بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في سياق نقله لكلام أبي عبد الله بن خفيف : [ ثم ذكر المأثور عن ابن عباس رضي الله عنهما وجوابه لـنجدة الحروري ، ثم حديث الصورة، وذكر أنه صنف فيه كتاباً مفرداً، واختلاف الناس في تأويله ].
حديث الصورة هو حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته)، مرجع الضمير في قوله صلى الله عليه وسلم: (صورته) هل هو إلى آدم أو إلى الله جل وعلا؟ الصحيح أنه عائد إلى الله سبحانه وتعالى، وإثبات الصورة لله سبحانه وتعالى كإثبات سائر الصفات التي جاءت في الكتاب والسنة من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، ولا يقتضي إثبات الصورة ما ادعاه المؤولة من أنه جسم أو ما شابه ذلك من التأويلات التي يقولونها.
والذي جعل أهل العلم يختلفون في مرجع الضمير أن هذه الصفة ليست كسائر الصفات التي جاء ذكرها في الكتاب والسنة كالوجه والعين واليد، وقبلها أهل العلم ولم يكن عندهم إشكال فيها كسائر الصفات، وأما صفة الصورة فلم يأت لها ذكر في كتاب الله جل وعلا، وإنما جاء ذكرها في الحديث، فاختلفوا في مرجع الضمير، والصواب رجوعه إلى الله، وأن له صورة جل وعلا، وهو في صورته وفي سائر صفاته لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] سبحانه وتعالى.
ثم ذكر الخلاف في الإمامة واحتج عليها، وذكر اتفاق المهاجرين والأنصار على تقديم الصديق ، وأنه أفضل الأمة.
ثم قال: وكان الاختلاف في (خلق الأفعال) هل هي مقدرة أم لا؟
قال: وقولنا فيها: إن أفعال العباد مقدرة معلومة، وذكر إثبات القدر.
ثم ذكر الخلاف في أهل الكبائر، ومسألة الأسماء والأحكام ].
الأسماء: مؤمن, فاسق, كافر.
والأحكام: ما يترتب على هذه الأسماء من الأحكام في الدنيا والآخرة، ومسألة الأسماء والأحكام من مباحث الإيمان.
وقال: أصل الإيمان موهبة يتولد منها أفعال العباد، فيكون أصل التصديق والإقرار والأعمال، وذكر الخلاف في زيادة الإيمان ونقصانه. وقال: قولنا أنه يزيد وينقص.
قال: ثم كان الاختلاف في القرآن مخلوقاً وغير مخلوق، فقولنا وقول أئمتنا: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، وإنه صفة الله منه بدأ قولاً وإليه يعود حكماً.
ثم ذكر الخلاف في الرؤية وقال: قولنا وقول أئمتنا فيما نعتقد: أن الله يرى في القيامة، وذكر الحجة.
ثم قال: اعلم رحمك الله أني ذكرت أحكام الاختلاف على ما ورد من ترتيب المحدثين في كل الأزمنة، وقد بدأت أن أذكر أحكام الجُمل من العقود. فنقول ونعتقد أن الله عز وجل له عرش، وهو على عرشه فوق سبع سماوات بكل أسمائه وصفاته، كما قال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ [السجدة:5] ولا نقول: إنه في الأرض كما هو في السماء على عرشه؛ لأنه عالم بما يجري على عباده ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ .
إلى أن قال: ونعتقد أن الله تعالى خلق الجنة والنار، وأنهما مخلوقتان للبقاء لا للفناء.
إلى أن قال: ونعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم عرج بنفسه إلى سدرة المنتهى. إلى أن قال: ونعتقد أن الله قبض قبضتين فقال: (هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار)، ونعتقد أن للرسول صلى الله عليه وسلم حوضاً، ونعتقد أنه أول شافع وأول مشفع، وذكر الصراط والميزان والموت، وأن المقتول قتل بأجله واستوفى رزقه ]
خلافاً للمعتزلة في هذه المسألة لأنهم قالوا بأن المقتول قطع أجله، وإلا فأجله الذي كتبه الله هو وقت موته بدون قتل، لكن القاتل قطع أجل المقتول، وهذا مبني على قولهم بأن الله لم يخلق أفعال العباد، وأن الله سبحانه وتعالى لم يعلم ما الخلق عاملون إلا بعد أن يعملوه.
علوه جل وعلا فيه إثبات نزوله، وفيه إثبات صفة اليد، وأنه يبسط يده، وأنه جل وعلا يتكلم؛ كل هذا في هذا الحديث.
[ وليلة النصف من شعبان، وعشية عرفة، وذكر الحديث في ذلك ]، ذكر ليلة النصف من شعبان بناء على الأحاديث التي وردت، وهي أحاديث ضعيفة لا تثبت، وأما نزوله جل وعلا عشية عرفة فهذا ثابت في صحيح مسلم.
يعني: أن الخلة التي نثبتها له لا يلزم فيها نقص وحاجة، ومقصوده بالفقر: حاجة الخليل إلى خليله.
إذاً: الخلة صفة له سبحانه وتعالى نثبتها -وأنه اتخذ إبراهيم خليلاً- دون أن نثبت ما يذكرونه من لوازم، فإنه لا يلزم على كلام الله عز وجل نقص، ولا على كلام نبيه صلى الله عليه وسلم شيء من ذلك لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11].
قوله: (نعتقد أن الله تعالى خص محمداً صلى الله عليه وسلم بالرؤية) هذا يحتمل أنه يقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينه التي في رأسه صلى الله عليه وسلم في الدنيا.
وهذا القول قول مرجوح، فإنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه، وإنما رأى جبريل عند سدرة المنتهى على الصفة التي خلقه الله عليها دون أن يتمثل له بهيئة غير الهيئة التي خلقه الله عليها، وهذا هو القول الصحيح في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه، فإنه لم يره بعينه وإنما رآه بفؤاده ورآه في المنام حيث قال صلى الله عليه وسلم: (رأيت ربي البارحة في أحسن صورة).
قال رحمه الله: [ ونعتقد أن الله تعالى اختص بمفتاح خمس من الغيب لا يعلمها إلا الله: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان:34] الآية. ونعتقد المسح على الخفين ثلاثا للمسافر ويوماً وليلة للمقيم ].
هذه المسألة من مسائل الفروع، وإنما ذكرها الشيخ رحمه الله وغيره من المصنفين في الاعتقاد مخالفة لما عليه المبتدعة من الروافض الذين لا يرون ذلك، فذكرها لأنها من علامات أهل السنة، وإلا فهي ليست من مسائل الأصول بل هي من مسائل الفروع.
قوله (الصبر على السلطان) خلافاً للخوارج والمعتزلة الذين يرون الخروج على السلاطين إذا رأوا منهم الجور والظلم.
قال رحمه الله: [ والصلاة في الجماعة حيث ينادى لها واجب إذا لم يكن عذر أو مانع، والتراويح سنة، ونشهد أن من ترك الصلاة عمداً فهو كافر، والشهادة والبراءة بدعة، والصلاة على من مات من أهل القبلة سنة، ولا ننزل أحداً جنة ولا ناراً حتى يكون الله ينزلهم ]
قوله: (لا ننزل أحداً) ظاهر كلامه أنه يشمل أهل القبلة وغيرهم، وغير أهل القبلة هم الكفار كاليهود والنصارى وغيرهم، فظاهر قوله: (ولا ننزل أحداً جنة ولا ناراً) أي: بعينه. فلا نجزم أن هذا من أهل الجنة أو أن هذا من أهل النار، وفي بعض كلام أهل العلم تقييد ذلك بأهل القبلة كما في السنة للإمام أحمد ، وغيره من أهل العلم، أي: لا ننزل أحداً من أهل القبلة لا جنةً ولا ناراً حتى يكون الله ينزله. أي: حتى يأتينا النص بأن فلاناً من أهل الجنة وأن فلاناً من أهل النار، وكلام أهل السنة في هذا محتمل، فيحتمل العموم. يعني: لا يشهد لأحد بعينه أنه من أهل النار حتى ولو كان من الكفار.
ويعني به: المراء والجدال بالباطل، وإلا فإن مقارعة أهل البدع والرد عليهم وبيان بطلان أقوالهم ليس من البدع، بل قد يكون واجباً، وقد قال الله عز وجل في شأن كتابه في أهل الكتاب: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46] فنهى عن الجدال السيئ، وأمر بالجدال الذي يكون بالحسنى، وهذا الذي يوصل إلى الحق ويدفع الباطل.
هذه المسائل أحدثها المتكلمون فيما بعد القرون المفضلة: هل لفظي بالقرآن مخلوق أو لا؟! وهذه لم تكن في عهد الصحابة ولا في القرون المفضلة من التابعين وتابعيهم، وإنما حدثت بعد بدعة الجهمية في إنكار كلام الله سبحانه وتعالى، والأولى الصد عن هذا وعدم الحديث فيه.
وكذا الاسم والمسمى: هل الاسم عين المسمى أم زائد عليه، كل هذا إنما حدث بعد ما أدخله المتكلمون على أهل الإسلام من بدعة الكلام، واتباع الفلاسفة والآراء الباطلة في باب أسماء الله وصفاته.
إلى أن قال: وقرأت لـمحمد بن جرير الطبري في كتاب سماه: التبصير، كتب بذلك إلى أهل طبرستان في اختلاف عندهم، وسألوه أن يصنف لهم ما يعتقده ويذهب إليه، فذكر في كتابه اختلاف القائلين برؤية الله تعالى، فذكر عن طائفة إثبات الرؤية في الدنيا والآخرة.
ونسب هذه المقالة إلى الصوفية قاطبة لم يخص طائفة، فبين أن ذلك على جهالة منه بأقوال المخلصين منهم، وكان من نسب إليه ذلك القول -بعد أن ادعى على الطائفة- ابن أخت عبد الواحد بن زيد ، والله أعلم بمحله عند المخلصين، فكيف بابن أخته، وليس إذا أحدث الزائغ في نحلته قولاً نسب إلى الجملة ].
هذه مسألة مهمة تفيد طالب العلم في التعامل مع الطوائف والفرق والقبائل وأهل البلدان، أنه إذا أحدث أحد منهم خطأً فإنه لا ينسب إلى الجملة، بل النسبة إلى الجملة من الظلم الذي ينهى عنه.
قال رحمه الله: [ كذلك في الفقهاء والمحدثين ليس من أحدث قولاً في الفقه، وليس فيه حديث يناسب ذلك ينسب ذلك إلى جملة الفقهاء والمحدثين.
واعلم أن لفظ الصوفية وعلومهم تختلف، فيطلقون ألفاظهم على موضوعات لهم، ومرموزات وإشارات تجري فيما بينهم، فمن لم يداخلهم على التحقيق، ونازل ما هم عليه رجع عنهم وهو خاسئ وحسير ].
يعني: لم يفهم مرادهم، وينصرف عنهم وعما عندهم من خير. هذا معنى قوله: (رجع عنهم وهو خاسئ وحسير). وعلى كل حال فالواجب على كل من دخل في هذه العلوم على تنوعها أن يتقن مصطلحات القوم ومرادهم بألفاظهم وكلماتهم؛ لأن الحكم على أقوالهم فرع عن فهمها وتصورها وإدراكها، ولا يتأتى ذلك إلا بمعرفة اصطلاحاتهم ومرادهم من هذه الألفاظ التي يستعملونها.
ثم قال: وإنه تعالى يرى في الآخرة كما أخبر في كتابه وذكره رسوله صلى الله عليه وسلم ].
هذا يبين أن الصوفية الذين يدافع عنهم ويبين طريقهم لا يقولون بنفي الرؤية، وأنهم يثبتونها ولا يفهم من قول هذا الذي سئل أنه لم تره الأبصار بتحديد الأعيان، ولكن رؤية القلوب بتحقيق الإيقان أن هذا نفي للرؤية، بل هذا مراده في الدنيا، ولا شك أن الدنيا لا يمكن أن يرى فيها جل وعلا، كما قال الله لموسى عليه السلام: لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143]، ولكنه سبحانه وتعالى يرى رؤية قلبية، يرى في قلب العبد، وتكون هذه الرؤية بحسب ما عنده من الإيمان، ولهذا كانت أعلى مراتب الدين: الإحسان (وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) .
وإن مما نعتقده أن الله حرم على المؤمنين دماءهم وأموالهم وأعراضهم، وذكر ذلك في حجة الوداع، فمن زعم أنه يبلغ مع الله إلى درجة يبيح الحق له ما حظر على المؤمنين -إلا المضطر على حال يلزمه إحياء للنفس لو بلغ العبد ما بلغ من العلم والعبادات- فذلك كفر بالله، وقائل ذلك قائل بالإباحة، وهم المنسلخون من الديانة.
وإن مما نعتقده ترك إطلاق تسمية العشق على الله تعالى، وبين أن ذلك لا يجوز لاشتقاقه ولعدم ورود الشرع به. وقال: أدنى ما فيه أنه بدعة وضلالة، وفيما نص الله من ذكر المحبة كفاية.
وإن مما نعتقده: أن الله لا يحل في المرئيات، وأنه المتفرد بكمال أسمائه وصفاته، بائن من خلقه مستو على عرشه، وأن القرآن كلامه غير مخلوق -حيث ما تلي ودرس وحفظ- ونعتقد أن الله تعالى اتخذ إبراهيم خليلاً، واتخذ نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم خليلاً وحبيباً، والخلة لهما منه، على خلاف ما قاله المعتزلة: إن الخلة الفقر والحاجة.
إلى أن قال: والخلة والمحبة صفتان لله هو موصوف بهما، ولا تدخل أوصافه تحت التكييف والتشبيه، وصفات الخلق من المحبة والخلة جائز عليها الكيف، فأما صفاته تعالى فمعلومة في العلم، وموجودة في التعريف، قد انتفى عنهما التشبيه، فالإيمان به واجب، واسم الكيفية عن ذلك ساقط ].
رحمه الله وغفر له، وهذا كلام جيد، وتحقيق هذه المنقولات فيها خير كثير؛ لأن كثيراً من المبتدعين لا يقبلون ما يذكره أئمة أهل السنة كشيخ الإسلام ابن تيمية ومن بعده، يقولون: هذا مذهب محدث ولا يعضده نقل عن السلف، ولكن مثل هذه النقول تؤكد لكل من طلب الحق أن طريق السلف هو إثبات الصفات، وتنزيه الله سبحانه وتعالى، وأنه مخالف لطريق المبتدعين المؤولين الذين يصدق عليهم قوله جل وعلا: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام:91].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر