أما بعد:
في هذا اللقاء المبارك المتجدد سنشرع الليلة في ذكر علم من أعلام القرآن المجيد، علم على قبيلتين ممن نصروا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فسماهم الله جل وعلا في محكم كتابه: الأنصار، قال سبحانه: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100]، والأنصار اسم قرآني أطلقه الله جل وعلا، ثم أطلقه رسوله صلى الله عليه وسلم على قبيلتين من قبائل العرب أصلهما من اليمن كانتا تسكنان المدينة هما: الأوس والخزرج، ولن يكون معهم في هذا اللقاء أي علم آخر سنعرج عليه، وعلى هذا فإن الحديث عن الأنصار في هذا اللقاء المبارك سيكون حديثاً مستفيضاً أرجو الله أن يكون ثرياً بالمعلومات، مليئاً بالمعارف، محققاً للهدف، والله جل وعلا وحده هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
ليت شعري ما فعل أويس بالغنم
أي: ما فعل الذئب بالغنم، لكنها جاءت هنا معرفة بالألف واللام فتحمل عند الكثير على أنها بمعنى: العطية، والأصل أن الاسم لا تلحقه الألف واللام إذا كان علماً، لكن قد شذت بعض الكلمات عند العرب مثل هذا، مثل: الحسن؛ فإن الأصل فيه: أنه حسن إذا أردت به علماً على أحد، ويقال في حسين: الحسين، وهذا بخلاف القواعد القياسية، لكنه أمر سمع عن العرب.
أما الخزرج فمعناها في اللغة: الريح الباردة. والأوس والخزرج أصلهما أخوان، كلاهما أبناء الحارث أحد رجال العرب اليمنيين، كان ابنان أحدهما: الأوس ، والآخر: الخزرج ، وأمهما امرأة من قضاعة يقال لها: قيلة بنت كاهل ، ثم تفرع عن الأوس وأخيه الخزرج بيوت ودور عدة سكنت المدينة بعد هدم سد مأرب، ثم لما سكنت المدينة واستوطنت كانت المدينة آنذاك مرتعاً لليهود، أو بمعنى: أن اليهود هاجروا إليها رغبة في أن يخرج نبي آخر الزمان فيكونوا نصراءه على ما عندهم في الكتب، وقد أصابوا في أن النبي يخرج من المدينة أو يهاجر إلى المدينة، لكن لم يوفق لقبول دعوته إلا قليل منهم صلوات الله وسلامه عليه.
هاجرت القبيلتان إلى المدينة، وكان بينهما من التنازع وسفك الدماء ما لا يعلمه إلا الله، حتى إنه قبل هجرته صلى الله عليه وسلم بيسير كان (يوم بعاث) وهو: يوم اشتدت حربه بين الفريقين، وقتل فيه كثير من سراة القوم، وجرح فيه الكثيرون، فكان الناس أحوج ما يكونون إلى من يؤلف بينهم، فوافقت هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة افتراق الناس وتضجرهم من سفك الدماء والجراح والقتل وما أصابهم من النزعات، فكان صلى الله عليه وسلم رحمة بالناس عامه ورحمة بهاذين الفريقين خاصة رضوان الله تعالى عليهم، هذا كتأصيل لمعنى الأوس والخزرج، وهذا اسمهما في الجاهلية، أما الله جل وعلا فقد سماهم الأنصار في نص كتابه، وقد ورد اسم الأنصار كثيراً في الأحاديث كما سيأتي.
هؤلاء قبلوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أول الأمر، والقابل لأي شيء في أول الأمر ليس كمن يقبله بعد ذلك، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يعرض نفسه على قبائل العرب ويتوخى مواطن الاجتماع ويأتي أسواق العرب كسوق عكاظ وذي المجنة وغيرها، ثم كان يعرض نفسه على القبائل فعرض نفسه أول الأمر على نفر من الخزرج، هذا قبل بيعة العقبة الأولى، وقبل بيعة العقبة الثانية، فسألهم: (من أنتم؟ قالوا: نحن نفر من الخزرج، قال: من موالي يهود)، ومعنى: من موالي يهود أي: من حلفاء يهود، وقلنا: إن الأوس والخزرج كانوا يسكنون المدينة، وهم حلفاء لليهود بمعنى: نصراء، وكلمة (موالي) في اللغة كلمة واسعة: تطلق على المعتق وعلى المعتق، وعلى الحليف وعلى ابن العم، وعلى النصير وعلى الرب جل شأنه، قال الله جل وعلا: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام:62]، وتأتي بمعنى: النصير، قال الله: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ [محمد:11]، أي: لا نصير لهم، فقبل هؤلاء النفر من الخزرج دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أول الأمر دون أن يكون هناك عقد أو بيعة بينه وبينهم، ثم لما رجعوا إلى المدينة زاد العدد فبايعوه صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الأولى، ثم رجعوا ومعهم مصعب بن عمير ، ثم عادوا وبايعوا مرة ثانية، فسميت: بيعة العقبة الثانية تمهيداً لهجرته صلى الله عليه وسلم إليها، فكان من كرامة الله بالأوس والخزرج أن الله جل وعلا ألقى الصدود في جميع قبائل العرب أن ترد نبيه وأعطى القبول لهذه الفئة المباركة حتى تقبل دعوة نبيه؛ ليكون ذلك سبباً في هجرته صلوات الله وسلامه عليه إلى المدينة، وليبقى لهم ذلك الفخر مدى الدهر رضوان الله تعالى عليهم، وقد قلنا: إن الأمور بقبولها،والله جل وعلا يلقي الفراسة في بعض عباده في قبول أمر، ويحرم بعض عباده من قبول أمر، ثم إذا جاءت العواقب أدرك المتفرس بنور الله فرحه بأن قبل الأمر لأول مرة، وقد قلنا في هذا الدرس المبارك مراراً: إنه يروى: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يتحنث قبل البعثة صعد جبلاً غير حراء، فقال له الجبل بلسان الحال لا بلسان المقال: إليك عني، فإني أخاف أن تقتل علي فأعذب بسببك، فيقال: إن حراء ناداه: هلم إلي يا رسول الله! فألقى الله في قلب نبيه أن يرقى حراء دون غيره من الجبال، فكانت في حراء بعثته صلى الله عليه وسلم، ونزول الوحي أول مرة، وكان لحراء فضل تاريخي على مر الدهر لم يرق إليه جبل غيره.
وكذلك النفر من الخزرج فقهوا أن هذا نبي الأمة فقبلوا الدعوة مع أن الحج آنذاك كان يجمع أشتات القبائل العربية التي عرض النبي صلى الله عليه وسلم دعوته عليها، إلا أنه لم يظفر به أحد إلا أولئك الأخيار من أهل المدينة الأولين.
قال الله: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100]، ومن جميل ما يروى في هذا المقام: أن الشيخ الأمين الشنقيطي رحمه الله لما جاء يجادل الشيعة -فيما نقل إلينا ولم أره- قال للعلماء الذين معه: أتركوهم لي أجادلهم، وهذا أيام شاه إيران قبل الثورة الخمينية فقال: أنا أسألكم سؤالاً: هل أنتم من المهاجرين؟ قالوا: لا، قال: هل أنتم من الأنصار؟ قالوا: لا، فقام الشيخ وهو يقول: وأنا أشهد عند الله أنكم لستم مما تبعهم بإحسان ومضى، فإذا خرج الإنسان من هذه الثلاثة لم يبق شيء؛ لأن الله قال: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100].
ثم هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فاستقبلوه أعظم استقبال وأحبوه، وجعلوه في بيوتهم، في بيوت بني النجار، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين وغيره: (خير دور الأنصار بنو النجار)، وبنو النجار: من الخزرج وهم أخوال عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (وبنو عبد الأشهل)، وهؤلاء الذين منهم: سعد بن معاذ ، فلما نزل إلى المدينة وأناخ مطاياه صلى الله عليه وسلم أول الأمر في قباء بعث إلى أخواله من بني النجار، والإنسان أعظم ما يعتز بعصبته، فجاءوا متقلدين السيوف رضي الله عنهم وأرضاهم يحيطون بنبي الأمة صلوات الله وسلامه عليه، هؤلاء بنو النجار، وبنو عبد الأشهل، وبنو عبد ساعدة، وبنو الحارث، وغيرهم من بيوت الأنصار مما يذكر عنهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام وإن كان هذا متأخراً: (إن الأنصار سيجدون أثرة بعدي)، أي: أن الناس لا يعطونهم قدرهم بعد ذلك، وستوزع أمور لا ينالون منها شيئاً كثيراً، وقد وقع هذا حتى إنهم أوذوا على لسان الأخطل أحد الشعراء الثلاثة في بني أمية، الأخطل وجرير والفرزدق .
وقد سمي الأخطل ؛ لصغر أذنيه، وكنيته: أبو مالك غياث بن غوث ، وكان رجلاً تغلبياً من حيث القبيلة، نصرانياً من حيث الدين، وما دام أنه كان نصرانياً فلا يرجى منه أن يمدح أحداً من المؤمنين، فقد هجا الأنصار إرضاء لأحد الناس فقال:
ذهبت قريش بالسماحة والندى واللؤم تحت عمائم الأنصار
فذروا المكارم لستمُ من أهلها وخذوا مساحيكم بني النجار
ولك أن تقارن بين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (خير دور الأنصار بنو النجار) ، وقول هذا الكافر: وخذوا مساحيكم بني النجار، وقوله: واللؤم تحت عمائم الأنصار.
لكن هذه سنة الله جل وعلا في خلقه، يبتلي الكامل بالناقص، والأمثل بالبعيد، والمؤمن بالكافر.
وموضع الشاهد: أن ما ذكر في بني النجار تاريخياً أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وما حصل لهم بعد النبي صلوات الله وسلامه عليه، هؤلاء الأخيار رضي الله عنهم لهم مواقف عبر التاريخ سنتكلم عن بعض تلك المواقف على وجه الإجمال:
فهذا موقف عام: وهو استقبالهم للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وفرحهم أعظم الفرح بدخوله إليها، قال أنس رضي الله عنه يصور هذا اليوم: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فكان يوماً أنار منها الله به كل شيء. ووصف يوم وفاته فقال: أظلم فيها كل شيء عليه الصلاة والسلام.
وهناك موقف جماعي من مواقفهم المشهورة: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم استشارهم قبل أن يخرج إلى بدر؛ لأن العقد الذي بينهم وبينه أن يحموه ما دام في المدينة، وبدر خارج المدينة فتكلم سعد بن معاذ وتكلم غيره وأظهروا ولاءً عظيماً لله ورسوله نصرةً جليلةً للدين، وكان مما قالوا: والله لا نقول لك كما قال أصحاب موسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون، ووالله لو خضت بنا برك الغماد لخضناه معك، كنايةً عن أي أمرٍ خطير، ففعلوا ما فعلوا رضي الله عنهم وأرضاهم.
أنا الذي عاهدني خليلي ونحن بالسفح لدى النخيل
أضرب بسيف الله والرسول.
ثم قال: فوالله ما قابل أحداً إلا قتله، قال: وفي القوم -أي: في الكفار- رجلٌ كلما قابل مؤمناً انتصر عليه، فسألت الله أن يلتقيا -أي: أبو دجانة وهذا الكافر- قال الزبير -في رواية ابن هشام - قال: فلما التقيا ضرب ذلك الرجل أبا دجانة فاتقاه بدرقة كانت في يده، ثم ضربه أبو دجانة فقتله، ثم مضى في الناس فسمع امرأة تحمس الناس -أي: تحث أهل الكفر من قريش على الحرب، وهو لا يدري أنها امرأة- فرفع السيف عليها، فلما رفع السيف عليها أحدثت صوتاً فعرف أنها امرأة، قال الزبير : فرأيته رفع السيف عنها فقلت: الله ورسوله أعلم يعني: الله أعلم ورسوله أعلم لمن يعطيان السيف، ثم بعد ذلك أجاب أبو دجانة عن سبب امتناعه عن ضربها فقال: أكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن أضرب به امرأة، وهذا من أقدار الله التي لا يعلمها أحد، فقد كانت تلك المرأة: هند بنت عتبة أم معاوية زوجة أبي سفيان ، والتي كتب الله لها أن تموت على الإيمان، فحماها الله بقدره جل وعلا.
موقف آخر: في غزوة المريسيع أو بني المصطلق وقعت حادثة الإفك، فلما كثر الحديث في المدينة عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر وقال: (من يعذرني من رجل آذاني في أهلي)، يقصد: عبد الله بن سلول ، فقام أسيد بن حضير من الأوس رضي الله عنه وأرضاه وقال: يانبي الله! قل لنا من هو؛ فإن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من الخزرج أخذناه وقتلناه، فقام سعد بن عبادة رضي الله عنه وقال: كذبت، والله لا تقتله ولا تستطيع قتله، وكل ذلك أمام نبي الأمة، الآن نحي الحديث هذا جانباً حتى تعرف أن العلم يحتاج إلى رجل موسوعي، لا رجل في قلبه هوى، بل رجل يطبق الأحكام كما يريد كتاب الله، كل الناس تقول: الإصلاح في كتاب الله وسنة رسوله، لكن الأمة لا تحتاج إلى كتاب الله وسنة رسوله فقط فهما موجودان، بل تحتاج إلى رجل يطأطئ رقبته أمام كتاب الله وسنة رسوله، ويفهمها فهماً صحيحاً، فمن لا يفهمها لا يستطيع أن يقود الأمة، ومن فهمهما ولم يذعن لهما فلن يستطيع أن يقود الأمة، لكن يقود الناس من فهم الكتاب والسنة وطأطأ رأسه لا هواه أمام كتاب الله وسنة رسوله.
لقد كان ابن باز رجلاً محبوباً في الناس، ولن أتكلم عن حي حتى لا يفتن، الآن لو جاء ابن باز وقال: إن فلان الصحفي يؤذيني، فجاء رجل وقال: أنا أنتقم لك -يا شيخ- من هذا الصحفي فرضاً، فجاء رجل آخر من قرابة هذا الصحفي وقال: والله ما تؤذيه، لقال الناس: أنت علماني أو ليبرالي، فهذا رجل يؤذي ابن باز وأنت تدافع عنه! هذا وهو ابن باز يخطئ ويصيب، ومع ذلك قال سعد بن عبادة لـأسيد بن الحضير والرسول حاضر: كذبت، والله لا تستطيع أن تقتله، فسكّت النبي صلى الله عليه وسلم الناس، ونزل من المنبر، ولم يقل كلمة سوء في سعد بن عبادة ؛ لأن الدافع عند سعد هو نصرته لعشيرته، وولائه الزائد لقبيلته، وحبه للخزرج؛ لأنه كان سيد الخزرج، ومعاذ الله أن يكون سعد بن عبادة يريد إيذاء الله ورسوله، وإلا لكفر وخرج من الملة، ومن هنا تفهم أن كثيراً من الناس قد يفعل الخطأ، لكنه لا يفعل الخطأ بناءً على النية التي تراها أنت، فمثلاً: يأتي شخص ما ويشرب الدخان عند الحرم، وقد يكون هذا الذي يشرب الدخان يعرف أنه حرام ومنكسر في قلبه ونادم لكنه لا يستطيع أن يتغلب على هذه المعصية في نفسه، فلا تأتي إليه أنت وتقول: أنت تحاد الله ورسوله عند مسجد رسول الله، يقول صلى الله عليه وسلم: (مابين عير إلى ثور المدينة حرم، من أحدث فيه حدثاً أو آوى فيه محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)، فتنزيل هذا الحكم على هذا الشخص خرق واضح للمعتاد، بل يلزمك أن تطبق الإيجاب عليه كما طبقت المنع، فلو قال لك هذا الرجل: أنا لا أفوت صلاة الفجر ولا العصر في حياتي كلها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى البردين دخل الجنة)، فطبق عليّ المنع كما طبقت عليّ الإيجاب، وأنت لا تستطيع أن تشهد له بالجنة، فتطبيق الأحداث على الأعيان جزافاً أمر لا يقدم عليه إلا جاهل، ويجب أن تعلم أن طالب العلم هو من يتكلم في الأوصاف لا في الأعيان، فالذي يتكلم في الأعيان هم: القضاة، فهو يحكم على شخص بعينه لأنه قاضٍ، أما الذي يتكلم علمياً فهو يتكلم على الوصف لا على العين، وقد تجد إنساناً يكفر شخصاً لم يره في حياته ولم يجلس معه، فالمقصود من هذا: أن الإنسان يفهم علمياً مراد القائل، والسبب الدافع للعمل قبل أن يطلق أحكامه.
هذا مجمل لبعض الأحداث التاريخية والإيمانية التي مر بها أولئك الرهط الأخيار رضي الله عنهم وأرضاهم، وهذا الحديث الذي مر كله حديث إجمالي لا حديث أفراد، وحديث الأفراد: أن هؤلاء القوم نصروا الله ورسوله بلسانهم وسنانهم -يعني سيوفهم- فممن نصر رسول الله بلسانه: حسان بن ثابت : وهو خزرجي من بني النجار، وقد عاش مئة وعشرين عاماً، ستون سنة في الجاهلية، وستون في الإسلام، حتى عمي بصره رضي الله عنه وأرضاه، وهو القائل:
عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء
يبارين الأسنة مصغيات على أكتافها الأسل الظماء
فإما تعرضوا عنا اعتمرنا فكان الفتح وانكشف الغطاء
وإلا فاصبروا لجلاد يوم يعز الله فيه من يشاء
وجبريل أمين الله فينا وروح القدس ليس له كفاء.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (اهجهم وروح القدس معك)، ولما أراد أن يهجو حسان أبا سفيان بن الحارث ، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلنا: إنه أحد الخمسة الذين يشبهون النبي صلى الله عليه وسلم في هيئتهم، فلما أراد أن يهجوه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف تهجوه وأنا منه؟)، قال: لأستلك منهم أي: من بني عبد مناف كما تستل الشعرة من العجين، قال: (اذهب إلى
أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء
إلى أن قال:
وعبد الدار سادتها الإماء
ومنهم كذلك: سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه، وهذا سعد اهتز عرش الرحمن عند موته؛ فرحاً بصعود روحه رضي الله عنه وأرضاه، ورغم كل المجد الذي تسمعه عن سعد فإنه مات وعمره ستة وثلاثون سنةً بنى فيها كل هذا المجد، وكان رجلاً سيداً في الأوس، كما كان سعد بن عبادة سيداً في الخزرج، ولما تمت بيعة العقبة سمعت قريش منادياً ينادي:
فإن يسلم السعدان يصبح محمد بمكة لا يخشى خلاف المخالفِ
يقصد بالسعدين: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ، وأهديت له صلى الله عليه وسلم قطيفة من حرير، فأخذ الصحابة يتعجبون منها فقال عليه الصلاة والسلام -وهذا بعد موت سعد- قال عليه الصلاة والسلام: (لمناديل
ومن سادتهم كذلك: أبي بن كعب ، وهو أحد الأربعة الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يأخذ القرآن منهم، وبقية الأربعة هم: عبد الله بن مسعود ، وسالم مولى أبي حذيفة ، ومعاذ بن جبل ، وأبي بن كعب هو الرابع، وهو الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة: لم يكن الذين كفروا)، فالله جل جلاله يأمر نبيه عليه السلام أن يقرأ سورة البينة على هذا الصحابي الجليل سيد القراء: أبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه.
ومنهم رضي الله عنهم وأرضاهم: معاذ بن جبل ، وقد مات بعد الثلاثين بقليل، وأظنه في الأربع والثلاثين، وهو أعلم الصحابة بالحلال والحرام، قال عليه الصلاة والسلام: (أعلم أمتي بالحلال والحرام
ومنهم: سعد بن عبادة سيد الخزرج، الذي مرت معنا قصته قبل قليل، فقد سكن الشام في أواخر حياته ومات فيها رضي الله عنه وأرضاه.
ومنهم: أبو دجانة ، وقد مرت معنا مواقفه الشهيرة.
أما بيوتهم: فقد ذكرنا بني النجار وتحدثنا عنهم، أما بنو عبد الأشهل: فهم القوم الذين منهم سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه، وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة المغرب ذات يوم في بني عبد الأشهل، فلما سلم انصرف من صلاته، فقاموا يتنفلون ويصلون ركعتي المغرب، وكل منهم يأخذ سارية أو مكاناً في المسجد يصلي فيه، فنظر صلى الله عليه وسلم إليهم وقال:(هذه صلاة البيوت)، أي: ركعتا المغرب الأفضل أن تؤدى في البيت، قال: (هذه صلاة البيوت يا بني عبد الأشهل!)، لكن لا يعني ذلك: أنه لا يجوز أداؤها في المسجد، لكن إذا أستطاع المرء أن يؤديها في البيت فهو أفضل وأكثر اتباعاً وإذعاناً للسنة، هذا مجمل ما يمكن أن يقال عن الأنصار، ولعل في الإجابة عن أسئلتكم ما يوضح كثيراً مما تركناه.
عموماً نقول: إن المقصود من مثل هذه الدروس أمور عدة، لكن أعظمها: الحرص على اتباعهم رضي الله عنهم وأرضاهم كما قال الله في مدح تابعيهم: وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ [التوبة:100]، والمعنى الإجمالي للتابعين بإحسان أي: اتبعوهم بإخلاص، واتبعوهم بأن صاروا على نهج بين وطريق واضح في اتباع سنة الله جل وعلا، واتباع سنة رسوله في إتباع كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
فمن الشباب من ابتلاه جل وعلا بالمخدرات والمسكرات، وهذا ناجم عن أمرين: عن ضعف الإيمان، وضعف الشخصية، فضعف الإيمان لأنه ارتكب معصية، وضعف الشخصية لأنه لا يستطيع أن يواجه الواقع الذي يعيشه، والمخدرات بأنواعها تجنح به إلى عالم الخيال، ثم لا يزال في ذلك الأمر حتى يهلك عياذاً بالله، نسأل الله لنا ولهم الهداية.
وفئة أخرى: قد لا تصل إلى مرحلة المخدرات، لكنها فتنت بحضارة الغرب، فتراهم في بعض الطرقات المعينة كشارع السلطانة في المدينة، وشارع التحليه بجدة، وشارع الملك خالد في الخبر، وغيرها يلبسون الألبسة التي لا تليق بشخص مقتنع برجولته فضلاً على اقتناعه بإيمانه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال) ، وقال تعالى: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى [آل عمران:36].
وجعل لكل الناس شرعةً ومنهاجاً وطريقاً بيناً، وهؤلاء فيهم ضعف إيمان، وفيهم مركب نقص، ومركب النقص: أن الإنسان كلما شعر بالنقص في نفسه حاول أن يغطيه بشيء آخر، فهو يحب أن يلتفت الناس إليه، والتفات الناس يبحث عنه الإنسان بأي طريقة، فهذا شيء جبل الخلق عليه، لكن أولئك الفئة تحتاج إلى نوع من الرعاية من المربين والآباء لكونهم ظلموا أنفسهم ظلماً كثيراً بتلك الأجساد العارية، والسلاسل التي تلبس وأمثالها، عافانا الله وإياكم من ذلك.
الفئة الثالثة: فئة قد لا تكون من هؤلاء، لكن ليست لديهم همة، صحيح أن الله حماهم من المخدرات ومن التزين والتميع، لكنهم يسمون في عرف الناس: أشخاصاً عاديين، فهو لا يريد أن يرتقي بنفسه، والعاقل ينبغي أن يكون يومه خيراً من أمسه، وغده خيراً من يومه:
رأيتك أمس خير بني لؤي وأنت اليوم خير منك أمسِ
وأنت غداً تزيد الخير خيراً كذاك تزيد سادتنا وتمسي
فالإنسان يرتقي بنفسه إلى المعالي يوماً بعد يوم، لكن هؤلاء الفئة راضية بوضعها، ولا يحسن بالمرء أن يرضى بوضعه في طريق المعالي.
وفئة -جعلنا الله وإياكم منهم- وأظن أن أكثركم منهم: هؤلاء يصدق فيهم كثيراً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وشاب نشأ في طاعة الله)، وهؤلاء هم الذين بهم تفخر الأمة، وهم تعتمد عليهم الأمة بعد الله جل وعلا.
لأن عرف التاريخ أوساً وخزرجاً فلله أوس قادمون وخزرج
وأنا أقول لهم وصية واحدة مهمة: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)، قالها بعد أن قال: (واسمعوا وأطيعوا وإن تأمر عليكم عبد)، هذا حديث العرباض بن سارية ، ذكر فيه صلى الله عليه وسلم: تقوى الله، والسمع والطاعة، والبعد عن البدع، والبعد عن البدع أكثر الشباب محفوظون منه ولله الحمد.
بقيت قضية الخروج على ولاة الأمر، وهذه مهلكة من المهالك؛ لأن اتباع ولي الأمر أصلاً جعله الله ديناً وملة وقربة، وقد قلت قبل قليل بحماس زائد قليلاً: عرف دينه من طأطأ رأسه لكتاب الله وسنة رسوله، فلا تجعل هوى قلبك هو الذي يقول، وقد ترى أخطاء لا تستطيع أن تطيقها، لكن يمنعك ويلجمك حكم السمع والطاعة لمن أمرك الله بالسمع والطاعة لهم، ولا يعني هذا ترك النصح أوترك الدعوة أو بيان الحق معاذ الله! لكن الله جل وعلا أمر رسوله بجماعة المسلمين، وحذر من الافتتان واصطدام الرأي، وسفك الدماء بين الأمة الواحدة، قال صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) .
فهؤلاء الشباب الذين منّ الله عليهم بدور العلم، وحلقات التحفيظ، والصلوات في الليل، وبرّ الوالدين، هؤلاء هم أفضل هذه الأمة في عصرنا هذا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) ، وذكر منهم: (إمام عادل)، ثم ثنى بقوله: (وشاب نشأ في طاعة الله) ، ولا يوجد شيء أعظم من أن تنشأ في طاعة الله، وعلى قول بعض الأخيار -ممن أدركناهم في المدينة- يقول: إذا أذن المؤذن الأول رأيت أولياء الله يخرجون من جحورهم، ورأيت إخواننا الموريتانيين الشباب يتجهون إلى الحرم -ولا نزكي على الله أحداً- لكن هؤلاء الفئة هم أقرب الناس إلى ربهم، الذين ينتظرون وقت فتح أبواب الحرم ليدخلوه، بينما غيرهم نائم أو على لهو، أو على مجون أو سهر، أياً كان نوع حياتهم مباحاً أو حراماً، لكن لا يقاس هذا بهذا: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21].
ختام ما نريد أن نقوله:
إن الإنسان ينبغي عليه أن يعلم أن الدنيا عموماً أيام معدودات، وأنفاس محدودة، وما مضى من يومك إنما هو بعضك، ولقاء الله حق لا بد منه، قال عليه الصلاة والسلام: (وما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان)، لكن على الإنسان في الختام أن يتقي الله في نفسه وفيمن حوله، ويحاول أن يسلم المسلمون من لسانه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر