فإن أصدق الحدث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
الباب السادس والأربعون من كتاب الجهاد (باب قول الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [الفتح:24].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثني عمرو بن محمد الناقد حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا حماد بن سلمة عن ثابت بن أسلم البناني عن أنس بن مالك : (أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا -أي: نزلوا- على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين)] ثمانون مشركاً نزلوا من جبل التنعيم، وهو في مدخل مكة، وكانوا متسلحين، نزلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدون قتله هو ومن معه.
قال: [(يريدون غرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه)]. أي: يتحينون غفلة منه عليه الصلاة والسلام لينقضوا عليه وعلى أصحابه.
قال: [(فأخذهم سلماً أو سلَماً)] أي: صلحاً، أي: فاصطلح معهم، عندما غلبت قوة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قوة هؤلاء المشركين، فآثر المشركون السلم والصلح، فانتهزوا فرصة عرض الصلح عليهم فقبلوه، وفي لفظ: (فأخذهم سَلَماً) أي: أسرى. فإما أن تُنطق سلِماً أو سَلَماً يعني: صلحاً أو أسرى.
قال: [(فأخذهم سلماً أو سلِماً فاستحياهم، فأنزل الله عز وجل: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [الفتح:24] -أي: أيدي المشركين عنكم- وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ [الفتح:24]).
قال الإمام النووي: (فأخذهم سلماً) ضبطت بوجهين إما بفتح السين واللام، أي: سَلَماً، والثاني: بإسكان اللام مع كسر السين أي: سلْماً، وفتحها الحميدي ومعناه: الصلح.
قال القاضي في المشارق: هكذا ضبطه الأكثرون. وفي الشرح: أن الرواية الأولى أظهر وأولى ومعناها: أسرهم. والسَلَم هو الأسر. وجزم الخطابي بفتح اللام والسين، قال: والمراد به الاستسلام والانقياد والإذعان، كقول الله تعالى: وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ [النساء:90] أي: الانقياد والاستسلام والإذعان والخضوع، وهو مصدر يقع على الواحد والاثنين والجمع.
قال ابن الأثير : هذا هو الأشبه بالقصة، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذهم أسرى، فإنهم لم يؤخذوا صلحاً، وإنما أخذوا قهراً وأسلموا أنفسهم عجزاً.
قال: وللقول الآخر -أي: سِلْماً- وجه، وهو أنه لما لم يجر معهم قتال بل عجزوا عن دفعهم والنجاة منهم رضوا بالأسر، فكأنهم قد صولحوا على ذلك).
وحدثنيه محمد بن حاتم حدثنا بهز -وهو ابن أسد العمي- حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك في قصة أم سليم عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث ثابت].
قال الإمام النووي في قولها: (اقتل من بعدنا من الطلقاء) قال: (سموا بذلك -أي: الطلقاء- لأن النبي صلى الله عليه وسلم من عليهم وأطلقهم، وكان في إسلامهم ضعف، فاعتقدت أم سليم أنهم منافقون، وأنهم استحقوا القتل بانهزامهم وغيره.
[حدثنا يحيى بن يحيى قال: أخبرنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس بن مالك قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بـ أم سليم أم سليم
إذاً: مهمة النساء في الغزو ليس القتال، وإنما مهمتهن: سقي الماء، ومداواة الجرحى، وطبخ الطعام، وغير ذلك من مهام النساء..
قال: [(وكان
قال: [فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: (انثرها لـ
قال: [(ويشرف نبي الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم)] أي: يخرج من خبائه وينظر إلى المشركين، فيخاف عليه أبو طلحة إذا نظر وأشرف وخرج من خبائه أن يراه المشركون فيوجّهوا إليه سهامهم.
[فيقول أبو طلحة : (يا نبي الله! بأبي أنت وأمي -أي: فداك أبي وأمي- لا تشرف -أي لا تتطلع إلى القوم- لا يصبك سهم من سهامهم)] أي: حتى لا يصيبك سهم من سهامهم.
قال: [(نحري دون نحرك)] أي: رقبتي دون رقبتك. كأنه أراد أن يقول: يا رسول الله أنا أموت دونك وأُنحر ولا تُنحر، أُقتل ولا تُقتل، دعني أنا أواجه العدو، أما أنت فامكث واثبت في خبائك، لا تطّلع على القوم حتى لا يروك فيوجهوا إليك سهامهم فيقتلوك. نحري دون نحرك يا رسول الله!
وفي هذا منقبة عظيمة جداً لـأبي طلحة الأنصاري الذي يقول: (بأبي أنت وأمي) يفدّيه بأبيه وأمه، كما يقول له: (نحري دون نحرك) أي: أنا أُقتل ولا تُقتل، أُصاب بكل أذى ولا تُصاب أنت بأدنى أذى.
قال: [(ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم) -وعائشة هي أم المؤمنين، وأم سليم هي زوج أبي طلحة- وإنهما لمشمرتان) أي: مشمرتان الساعد أو الذراع؛ لأن التشمير لا يقال إلا لهذين، إما الساعد وإما الذراع.
وهذا يدل على شدة الجهد وأنهم واصلوا الليل بالنهار في القتال، ولم يكن هناك وقت للراحة أبداً فضلاً عن النوم والنعاس؛ مما جعل السيف يسقط من فرط الجهد ومن قلة النوم من يدي أبي طلحة مرتين أو ثلاثاً لقلة النوم.
