ها نحن اليوم مع فاتحة سورة الأحزاب، وهي مدنية من المدنيات، وآياتها ثلاث وسبعون آية، فهيا بنا نصغي مستمعين تلاوة هذه الآيات الثلاث، ثم نتدارسها.
والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
بسم الله الرحمن الرحيم: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [الأحزاب:1-3].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأحزاب:1]! هذا النبي الذي يناديه الرب تبارك وتعالى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا النداء يقرر نبوته ويثبتها، وأنه نبي الله ورسوله، فهو يقول له: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأحزاب:1]! ولم يناديه بيا أحمد! أو يا محمد! حتى لا يقول قائل: أنا الذي ناداني ربي، ولا يقول كل من اسمه محمد: أنا هو، فلهذا ما ناداه الله إلا بعنوان النبوة، فقال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأحزاب:1]! وناداه نداءين بعنوان الرسالة، أي: بقوله: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ [المائدة:41]! وجاء ذلك في سورة المائدة، وما عدا ذلك فهو بلفظ النبي، ولكن أخبر عنه بأنه رسول الله في قوله: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح:29] صلى الله عليه وسلم.
والنبي: من نبأه الله وأخبره، وأصبح يخبر عن الله وينبئ عن الله عز وجل. وقد علمنا أن عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألف نبي، وأما عدد الرسل فثلاثمائة وثلاثة عشر رسولاً، أولهم نوح عليه السلام، وآخرهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم وسلم.
وعلل سبب أمره بقوله: وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [الأحزاب:2] علل ذلك بقوله: إِنَّ اللَّهَ [الأحزاب:2] تعالى كَانَ [الأحزاب:2] وما زال بِمَا تَعْمَلُونَ [الأحزاب:2] أيها الناس! أبيضكم وأسودكم .. عربكم وعجمكم .. مؤمنكم وكافركم خَبِيرًا [الأحزاب:2]. فلا ننس هذه، وهي: إن الله بعملنا خبير، فإن كان صالحاً أثابنا عليه وجازانا به، وإن كان فاسداً أخذنا به وعاقبنا وعذبنا به.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [الأحزاب:2]، أي عمل، خيراً كان أو شراً، فهو مطلع عليه وعالم به، ويعرفه أكثر منا. فلهذا يجب أن نستحي من الله وأن نخاف الله، فلا نعمل عملاً لا يرضيه، ولا نقول قولاً لا يرضيه؛ لأنه عليم بما نعمل، وخبير بذلك.
وهذه الآيات توجد ملكة التقوى في قلوب المؤمنين، فيصبحون يراقبون الله الليل والنهار، ولا يخرجون عن طاعته، ولا يفسقون عن أمره، بل تكون حركاتهم وسكناتهم كلها يريدون بها الله عز وجل لهذه الآية الكريمة، أي: قوله: وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [الأحزاب:2]، أي: مطلعاً عليماً.
وهذا سببه عدم التوكل على الله. وقد توكل على الله عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ، وطبق الشريعة، فقطع اليد وقتل القاتل ورجم الزاني، ولم يكن يوجد في العالم الإسلامي دولة إسلامية، بل كان كله تحت الاستعمار. وهذا عجب. فهو يوم دخل المملكة وطبق الشريعة لم يكن يوجد قطر إسلامي ليس مستعمراً، بل كانت كل البلاد مستعمرة، وما خاف أبداً إلا الله، وتوكل عليه وطبق شرعه، ولم يمسه سوء بسبب هذا، وهم يتكالبوا عليه، ولا مسحوه من الأرض؛ لأن الله كفاه بعد أن توكل عليه. ومن توكل على الله كفاه.
ومن هنا معشر الأبناء! يجب أن نجعل هذه بين أعيننا، فإذا اعترض عملنا عارض فيه سخط الله فيجب أن نتخلى عنه، ونتوكل على الله عز وجل، ولا نخاف الفقر ولا السجن ولا العذاب.
وقوله: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [الأحزاب:3]، يأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك التأديب الذي تقدم أن يعتمد على الله عز وجل، وألا يعتمد على القوة المادية أبداً، ولا يرهب العدو ولا يخافه، ولا يعطيه كلمة واحدة ترضيه.
ثم ختم تعالى الآية بقوله: وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [الأحزاب:3]. فهو يكفيك يا عبد الله! إن اتكلت على الله، وتكفيك وكالته، فهو وكيلك، والوكيل يدفع عن موكله كل سوء، ويدفع عنه كل ضرر، ويدفع عنه كل باطل. فكن فقط وحقاً عبداً له واتقه وتوكل عليه، والله ليكفيك، وهو وكيلك يدفع عنك كل سوء. ولذلك قال: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [الأحزاب:3]، أي: وكفى بالله وكيلاً لمن توكل عليه.
واسمعوا الآيات مرة أخرى، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [الأحزاب:1-3].
قال: [ معنى الآيات:
لقد واصل المشركون اقتراحاتهم التي بدءوها بمكة حتى المدينة ] فقد جاء وفدهم يطالب [ وهي عروض المصالحة بينه وبينهم ] أي: بين رسول الله وبينهم، وهم الكافرون المشركون [ وذلك بالتخلي عن بعض دينه، أو بطرد بعض أصحابه ] فقد قالوا: اطرد عمر هذا، وغير ذلك؛ حتى نمشي معك، وعرضوا عليه هذا في مكة، وقالوا: لا نستطيع أن نجلس معك وحولك الفقراء والمساكين، وما رضوا أن يجالسوه أيضاً، وطلبوا منه أن يطرد بلالاً وفلاناً وفلاناً.
قال: [ والمنافقون قاموا بدورهم في المدينة بتهديده صلى الله عليه وسلم بالقتل غيلة إن لم يكف عن ذكر آلهة المشركين في هذا الظرف بالذات، فنزل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأحزاب:1]! فناداه ربه تعالى بعنوان النبوة؛ تقريراً لها ] وأقر الشيء أثبته [ وتشريفاً له، ولم يناده باسمه العلم ] محمد أو أحمد [ كما نادى موسى وعيسى وغيرهما بأسمائهم ] ونادى الله موسى باسمه، وكذلك عيسى وداود، ولكن نبينا لم يناده باسمه، بل ناداه بعنوان النبوة؛ تشريفاً له وتعظيماً، وتقريراً لنبوته التي من كفر بها هلك [ فقال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الأحزاب:1]، أي: اتق الله فخفه ] من خاف يخاف خوفاً [ فلا تقبل اقتراح المشركين ] ووالله إنهم ليقترحون على حكام العالم الإسلامي؛ حتى يبعدوهم عن الإسلام [ ولا ترهب تهديد المنافقين بقتلك، إن الله كان وما يزال عليماً بكل خلقه، وما يحدثون من تصرفات ظاهرة أو باطنة، حكيماً في تدبيره وتصريفه أمور عباده، فهو تعالى لعلمه وحكمته لا يخذلك ولا يتركك، ولا يمكن أعداءك وأعداءه منك بحال ] من الأحوال.
[ وقوله: وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [الأحزاب:2] ] أي: [ من تشريعات خاصة وعامة، ولا تترك منها صغيرة ولا كبيرة؛ إذ هي طريق فوزك، وسلم نجاحك أنت، وأمتك تابعة لك في كل ذلك ] والعالم الإسلامي ما توكل على الله، ووالله لو اعتمدوا عليه وتوكلوا عليه وتركوا الخوف من الكافر لأقاموا شريعة الله في كل بلد.
[ وقوله ] تعالى: [ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [الأحزاب:2]، هذه الجملة تعليلية، تحمل الوعد والوعيد؛ إذ علم الله بأعمال العباد صالحها وفاسدها يستلزم الجزاء عليها، فمتى كانت صالحة كان الجزاء حسناً، وفي هذا وعده، ومتى كانت فاسدة كان الجزاء سوءاً، وفي هذا الوعيد.
وقوله: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [الأحزاب:3]، أمر تعالى رسوله ] صلى الله عليه وسلم [ وأمته تابعة له أن يتوكل على الله في ] كل [ أمره، ويمضي في طريقه منفذاً أحكام ربه غير مبال بالكافرين ولا بالمنافقين ] وسبحان الله! فالآية كأنها تنزل اليوم [ وأعلمه ضمناً أنه كافيه متى توكل عليه، وكفى بالله كافياً، ووكيلاً وحافظاً ].
[ من هداية الآيات:
أولاً: وجوب تقوى الله تعالى بفعل المأمور به وترك المنهي عنه ] ففي الآية الأولى هداية، وهي: وجوب تقوى الله عز وجل على كل مؤمن ومؤمنة، وتقوى الله تكون بطاعة الله ورسوله، وذلك بفعل ما أوجب الله، وترك ما حرم الله، ولا تقوى إلا بهذا. ولن نتقي الله بشيء أبداً إلا بطاعته وطاعة رسوله المتمثلة في فعل الأوامر القادر عليها، واجتناب المحرمات والمنهيات، وكلنا قادر على تركها.
[ ثانياً: حرمة طاعة الكافرين والمنافقين فيما يقترحون ] ويعرضون، ويطالبون به المؤمنين [ أو يهددون من أجله ] فيجب ألا نطيعهم في ذلك، ولا نستجيب لهم، وإن هددوا وإن خوفوا، وقد هددوا رسول الله وخوفوه، وأمره الله أن يثبت ولا يستجيب لهم.
[ ثالثاً ] وأخيراً: [ وجوب اتباع الكتاب والسنة ] فعلاً وتركاً، وأدباً وخلقاً [ والتوكل على الله، والمضي في ذلك بلا خوف ولا وجل ] فيجب اتباع الكتاب والسنة وعدم الإعراض عنهما، وفي ذلك خير كبير لمن وفقه الله لذلك، فلا فرقة ولا خلاف بيننا أبداً، ولا مذهبية ولا طائفية ولا إقليمية، بل نحن المسلمون شعارنا تقوى الله عز وجل، وفعل المأمور وترك المنهي.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر