لما أجاب تبارك وتعالى عن شبهات اليهود وألزمهم الحجة، جرد الخطاب للنصارى زجراً لهم عما هم عليه من الكفر والخذلان؛ لأن من مقاصد القرآن الكريم كما قال عز وجل:
[الكهف:4].
إذاً: أحد المقاصد الأساسية من البعثة المحمدية هو إنذار كل من زعموا لله ولداً، وهذه لا تشمل النصارى فقط، لكنها تشمل المشركين الذين زعموا أن الملائكة بنات الله، وتشمل اليهود الذين قالوا:
[التوبة:30] تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
وتجريد الخطاب للنصارى ليبين ضلالهم ويحذرهم، قال سبحانه وتعالى:
[النساء:171].
قوله: ((يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ)) أي: بالإشراك في رفع شأن عيسى عليه السلام، وادعاء ألوهيته؛ فإنه تجاوز فوق المنزلة التي أوتيها وهي العبودية والرسالة، فهنا نهي عن الغلو في الدين، والغلو في العقيدة، كما فعل أهل الكتاب أو النصارى لعنهم الله.
فالغلو: هو مجاوزة الحد بالإسراف، فإن وصف عيسى بالألوهية رفع له فوق منزلته التي هي العبودية لله سبحانه وتعالى والرسالة.
فيستفاد من الآية: حرمة الغلو في الدين، وهذه الآية فيها دليل من أدلة تحريم التطرف الذي هو الأخذ بطرفي الأمور؛ إما أقصى اليمين، وإما أقصى اليسار، بالإفراط أو التفريط، وسبق أن ذكرنا أن التطرف يستلزم وجود وسط وطرفين، والمذموم هو طرفا الأمور كما قيل: كلا طرفي قصد الأمور ذميم.
أي: كلاهما مذموم. والعدل الذي يحبه الله هو الوسط، وهو هذا الدين وهذه الأمة، كما قال تعالى:
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143]، فهي الأمة الوسطية، فالوسطية نعرفها بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ونعرفها بالقرآن والسنة، فما يوافق الإسلام ويوافق الوحي فهو الوسط، وأي نوع من الانحراف عن هذه الوسطية يميناً أو يساراً فهذا هو التطرف، فعلى هذا الأساس نقول: كل كافر سواء كان يهودياً أو نصرانياً فهو متطرف، وأي واحد يعتقد بعقيدة غير عقيدة الإسلام فهو متطرف، كما نرى أن تطرف اليهود بالجفاء وبسب الأنبياء، وبوصف الله سبحانه وتعالى بما لا يليق به، فهذا هو أقبح التطرف، أو تطرف النصارى بما زعموه من أن الله ثالث ثلاثة، وأن الله هو المسيح بن مريم..إلخ.
إذاً: فكل من لا يدين بدين الإسلام فهو متطرف، ثم إن في داخل دائرة الإسلام نفسه هناك فرق وهناك تفرق بين المسلمين، فكل من ليس من أهل السنة والجماعة فهو متطرف أيضاً، فالمتطرف داخل دائرة الإسلام هو كل من حاد عن منهج أهل السنة والجماعة؛ كالخوارج، والمعتزلة، والقدرية وكل هذه الفرق الضالة.
فالقوم الآن أتوا إلى جانب التفريط الذي عليه المجتمع من الانحراف عن الإسلام وتضييع حدود الله وجعلوه هو الوسطية وهو خير الأمور عندهم، ثم لما جعلوا ما هم عليه وسطاً صار الإسلام واقعاً في الطرف؛ فلذلك هم يطلقون على الإسلام نفسه وصف التطرف، وأصبح العالم كله الآن يصف الإسلام بالتطرف والتشدد إلى آخر هذه القائمة، وكانوا من قبل يناورون ويموهون على الناس، أما الآن صار كلاماً صريحاً حتى من الملاحدة في بلادنا هنا.
لقد اتفق الجميع الآن على أن كلمة التطرف أو الإرهاب المقصود بها الإسلام بلا أدنى مواربة أو تمويه، فهذا من ضلالهم المبين، وهم المتطرفون حقيقة؛ لأن ما هم عليه انحراف، وكل من ينحرف عن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم هو المتطرف، فالذي يحلق لحيته ويعصي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم هو المتطرف، وليس الذي يعفيها طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كذلك الذي يضيع الصلاة هو المتطرف، وليس الذي يصلي، والذي يصافح النساء الأجنبيات هو المتطرف؛ لأنه انحرف وتطرف عن الوسطية التي هي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمرأة المتبرجة هي المتطرفة؛ لأنها انحرفت عن الوسطية التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب أن يكون عندنا اعتقاد راسخ بأن هذا هو الوزن الصحيح للأمور، وأن ما جاء به الإسلام هو الوسطية، وأن أي انحراف عنه فهذا هو الذي يستحق وصفه بالتطرف.
والآية هنا تحرم أقبح صور التطرف والتي وقع فيها النصارى لعنهم الله، وفي الصحيح عن
عمر رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (
لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله).
قوله: (لا تطروني) إما أن يكون الإطراء هو المدح، وإما أن يكون الإطراء هو المبالغة في المدح.
فإذا قلنا: إن الإطراء بمعنى المدح فهو يعني: لا تمدحوني، فإني مستغن عن مدحكم، فقد مدحني الله سبحانه وتعالى بما لا مزيد عليه، وذلك بقوله عز وجل:
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، وغير ذلك من الممادح العظيمة التي شرفه الله بها، فهل يحتاج بعد ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام إلى أن ننشئ له المدائح والقصائد والمحامد بعد أن مدحه الله بهذه المحامد، فإما أنه نهي عن المدح، أو أنه نهي عن الغلو في المديح الذي يؤدي إلى ما وقع فيه النصارى قبحهم الله، وقد ضل بعض الشعراء في هذا الباب، فنظم بيتاً يقول فيه:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم وانطق بما شئت مدحاً فيه واحتكم
فهذا الشاعر فهم الحديث فهماً خاطئاً وقال: إن الحديث ينهى فقط عن أن نقول: محمد ابن الله، كما قالت النصارى: المسيح ابن الله.
يعني: هذا الشاعر خصص النهي هنا بزعم أنه ابن الله، لكن قولوا بعد ذلك ما شئتم فيه.
وهذا قول
البوصيري في البردة المعروفة، فهو يقول: دع ما ادعته النصارى في نبيهم.
يعني: أهم شيء ألا تقول: إن محمداً ابن الله كما قالت النصارى: المسيح ابن الله.
يقول:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم وانطق بما شئت مدحاً فيه واحتكم
فهو هنا فتح الباب على مصراعيه، وهو كان أول من خاض بالباطل في هذا الضلال، فكان بعد ذلك يقول مخاطباً رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
بناء على هذه القاعدة أو هذا الفهم الخاطئ للحديث.
الشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم هنا ينهى المسلمين عن المبالغة في مدحه؛ كي لا يصبح بعد ذلك ذريعة إلى الغلو في الدين، وتحريفه بالتالي كما فعل النصارى مع المسيح عليه السلام.
قوله: (إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) يعني: أن العبودية في حق الأنبياء من أعظم ما يمدح به الأنبياء، ومن تواضع لله رفعه، فالمبالغة في العبودية والتذلل يكون مقابله أن الله سبحانه وتعالى يرفعه في أعلى المقامات؛ ولذلك مدح الله سبحانه وتعالى النبي صلى الله عليه وسلم في أشرف المواطن بصفة العبودية؛ لأن هذا هو أعظم ما يمدح به.
وهذا الشاعر يقول في محبوبته:
لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي
أي: فلا تدعني إلا يا عبد فلانة، ولذلك قال الرجل الصالح رداً عليه:
لا تدعني إلا بيا عبده فإنه أشرف أسمائي
فأشرف الأوصاف أن تكون عبداً لله؛ ولذلك مدح الله نبيه بالعبودية في أشرف المقامات، كما في قوله تبارك وتعالى:
وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [البقرة:23] في مقام التحدي، وقال أيضاً:
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1]، وأيضاً قال تبارك وتعالى في سورة الجن:
وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [الجن:19] في مقام الدعوة، وغير ذلك من مقامات التشريف.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يشرفه الله بالعبودية، وهو يتبرأ ممن يغالي في مدحه، كأن يقول: إنه أول خلق الله، أو نور عرش الله، إلى غير ذلكم مما يزعمه الصوفية، ويزعمون بذلك أنهم يمدحون الرسول عليه الصلاة والسلام بهذه الأشياء.
وعن
أنس بن مالك رضي الله عنه (
أن رجلاً قال: يا محمد! يا سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس! عليكم بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان فإنما أنا عبد الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل).
قوله تعالى: ((وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ)) يعني: لا تصفوه بما يستحيل اتصافه به من الحلول والاتحاد واتخاذ الصاحبة والولد، بل نزهوه عن جميع ذلك.
((إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ)) تأمل أن الله سبحانه وتعالى يصف المسيح بأنه ابن
مريم ، وليس ابن الله، فهو من البداية يبين لهم غلوهم، ولذلك يكثر في القرآن وصف المسيح باسمه كاملاً.
((إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ)) يعني: إشارة إلى أنه ليس ابن الله، ولكنه ابن
مريم عليها السلام، فهذه صفة له تفيد بطلان ما وصفوه به من كونه ابناً لله تعالى.
قوله: ((رسول الله)) هذا هو خبر المبتدأ، يعني: المسيح رسول الله، فهو مقصور على مقام الرسالة لا يتخطاها.
و(إنما) تفيد الحصر، فهو محصور في هذه الصفة لا يتجاوزها إلى ما يزعمون من الألوهية.
((وكلمته)) أي: عيسى عليه السلام المسيح كلمة الله؛ لأنه مكون بكلمته وأمره الذي هو (كن) من غير واسطة أب ولا نطفة، ولا شك أن كل المخلوقات إنما تخلق بكلمة (كن) سواء بواسطة أو بغير واسطة،
إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] لكن خص المسيح عليه السلام هنا لما كان في خلقه من المعجزة ومن الآيات البينات على قدرة الله سبحانه وتعالى.
((وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ)) أي: أوصلها إليها بنفخ جبريل عليه السلام.
((وَرُوحٌ مِنْهُ)) يعني: روح خلقها الله سبحانه وتعالى.
و(من) هنا لابتداء الغاية حيث تقول: أكلت السمكة من رأسها إلى ذيلها، وهي كقوله تبارك وتعالى: ((وروح منه)) أي: بتخليقه وتكوينه كسائر الأرواح المخلوقة، وإنما أضافه إلى نفسه على سبيل التشريف والتكريم؛ لأننا جميعاً أيضاً خلقنا من روح الله، بمعنى: أن أرواحنا مخلوقة لله، لا أنها جزء من الله؛ ولذلك يرد على ضلال النصارى الذين يتفلسفون ويستدلون بآيات القرآن لتأييد باطلهم، يرد عليهم بقوله تبارك وتعالى:
وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ [السجدة:7] ثم قال:
ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ [السجدة:9] يعني: من روح الله، فالإضافة هنا معناها: من الروح التي خلقها الله، وليس أنها جزء من الله والعياذ بالله.
قوله: ((وروح منه)) هنا لابتداء الغاية وليس للتبعيض -والعياذ بالله- الذي هو قول النصارى، حيث يزعمون أنها جزء من الله والعياذ بالله، لكن المقصود بقوله: ((وروح منه)) يعني: روح خلقها الله سبحانه وتع
قوله: ((وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ)) أي: ولا تقولوا: إن الآلهة ثلاثة: الله، والمسيح، و
مريم ، كما ينبئ عنه قوله تعالى:
أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة:116]؟ وقد ذكر السيد:
عبد الله الهندي في مناظرته مع قسيس الهند، حكايةً عن مناظره، بأنه حكى -يعني: هذا القسيس في القصة المعروفة في الهند- أن فرقة من النصارى كانت تقول: الآلهة ثلاثة: الأب والابن و
مريم ، قال: ولعل هذا الأمر مكتوب في نسخهم؛ لأن القرآن كذبهم، وبصورة أخرى أذكر أن كبير النصارى ومقدمهم (
شنودة ) كان من سنوات طويلة يظهرونه على أنه نجم من نجوم المجتمع، كان يتكلم وهو يعرف أن عقيدته حافلة بالعورات، بل كلها عورات، والأولى له أن يستر على نفسه ويسكت عن نشر الباطل الذي هو عليه، لكنه يموه ويحاول أن يخدع المسلمين، ولا يستطيع خداع المسلمين إلا بالتمويه بأن يظهر أنه مثل المسلمين، وهو يحس ويشعر بهذه العقدة، أن عقيدته عقيدة التثليث لا يمكن أن تنظف وتطهر ولو غسلت بماء البحار، وتراه يعرض في كلامه ولا يريد أن يهاجمنا بطريقة مباشرة، ونشر له هذا الكلام في مجلة الهلال.
فكان يقول في هذه المجلة: البعض يقولون: إننا نقول إن
مريم ثالث ثلاثة.
يعني: أن الآلهة هي: الأب والابن و
مريم ! من قال هذا؟ هذا غير صحيح، ونحن لا نقول هذا.
فإذا كنت أنت وسائر النصارى لم تستطيعوا ضبط أصل أصول دينكم وألحدتم فيه هذا الإلحاد، وزعمتم أن (1 + 1 + 1=1)
مريم هي عليها السلام أم الله؟!.
فهو يحاول أن ينكر ذلك، لكن ما دام أن الله قد حكاه عنهم، فهو قطعاً قد حصل، فإما أن هذا الرجل يكذب، وإما أنه جاهل بتاريخ فرقهم وما أكثرها.
وهذا الشيخ
أبو محمد عبد الله الترجمان والذي سبق أن تكلمنا في قصة إسلامه من قبل، فقد كان أكبر علماء النصارى في أوائل القرن التاسع الهجري، ودخل في الإسلام وله قصة جميلة، وله كتاب مشهور اسمه: (تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب) حتى إن هذا الرجل اشتهر في بلاد المغرب باسم: سيدي تحفة، نسبة إلى كتابه (تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب) من كثرة ما اشتهر بهذا الكتاب، فيقول في قصته التي ذكرها في التحفة: وبعضهم يقول: الثلاثة هم الله تعالى، وعيسى بن مريم والروح.
ولا يشك ذو عقل سليم أن كل من أوتي مسكة من العقل يجب عليه أن يرغب بنفسه عن اعتقاد هذا الإفك الغثيث البارد السخيف الرذيل الفاسد الذي تتنزه عنه عقول الصبيان، ويضحك منه ذوو الأفهام والأذهان.
يقول: فالحمد لله الذي أخرجني من زمرتهم، وعافاني من بليتهم.
ثم يقول: هناك فرقة تسمى: البربرانية، التي كانت تذهب إلى القول بألوهية المسيح وأمه معاً.
ويقرر
ابن البطريق مذهب هذه الفرقة فيقول:
ومنهم من كان يقول: إن المسيح وأمه إلهان من دون الله، وهم البربرانية ولعل هؤلاء هم الذين يشير إليهم القرآن الكريم فيما يخاطب الله به تعالى عيسى بن مريم عليه السلام إذ يقول:
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ [المائدة:116]، وإذ يرد عليهم في قوله:
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ [المائدة:75] هذا السياق يفيد أنهم يزعمون أن عيسى وأمه إلهان؛ لأن الرد هنا على هذه الفرقة التي تزعم ذلك، ولذلك قال: ((كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ))، يعني: أن الذي يحتاج إلى أكل الطعام يحتاج أيضاً إلى الإخراج، ومن الذي خلق الطعام؟ إنه الله، فهل الخالق يحتاج إلى مخلوق؟ هل الخالق يحتاج إلى طعام وشراب وإلى قضاء حاجة والعياذ بالله؟!!
انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المائدة:75].
والذين يحاولون أن يتبرءوا من أنهم يعبدون
مريم عليها السلام، يتخذون أصناماً لـ
مريم عليها السلام ويتمسحون بها، ويتوجهون إليها بالدعاء والبكاء، ويسجدون أمامها في الكنيسة حيث يوجد تمثال
مريم عليها السلام، فهذا في الحقيقة معروف عنهم ومتواتر، فنقول لهم: لم تتبرءون من شيء واضح مثل الشمس؟ أليس عبادة المرء ودعاؤه وبكاؤه أمام صنم، أو أمام تمثال لـ
مريم عليها السلام أليس هذا من اتخاذ آلهة من دون الله؟! وهذا من الأشياء الأساسية في ملتهم، فإذا ألغينا من النصرانية التماثيل والصور وهذه الأشياء لما بقي فيها شيء كثير، فكل عمدة دينهم هو هذه الصور والتماثيل.
قوله: ((وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ)) يعني: أن الثلاثة هم: الله، والمسيح، و
مريم ، أو لا تقولوا: ثلاثة أقانيم فتكون الآية ترد على الفرق الأخرى الموجودة كالكاثوليك أو الأرثوذكس وغيرهم.
فقوله: ((لا تقولوا ثلاثة)) أي: ثلاثة أقانيم والتي هي: الأب والابن وروح القدس.
وقد ذكر
القاسمي رحمه الله تعالى عن بعض كتبهم النصرانية مباشرة عبارات ما نطيق أن نحكيها في الحقيقة؛ لأن فيها شركاً صراحاً، وفيها وصفاً للثلاثة الأقانيم، بأن كل أقنوم له خصائص وله ذاته المختصة بصفات معينة عندهم، والمتميزة بها، ولكنها كلها شيء واحد والعياذ بالله.
يقول حكاية عنهم: ولا نقدر أن نفهم جيداً هذه الحقائق؛ لأنها أسرار فائقة العقل والإدراك البشري.
فهم يعترفون أنهم ثلاثة وفي نفس الوقت يتناقضون، ومع هذا التناقض يقولون: نحن لا نستطيع أن نفسر هذا، ما أعسرها من عقيدة! ولذلك لما اتخذ بعض المسلمين حاسباً نصرانياً وبلغ ذلك الخليفة، كتب إليه الخليفة أو غيره قائلاً: كيف تأمن على الحساب من لا يتقن الحساب، واحد يقول إن: (1+1+1=1)!.
يعني: كيف توظفه محاسباً عندك وهو ما يعرف أن يجمع (1+1+1) يقول: إنها تساوي (1) هل هذا يصلح أن يكون حاسباً!.
فهم يقولون: الأقانيم موجودة، لكنها ثلاثة وهي واحد، ومادام أنها موجودة فهي متميزة، يعني: أن كل إله مستقل بذاته.
يقول في كتاب الصلاة الرائج في إنجلترا: أيها الثلاثة المقدسون والمباركون والعالون منزلةً -يعني: هذا في كتابهم يخاطبهم بأنهم والعياذ بالله ثلاثة- كذلك
مريم يعبرون عنها بأنها أم الله أو أنها زوجة الله، ويسجدون لها ولصورتها السجود الذي لا يجوز إلا لله، نسأله سبحانه وتعالى الحفظ من الضلالات، ونعوذ به من الخذلان وتسويلات الشيطان.
والكتب في الرد على ضلال النصارى خاصة في مسألة التثليث كثيرة جداً، فلا نطيل الكلام في ذلك.
والاختلافات في النصارى كثيرة جداً، حتى قيل: لو اجتمع عشرة من النصارى لافترقوا عن أحد عشر قولاً.
يعني: لو اجتمع عشرة من النصارى وتناظروا واختلفوا فإنهم سيأتون بمذهب جديد، ثم ذكر كلاماً كثيراً طويلاً عن شيخ الإسلام
ابن تيمية في رسالته (الرسالة القبرصية).
يقول
الماوردي في أعلام النبوة:
فأما النصارى فقد كانوا قبل أن يتنصر
قسطنطين -يعني: قبل دخول
قسطنطين في النصرانية كان دينهم صحيحاً في توحيد الله تعالى ونبوة عيسى عليه السلام- ثم اختلفوا في عيسى بعدما تنصر
قسطنطين ، وهو أول من تنصر من ملوك الروم؛ لأن الروم كانوا صابئة، ثم قهرهم على التنصر
قسطنطين لما ملكهم، فقال أوائل النسطورية: إن عيسى هو الله، وقال أوائل اليعقوبية: إنه ابن الله، وقال أوائل الملكانية: إن الآلهة ثلاثة أحدهم عيسى، ثم عدل أواخرهم عن التصريح بهذا القول المستنكر حين استنكرته النفوس ودفعته العقول.
في الأخير لما وجدوا أن كلمة (ثلاثة) صراحة منفرة، اخترعوا بعد ذلك بقرون أن الله جوهر واحد، لكنه ثلاثة أقانيم: أقنوم الأب وأقنوم الابن وأقنوم الروح القدس، وأنها واحدة في الجوهرية. واختلفوا في الأقانيم فقال بعضهم: هي خواص، وبعضهم قال: هي أشخاص، وبعضهم قال: هي صفات، وقالوا: إن الكلمة اتحدت بعيسى، واختلفوا في الاتحاد، وليس لهذه المذاهب شبهة تقبلها العقول، وفسادها ظاهر، فمن ثم قال تبارك وتعالى: ((انتهوا خيراً لكم)) أي: انتهوا عن التثليث خيراً لكم، أو اقصدوا خيراً من التثليث وهو التوحيد.
قوله: ((إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ)) يعني: واحد بذاته لا تعدد فيه بوجه ما.
((سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ)) تنزيه لمقامه جل شأنه عما زعموه من بنوة عيسى حيث قالوا: إنه الله أو ابن الله.
وقد كثر إطلاق اسم الأب على الله تعالى واسم الابن على العبد الصالح في الكتب السابقة، قال: فهو إما من الخلط في الترجمة وإما مؤول بهذه التأويلات، فكانوا يعبرون عن الإله بأنه أبوهم، ولذلك قال المسيح لليهود: لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني.
وكونهم يطلقون اسم الأب على الله تعالى واسم الابن على العبد الصالح هذا من المجاز، ولذلك كانوا يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه، لكن في الملة المحمدية الشريفة منع استعمال هذا الإطلاق وحسم الأمر؛ تحرزاً من الإيهام والوقوع في شرك الأوهام، وهذا هو طريق الرشد، فلا يجوز أن يطلق على الله الأب أو على العباد الصالحين أنهم أبناء الله؛ لكن هذا كان يستعمل في لغتهم إما مجازاً بالمعنى الذي ذكرنا، وإما أنه من ضلالهم وتخبطهم في الترجمة.
((إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ)) يعني: هذا تعليل لتنزيه الله سبحانه وتعالى عن أن يكون له ولد، أو يكون ثالث ثلاثة.
((لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)) يعني: كل ما في السماوات وما في الأرض هو مخلوق من مخلوقات الله، وهو ملك لله سبحانه وتعالى، فكيف يكون بعض ملكه جزءاً منه، فالمسيح عليه السلام عبد لله وملك لله، ومخلوق من مخلوقات الله، فكي