فيقولون: هذا الحديث ظاهر في الدلالة على جواز النظر إلى ساق المرأة أو إلى ذراع المرأة، وهذا نظر وإن كانت هناك نصوص محرّمة إلا أن هذا النص يبيح النظر إليها، فهذا التحريم إما أن يصرف تماماً فلا يكون حراماً، وإما أن يكون النظر مكروهاً؛ وذلك لأن آيات التحريم لا تقع فيها أحاديث جواز النظر إلى عائشة رضي الله عنها، وإلى إحدى نساء النبي عليه الصلاة والسلام، وإلى تلك المرأة سفعاء الخدين، وغير ذلك من النصوص.
يقول الإمام النووي: (وأما السوق: فجمع ساق، وهذه الرواية للخدم لم يكن فيها نهي -أي: هذا الموضع من المرأة لم ينزل فيه النهي لأول وهلة- لأن هذا كان يوم أحد قبل أمر النساء بالحجاب، وتحريم النظر إليهن).
إذاً: تدفع هذه الشبهة من وجهين:
الوجه الأول: أن هذا كان قبل تحريم النظر، وقبل نزول آيات الحجاب.
ولأنه لم يذكر هنا أنه تعمد النظر إلى نفس الساق، فهو محمول على أنه حصلت تلك النظرة فجأة بغير قصد كما لم يثبت أنه داوم عليها، فهو قبل آيات التحريم -وإن سلّمنا جدلاً أنه بعد آيات التحريم- فهذا نظر الفجأة الذي سأل عنه علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (يا رسول الله! أرأيت لو نظرت إلى المرأة نظر الفجأة قال: اصرف بصرك فإن الأولى لك والثانية عليك).
فهذا أبو طلحة نظر إلى قدم عائشة رضي الله عنه وهي أمه قبل آيات التحريم، وكانت هذه النظرة من نظرات الفجأة، ولم يدم النظرة إليها، وإنما وقع بصره عليها ثم انصرف، فلا حجة بعد هذه التبريرات لمن تمسك بطرف هذا النص بجواز النظر إلى المرأة الأجنبية. والعجيب أن بعض المذيعات كن يقدمن برنامجاً، وقد استضفن فيه بعض علماء مشايخ الأزهر، فحينما أنكر المسلمون على هذا الشيخ كيف تجلس مع امرأة متبرجة تنظر إليها وتنظر إليك؟ أجاب هذا الشيخ بهذا الحديث، وبلا شك أنه إذا أجاب بهذا الحديث وكان المعترض عليه جاهلاً بهذا الحديث أو بتأويل هذا الحديث لا شك أنه سيسكت، بل قد سكّت بالفعل، وكان هذا في مسجد عام كبير، يقال له: (مسجد النور) في (العباسية)، والآلاف يسمعون؛ مما جعل الناقد حين سماع هذا الحديث يسكت، فكان في سكوته فتنة عظيمة للمستمعين عظيماً؛ لأن الحديث صحيح، وهو ظاهر في الجواز، وهذا فرق كبير جداً بين من ينتهج في فهم النصوص منهج السلف ومنهج الخلف، أما الذي ينتهج نهج الخلف فلا يضره أن يسمع الحديث من فلان أو علان بفهمه هو، ولكن الرجل الذي يحرص أن يفهم دينه على مذهب السلف لا بد أن يرجع إلى النص ويعلم ماذا قال فيه السلف، فبعد سماعنا لهذا النص ومعرفتنا بتأويله، وأن ذلك كان قبل التحريم، ولو سلّمنا أنه بعد التحريم فهو محمول على الفجأة، وكل منهما جائز مباح، وفي ذلك عصمة لنا، ودائماً كلام السلف رضي الله عنهم عصمة لهم ولمن بعدهم.
و نجدة هو نجدة الحروري من زعماء الخوارج، وكان ابن عباس يبغضه أشد البغض لبدعته، ولكن نجدة [كتب إلى ابن عباس يسأله عن خمس خلال، فقال ابن عباس : لولا أن أكتم علماً ما كتبت إليه].
أي: أن ابن عباس كان يكره نجدة لبدعته وهي كونه من الخوارج الذين يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ولكن حينما سأله عن العلم لم يمكنه كتمه فاضطر إلى إجابته، وقال: لولا أن أكتم علماً ما كتبت إليه، أي: لولا أني إذا تركت الكتابة أصير كاتماً للعلم مستحقاً لوعيد كاتمه لما كتبت إليه. ثم أمر ابن عباس يزيد بن هرمز أن يكتب فأملاه ابن عباس وكتب خلفه يزيد.
[كتب إليه نجدة أما بعد: فأخبرني هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء؟ وهل كان يضرب لهن بسهم؟ وهل كان يقتل الصبيان؟ ومتى ينقضي يتم اليتيم؟ وعن الخمس لمن هو؟ فكتب إليه ابن عباس: (كتبت تسألني هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء؟ قد كان يغزو بهن فيداوين الجرحى، ويحذين من الغنيمة -أي: يعطين شيئاً كالهدية أو المنحة أو الهبة ليس سهماً؛ لأنه كان يغزو بهن لمداواة الجرحى وليس للقتال- قال: وأما بسهم فلم يضرب لهن. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يقتل الصبيان فلا تقتل الصبيان -أي: يا
قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم كلاهما عن حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه عن يزيد بن هرمز : أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله عن خلال. بمثل حديث سليمان بن بلال غير أن في حديث حاتم : وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يقتل الصبيان].
حينما سأله هل كان يقتل الصبيان؟ قال: لم يكن رسول الله يقتل الصبيان. [فلا تقتل الصبيان إلا أن تكون تعلم ما علم الخضر من الصبي الذي قتل].
فهنا ابن عباس يعرف أن نجدة هذا لا دين له ولا خلق، وإنه يقع من النصوص على مواطن الشبه، فـابن عباس يوقفه ويقطع عليه الطريق؛ لأنه لو قال له: إن رسول الله لم يكن يقتل الصبيان سيقول له: ولكن الخضر قتل الصبي الصغير. إذاً: يجوز قتل الصبيان الصغار، فـابن عباس لم يمكّنه من هذه وسد عليه الباب.
[وزاد إسحاق في حديثه عن حاتم: وتميز المؤمن]. أي: وتميّز المؤمن من الكافر باعتبار ما سيكون. أي: تميّز أنت يا نجدة ! المؤمن من الكافر بعد البلوغ مع أنه صبي لم يبلغ بعد، فهو يريد أن يقول له: إذا كان لديك علم لدنّي تعلم به أن هذا الصبي إذا بلغ سيكون مؤمناً، وذاك إذا بلغ سيكون كافراً فاقتل الكافر ودع المؤمن، وهذا تعجيز فمن أين له ذلك؟ الله تعالى علم الخضر فيما يتعلق بالصبي الذي قتله، وليس لـنجدة أن يتعلم ما تعلمه الخضر، فكأنه يعجزه.
قال: [فتقتل الكافر وتدع المؤمن].
قال: [حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن إسماعيل بن أمية عن سعيد المقبري -أي: سعيد بن أبي سعيد- عن يزيد بن هرمز قال: كتب نجدة بن عامر الحروري -وحروراء اسم مكان- إلى ابن عباس يسأله عن العبد والمرأة يحضران الحرب والقتال هل يقسم لهما؟ وعن قتل الولدان؟ وعن اليتيم متى ينقطع عنه اليتم؟ وعن ذوي القربى من هم؟ فقال لـيزيد -أي: قال ابن عباس لـيزيد بن هرمز : اكتب إليه فلولا أن يقع في أحموقة ما كتبت إليه.
يعني: لولا أن هذا الرجل لا يقع بسبب عدم كتابتي إليه في شيء أحمق نتن ما كتبت إليه، لكني أخشى ألا أكتب إليه فيقع في أحموقة ويرتكب جريمة عظيمة، فاكتب إليه.
قال: [(إنك كتبت تسألني عن المرأة والعبد يحضران المغنم هل يقسم لهما شيء؟ وإنه ليس لهما شيء إلا أن يحذيا)]، أي: ليس للمرأة وليس للعبد سهم من الغنائم، وإنما يعطيان من الغنيمة قبل توزيعه.
قال: [وحدثناه عبد الرحمن بن بشر العبدي حدثنا سفيان قال: حدثنا إسماعيل بن أمية عن سعيد بن أبي سعيد -أي المقبري - عن يزيد بن هرمز قال: كتب نجدة إلى ابن عباس وساق الحديث بمثله.
وحدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا وهب بن جرير بن حازم قال: حدثني أبي سمعت قيسـاً -وهو قيس بن سعد المكي - يحدث عن يزيد بن هرمز ، وحدثني ابن حاتم -واللفظ له- حدثنا بهز -وهو ابن أسد العمي - قال: حدثنا جرير بن حازم حدثني قيس بن سعد عن يزيد بن هرمز قال: كتب نجدة بن عامر إلى ابن عباس قال: فشهدت ابن عباس حين قرأ كتابه وحين كتب جوابه].
أي: أن يزيد يقول: أنا رأيت ابن عباس حينما أتاه كتاب نجدة وحينما كتب الكتاب إليه، وكأنه يقول: أنا لزمت ابن عباس .
قال: [(وقال
أي: عن رأي قبيح أو فعل قبيح يقع فيه ما كتبت إليه [ولا نعمة عين] أي: ولا كرامة.
[وعن أم عطية الأنصارية قالت: (غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات أخلفهم في رحالهم -أي: أكون في مؤخرة الجيش في موطن الرحال والخدمة- فأصنع لهم الطعام، وأداوي الجرحى، وأقوم على المرضى)].
وفي هذا أن المرأة تستحق الرضخ ولا تستحق السهم، وبهذا قال أبو حنيفة والثوري والليث والشافعي وجماهير العلماء. أما الأوزاعي فقال: تستحق السهم إن كانت تقاتل أو تداوي الجرحى.
وقال مالك: لا رضخ لها فضلاً عن السهم -أي: لا سهم ولا رضخ- ولا شك أن هذا الحديث الصحيح الصريح ، يرد على مالك وعلى الأوزاعي).
ويبقى عندنا أن مذهب الجمهور -وهو المؤيد بالدليل- أن المرأة لها أن تغزو مع الرجال، فتكون في مؤخرة الرحال تداوي الجرى وتطببهم وتصنع الطعام، وما يكون من طبيعة النساء على أن يرضخ لها ولا يسهم. وهذا هو المذهب الراجح.
في هذا الكلام فائدة: أن العبد يُرضخ له كذلك ولا يسهم له. إذاً: المرأة والعبد يرضخ لهما ولا يسهم، وبهذا قال الشافعي وأبو حنيفة وجماهير العلماء.
وقال مالك : لا رضخ للعبد.
إذاً: مالك منع الرضخ للعبد وللمرأة، أما الحسن وابن سيرين والنخعي والحكم قالوا: إن قاتل -أي: العبد- أسهم له.
والحديث كذلك يرد عليهم. أي: يُرضخ لهما.
فيه: النهي عن قتل صبيان أهل الحرب، وهو حرام إذا لم يقاتلوا). صبيان المشركين والكفرة قتلهم حرام، إلا أن يقاتل الصبية فلا يكونوا صبية حينئذ، وإنما يكونوا محاربين مقاتلين فيجوز قتلهم.
والاستثناء الثاني: أنه إذا لم يكن يمكن الوصول إلى المقاتلين المحاربين إلا بقتل الصبيان والنساء فيقتلون تبعاً لا أصلاً، كما أنهم يقتلون في الثغر والتترس، فإذا تترس المشركون في مكان أو بشيء واتخذوا الأطفال ستاراً لهم، ولا يمكن الوصول إلى المقاتلين المحاربين إلا بقتل الصبيان فلا بأس حينئذ بقتلهم.
إذاً: الحرام تعمد قتل الصبيان والنساء والخدم ابتداءً.
أي: فإذا بلغ رشداً علم به مصلحته في الأخذ والعطاء، في البيع والشراء، في التعاملات والتصرفات، فإن هذا دليل على بلوغه الرشد وذهاب اليتم، والسن مختلف فيه.
قال: (ومعنى هذا: متى ينقضي حكم اليتم ويستقل اليتيم بالتصرف في ماله؟)
طبعاً في قانون الأحوال الشخصية المصري ينقضي يتم اليتيم بواحد وعشرين سنة، وهذا أوفق في صحة التصرفات، وأما نفس اليتم فينقضي بالبلوغ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يتم بعد الحلم) أي: بعد بلوغ الصبي سن الحلم يذهب عنه اسم اليتم، ويبقى حكم اليتم حتى يبلغ الرشد.
إذاً: هناك فرق بين سن البلوغ وسن الرشد، فسن البلوغ أن تظهر عليه علامات البلوغ من نبات الشعر في الوجه أو في العانة أو في الإبط، أو ظهور الثدي عند البنت، أو ابتداء الشهوة لدى الولد أو البنت، كل هذه علامات تدل على البلوغ.
أما الرشد فيبقى عنه بضعة أعوام بعد سن البلوغ، فقد يبلغ في العاشرة أو في الحادية عشرة أو في الثانية عشرة، ولكنك لا تجيز تصرفه حتى يبلغ العشرين أو زيادة أو أقل.
قال: (وأما نفس اليتم فينقضي بالبلوغ، وقد ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يتم بعد الحلم). وفي هذا دليل للشافعي ومالك وجماهير العلماء: أن حكم اليتم لا ينقطع بمجرد البلوغ ولا بعلو السن -هذا حكم اليتم، أما اسم اليتم فيزول عنه بمجرد البلوغ- بل لا بد أن يظهر منه الرشد في دينه وماله.
وقال أبو حنيفة : إذا بلغ خمساً وعشرين سنة زال عنه حكم الصبيان، وصار رشيداً يتصرف في ماله، ويجب تسليمه إليه وإن كان غير ضابط له، وأما الكبير إذا طرأ تبذيره -أي: بعد سن خمسة وعشرين، إذا كان إنساناً مسرفاً جداً ومبذّراً سفيهاً لا يضبط تصرفاته- فمذهب مالك وجماهير العلماء وجوب الحجر عليه لا لليتم وإنما للسفه؛ لأنه كبير.
وقال أبو حنيفة : لا يحجر. وقال ابن القصار : الصحيح الأول وكأنه إجماع).
أي: الكبير الذي بلغ سن الرشد ولكنه سفيه في تصرفاته يحجر عليه لا من باب اليتم ولكن من باب السفه. والله أعلم.
معناه: خمس خمس الغنيمة الذي جعله الله تعالى لذوي القربى، وقد اختلف العلماء فيه، فقال الشافعي مثل قول ابن عباس ، وهو أن خمس الخمس من الفيء والغنيمة يكون لذوي القربى، وهم عند الشافعي والأكثرين: بنو هاشم وبنو المطلب). وهذا هو الراجح.
قال: (وقوله: (ولكن أبى علينا قومنا ذاك) أي: رأوا أنه لا يتعين صرفه إلينا، بل يصرفونه في مصالح العامة، وأراد بقومه ولاة الأمر من بني أمية).
معناه: أن الصبيان لا يحل قتلهم، ولا يحل لك أن تتعلق بقصة الخضر وقتله صبياً؛ فإن الخضر ما قتله إلا بأمر الله؛ ولذلك قال الله تعالى حاكياً عن الخضر : وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف:82]) فإن كنت أنت تعلم من صبي ذلك فاقتله، (ومعلوم أنه لا علم له بذلك، فلا يجوز له القتل).
أي: كم غزوة غزاها النبي عليه الصلاة والسلام.
والغزوة تختلف عن السرية. السرية هي سرية صغيرة أو مناورة أو استطلاع أو شيء من هذا.
إنما الغزوة بمعنى: الجيش الذي يكون على رأسه النبي عليه الصلاة والسلام أو الإمام، فهذه الغزوة عند الإطلاق.
فكم غزوة غزاها النبي عليه الصلاة والسلام؟
لك أن تتصور أن غزوات النبي عليه الصلاة والسلام كلها كانت خلال ثمان سنوات؛ لأن أول غزوة غزاها هي غزوة بدر وكانت في العام الثاني من الهجرة، وهو عليه الصلاة والسلام مات في العام العاشر.
قال: [عن أبي إسحاق أن عبد الله بن يزيد خرج يستسقي بالناس فصلى ركعتين ثم استسقى. قال: (فلقيت قال: تسع عشرة غزوة. فقلت: كم غزوت أنت معه؟ قال: سبع عشرة غزوة -فاتته غزوتان- قال: فقلت: فما أول غزوة غزاها؟ قال: ذات العُسير أو العُشير
والعشير: هي من أرض مذحج.
[وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن آدم حدثنا زهير -وهو ابن معاوية بن حديج الجعفي - عن أبي إسحاق السبيعي عن زيد بن أرقم سمعه منه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا تسع عشرة غزوة، وحج بعدما هاجر حجة واحدة لم يحج غيرها وهي حجة الوداع)].
سُميت الوداع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ودّع فيها أصحابه قال: (خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا). قال الصحابة فيما بينهم قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم: هذه حجة الوداع. أي: التي فيها ودّع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وأمته، وفارق بعدها الدنيا صلى الله عليه وسلم.
والنبي عليه الصلاة والسلام حج على ملة إبراهيم عليه السلام على الحنفية السمحاء قبل البعثة مرتين، وحج بعد البعث مرة واحدة.
[وحدثنا زهير بن حرب حدثنا روح بن عبادة حدثنا زكريا أخبرنا أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: (غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة)].
إذاً: عد زيد بن أرقم يتوافق مع عد جابر بن عبد الله الأنصاري .
والفارق بين زيد بن أرقم وجابر : أن زيداً سئل: كم غزا النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: تسع عشرة. وجابر قال: غزوت معه تسع عشرة. وهذا يعني: أن جابراً حضر جميع الغزوات مع النبي عليه الصلاة والسلام، لكن بعد ذلك [قال جابر : لم أشهد بدراً ولا أحداً]، إذاً: حضر مع النبي صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة، ولكنه لم يشهد بدراً ولا أحداً. إذاً: يكون عدد الغزوات واحداً وعشرين غزوة. هل نفى جابر الغزوات بعد ذلك؟ هل أتى رجل وقال: لم يغز النبي صلى الله عليه وسلم إلا واحداً وعشرين غزوة؟ لو قال ذلك لكانت هذه صيغة اختصاص لم يغز إلا هذا العدد، ولكن جابر يقول: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة ولم أحضر بدراً ولا أحداً، ولم ينف جابر أنه غزا أكثر من ذلك، فهو يقول: أنا حضرت تسعة عشر غزوة، لكن للأسف لم أحضر بدراً ولا أحداً، وهذا لا ينفي أنه لم يحضر غير بدر ولا أحد، لكن حينما كانت هاتان الغزوتان هما أعظم غزوات النبي عليه الصلاة والسلام فهو يتحسّر أنه لم يحضرهما، وحضر بعد ذلك تسع عشرة غزوة، لا ينفي أن تكون فاتته غزوة أو غزوتين أو ثلاثاً أو أربعاً.
قال: [منعني أبي -أي: من بدر وأحد- فلما قُتل عبد الله يوم أحد لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة قط].
هذا الكلام الأخير يفيد الحصر عند جابر بن عبد الله : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغز إلا واحداً وعشرين غزوة، حضر منها تسع عشرة وتخلف عن غزوتين.
زيد بن أرقم يقول: الغزوات تسع عشرة غزوة. إذاً: كل منهما أخبر بما عنده من علِم.
[وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا زيد بن الحباب (ح) وحدثنا سعيد بن محمد الجرمي حدثنا أبو تميلة -كنية جميلة جداً، وهي اسم لـيحيى بن واضح الأنصاري المروزي - قالا جميعاً: حدثنا حسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه بريدة بن الحصيب قال: (غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة قاتل في ثمان منهن)].
أي: قاتل العدو بنفسه في ثمان منهن، وكان قائداً ومديراً للحرب في بقية الغزوات. أي: أنه كان رئيس غرفة العمليات في بقية الغزوات، وباشر القتال بنفسه في ثمان غزوات.
[ولم يقل أبو بكر: منهن. أي: قاتل في ثمان. وقال في حديثه: حدثني عبد الله بن بريدة].
قال: [وحدثني أحمد بن حنبل حدثنا معتمر بن سليمان بن طرخان التيمي عن كهمس البصري عن ابن بريدة عن أبيه بريدة أنه قال: (غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ست عشرة غزوة)].
غزا بريدة بن الحصيب معه ست عشرة غزوة، وهذا لا ينفي أنه عليه الصلاة والسلام غزا أكثر من ذلك.
[حدثنا محمد بن عباد حدثنا حاتم بن إسماعيل عن يزيد بن أبي عبيد قال: سمعت سلمة بن الأكوع يقول: (غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، وخرجت فيما يبعث من البعوث تسع غزوات -والبعوث: السرايا الصغيرة- مرة علينا
أي: أنه كان يؤمر مرة على السرية أبو بكر الصديق ، ومرة يؤمر على السرية أسامة بن زيد ، وتصور أن أسامة بن زيد يكون القائد لـسلمة بن الأكوع، مع أن سلمة أقوى منه، ولكنه الأدب الذي رباهم عليه النبي عليه الصلاة والسلام، فليس هناك فرق في أن يكون قائدي شاباً صغيراً أو شيخاً كبيراً، ما دام قد تعيّن الأمير، فله أحكام الأمير كلها، وينبغي أن يطأطئ عنده الرأس مهما علا قدره، وأنتم تعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام أمّر على جيش الجرف في الشام أسامة بن زيد ، وكان في الجيش أبو بكر وعمر ، وكانت هذه آخر سرية جهّزها النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يتجاوز عمر أسامة سبع عشرة سنة، ومع ذلك يكون أميراً على أبي بكر وعمر ، وأبو بكر رضي الله عنه من فرط احترامه وإجلاله للنبي عليه الصلاة والسلام حينما عيّن أسامة أركبه على الدابة، لكن أسامة مهذّب ومتربٍ في بيت النبوة، فقال: اركب يا أبا بكر ! قال: لا. فأنت أميرنا وأنت سيدنا. الله أكبر! أبو بكر يقول هذا لصبي عمره سبع عشرة سنة؟! على مذهب بعض العلماء أنه لم يبلغ سن الرشد، ومع هذا يبجّله ويعظّمه أبو بكر .
ولو جعلناه الآن وإن كان كفؤاً يقود المسيرة وعمره ثلاثون سنة لقالوا: من هذا الطفل؟ وستسمع هذا الكلام أولاً من الإخوة، وهذا يدل على قلة الفهم في الصحوة نفسها، وهذا ما نراه في المساجد، تجد واحداً عمره خمس عشرة سنة يحفظ القرآن كاملاً، ويجوده على رواية حفص ولديه إجازة، وقرأ على المشايخ، ويحفظ متوناً لا يحفظها أحد ممن في الحي بل ولا في البلد، ولكن القاعدة العجيبة: لا يصلي بنا صبي! وسيظل صبياً حتى يكبر وتنبت لحيته.
إن النبي عليه الصلاة والسلام أرسل قوماً من أصحابه وجعل إمامهم عمرو بن سلمة الذي تربى في حجر النبي عليه الصلاة والسلام، وذات مرة كان يصلي بهم، فسجد فانكشفت عورته، فقالت امرأة ممن كن يصلين خلفه: داروا عنا است صاحبكم. أي: غطوه أو افعلوا له أي شيء، ولم تعترض وإنما أخبرتهم بأنه قد انكشفت عورته؛ لأن الإمام عيّنه وصار إماماً.
قال: [حدثنا أبو عامر عبد الله بن براد الأشعري ومحمد بن العلاء الهمذاني -واللفظ لـأبي عامر- قال: حدثنا أبو أسامة حماد بن أسامة عن بريد بن أبي بردة عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة ونحن ستة نفر -إذاً: فهذه تسمى سرية- بيننا بعير نعتقبه)] أي: نتعاقب عليه وكل منا يركبه فترة. وفي هذا: جواز هذا الصنيع ما دامت الدابة مطيقة وغير متضررة.
قال: [(فنقبت قدماي -أي: دميت أو تشققت وكلّت -وسقطت أظفاري) ولك أن تتصور شدة الجهد الذي بذله أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، حتى نقبت وتشققت أقدامهم من المشي في الصحراء الحارة الرمضاء.
قال: [(فكنا نلف على أرجلنا الخرق -وهم هؤلاء الذين نصر الله تعالى بهم الدين- فسميت غزوة ذات الرقاع)] وهذا أقوى الأسباب في تسميتها بذات الرقاع، كان معهم رقع من الجلد أو خرق القماش لفوا بها أرجلهم؛ ولذلك سميت الغزوة بغزوة ذات الرقاع. قال: [(لما كنا نعصّب على أرجلنا من الخرق. قال
قال: (كأنه كره أن يكون شيئاً من عمله أفشاه) قال أبو أسامة: وزادني غير بريد والله يجزي به].
قال الإمام النووي: (في هذا استحباب إخفاء الأعمال الصالحة، وما يكابده العبد من المشاق في طاعة الله تعالى، ولا يظهر شيئاً من ذلك إلا لمصلحة، مثل بيان حكم ذلك الشيء، والتنبيه على الاقتداء به فيه ونحو ذلك، وعلى هذا يحمل ما وجد للسلف من الإخبار بذلك).
أي أنهم كانوا يعملون الأعمال الصالحة ثم يفشونها؛ حتى يقتدي بهم من بعدهم، لا من باب المفاخرة أو الرياء والسمعة.
قال: (باب كراهة) ولم يقل: باب تحريم، كما أنه لم يقل: باب جواز، وإنما أخذ الكراهة من نصين: نص يجيز مطلقاً، ونص يمنع مطلقاً، والذي اعتمد على المنع المطلق قال بالتحريم، والذي اعتمد على النص المجيز مطلقاً قال بالجواز، والمذهب الراجح هو التفصيل والوسط بين المذهبين، وسنتعرض لهما.
[حدثنا زهير بن حرب حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن مالك ، وحدثنيه أبو الطاهر -واللفظ له- حدثنا عبد الله بن وهب عن مالك بن أنس عن الفضيل بن أبي عبد الله عن عبدالله بن نيار الأسلمي عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أنها قالت: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبل بدر -أي: ناحية بدر- فلما كان بحرة الوبرة -وهو اسم موضع على بعد أربعة أميال من المدينة- أدركه رجل قد كان يذكر منه جرأة ونجدة)] أي: قوة وشجاعة في الحرب، وكان الصحابة يعلمون ذلك منه، غير أنه كان مشركاً وكافراً.
قال: [(ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه)] أي: ظنوا أنه قد أسلم وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم ليقاتل معه. قال: [(فلما أدركه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئت لأتبعك وأصيب معك)] أنا جئت لكي أقاتل معك ويكون لي شيء من الغنيمة، أي: أن هذا الرجل أتى مقاتلاً لأجل الغنيمة، طبعاً هذا ليس له حسبة ولا نية صالحة؛ لأنه كافر.
[قال: (قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا)] أرأيتم مثل هذه الجرأة؟ لم يقل: أنا مؤمن بالله ولكن لست مؤمناً بك أنت، كالمشركين في مكة قالوا: نحن نؤمن بالله لكن لا نؤمن أنك رسول من عند الله، أما هذا فقد نفى الكل، فأنا لست مؤمناً بالله ولا مؤمناً بك. قال: [(تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا. قال: فارجع فلن أستعين بمشرك. قالت
أي: ادخل في وسط الجيش وقاتل. وفي هذا الحديث فوائد ينبغي الوقوف عندها.
لكن الجيش الذي خرج به النبي عليه الصلاة والسلام من المدينة كان جيشاً متربياً على الإيمان، فالأصل أن التربية قبل الجهاد، فالذي يزعم أن الجهاد يعقبه التربية هذا زعم غلط، وهو مخالف لسيرة النبي عليه الصلاة والسلام وسيرة أصحابه، فالجهاد يحتاج إلى إعداد إيماني متين؛ ولذلك الأمة لا يمكن أن تجاهد كلها إنما يجاهد منها فئة مخلصة مؤمنة هم أتباع الرسل، وهم أتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، الذين يستشرفون بعد عشرات السنين في العلم والصلاة والزكاة والصيام وقيام الليل والتدريب على التقوى والإيمان، هؤلاء هم الذين يثبتون حين اللقاء، أما الذين لم يتربوا وقد دعوا إلى القتال لا نية لهم ولا يعرفون معنى الراية؛ لأنهم ليسوا تحتها ابتداء ولا أصلاً، ولا يحمونها؛ ولذلك هم يعدون القتال مع العدو مهلكة للدماء، ومهلكة للأموال وللأنفس، وخراب للاقتصاد، وضياع للبلاد.. وهكذا نسمع في كل يوم أنهم يقولون هذا، أنهم يقولون: لِم نقاتل وبعد القتال نصطلح؟ فلماذا لا نصطلح من البداية قبل القتال.
ثم يقولون: نقاتل لماذا؟ إنما نحمي بلادنا، فلا علاقة لنا بفلسطين ولا بالشيشان ولا بأفغانستان.. هؤلاء لم يفهموا شيئاً في دين الله عز وجل، ولا علاقة لهم به؛ لأن علاقتهم بالله منقطعة أصلاً، وعلاقتهم بالدين وبالأحكام الشرعية منقطعة ابتداء، فهم قد حجب الله تعالى عنهم نور الإيمان، ويتكلمون بالكلام النجس النتن الذي يتعلمونه في سياساتهم، أما دين الله عز وجل فهم أبعد الناس عنه، فكيف يقاتلون إذاً؟ كما أنهم ربوا شعوبهم وربوا هذه الأمة على هذه الأخلاق الفاسدة والعقائد الباطلة، فصارت هناك أجيال تربت على الزنا والخنا وشرب الخمر والميوعة وغير ذلك، فيقولون: نقاتل بمن؟
نعم فعندكم حق، لا قاعدة معكم تسندكم في هذا القتال؛ لأنكم ربيتم الأمة كلها على الفساد وعلى الباطل حتى إذا احتجتموهم في موطن الهلاك والضيق لم تجدوا واحداً. وهذا ثمرة الأعمال، فحينما ربيتموهم على الفساد لا ينفعوكم عند الحاجة أبداً.
والعجيب أنهم يخافون من رفع راية الجهاد وتسليم الراية إلى المجاهدين حقاً مخافة على أنفسهم، فهم يفهمون هذه القضية جيداً، ويفهمون أن ثلة قليلة من المؤمنين أوقفت أعظم دولة كافرة في العالم على أظافرها، وألحقوا بهم مضرات لا قبل لهم بها، فيقولون: فما بالهم لو تفرغوا لنا! كل هذا مخافة على الكراسي والأموال وغير ذلك؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون.
فالأصل التربية قبل الجهاد، فالذي يقول: الجهاد قبل التربية مخطئ، ولو أنه استند إلى مثل هذا النص فنقول له: هذا استثناء وليس أصلاً، بدليل أن الجيش نفسه الذي خرج به النبي صلى الله عليه وسلم لم يخرج به لأول وهلة، بمجرد أنه آمن، وإنما حينما آمن رباه في مكة ثلاثة عشر عاماً، حتى كان الإيمان في قلوبهم كالجبال الرواسي، وازدادوا بالأنصار في المدينة فصاروا جيشاً تتزلزل أمامه الجبال الرواسي، فلا تترك هذا كله وهو الأصل وتتمسك بالاستثناءات، لك أن تتصور أن النبي صلى الله عليه وسلم وضعه في المكان المناسب، هل النبي صلى الله عليه وسلم سيضعه في مكان أبي بكر أو في مكان عمر ؟ بل لا بد أن يرجع إلى الخلف، فأنت حينما تذهب لأي جيش من الجيوش يقبلك على مضض؛ لأنك لست مدرباً ولا مهيأً، ولا تعرف طبيعة الأرض ولا تعرف طبيعة الحرب في هذا المكان بالذات؛ لأن كل أرض لها طبيعة، حتى لاعب الكرة يقول: الأرض تلعب مع أصحابها.
إذاً: فلا بد أن يقاتل من عرف طبيعة الأرض، ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد وضعه في المكان المناسب.
ولذلك جاء في الحديث الآخر: أن النبي عليه الصلاة والسلام استعان بـصفوان بن أمية قبل إسلامه رضي الله عنه، طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقاتل فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم أن يقاتل؛ وذلك لأن صفوان بن أمية كان متعاطفاً مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى قبل الإسلام، وكان محباً للنبي صلى الله عليه وسلم ومحباً للإسلام، ومسالماً للنبي عليه الصلاة والسلام ومن معه، كما أن أبا طالب والد علي رغم كفره إلا أنه كان متعاطفاً مع ابن أخيه، وكان يذب عنه ويدافع عنه، فهذا كافر ولكنه مسالم، بخلاف الكافر المحارب.
والمصيبة أنك حينما تدخل شركات مسلمة تجد المصنّعين مسلمين، ولكنك تجده ليس له طعم ولا لون ولا رائحة، ولا علاقة لهم بالإسلام، فهم لا يصلون ولا يصومون ولا يؤدون زكاة ولا شيئاً من الدين أبداً، وربما تجد صاحب الشركة النصراني يؤدي ما عليه للكنيسة، فهو يفهم دوره ورسالته، لكن المسلم لا، ويأبى أن ينصحه أحد، وبعض الشر أهون من بعض.
فالنبي عليه الصلاة والسلام قال لهذا الرجل: (ارجع. فلن أستعين بمشرك) وأذن لـصفوان بن أمية بالاشتراك في القتال وهو مشرك كافر، فنجد أن هنا تضارب وتعارض، فأخذ طائفة من العلماء بالحديث الأول على إطلاقه. أي: بالمنع المطلق. وأخذ طائفة بالجواز المطلق.
وقال الشافعي وآخرون: إن كان الكافر حسن الرأي في الإسلام المسلمين ودعت الحاجة إلى الاستعانة به استعين به.
إذاً: إذا كان حسن الرأي في الإسلام والمسلمين، وأن تدعو الحاجة إلى الاستعانة به فلا بأس حينئذ بأن نستعين به، وإلا فيكره الاستعانة بالمشرك، وحمل الحديثان على هذين الحالين.
وإذا حضر الكافر بالإذن رُضخ له ولا يسهم له.
يعني: إذا أُذن للكافر بالقتال مع المسلمين فيُرضخ له كالعبد والنساء، وهذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة والجمهور.
وقال الزهري والأوزاعي : يسهم له إذا قاتل.
وهناك فوائد في هذا الحديث أخرى لكني أرى أنه ليس هناك وقت للكلام فيها، حتى لا نشق على الناس.
ولكن إذا أردت أن أسقط هذا الكلام على الواقع فأقول: إن هذه النصوص أيام غزو العراق للكويت صار الناس يستعينون بها ويذكرونها في خلافهم؛ هل يجوز الاستعانة بالأمريكان أم لا؟ فالقضية هذه يحكمها نصوص أخرى وليست هذه النصوص؛ وذلك لأن هذه النصوص تدل على خلاف العلماء في جواز الاستعانة بمشرك على مشرك، لكن أنت الآن تستعين بمشرك على مسلم، ففرق بين هذا وهذا، فالنصوص هذه ليست هي التي تحل هذه القضية مطلقاً، فلا نقول: يجوز الاستعانة بالأمريكان لرد العدوان العراقي، وذلك بغض النظر عن صدام حسين المجرم وعن حكمه، فهو ليس له علاقة بالسنة ولا بالشيعة ولا بالدين أصلاً، لكن الجيش الذي يقاتل هو جيش العراق، وهل يستطيع أحد أن ينفي الإيمان والإسلام عن جيش العراق؟ إذاً: فهو جيش مسلم استعين ضده بمشرك وهم الأمريكان والإنجليز عليهم لعنة الله، فقد أتوا واستوطنوا في أرض الجزيرة، وهي خطة مرسومة لهذا الظرف الذي تمر به الأمة اليوم، فإنهم لم يأتوا من أجل صدام ، ولكنهم أتوا حسب رسم الخطة البعيدة للاستقرار في المنطقة، والتمركز حول حقول البترول، وتأسيس قوى لضرب المنطقة العربية أو المنطقة الخليجية عن قرب، وها قد تحقق لهم هذا اليوم، وإن كل هذه الأحداث التي تمر على الساحة حصل لها تنبؤات قديمة وخطط يهودية قديمة، وقد ذكرها لنا بعض الشيوخ كما تعلمون.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر