءً ألقوا مفاتيح العمل وآلاته وأدواته وحملوا أطفالهم ونساءهم إلى المراقص والمقاصف والملاهي والملاعب إلى نصف الليل، وأنتم لمَ لما تغرب الشمس لا تتركون العمل وتحملون نساءكم وأطفالكم إلى بيوت ربكم، فتصلون المغرب وتجلسون أمام عالم رباني يعلمكم الكتاب والحكمة، حتى يؤذن العشاء، فتصلوا العشاء وتعودون إلى بيوتكم وكلكم ذكر لله وشكر، ناسين أوساخ الدنيا وقاذوراتها؟
وما زلت أقول: والله لن يستقيم أمر المسلمين إلا على هذا المنهج المحمدي، إذ الجهل هو الذي وقع بهم هذا الوقع: فالخيانة والكذب والسرقة والزنا والتلصص والربا، وكل هذه الجرائم التي عمت بها الدنيا سببها -والله- الجهل، فما عرفوا الله حتى يحبوه أو يكرهوا غيره.
وادخل أي بلد في بلاد المسلمين وقل لهم: دلوني على أتقى رجل في هذا البلد، والله لن يكون إلا أعلمهم، أقسم بالله، لن يكون إلا أعلمهم، هل تشاهدون العلماء يسرقون أو يزنون أو يفجرون أو يكذبون، فكل من عرف الله وعرف محابه التزم بعبادته، والجهل هو سبب كل شر وخبث وفساد، هذه حقيقة كالشمس واضحة.
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في ذلك بقوله: ( وانتظار الصلاة بعد الصلاة )، ولا يكون الانتظار إلا في بيت من بيوت الله، فيجلس المرء في حلقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من ينوب عنه يتعلم الكتاب والحكمة.
[وقوله صلى الله عليه وسلم: ( إذا توضأ العبد المسلم )] والعبد الكامل العبودية من أسلم قلبه ووجهه لله [(أو المؤمن )] هناك روايتان [( فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو آخر قطر للماء )] فالمؤمن المسلم بحق إذا توضأ وغسل وجهه خرجت كل خطيئة اكتسبها بعينه من النظر إلى ما لا يحل النظر إليه مع آخر قطرة من الماء [( وإذا غسل يديه خرجت كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء )] وإذا غسل يده خرجت الخطايا من يديه مع آخر قطرة من الماء [( حتى يخرج نقياً من الذنوب )] حتى يخرج نقياً طاهراً من الذنوب. وهذا يدل على وجوب الوضوء ومشروعيته.
وفرائض الوضوء سبعة، هي:
والنية محلها القلب، لا يُحتاج فيها إلى اللسان، فتنوي بقلبك عازماً على أن تتوضأ؛ لأن الله أمرك بالوضوء وفرضه عليك، وأنت تفعله لتصلي أو تطوف أو تمس المصحف.
[وهي عزم القلب على فعل الوضوء؛ امتثالاً لأمر الله تعالى] فلا بد من النية التي هي: عزم القلب على فعل الوضوء امتثالاً لأمر الله تعالى [لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات )] وهذا الحديث محفوظ عند النساء والرجال: وهو قاعدة عظيمة، فلا حج ولا عمرة ولا رباط ولا جهاد.. إلا بنية، فالأعمال متوقفة على النية، إن صحت النية صح العمل، وإن بطلت النية بطل العمل، فلا بد من النية التي هي: قصدك الفعل طاعة لربك عز وجل، أو قصدك القول طاعة لله عز وجل، أو قصدك الإطعام للفقير والمسكين لأن الله أمر بذلك.
ومنذ ثلاثين سنة تقريباً كان أحدهم أمامي فقال: لم أنتم تغسلون أرجلَكم، وقد قال الله: (وامسحوا بأرجلِكم)؟
فقلت له: الرسول هو المبين، وقد جلس عشر سنوات في المدينة يتوضأ ما مسح إلا على خفه، أبعد هذا نشك أو نرتاب؟!!
فالنبي صلى الله عليه وسلم مكث عشر سنين وهو يغسل رجليه، وحذر من إبقاء موضع لا يصله الماء من الرجل، وقراءة: (وأرجلَكم) هي التي عليها الجمهور وبها العمل، وإما (بأرجلِكم) فنعمل بها إذا كان على الرجل خف أو شراب أو ما إلى ذلك يسترها من البرد أو الحر، وبذلك نجمع بين القراءتين، ونعمل بما يرضي ربنا رب العالمين.
فمن هنا لا يجوز أبداً أن ألا نوالي بين الأعضاء، والموالاة أن تفعل الأول ويليه الثاني ثم الثالث والرابع، فهذه الموالاة فريضة، وهذا أحسن ما نقول فيها، إلا في حال إذا كان الفصل يسير -لحظات دقيقة- فيعفى عنه، أما إذا كان الفصل ليس طويلاً كأن يغسل وجهه ويديه ثم ينتقل إلى مكان آخر ليغسل فيه رجليه، لسبب انكفاء الماء الذي بين يديه مثلاً أو انقطاعه عن المكان الذي يسيل منه فلا حرج، فينتقل إلى مكان آخر يكمل فيه وضوءه للضرورة [غير أن الفصل اليسير يعفى عنه، وكذا ما كان لعذر كنفاد الماء أو انقطاعه] نفد من الإناء أو انقطع من العين [أو إراقته وإن طال الزمن؛ إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها] فإذا كان عدم الموالاة للضرورة فلا حرج.
ولا يحل لمؤمن أن يدخل في عبادة ثم يقطعها، كأن يحرم بعمرة ثم لما يصل مكة ينصرف عنها، أو أن يدخل في الصلاة فيصلي ركعة منها أو يكبر ويقرأ الفاتحة مثلاً ثم يخرج لحاجته قائلاً: هذه نافلة، لا يصح ذلك أبداً؛ لقول الله تعالى من سورة محمد صلى الله عليه وسلم: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33].
وصلّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر