فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:98] السياق اللغوي يستوجب أن يكون هناك إضمار لكن الله أظهر مبالغة في الشناعة على أولئك القوم، قال الله: فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:98] ولم يقل: فإن الله عدو لهم.
وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [البقرة:99] يعرف علماء اليهود قبل عامتهم أنها حق من الرب تبارك وتعالى، فكفرهم بها ليس لنقص في تلك الآيات لكن لما يحملونه في طياتهم من الفسق والخروج على الطاعة.
قال الله: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا [البقرة:100] الهمزة هنا للاستفهام، والواو عاطفة، هذا مذهب سيبويه رحمة الله تعالى عليه، وقد تكرر نظير هذا في القرآن كثيراً.
أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ [البقرة:100] النبذ في الأصل لا يكون إلا بعد استلام وقبول، وهم قبلوا التوراة ثم بعد ذلك نبذوها وتركوها، فيكون النبذ إلقاء لشيء تحمله، وقد ذكر الله عز وجل أنه نبذ فرعون في اليم.
نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:100] وكلمة (بل) هنا للإضراب أي: للإنتقال أي أن الحق في صنيعهم أنهم لا يؤمنون.
ثم قال الله تعالى: وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:101] كتاب الله المقصود به القرآن، تركوه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، مع أنهم أهل علم، وكأن تفيد التشبيه، فلما لم يعملوا بعلمهم شبههم الله بمن لا علم له أصلاً.
قال الله: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا [البقرة:102] سليمان بن داود عليه الصلاة والسلام أحد أعظم أنبياء بني إسرائيل، وبنو إسرائيل بعث فيهم يوسف عليه السلام ثم بعث فيهم موسى عليه السلام، وهو الذي خرج بهم من أرض مصر، ثم مكثوا أربعين سنة في التيه، وخلال الأربعين سنة التي قضوها في التيه مات هارون ثم مات موسى، ثم دخل بهم يوشع بن نون عليه السلام الأرض المقدسة، ثم وجد فيهم أنبياء لم يصرح الله بأسمائهم، لكنه ذكر أحدهم دون اسمه رفيقاً لـطالوت ، قال الله جل وعلا: وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ [البقرة:248] أي: ملك طالوت وهذا النبي في عهده، وعهد الملك طالوت ظهر داود عليه السلام، قال الله: وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ [البقرة:251] فآل الأمر إلى داود عليه الصلاة والسلام ثم آل الأمر بعد داود إلى سليمان.
والله جل وعلا يمايز بين عباده ويجعلهم مختلفين ولا نقول: متفاوتين؛ لأن الله يقول: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ [الملك:3] لكن الله نسب الاختلاف لنفسه، فقال: وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [المؤمنون:80] فالاختلاف لا يعني بالضرورة الذم، ويعطي الله كل أحد بعضاً من المناقب والصفات والخصائص، فأعطى داود حظاً كبيراً من العبادة، أحب الصلاة إلى الله، وأحب الصوم إلى الله، وأعطى سليمان حظاً كبيراً من الملك، وفي كل خير، ولكل أحد منهما مصلحة في زمانه، فربما كان الناس في زمن داود أحوج لملك عابد ونبي عابد يتأسون به، وفي زمن سليمان فتحت الممالك فكانوا أحوج إلى نبي قوي مسخر له وملك حازم فكان سليمان عليه الصلاة والسلام.
ومما أعطيه سليمان أن الله سخر له الجن، يقول الله: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ [سبأ:13] وقطعاً حملت الجن وشياطينهم الكفرة في قلوبهم ما حملوا على سليمان، فلما مات سليمان قامت الشياطين وأخرجت طلاسم كانت قد أخفتها، وزعمت بعد موت سليمان أن سليمان كان يحكمهم بهذه الطلاسم، فأخذوا يقرءون على الناس تلك الطلاسم مؤملين لهم أن يسودوا كما ساد سليمان، والترغيب في أن يسود الناس كما ساد سليمان هو المعبر والممر الذي من أجله قال الشياطين على سليمان ما قالوه، فطمع الإنسان في السيادة ثغرة جعلوها معبراً للقدح في سليمان عليه الصلاة والسلام، والشياطين لم يصرحوا بأن سليمان كان كافراً، وإنما صرحوا بأن سليمان كان ساحراً، والسحر قرين الكفر، ولهذا قال الله: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا [البقرة:102]، فـ(ما) في قوله جل وعلا: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ [البقرة:102] نافية، يريد الله بها تنزيه نبيه سليمان أن يكون قد تلبس بحال أهل السحر أو حال أهل الكفر.
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ [البقرة:102] كفروا باتباعهم السحر، يعلمون الناس السحر (وما أنزل) وهذه (ما) موصولة، ولا يصح أن يبدأ بها، وقد حررنا هذا من قبل في دروس قد خلت ومضت، وذكرنا أن ما الموصولة لا يبتدأ بها، إذا ابتدئ بها لا يفهم منها إلا النفي؛ لأن الرسم الإملائي واللفظي واحد، فنقول عندما نقرأ: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ [البقرة:102] يصبح المعنى: يعلمون الناس السحر والذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت، والذي أنزل سحر لكنه سحر معني فقط على ظاهر القرآن، ولا أجزم به سحر تفريق، أما السحر الأول فهو سحر موروث من قديم؛ لأن السحر كان منذ زمن موسى، والسحر المذكور في زمن موسى لم يذكر الله أنه سحر تفريق وإنما سحر استرهاب وتخييل.
فهؤلاء الشياطين يعلمون الناس السحر الموروث القديم والسحر الذي جاء به هاروت وماروت، قال الله: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [البقرة:102] أي أن هذين الملكين لا يعلمان أحداً طرائق السحر حتى يبينا له جادة الصواب، وأنهما بعثا فتنة للناس، والله جل وعلا مليك مقتدر، والخلق خلقه، والأمر أمره، والعباد عبيده، ومن حقه جل وعلا -ولا ملزم له- أن يبتلي عباده، وهو أعلم بمنافعهم ومصالحهم.
وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [البقرة:102] وهذا دليل ظاهر على أن السحر كفر.
مِنْهُمَا [البقرة:102] أي من الملكين. مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [البقرة:102] أي الذي يفرقون به بين المرء وزوجه، وهذا نص ظاهر بأن السحر الذي جاء به هاروت وماروت سحر التفريق.
وقول الله جل وعلا: مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ [البقرة:102] (ما) موصولة، وسمعت من بعض أهل التجربة القائمين على فك السحر من الناس من إخواننا القراء المتقنين، وهذا الباب قد فتح فتحاً واسعاً عياذاً بالله، أن (ما) تحتمل أربعة أشياء: تحتمل في سحر التفريق بغض الرجل لامرأته، وبغض المرأة لزوجها، والثالث عدم القدرة على الجماع، والرابع -وهذا الرابع في النفس من إثباته شيء- عجز المرأة عن الحمل، لكنني أقول إن ( ما ) في اللغة تحتمل هذا وأكثر، فلو ثبت شيء آخر غير الذي حررناه يدخل؛ لأن (ما) في اللغة تفيد العموم.
فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [البقرة:102] ولما كان الرب جل وعلا خالق الأسباب والمسببات فما كان لها أن تمضي إلا بإذنه.
قال الله: وَمَا هُمْ [البقرة:102] أي هؤلاء السحرة. بِضَارِّينَ بِهِ [البقرة:102] أي بالسحر. مِنْ أَحَدٍ [البقرة:102] أي من الناس، و(من) إذا جاءت بعدها نكرة والجملة مسبوقة فهذا من أعظم صيغ العموم.
وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ [البقرة:102] أي: أي أحد. إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:102] ولا يمكن أن يقع شيء قدراً إلا بإذن الله.
وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ [البقرة:102] فهم منها أكثر العلماء على أن السحر ضرر محض لا نفع فيه، والقرينة ظاهرة، فإن الله قال: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ [البقرة:102] فلو سكت جل وعلا لفهم أنه قد يكون في السحر بعض المنفعة، لكن قول الله: وَلا يَنفَعُهُمْ [البقرة:102] هذا نفي للمنفعة، فدلت على أن السحر شر وضرر محض خالص، وممن صرح بهذا العلامة ابن سعدي رحمة الله تعالى عليه في تفسيره.
ثم قال الله: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة:102] أي: لا حظ له ولا نصيب، والاسم النكرة إذا جاء مسبوقاً بحرف الجر من والجملة منفية تعني النفي المطلق، وهذا من أعظم صيغ العموم في النفي، وهنا قال الله: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا [البقرة:102] هذا نفي. مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ [البقرة:102] هذا حرف الجر، وخَلاقٍ [البقرة:102] اسم نكرة، فلما قال الله: مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة:102] هذا نفي لأي حظ أو نصيب في الآخرة، ولا يقع النفي المطلق للحظ والنصيب في الآخرة إلا للكافر، وعلى هذا لا يتردد في كفر الساحر.
ثم قال الله: وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة:102] هذا سياق ذم؛ لأن بئس من أفعال الذم، وهنا نفى الله العلم قال: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة:102]، وقبل قليل قال: وَيَتَعَلَّمُونَ [البقرة:102]، لكن لما كان هذا العلم لا ينفع جعله الله جل وعلا بمنزلة لا شيء من العلوم.
ثم قال الله: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ [البقرة:103] مثوبة هذه أو خير تحتمل معنيين إما مثوبة بمعنى الجزاء فيصبح المعنى: ولو أنهم آمنوا واتقوا كان جزاء الله لهم خير.
وتحتمل معنى العودة والأوبة والرجعة إلى الله، أي أنهم لو آمنوا واتقوا ورجعوا إلى ربهم لكان خيراً لهم. لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة:102].
أما الملكان فندما وتابا إلى الله وتشفعا بإدريس -وكان حياً- أن يدعو لهما، فقبل الله دعاء إدريس لهما على أنهما يعذبان في الدنيا ولا يعذبان في الآخرة، فوافقا وقبلا، فهما الآن -وفق الرواية- في بئر في بابل تشد شعورهما إلى يوم القيامة.
هذا مجمل الرواية الموجودة في بطون الكتب، وأنا أعرف بعض أهل الفضل من الأحياء -متع الله بهم- يقبل مثل هذه الروايات أو يقول: ليست ببعيد، ونقل عن بعض سلف الأمة ذكرها ولا نقول: قبولها، وأنا أحررها الآن مجملة من عشرات المصادر، فأقول التالي: القصة لم تثبت بسند صحيح أبداً، ومع ذلك نحن من منهجنا أنه لا يشترط السند الصحيح في غير الإخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن القصة كذلك يردها العقل، فإن الرب تبارك وتعالى نزه الملائكة عن مثل هذه الأعمال، والإشارة القرآنية في ذكرهما عليهما السلام يدل على أن شيئاً من ذلك لم يقع، ولو كان وقع منهما فلن وقع ما يعبر عنهما بأنهما ملكان فيقال: وما أنزل على هاروت وماروت، ثم يمكن للناس بعد ذلك أن يخوضوا فيقولوا: إن هاروت وماروت أصلهما ملكان، لكن لما قال الله: وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ [البقرة:102] فالمستقر في أذهاننا وفق القرآن أن الملائكة لا تعصي الله ما أمرها، وتفعل ما تؤمر به، والله وصفهما بأنهما ملكان، ومادام الله قد وصفهما بأنهما ملكان فنحن نجري عليهما أحكام الملائكة حتى يأتينا دليل نذهب به هذا اليقين، ولا خبر ولا دليل ولا حجة يدفع بها هذا اليقين.
هنا نقف على قضية الندامة، لأن الله ذكر أنهم لو فعلوا كذا لكان خيراً لهم، ومن الفوائد الاستطرادية أن الندامة تقع على أربعة أحوال: ندامة يوم، وندامة عمر، وندامة سنة، وندامة إلى الأبد.
أما ندامة يوم فيقولون: رجل خرج من بيته ولم يتغد فلا يدري هل يجد أحداً يغديه أو لا.
وندامة سنة رجل ترك الزرع في وقته، فليس له حل إلا العام القادم؛ لأن الزراعة موقوتة.
وندامة عمر شخص تزوج امرأة لا توافقه.
وندامة أبد من ترك أمر الله جل وعلا نسأل الله العافية.
ندامة يوم، ندامة عمر، ندامة سنة، ندامة إلى الأبد، وقاني الله وإياكم الأربعة كلها، وإن كانت الأولى أخفها.
السحر تمويه وتلاعب يقصد به خداع الناس والضرر بهم، وله حقيقة كما عليه جمهور أهل السنة سلك الله بنا وبكم سبيلهم، وناسب أن يذكر الله بعد السحر المحرم سحراً آخر يشمل نوعاً من التمويه، ولا نقول: سحراً بمعناه الحقيقي، قال الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا [البقرة:104].
العلماء رحمهم الله في هذه الآية على طريقين:
طريق تجنبوا مسألة سبب النزول، وإنما رأوا للفظة ونقشوها مع قرائنها من السنة، ففي السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسموا العنب كرماً) وقال: (لا يقل أحدكم: عبدي وليقل: فتاي) فقالوا: هذا النهي من جنسه، النهي عن كلمة راعنا من جنس النهي عن تسمية العنب كرماً، وعن قول السيد لعبده: يا عبدي، وجعلوا كلمة راعنا مجرد كلمة كان يقولها المؤمنون فكرهها الله وأبدلهم غيرها وهي انظرنا، وهذا المسلك اختاره إمام المفسرين ابن جرير الطبري رحمة الله تعالى عليه.
والآخرون من العلماء نظروا للآية مع سبب نزولها وفق ما ثبت عندهم فقالوا: إن كلمة راعنا بمعنى تأن بنا وأعطنا سمعك وأشفق علينا، وهي توافق بالعبرية في لفظها كلمة سيئة عند اليهود، فلما رأت اليهود أن الصحابة يخاطبون النبي بهذا اللفظ صاروا يخاطبونه بها وهم يقصدون معناها في العبرية، وقال بعضهم لبعض: كنا نسب محمداً سراً واليوم نقدر أن نسبه جهراً، فلما أراد الله أن يقطع دابرهم ويسد الذريعة عليهم قال جل وعلا للمؤمنين في مخاطبة نبيه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا [البقرة:104] دفعاً لتوهم يهود، وَقُولُوا انظُرْنَا [البقرة:104] والمعنى في إجماله واحد، نقول للقائم بمصالح الوقف ناظر، والناظر القائم بتدبير مصالح الناس، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم قائم بشئون أمته وشئون أصحابه في المقام الأول، فاللفظ قريب من معنى راعنا بل أفضل منه، فقطع الله جل وعلا بهذا الطريق على اليهود وما يريدونه من تلك اللفظة.
وهذا الذي يترجح عندي لسبب خارج عن النص، والمرجح إن كان من خارج النص يكون أقوى، فالآية التي قبلها والتي بعدها تتكلم عن اليهود كذلك تتكلم عن اليهود آية: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [البقرة:105]، ووضع هذه الآية بين هاتين الآيتين يرجح أن المسألة تتعلق باستعمال اليهود لهذه اللفظة.
لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا [البقرة:104] ولم يحدد الله المفعول، قال العلماء: حتى يعلم أن المؤمن مطالب بأن يسمع كلام الله جل وعلا ويمتثله أياً كان. وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:104].
ثم قال الله: وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [البقرة:105] الله جل وعلا اختصك أيها النبي بالنبوة والرسالة وختم الأنبياء، واختص هؤلاء المؤمنين باتباعك، وذلك فضل الله جل وعلا يؤتيه من يشاء فكون اليهود أو كفرة أهل الكتاب جملة وكفرة أهل الشرك لا يبتغونه هذا لا يمنع فضل الله جل وعلا عليك.
وهنا مسألة مهمة جداً، وهي أنه من حق نفسك عليك أن ترقى إلى سلم المعالي، ولك في أن ترقى سلم المعالي طرائق من أعظمها ثقتك برحمة الله، وهذا ظاهر تكلمنا عنه كثيراً.
والجانب الآخر أن تكون رفيقاً بنفسك، لا تكن محبطاً لها، فإن وعدك لنفسك بتحقيق المأمول من أعظم ما يساعد على تحقيقه.
والحساد والشمات الذين يكونون حولك أخف عليهم سقطاتك وإخفاقاتك وفشلك؛ حتى لا يزيدوك غماً على غم، مصائب الدهر التي تسمع بها لا تجعلها بين عينيك بكثرة فإنها ستكون سبباً في سقوطك، يقول أبو القاسم الشابي :
ركبت المنى وتركت الحذر
لا تحاول أن تموت قبل أوانك، فالإكثار من الخوف من الموت هو موت قبل حلول الموت الحقيقي.
وإذا هممت فناج نفسك بالمنى وعداً فخيرات الجنان عداة
واجعل رجاءك دون يأسك جنة حتى تزول بهمك الأوقات
واستر عيوبك عن جلسائك فإنما جلساؤك الحساد والشمات
إلى آخر الأبيات، وهي تدعو إلى أن الإنسان يكون عاقلاً لبيباً في طريقه للحياة، وفي طريقه للوصول إلى مجده، ولا يكثر من ذكر طرق الحوادث والإخفاقات حتى لا يصيبه بالإحباط، فالجنة -وهي أعظم مقصود وأجل مطلوب- هي وعد من الله، ومع ذلك اجعل تلك الأمور التي تنشدها وعد في أن تتبوأ مكاناً مرموقاً في أمتك تريد به وجه الله والدار الآخرة وينفع الله جل وعلا بك أقواماً ويضر بك آخرين من أهل الشرك والعصيان، واعلم وأنت في طريقك هذا أن الله جل وعلا وحده يملك الرحمة، وأن كره الحساد والشمات لرحمة الله عليك لا يمنع من وصولها إليك، قال الله: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا [فاطر:2]، ولهذا قال الله في آخر هذه الآيات: وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [البقرة:105]، ولا ريب أن علمك بعظيم فضل الرب تبارك وتعالى يعينك على أن تمشي خطواتك إلى الأمام حتى تصل برحمة الله جل وعلا إلى مقصودك.
وهذه الصفة وهي عدم حب الخير للغير صفة مشتركة لكنها بنسب ما بين أهل الكفر وما بين أهل الفسق والبعض من المؤمنين، وإن كان لا يستوي مؤمن وكافر لكنها أصل متحتم عند اليهود وكفرة أهل الكتاب جملة وعند المشركين، وقد يتلبس بها بعض المؤمنين في حسدهم لإخوانهم إذا رأوا فضل الله جل وعلا عليهم، لكنك لست مطالباً بأن تدفع حسد الناس عنك، لكن لا تجعل من شماتة الأعداء وحسد الحساد ما يعيقك عن طريق المجد الذي ترومه، ولكل هدف آلة، فخذ بالآلة وتوكل على الرب تبارك وتعالى وسر ولن يخلو ذو نعمة من حسد، وما أضر بالناس إلا حسد الحاسدين، فقد يقع شنئان حاسدك عليك من مكره بقدر الله لكن ادفعه بقول: حسبنا الله ونعم الوكيل.
وكانوا يقولون: إن ملكاً كان عنده وزير مقرب يصغي إليه، وكان الوزير من أدبه إذا اقترب من الملك يدنو قليلاً ويخاطبه، فحسده بعض الوزراء، فقدم أحد هؤلاء الوزراء إلى الملك وقال له: إن الوزير أبا فلان يقول عنك إنك أبخر. أي ذو رائحة كريهة في الفم، قال: وما دليل ذلك؟ قال: اطلب منه أن يدنو منك فإنك إن طلبت منه أن يدنو منك -أيها الملك- سيضع يده على فيه وأنفه تقززاً منك، فأضمرها الملك في نفسه، فلما كان من الغد وقبل أن يشرع الوزير في الدخول على الملك استدعاه الوزير الأول صاحب الوشاية، فأطعمه طعاماً كله ثوم، فلما دخل الوزير على الملك أراد الملك أن يختبره فأدناه منه وهو يقول له: اقرب .. اقترب .. ادن مني، فلما شعر أنه لا محالة من الدنو من الملك وضع يده على فيه حتى لا تخرج منه رائحة الثوم، فتحقق الملك من قول الواشي فغضب، وجرت سنة الملك آنذاك أنه إذا أراد أن يعطي عطية يكتبها في قرطاس، وإن كان يريد أن يعاقب يتلفظ به، لكنه في تلك المرة أخطأ فطلب قرطاساً وكتب فيه لأحد ولاته: إذا أتاك فلان فاقتله وابعث لي بجسده، فأعطاه الخطاب وخرج به، ولما خرج به قابله الوزير الواشي وهو يتلهف: ما الذي حصل؟ فلما رأى الخطاب في يده مختوماً قال: ما هذا؟ قال: هذا كتاب أعطاني إياه الملك إلى عامله فلان، فظن أنه عطية، فأخذ يتوسل إليه أن يهبها له، فوافق فأعطاه إياها، فمضى بها إلى العامل الوالي، فلما مضى بها إلى العامل وفك ختمه وقرأه قال: إن الملك يأمرني أن أقتلك، ولابد من فعل أمر الملك، فأخذ يتوسل إلى الوالي أن الخطاب ليس لي لكن الوالي نفذ رأيه وقطع رأسه.
وفي اليوم التالي دخل الوزير كعادته إلى الملك فلما رآه تعجب الملك لأنه ظن أنه قد قتل، قال: ما الذي عاد بك؟! قال: لم أذهب أصلاً، وأخبره القصة وكيف أن الخطاب أخذه فلان، قال: غريب أن تؤتيه إياه وقد قال عنك ما قال! قال: قد كذب، قال: فلم فعلت ذاك؟ قال: أيها الملك! كنت قد أكلت ثوماً عنده.
هذا مجمل القصة، فنجى الله هذا الوزير المقرب من حسد أقرانه بما انطوت عليه سريرته من حب الخير للغير، ومع ذلك نقول: حتى لو كنت حسناً باراً تقياً قد لا تسلم كما لم يسلم يوسف من حسد إخوته لكن العبرة بكمال النهايات، والله يقول وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128]
جعلني الله وإياكم من أهل التقوى، ونسأل الله التوفيق لنا ولكم.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر