إسلام ويب

شرح الأربعين النووية - الحديث الثلاثون [3]للشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    فريضة الجهاد

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    من الواجبات التي ضيعها الناس الجهاد.

    وقد يكون الجهاد واجباً عينياً، وقد يكون واجباً كفائياً؛ ولكن يهمنا أن الله سبحانه وتعالى أوجبه في الجملة، والحفاظ عليه مسئولية على الأمة الإسلامية، لا مسئولية فرد من الأفراد، ولا جماعة من الجماعات، ولا دولة من الدول، بل مسئولية العالم الإسلامي كله.

    وتضييع الجهاد يكون بأحد أمرين:

    1- تركه بالكلية.

    2- أو ترك إعداد العدة له.

    من إعداد العدة: الاهتمام بالصناعات العسكرية

    إن الله سبحانه وتعالى أمر الأمة أن تعد العدة للقتال ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، فقال: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ... [الأنفال:60] إلى آخره.

    والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا اتبعتم أذناب البقر، وتبايعتم بالعينة، وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم).

    فاتباع أذناب البقر دليل على الاشتغال بالزراعة، والتبايع بالعينة دليل على الاشتغال بنوع من أنواع البيوع المختلف في حكمها، والجمهور على تحريمه، ومعنى هذا: ترك الجهاد والاشتغال بأمور الدنيا.

    وقد بين المولى سبحانه ذلك فقال: وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، وفسرها الصحابي الجليل أبا أيوب الأنصاري بأن ذلك بترك الجهاد في سبيل الله، وذلك حينما اصطف المسلمون مع أعدائهم في بعض المعارك، فقام فارس من المسلمين واخترق صف العدو حتى نفذ من الجهة الأخرى، ثم كر راجعاً، فقال بعض القوم: ألقى بنفسه إلى التهلكة، فقال: لا والله! أنتم تفسرون هذه الآية على غير ما نزلت، كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نجاهد مع رسول الله، فقلنا ذات يوم: لقد فتح الله على رسوله، وانتشر الإسلام، وعلت راية المسلمين، لو رجعنا إلى مزارعنا فأصلحناها، وإلى تجاراتنا فأدرناها؛ فنزلت الآية الكريمة: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195] أي: بترك الجهاد، والاشتغال بأمور الدنيا.

    ومدار الأمر كله في هذا الباب على إعداد العدة، وكل شيء يعد، والآية الكريمة لم تحدد نوعاً من العدة، وتركت ذلك لتقدير المسلمين بحسب ظروف الحياة، فالعدة في سابق الزمن كانت بالخيل والسيف والرمح، واليوم بكل ما وُجد.

    ويقول الخبراء العسكريون: السلاح اليوم هو الإنتاج.

    ويقول النووي من قبل: إن تعلم الصناعات واجب كفائي، وعلى الأمة أن تتعلم كل صناعة حتى الإبرة -يقول ذلك في مقدمة المجموع -وهو موسوعة فقهية- حينما تكلم على أقسام العلوم، وما يجب على الأمة أن تتعلمه، وأنه يجب تخصص طوائف للفنون المختلفة- ويقول: لو قصرت الأمة الإسلامية في صناعة الإبرة لاحتاجت إلى عدوها في جلب الإبرة وتحكم العدو فيها في تلك الإبرة، فتجلس عرياناً لا تستطيع أن تخيط ثوباً، هكذا يقول النووي رحمه الله.

    ونحن اليوم شاهدنا جانبين في الحرب والسلم، وإن كنا لا نتتبع الإذاعات والأخبار فقد استفاضت الأخبار في مد روسيا أنابيب لصربيا، فأمريكا ماذا فعلت؟ أعلنت عليها حرباً، بأي شيء؟ لا بالقذائف ولا بالنوويات ولا بالصواريخ، بل منعت عنها القمح، امتنعت من تصدير القمح لها، فقامت روسيا تفرج عن رصيد ذهبي من رصيدها لتشتري القمح من كندا.

    وفي أثناء معركة رمضان -حرب العبور- وقفت روسيا قطع الغيار عن الجيش المصري حتى يدفعوا الثمن نقداً، ويقوم الملك فيصل -الله يغفر له ويرحمه- ويقدم شيكاً مفتوحاً، ويدفع قيمة قطع الغيار فوراً.

    وأي نكاية أكثر من هذه؟! في أثناء المعركة تمنع القطع وتقول: أعطونا الثمن فوراً، بلد في حرب، واقتصادها متحمل الشيء الكثير، وفي تلك اللحظة تقول: أعطونا؟! فمعنى ذلك أنكم ضدنا في هذه الحرب!

    إذاً: المنتج للسلاح هو المتحكم في العالم.

    قال الله : وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]: القوة تكون في السلاح والإنتاج والاقتصاد والتعليم، وأصبحت الأسلحة الآن كيماوية وغيرها.

    الأمة اليوم ضيعت الجهاد في سبيل الله بتضييع إعداد العدة التي تقابل سلاح العدو، وكما يقولون: لا يفل الحديد إلا الحديد، وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [البقرة:251]، بأي شيء يدفعون؟ كلما تعادلت القوتان أمن الناس من الحرب، أما إذا غلبت كفة إحدى الجانبين فما الذي ينتظر؟ أن ينقض القوي على عدوه؛ لكن إذا عرف أن هناك ما يقابل سلاحه تعادلت الكفتان فتوقفتا.

    فالأمة اليوم ضيعت الجهاد، وكان السلف رضي الله تعالى عنهم يقاتلون قدر الطاقة، وكان هارون الرشيد رحمه الله يغزو سنة، ويحج أخرى.

    من إعداد العدة: التدريب والتعليم

    الجهاد في سبيل الله مما أوجبه الله، فكيف نحافظ عليه كما نحافظ على أركان الإسلام؟

    نعد له العدة، والعدة هذه هل ستعمل بذاتها تلقائياً أم أنها تحتاج إلى أيدٍ تُعْمِلها؟! تحتاج إلى أيدٍ عاملة.

    إذاً: يجب إعداد الرجال والشباب، وتدريبهم وتعليمهم وتمرينهم حتى تكون هناك قوة.

    وليس الجندي مجرد الذي يحمل السلاح في الميدان، بل كذلك من يخدم هذا الجندي في مصانع الأسلحة والأنسجة، فهناك من يصنع له الفراش، وهناك من يصنع له الثياب، فكل من يؤمِّن طلبات الجندي فهو في الجندية، وهو في سبيل الله.

    من عظيم أجر الفارس أن فرسه ما ترتع في مرعى، ولا تشرب من ماء ولا تصعد شرفاً، ولا تهبط وادياً، ولا تروث روثاً، إلا كان ذلك كله في حسناته، أما المجاهد بنفسه فيكفي تلك الصفقة التي بينه وبين الله: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ [التوبة:111].

    هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [الصف:10-11].

    إذاً: مما يجب على الأمة الإسلامية مجتمعة: أن تعيد النظر في أمر الجهاد في سبيل الله، وقد أشرنا أنه قبل أن نرفع السلاح ونقاتل العدو؛ يجب أن نصلح ذات بيننا، كما جاء في مطلع سورة الأنفال، وهي في ذكر أعظم انتصار للمسلمين في غزوة بدر: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1]، فقبل أن يتكلم عن المعركة ونتائجها قال: وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ، وهذا باب واسع، ويهمنا التنبيه عليه فقط.

    ننتقل إلى القسم الثاني من الحديث، وقد انتهينا من جعل القسم الأول: (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها) أي: بالحفاظ عليها وإقامتها.

    1.   

    الحدود في الإسلام

    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وحدَّ حدوداً فلا تعتدوها): هذا القسم الثاني من الحديث، ويستوجب من طالب العلم أن يقف عنده طويلاً أكثر من قوله: (فَرَض فرائض)؛ لأن: (حدَّ حدوداً) أعم من تلك الفرائض.

    تعريف الحد لغة

    الحد في اللغة: المنع، تقول: هذا حد البيت، أو: هذا حد الملك، وكل عين من العقارات لها حدود أربعة: شرق وغرب وشمال وجنوب، وفائدة هذا الحد: أن تمنع المحدود أن يخرج عن حده، وتمنع غير المحدود أن يدخل داخل تلك الحدود، فهو مانع، وكما قالوا:

    إلا سليمان إذ قال الإله له قم في البرية فاحددها عن الفند

    يعني: امنعها.

    وقالوا: سميت العقوبات لبعض الجرائم حدوداً؛ لأنها تمنع الناس من الوقوع فيها، وسماها صلى الله عليه وسلم حداً في قضية المرأة المخزومية التي كانت تستعير المتاع وتجحده، ثم سرقت ورُفع أمرها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وصدر الأمر بقطع يدها، فأرسلوا إليه حب رسول الله وابن حبه أسامة يشفع فيها، فقال صلى الله عليه وسلم: أتشفع في حد من حدود الله؟! قالوا: قطع اليد حد في السرقة، والجلد حد في الشرب أو القذف أو الزنا للبكر، والرجم حد في زنا الثيب.

    وهذه الحدود موانع وزواجر عن وقوع الإنسان في هذه المعاصي التي جُعلت لها هذه الحدود.

    ويقال عن المتوفَّى عنها زوجُها: هي في حداد؛ لأنها مُنعت من الزينة، سمي الحديد حديداً لقوة مناعته.

    إذاً: الحد في اللغة: المنع.

    تعريف الحد شرعاً

    الفقهاء يقولون: الحد: هو ما شرعه الله عقوبةً على المعاصي، قال صلى الله عليه وسلم: (إقامة حد خير من مطر أربعين يوماً)، وهذا من بركة تحكيم كتاب الله.

    ويطلق الحد على المعنى الأصلي: التعريف والتمييز.

    ويقول المناطقة: الحد هو ذكر الجنس مع الفصل، فحد الإنسان عند المناطقة: أنه حيوان: وهذا الجنس، ناطق: وهذا الفصل؛ لكي يميزوه عن الصاهل والناهق ... إلى آخره، فالكل حيوان؛ لكن يأتي الفصل الذي يختص بهذا النوع فيميزه ويحدده.

    وتقول: حد الشفعة كذا، وحد الواجب كذا، أي: تعريفه وتمييزه عن غيره.

    فقالوا: الحد: كل ما نهى الله عنه وبينه وميزه عن غيره، فأصبح محدوداً بتعريف الشرع إياه.

    وبعضهم يقول: الحد هو الشرط.

    ذكر الحد في سورة البقرة

    لو تتبعنا كتاب الله في لفظة الحد بكل تأنٍّ نجدها جاءت في سورة البقرة عدة مرات، وفي النساء، والتوبة، والمجادلة، والطلاق، فلننظر في هذه الألفاظ التي جاء فيها لفظ الحد:

    أول ما يصادفنا لفظ الحد في سورة البقرة، في آية الصيام وحكم الاعتكاف: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا [البقرة:187].

    وإذا تأملت المصحف من أول الم [البقرة:1] تجد تقسيم الناس الثلاثي: مؤمنين وكافرين ومنافقين، ثم تجد سياقاً طويلاً مع بني إسرائيل: وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى ... [البقرة:60].. أَفَتَطْمَعُونَ ... [البقرة:75].. وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ [البقرة:92]، إلى أن يأتي قوله تعالى : تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ .

    إذا وقفنا عند حدود الله تلك نجد بعض المفسرين يقول: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ [البقرة:187]، يعني: لا تقربوا النساء وأنتم عاكفون.

    ويجيب البعض الآخر ك أبي حيان ويقول: لا، هذا مفرد، وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ [البقرة:187] هذا شيء واحد؛ ولكن (تِلْكَ): اسم إشارة ترجع إلى آيات الصيام بكل ما فيها من أحكام، وآيات الصيام نجد في أولها: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183].. أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184].. وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ [البقرة:184].. فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً [البقرة:184]، ثم: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى [البقرة:187]، ثم: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187].

    إذاً: آيات الصيام فيها حدود من المحرمات، وفي النهاية قال: فَلا تَقْرَبُوهَا [البقرة:187].

    ولكن قبل آية الصيام تجد آية الوصية عند الموت: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ [البقرة:180]، وتجد قبل الوصية: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178]، وقبلها: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ [البقرة:177]، وقبلها: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [البقرة:176].

    وقبلها: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ [البقرة:173].

    ثم ذكر المحيض، ثم الإيلاء والحلف على الزوجة، ثم الطلاق: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ [البقرة:227].

    وسياق عشرة الزوجة طويل، من آية نكاح المشركات والمشركين، وكل ذلك موضوعه يتعلق بعشرة الزوجة ابتداءً وعشرةً وفراقاً.

    إذاً قوله: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ [البقرة:229] يعني: محارمه التي حرَّمها وحدَّها وميَّزها وجعلها بين الحلال والحرام، فَلا تَعْتَدُوهَا [البقرة:229].

    ذكر الحد في سورة التوبة

    ننتقل إلى سورة التوبة قال الله : الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ [التوبة:97]، هذه الحدود عامة، سواء كانت في العقوبات أو في الحلال والحرام.

    ثم في نفس السورة بعد الأولى بعدة آيات نجد قوله تعالى: : التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ [التوبة:112]، وهذه شاملة، وفيها مدح للذين يحفظون حدود الله ومحارمه مطلقاً.

    ذكر الحد في سورة المجادلة

    ننتقل إلى سورة المجادلة قال الله : قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ [المجادلة:1-2]، بعد منكرٍ وزور عفوٌّ عفور، لاحظوا فضلَ الله! وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً ... ، قد تحتاج: (والله شديد العقاب)؛ لكن (والله عفو غفور)، والله! إنها لسعةُ فضل من الله؛ لأنها قضايا قد تقع بين الزوجين، وكأن الله يرشد الزوجين إلى المغفرة والرحمة فيما يقع بينهما، لا أن يقفا بسوط وبعصا، ويعاقب كل منهما صاحبه، مع أن الظهار لا يأتي إلا في حالة الغضب، فلو قال: (والله شديد العقاب)، إذاً: فدَعْه يأخذ حقه منها؛ لكن (عفو غفور) فبدلاً من أن تقول لها: أنت علي كظهر أمي، قل لها: أنت كأختي عاطفةً ورحمةً ومودة، أنت تقول منكراً من القول وزوراً، والله يقول لك: أنا عفو غفور!

    ثم بعد هذا المنكر من القول والزور من العبد يأتي الحل وفض المشكلة: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا [المجادلة:3]: ليس معنى (يَعُودُونَ) أي: إلى قوله: أنتِ عليَّ كظهر أمي، لا، بل يعود إلى التي قال لها: أنت علي كظهر أمي، يعود إليها كزوجة، ولكن قبل ذلك: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة:3] ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ [المجادلة:4]، وما قال: (فمن لم يجد)؛ لأن هذا راجع إلى الاستطاعة، والصيام موجود.

    فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ [المجادلة:4]: هم مؤمنون من السابق؛ ولكن لتؤمنوا بفرائضه وتشريعاته، والإيمان بالله يستلزم السمع والطاعة، وكأنه يقول: إيمان عمل، إيمان تنفيذ.

    ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ ... [المجادلة:4]: لأنه قال: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [المجادلة:4]، فمن لم يؤمن بتشريع الله، ولم يعمل بهذه الحدود ويقيمها كما أمر الله يكون كافراً، وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ [المجادلة:4].

    إذاً قوله: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ [المجادلة:4] لقضية الظهار بكاملها، والإيمان بالله يكون اعتقادياً، وعملياً.

    1.   

    أقسام خطاب الله للنبي صلى الله عليه وسلم في القرآن

    ويقول الله في سورة الطلاق: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ [الطلاق:1]، وهذا نداء خاص للنبي صلى الله عليه وسلم،

    ولذا ويقول العلماء: إذا جاء الخطاب بخصوص النبي صلى الله عليه وسلم فله عدة حالات:

    - تارة لا يدخل هو في الخطاب أبداً، وليس هو معنياً به، والأمة معنية به في شخصيته.

    - وتارةً يكون خاصاً به فلا يشركه أحد غيره.

    · وتارةً يكون الخطاب خاصاً به، والأمة تشترك معه فيه.

    قسم لا يتناوله ولا يمكن أن يدخل تحت نطاقه

    مثل قوله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ [الإسراء:23]: (الكاف) هذه متوجهة إلى المخاطَب بها، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم.

    أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً [الإسراء:23-24]: أين أبَوَا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

    إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُف سبحان الله! أبوه توفي وهو حملٌ في بطن أمه، وأمه توفيت وعمره خمس سنوات، والقرآن نزل عليه بعد أن جاوز الأربعين من عمره.

    فكيف يقول: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا [الإسراء:23]، وهما غير موجودين الآن؟

    فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23]، هو ليس بقائل لهما.

    وَلا تَنْهَرْهُمَا [الإسراء:23]: هما ليسا موجودَين حتى ينهرهما؛ فالخطاب -إذاً- خاص بشخصه صلى الله عليه وسلم، والحكم لغيره.

    ولماذا جاء الخطاب بخصوصه مع أنه ليس داخلاً فيه؟

    إعظاماً لحق الأبوين، أي: لو كان أبواه على قيد الحياة لكان هذا حكمهما، حتى ولو ماتا على الكفر، قال سبحانه: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا [لقمان:15].

    تحسسوا رحمة الله يا إخوان! تحسسوا سعة فضل الله، الأبوان كافران يجاهدان الابن على أن يشرك بالله، والمولى سبحانه الذي يأمران بالإشراك به يقول: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً [لقمان:15]: يحرضاني على الشرك وتقول لي: صاحبهما بالمعروف!

    أبواك هما سبب وجودك، حقي أنا متساهل فيه؛ لكن حقهم عليك لا تضيعه، ما دمت مسلماً لي وعبداً من عبادي؛ فإني أريدك على المثالية العليا، لا أريد عبداً من عبادي يضيع حقاً واجباً عليه.

    قسم يختص به وحده

    مثل قضية المرأة الواهبة نفسها، قال الله: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:50]: أبداً، ما أحدٌ له دخل في هذه الآية، ولذا لا يحق لمسلم أن يستبيح بضع امرأة بوهبها نفسها إليه، فهل تقول: وهبتُ نفسي إليك، فيقول: قبلت، وتباح له؟ لا. بل هذه خالصة للنبي، لماذا؟

    النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب:6] فهو ولي من لا ولي له، كما لو كانت لك أمة وتعتقها وتتزوجها، لا تحتاج إلى إنسان يعقد لك عليها؛ لأنك أنت وليها.

    ولذا حينما صعَّد النظر فيها وصوَّب وتركها، قام رجل وقال: (زوجنيها إن لم تكن لك بها حاجة، قال: ماذا عندك لتدفع لها صداقاً؟ ثم قال: زوجتكها بما معك من القرآن)، وهل قال لها: ائت بأبيك أو أخيك أو عمك أم أنه هو الذي تولى زواجها؟

    هو الذي زوَّجها لا غيره، وكانت تريد أن تزوج نفسها به، وهذا معناه: أنها بعيدة عنه، وتحل له، وليس هو من محارمها، ومع ذلك يقول: (زوجتكها). لماذا؟ لأن له حق الولاية على كل مسلم، فتصح الهبة إليه، أما أنت فلا ولاية لك على غيرك.

    قسم خاص به وتشترك معه الأمة

    مثل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [التحريم:1]، ولا أخص من هذا: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم:1]، وهذا خطاب خاص بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم.

    يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ [التحريم:1]، أي: أنت. مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [التحريم:1-2]، كان يقول والدنا الشيخ الأمين -رحمة الله تعالى علينا وعليه-: الخطاب ابتداءً للنبي؛ ولكن الأمة معه بدليل: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [التحريم:2]، ولو كان خاصاً به لقال: (قد فرض الله لك تحلة يمينك)؛ ولكن لما جاء إلى الحكم وإلى إصلاح هذا الأمر شمل الأمة.

    إذاً: الأمة داخلة في قوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ، فيشملها الحكم؛ لكن سبب الحكم كان خاصاً برسول الله.

    يقول الله: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ [الطلاق:1]، هذا خطاب للنبي عليه الصلاة والسلام ومعه غيره.

    إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ : أولاً.

    لِعِدَّتِهِنَّ : ثانياً.

    وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ : ثالثاً.

    وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ [الطلاق:1] أي: لا تخرجوهن أنتم اعتداءً وغضباً، وكذلك هن لا يخرجن؛ لأن لها الحق أن تبقى إلى العدة ما دامت رجعية.

    وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ [الطلاق:1]: خمسة أحكام، فقوله: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ [الطلاق:1]، راجعة لجميع ما تقدم من آداب وأحكام الطلاق من إحصاء العدة وإبقاء الزوجة في بيت الزوجية ولا تُخْرَج ولا تَخْرُج إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ .

    1.   

    الفرق بين (تعتدوها، وتقربوها) في الحدود

    في هذا الحديث قال: (وحد حدوداً فلا تعتدوها)، وفي الآية: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا [البقرة:187].

    ولو رجعنا إلى المواضع في كتاب الله التي ذُكرت فيها الحدود، وعمل لها أحد فهرساً سيجدها قد شملت جميع أبواب الحرام في كتاب الله، فمنها:

    · ما يتعلق بالعبادات في الصيام.

    · وما يتعلق بالدماء.

    · وما يتعلق بالأحكام عند الموت في الوصية.

    · ثم يأتي إلى الاعتكاف تتمةً للعبادات.

    · ثم يأتي إلى موضوع الطلاق.

    · وما يتعلق أيضاً بنوعية الزواج من المشركات والمشركين.

    · وما يتعلق بالإيلاء.

    وكل ذلك من أحكام الأسرة والأحوال الشخصية كما يقولون.

    إذاً: يستطيع الإنسان أن يقول: فرق بين (تَقْرَبُوهَا) و(تَعْتَدُوهَا)، ولو جئنا إلى ما يتعلق بالطلاق والخُلع والأخذ من الزوجة، إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة:229]، كلها أمور مالية، ومعالِم لا يجوز أن تُتَخَطَّى.

    ولكن إذا جئنا إلى فَلا تَقْرَبُوهَا أي: كونوا بعيدين عنها قليلاً، نجدها ليست في الماليات، وليست في الحقوق الشخصية الذاتية؛ ولكن بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ [البقرة:187] إذاً: هذا في حِلِّيَّة الوطء في ليل رمضان.

    أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187]، فلو قال هنا (فلا تعتدوها)، فمعناه: أننا جئنا إلى نقطة الصفر مع الفجر؛ لكن فَلا تَقْرَبُوهَا [البقرة:187] أي: أمسكوا عن الأكل والشرب والنساء قبل الفجر، ولا تقربوا الفجر بهذه الأمور.

    فقوله: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187]: إذا حملنا المباشرة على الوطء فقوله: فَلا تَقْرَبُوهَا [البقرة:187] فيه تحريم اللمس والقبلة ونحو ذلك.

    إذاً: قضية فَلا تَقْرَبُوهَا تستلزم الابتعاد، وتجعل هناك منطقة محرمة، ولذا ناسب معها فَلا تَقْرَبُوهَا [البقرة:187]، أما بقية الحدود الأخرى أو الأحكام الأخرى فهي أمور عادية ليس فيها حظ للنفس والشهوة؛ لأن ما يتعلق بالغريزة يجب أن يبتعد عنه.

    لعل في هذا القدر من شرح هذا الحديث يكفي لبيان ما جاء في هذا الحديث. وقد شرحنا قوله : (فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها).

    وبقي معنا قوله : (ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمةً بكم...)، وستأتي تتمة للكلام عن باقي الحديث فيما بعد إن شاء الله.

    وبالله تعالى التوفيق.

    وأسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإياكم ممن يقيم حدود كتاب الله، وممن يستمع القول فيتبع أحسنه، وأن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه.

    وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756615763