من الأهوال العظيمة التي تنتظر الناس جميعاً أهوال يوم الحشر، حيث يحشر الناس على قدر أعمالهم -في أرض غير هذه الأرض- فمنهم من يحشر راكباً، ومنهم من يحشر ماشياً، ومنهم من يمشي على وجهه!
ومن هذه الأهوال دنو الشمس من رءوس الخلائق، إلا أن من رحمة الله أن جعل في ظل عرشه أصنافاً من الناس؛ لما عملوه في هذه الدنيا من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
-
من مات على شيء بعث عليه يوم القيامة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، ونصح الأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:
فحيَّاكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً.
وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته، أن يجمعنا مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله!
في رحاب الدار الآخرة.
سلسلة علمية هامة تجمع بين المنهجية والرقائق، وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي، الهدف منها: تذكير الناس بحقيقة الآخرة، في عصر طغت فيه الماديات والشهوات، وانصرف كثير من الناس عن منهج رب الأرض والسموات؛ ليتذكر الناس ربهم جل وعلا، وليتوبوا إليه سبحانه قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم يخصمون:
فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ [يس:50].
وهذا هو لقاؤنا العاشر من لقاءات هذه السلسلة الكريمة المباركة، وكنا قد أنهينا الحديث في اللقاء الماضي بحول الله جل وعلا عن البعث، وتوقفنا عند هذه المشاهد التي تخلع القلوب! حينما يخرج الناس من قبورهم حفاة عراة غرلاً، كل يبعث على نفس الهيئة التي مات عليها! فمن مات على طاعة بعث على تلك الطاعة، ومن مات على معصية بعث على نفس المعصية، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح
مسلم : (
يبعث كل عبد على ما مات عليه).
فمن الناس من يبعث والنور يشرق من وجهه، ومن بين يديه، وعن يمينه:
نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التحريم:8]، ومنهم من يكون نوره كالجبل، ومنهم من يكون نوره كالنخلة، ومنهم من يكون نوره كالرجل القائم، ومنهم من يكون نوره على إبهامه يوقد مرة ويطفأ مرة، ومنهم من تحيط الظلمة به من كل ناحية، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم يوم القيامة من أهل الأنوار، ومنهم من يبعث وهو ينطلق في أرض المحشر قائلاً: لبيك اللهم لبيك، من هذا؟! إنه الذي مات بلباس الإحرام في حج أو عمرة، ومنهم من يبعث وينبعث منه الدم: اللون لون الدم، والريح ريح المسك، من هذا؟! إنه الشهيد في سبيل الله جل وعلا، ومنهم من يبعث ولسانه مدلىً على صدره! منظر بشع! من هذا؟! هذا الذي أكل لحوم الناس في الدنيا بالغيبة، ومنهم من يبعث وأظفاره من نحاس يمزق بها لحم وجهه! ويقطع بها لحم صدره، من هذا؟! هذا هو الذي آذى الناس في الدنيا، ومنهم من يبعث وقد انتفخت بطنه لا يقوى على القيام في أرض المحشر! بل تراه يتلبط ويتخبط كالذي يتخبطه الشيطان من المس، من هذا؟! إنه آكل الربا:
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، وهذا رجل ينطلق من قبره إلى أرض المحشر عرياناً ومن حوله مجموعة من الأطفال الصغار يجرونه جراً، ويدفعونه دفعاً للوقف بين يدي الله سبحانه، من هذا، ومن هؤلاء؟! هؤلاء هم اليتامى وهذا آكل أموال اليتامى ظلماً:
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10]، ومنهم من يبعث وكأس الخمر في يده وهو أنتن من كل جيفة! ومنهم من يبعث وهو يحمل على كتفه ما سرقه في هذه الحياة الدنيا! قال تعالى:
وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161].
إنها مشاهد تخلع القلوب يا عباد الله! فلقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه: أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه.
فمن مات ساجداً بعث يوم القيامة ساجداً، ومن مات موحداً بعث يوم القيامة موحداً، ومن مات على معصية بعث يوم القيامة على نفس المعصية.
اللهم استرنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض، برحمتك يا أرحم الراحمين!
-
أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة محمد صلى الله عليه وسلم
-
أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام
وإذا كان المصطفى هو أول من يبعث يوم القيامة، فإن أول من يُكسى يوم القيامة هو خليل الله إبراهيم.
كما في صحيح
مسلم من حديث
ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال (
أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله يوم القيامة حفاةً عراةً غُرْلاً، وأول الناس يُكْسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام).
وفي رواية
البيهقي من حديث
ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: (
أول الناس يُكسى من الجنة يوم القيامة إبراهيم عليه السلام، ويؤتى بي -أي: بالحبيب المصطفى- فأُكسى حُلّة من الجنة لا يقوم لها البشر).
وتكلم علماؤنا عن حكمة تقديم إبراهيم عليه السلام على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الكسوة يوم القيامة.
ومن أجمل ما ذكره أهل العلم: أن المشركين لما هموا بحرق إبراهيم في النار، وأشعلوا النار المتأججة التي ارتفع لهيبها في عنان السماء حتى كانت الطيور تسقط من ارتفاع لهب هذه النيران! وظلوا يجمعون لها الحطب شهوراً وأياماً، فلما هموا بإلقائه جردوه من كل ثيابه، فلما صبر إبراهيم واحتسب وتوكل على الله جازاه الله سبحانه وتعالى على ذلك، فوقاه حر النار في الدنيا والآخرة، وكافأه يوم القيامة فكساه على رءوس الأشهاد.
فأول من يبعث هو الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، وأول الناس يُكسى هو الخليل إبراهيم عليهما وعلى جميع النبيين والمرسلين أفضل الصلاة وأزكى السلام.
وبعد البعث حشر.
وهذا هو موضوعنا اليوم مع حضراتكم، فأعيروني القلوب والأسماع والله أسأل أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وسوف ينتظم حديثنا مع حضراتكم في موضوع الحشر في العناصر التالية:
أولاً: صفة أرض المحشر.
ثانياً: كيف يحشر الناس؟!
ثالثاً: هول الموقف.
رابعاً: في ظل عرشه.
أولاً: صفة أرض المحشر:
أيها الخيار الكرام! إن الأرض التي سيحشر الناس عليها تختلف تماماً عن الأرض التي نعيش عليها:
يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم:48].
تختلف الأرض، بل وتتبدل وتتغير السماء، ووصف لنا المصطفى صلى الله عليه وسلم طبيعة هذه الأرض التي سيحشر الناس عليها وصفاً دقيقاً بليغاً.
ففي الحديث الصحيح الذي رواه
البخاري و
مسلم من حديث
سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (
يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كَقُرْصَةِ النَّقِي)أي: على أرض كالفضة الناصعة البياض، لم يسفك فيها دم، ولم تعمل عليها خطيئة أو معصية، أرض بيضاء نقية، فالعفر: هو البياض الذي يميل إلى الحمرة.
وعند
ابن فارس : هو البياض الشديد الناصع البياض.
(وقرصةُ النقي) أي: كالدقيق الأبيض النقي من الغش والنخال.
قال
سهل : (ليس عليها معلم لأحد) المعلم: هو العلامات التي يتعارف بها الناس على الشوارع، والمدن والطرقات، فهذا معلم يبين هذه المدينة، وهذا معلم يبين هذا الشارع والطريق، هذا في أرض الدنيا، أما في أرض المحشر فليس في هذه الأرض معلم لأحد، هي أرض بيضاء مستوية كالفضة البيضاء لا يوجد عليها بناء ولا أشجار، ولا أنهار.
هذه هي صفة أرض المحشر كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
والتقوى: أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر.
وسأل سائل
أبا هريرة عن التقوى؟ فقال
أبو هريرة : هلا مشيت على طريق فيه شوك؟ قال: نعم، قال: فماذا صنعت؟ قال: كنت إذا رأيت الشوك اتقيته، قال
أبو هريرة : ذاك التقوى.
فقال
ابن المعتز:
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماشٍ فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
وقال
طلق بن حبيب : التقوى: أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله.
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا *
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا [مريم:85-86] كما تورد البهائم لتشرب! (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا). أما التقي: فإنه يحشر إلى الله راكباً، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المتقين، ومن السعداء في هذا اليوم العظيم، إنه على كل شيء قدير.
أما الكافر فإنه يمشي على وجهه، إنه مشهد -ورب الكعبة- يخلع القلب!
أما المتكبرون الذين انتشوا وانتفخوا في الدنيا ولم يذلوا أنفسهم لله، ولم يخفضوا جناح الذل لخلق الله، بل تراه مغروراً بكرسيه الذي جلس عليه.. تراه مغروراً بمنصبه.. تراه متكبراً بماله.. تراه متكبراً بسلطانه وجاهه.
هل عرفت صورة حشر هذا المتكبر؟! إنه سيحشر بمنظر وبهيئة لو عرفها لوضع أنفه في التراب ذلاً لمولاه! ولخفض جناح الذل لخلق الله.
يا بن التراب ومأكول التراب غداً اقصر فإنك مأكول ومشروب.
علام الكبرياء يا بن آدم؟! وأنت تحمل البصاق في فمك!! وتحمل العرق تحت إبطيك!! وتحمل البول في مثانتك!! وتحمل النجاسة في أمعائك!! وتمسح عن نفسك بيدك القذر كل يوم مرة أو مرتين!
يا أيها الإنسان ما غرك؟!
مر أحد السلف على رجل متبختر مختال في مشيته، فقال له هذا الرجل الصالح: يا أخي! هذه مشية يبغضها الله ورسوله.
فقال له المتكبر المنتفخ: ألا تعرف من أنا؟!
قال: نعم أعرفك، فأولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت بين ذلك تحمل العذرة!
من أنت أيها المتكبر؟! من أنت أيها المغرور؟!
تصور معي مشهد حشر المتكبر يوم القيامة!
يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم -والحديث رواه
البخاري و
مسلم و
الترمذي وغيرهم- : (
يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذَّر في صور الرجال).
تطؤه الأقدام.
الناس يطئون النمل بأقدامهم وهم لا يشعرون، فكذلك يحشر المتكبر يوم القيامة كالذر! تدوسه الأقدام والأرجل؛ لأنه كان منتفخاً.. منتشياً.. متكبراً.. مغروراً في الدنيا، والجزاء من جنس العمل، فكما انتفخ واستعلى يحشر يوم القيامة في غاية الذلة والمهانة، تطؤه الأرجل والأقدام، وهم في طريقهم إلى الرحيم الرحمن جل وعلا. (
يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر، تطؤهم الأرجل، يعلوهم الذل من كل مكان).
صور رهيبة! مشاهد تخلع القلوب -ورب الكعبة- لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فإذا ما وصلت الخلائق كلها إلى أرض المحشر: تنزلت الملائكة ضعف من في الأرض، وتحيط الملائكة بأهل الأرض من كل جانب ومن كل ناحية، وهل يا ترى! ينتهي هذا البلاء وهذا الكرب؟! لا والله، بل إن الموقف فيه من الأهوال والكروب ما يخلع القلوب، وهذا هو عنصرنا الثالث.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الأحبة الكرام! وأخيراً: في ظل عرشه.
في هذا المشهد الذي يكاد يخلع القلوب، فوالله إن مجرد الكلام عن أهوال هذا اليوم ترتعد له الفرائص، فكيف إذا عايناه وعاصرناه وعايشناه ؟!
في هذا الموقف ينادي الحق جل جلاله على أناس ليظلهم بظله يوم لا ظل إلا ظله، يا ترى من هؤلاء السعداء؟! من هؤلاء السعداء الذين يفوزون فوزاً لا يشعرون بشقاء بعده أبداً؟!
الأصناف التي يظلها الله بظل عرشه
يظلهم الملك في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، لا أشجار ولا أنهار ولا بيوت، لا يستطيع الإنسان أن يأوي إلى أي ظل، والشمس فوق الرءوس، وينادي الحق تبارك وتعالى على هؤلاء السعداء، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنهم في حديث صحيح رواه
البخاري و
مسلم من حديث
أبي هريرة فقال: (
سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصبٍ وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه).
اللهم اجلنا منهم بمنك وكرمك.
(إمام عادل): حاكم عادل عاش ليقيم العدل في الأرض، سعدت به رعيته، وسعد برعيته، كان يتقي الله في هذه الأمانة، ويعلم يقيناً أن الحكم والمنصب أمانة سيسأل عنها بين يدي الله، كما قال المصطفى لـ
أبي ذر : (
يا أبا ذر ! إن الولاية أمانة، وإنها يوم القيامة حسرة وندامة إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها).
(إمام عادل) قضى الليل والنهار في أحوال رعيته؛ ليسعدهم فأسعدهم في الدنيا فسعدت به الرعية، وسعد هو بالرعية.
ووالله إني لأستحي من الله أن أتعرض لمجرد لفظ (إمام عادل) ولا أتحدث عن
عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، ذلكم
الفاروق الذي ملأ الدنيا عدلاً، فكان لا ينام الليل ولا النهار إلا النزر اليسير، ويقول: إذا نمت بالنهار ضيعت رعيتي، وإذا نمت بالليل ضيعت نفسي! فكان يتفقد أحوال الرعية، وهو الذي انطلق في يوم شديد الحرارة يجري وراء بعير من إبل الصدقة قد ند وجرى، فخرج
عثمان بن عفان ينظر إليه من شرفة بيته، وهو يجري: يا ترى! من هذا الذي خرج في هذا الوقت الشديد الحرارة؟! من هذا الذي يجري على الرمال التي انعكست عليها أشعة الشمس فتكاد الأشعة المنعكسة أن تخطف الأبصار؟! فلما اقترب هذا الذي يجري من
عثمان رأى
عثمان أن الرجل الذي يجري هو أمير المؤمنين
عمر ! فقال
عثمان : ما الذي أخرجك في هذه الساعة يا أمير المؤمنين؟! لماذا تجري؟! فقال
عمر : بعير من إبل الصدقة قد ند يا
عثمان وأخشى عليه الضياع، فقال
عثمان : فتعال إلى الظل واشرب الماء البارد، وكلف أحد عمالك ليأتي لك بهذا البعير. فقال
عمر : عد إلى ظلك ومائك البارد، وهل ستحمل عني وزري أمام الله يوم القيامة؟!
إنه الرجل الذي كان يرتجف قلبه أمام كل نعمة، وأمام كل ثوب، وأمام كل لقمة، ويقول لنفسه: ماذا أنت قائل لربك يا
عمر ؟!
يا رافعاً راية الشورى وحارسها جزاك ربك خيراً عن محبيها
رأي الجماعة لا تشقى البلاد به رغم الخلاف ورأي الفرد يشقيها
إن جاع في شدة قوم شركتهمُ في الجوع حتى تنجلي عنهم غواشيها
جوع الخليفة والدنيا بقبضته منزلة في الزهد سبحان موليها
فمن يباري أبا حفص وسيرته أومن يحاول للفاروق تشبيهاً
يوم اشتهت زوجه الحلوى فقال لها من أين لي ثمن الحلوى فأشريها
ما زاد عن قوتنا فالمسلمون به أولى فقومي لبيت المال رديها
كذاك أخلاقه كانت وما عهدت بعد النبوة أخلاق تحاكيها
إمام عادل: هذا في ظل عرش الله جل وعلا يوم لا ظل إلا ظله.
(وشاب نشأ في عبادة الله):
أيها الشباب! والله إن من سمع هذا الموضوع اليوم، ووقف مع بعض أهوال يوم الحشر، وعلم علماً يقينياً لا يتسرب إليه شك أن الله جل وعلا سيظله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، نشأ في عبادة الله، وانصرف عن معصية الله، وإن زلت قدمه في معصية تاب إلى الله جل وعلا وأناب؛ لينطبق عليه هذا الوصف: (شاب نشأ في عبادة الله) من علم ذلك من شبابنا أرجو الله عز وجل أن لا يتأخر لحظة عن طاعة الله سبحانه.
أيها الشباب! الطاعة شرف.. الطاعة عز، فلا عز في الدنيا والآخرة إلا بالطاعة، ولماذا الشاب؟! لأن الشاب تجري دماء الشهوة في عروقه؛ لأن الشاب -لاسيما في سن المراهقة وسن الفتوة- تعصف الشهوة بكيانه عصفاً، ولكنه خوفاً من الله ومراقبة لله يعصم نفسه ويحارب شهواته، ويحارب نفسه الأمارة خوفاً من الله وإجلالاً له وطاعة له، ولذا كافأ الله هذا الشاب الطائع، التقي، النقي، الطاهر الذي نشأ منذ نعومة أظافره يعبد الله، ويطيع الله، ويؤدي الصلاة، ويحفظ حقوق الله، ويمتثل أوامره ويجتنب نواهيه ويقيم حدوده، يكافئ الله هذا الشاب فيظله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
أسأل الله أن يمن على شباب الأمة بالهداية، وأن يوفقهم إلى الطاعة، وأن يظلهم في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
(ورجل قلبه معلق بالمساجد): معنى ذلك: أن قلبه في المسجد، إن صَلَّى الفرض وخرج إلى الدنيا ليسعى على رزقه من الحلال، أو عاد إلى بيته وأولاده، يخرج من المسجد وقلبه مشتاق أن يرجع إلى المسجد مرة أخرى، فهو متعلق بالمسجد يهوى الجلوس في بيت الله، بل يتمنى أن لو ييسر الله له الوقت ليقضي جُل وقته في بيت الله جل وعلا.
فيا أيها المسلم! يا من تقضي الوقت أمام المسلسلات والمباريات والأفلام!! لماذا لا تحرص على أن تقضي هذا الوقت في بيت الله جل وعلا؟! فإن بيت الله سبحانه إن تعلق قلبك به أظلك الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلاَّ ظله.
(ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه).
إنه الحب لله، (من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان)، وإن آصرة الحب في الله هي أغلى آصرة، وإن رابطة الحب في الله هي أغلى رابطة، بل إن أحببت أخاً لك في الله لا من أجل دنيا ولا من أجل منصب ولا من أجل رئاسة، إن أحببت أخاً لك في الله تبارك وتعالى اسمع ما هي النتيجة:
يقول الله سبحانه يوم القيامة -والحديث في الصحيحين-: (
أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي).
وأشهد الله أنني أحبكم جميعاً في الله، وأسأل الله أن يجمعنا مع المتحابين بجلاله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
(ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه) جمعهم الحب في الله ولم يتفرقا إلا على الحب في الله.
(ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال -أي: للزنا- فقال: إني أخاف الله): تذكر الله جل وعلا، وراقب الله سبحانه، وامتنع عن هذه الكبيرة خوفاً من الله جل وعلا، هذا يظله الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
(ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه): خلى بنفسه، قام من الليل، وجلس يصلي أو يذكر الله سبحانه وتعالى فلما امتلأ قلبه بهيبة الله وبعظمة الله، فاضت عيناه بالدموع خوفاً منه وهيبة له سبحانه. (
عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله).
فهذا الرجل الذي فاضت عينه بالدموع خوفاً من الله وخشية لله، من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
أصناف أخرى في ظل الله غير الأصناف السبعة
وأرجو أن نعلم يقيناً أن هؤلاء إن أظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله فهناك غيرهم، وليس هؤلاء فقط.
ولقد جمع الحافظ
ابن حجر الذين يظلهم الله في ظله من هؤلاء السبعة وغيرهم، في كتاب قيم سماه: (معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال) بين أن الله سبحانه يظل غير هؤلاء السبعة في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، ففي الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (
من أنظر -أمهل- معسراً أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله).
فهذا مثال لمن يظلهم الله في ظله غير هؤلاء السبعة.
أيها الحبيب الكريم! احرص على طاعة الله، وعلى هذه الخصال الخيرة؛ ليظلك الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
يقوم بقية الخلق في هذا الموقف قياماً طويلاً، ويشتد الكرب عليهم حتى يتمنى بعضهم أن يحشر إلى النار! ولا يقف في مثل هذا الموقف المهيب الرهيب! فهو يظن أن النار لن تكون أشد عذاباً مما هو فيه من هم وكرب!
وهنا يبحث الخلق عمن يشفع لهم إلى الله جل وعلا؛ ليقضي الله تبارك وتعالى بين الخلائق، وينهي هذا الموقف المهيب الرهيب، وهنا يقول كل نبي من الأنبياء: نفسي نفسي.
ويتقدم الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم صاحب المقام المحمود وصاحب الحوض المورود، وصاحب اللواء المعقود، وصاحب الشفاعة العظمى يوم الدين، يتقدم الحبيب محمد شافعاً للخلائق في أرض المحشر؛ ليقضي الله جل وعلا بينهم.
ونتوقف عند هذا المشهد الكريم، عند مشهد شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الموقف جميعاً.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يختم لنا ولكم بالتوحيد والإيمان، وأن يجعلنا وإياكم من أهل شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام.
اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين!
اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً.
اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم نجنا من أهوال يوم القيامة، اللهم نجنا من أهوال يوم القيامة، اللهم نجنا من أهوال يوم القيامة، اللهم اجعله يوماً يسيراً علينا برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم متعنا بظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك يا رب العالمين! اللهم اقبلنا وتقبل منا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جهنم، ثم أعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.