اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة، أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه، إن المؤمن خلق مفتناً تواباً نسياً؛ إذا ذُكر ذكر).
فقول النبي صلى الله عليه وسلم في شأن المؤمن: (إذا ذُكر ذكر)، إشارة إلى ما بينه الله تبارك وتعالى في قوله: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى:9].
ثم بين في آية أخرى من الذين ينتفعون بالذكرى، فقال عز وجل: وَذَكِّر ْفَإِنّ َالذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55]، فقد يقع المؤمن في الأخطاء، لكنه إذا ذكر بآيات الله عز وجل فإنه يتذكر وينتفع بهذه الذكرى، كما قال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201].
وهناك فرق بين التعليم وبين التذكير؛ فالإنسان يتعلم ما كان جاهلاً إياه من قبل، أما الذكرى فقد يكون عند الإنسان معلومات، لكنه يحتاج إلى التذكير بها، وإلى إيقاظ معانيها في قلبه، فكلنا يعلم أنه يموت، لكن ليس كلنا يعتبر ويتذكر حقيقة الموت، ولا ينفعل بها إلا إذا ذُكر بذلك.
ومن رحمة الله عز وجل أنه أرسل إلينا من أنفسنا رسولاً من البشر، ولو كان أرسل إلينا ملكاً -بفرض وقوع ذلك- فربما إذا ندب الملك هؤلاء البشر إلى أن يغيروا أخلاقهم ويتمثلوا الحق في سلوكهم ربما قالوا: أنت ملك، وأما نحن فبشر، ولابد من أن نقع في الذنوب والتقصير.
أما وقد جاءنا رسول من أنفسنا وهو بشر مثلنا تمثل فيه وتحقق فيه النموذج الأعلى والأكمل للبشرية على الإطلاق، وليس هذا فحسب، بل جعله الله عز وجل قدوة لنا وأسوة نقتدي بها، فقال عز وجل: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]، ثم انفعل صحابته الأبرار رضي الله تعالى عنهم بهذه الأسوة الحسنة وتأثروا بها، وبذلك استحقوا أن يكونوا خير أمة أخرجت للناس، فخير أمة وأفضل أمة وأكمل الأمم على الإطلاق هم الصحابة الأطهار، ثم من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ونحن المسلمين دائماً ننظر إلى السلف الصالح وإلى الصحابة رضي الله عنهم وتابعيهم بإحسان على أنهم قمة شامخة عالية، وكل ما نرجوه هو أنا نحاول أن نرتقي بقدر الاستطاعة ونرتفع إلى مستواهم؛ فالاقتداء بالسلف وبالصحابة ليس رجوعاً إلى الوراء، وليس رجعية، لكنه تسامٍ وترقٍ وصعود إلى أعلى.
فينبغي محاولة اللحاق بهم في أخلاقهم وفي عباداتهم وفي جهادهم رضي الله تعالى عنهم.
وقد بين صلى الله عليه وسلم أن الإنسان مهما كان فيه من العيوب فبفضل الله سبحانه وتعالى وبمجاهدة النفس وبالاستهداء بنور الوحيين، فإنه يستطيع أن يتغير إلى أكمل صورة؛ وباب الفضائل مفتوح على مصراعيه، وكل من عنده همة وعزيمة على أن يلجه فإنه يستطيع أن يلجه، ولن يكبله أحد، وفي ذلك يقول الشاعر:
إذا أعجبتك خصال امرئٍ فكنه يكن منك ما يعجبك
فليس لدى المجد والمكرما ت إذا جئتها حاجب يحجبك
يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه) يعني: أنه مهما كان عند الإنسان صعوبة في أخلاقه أو في طباعه، وهو غير راضٍ عنها، فإنه يستطيع بالاستعانة بالله سبحانه وبالاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم فعليه أن يغيرها إلى أحسن الأخلاق؛ وبالتالي ينال أعلى الدرجات؛ فإن العبد ينال بحسن الخلق ما لا يناله بالعبادة والصيام والقيام.
وفي مجتمع الملتزمين ما زلنا جميعاً نشكو من آفات خطيرة جداً نحتاج إلى استغلال هذا الشهر من أجل مقاومتها ومجاهدتها.
وما أكثر ما نسمع أسئلة حينما يحل شهر رمضان: هل البخور يؤثر في الصيام؟ وهل الطيب يؤثر في الصيام؟ هل كذا يؤثر في الصيام؟ ونهتم دائماً بما يؤثر في الصيام من هذه الأمور، وقلَّ أن نجد من يصرف همه إلى هذا العضو الخطير في بدنه وهو اللسان الذي هو بلا شك يؤثر في الصيام تأثيراً شديداً جداً بنقصان الأجر، حتى وصل الأمر أن بعض العلماء يفتي -وفتواه شاذة- أن من اغتاب الناس فقد أفطر وبطل صيامه بذلك، ونحن لا نقول بهذا بالضبط، لكن نقول: هي تؤثر في الصيام بلا شك، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه).
إذاً: هذا حديث يبين لنا أنه ينبغي أن يصاحب الصوم تزكية للنفس وتطهير للسان من آفاته.
وقال تبارك وتعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]، فانتظمت هذه الآية بعمومها المسلم واليهودي والنصراني وغيرهم.
وعن عطاء في قوله: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83] قال: للناس كلهم المشرك وغيره. فحتى المشرك عليك أن تحسن خلقك وألفاظك معه.
وعن أبي سنان قال: قلت لـسعيد بن جبير رحمه الله: المجوسي يوليني من نفسه ويسلم علي -أي: هو الذي يبدأني بالخير ويسلم علي- أفأرد عليه؟ فقال سعيد بن جبير : سألت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن نحو من ذلك، فقال: لو قال لي فرعون خيراً لرددت عليه. أي: لو قال لي فرعون الذي هو شر البشر في عصر موسى عليه السلام خيراً لرددت عليه خيراً مثله، فإن هذا هو أدب القرآن، كما قال تعالى: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86].
ففرعون الذي كان شر الخلق في زمن موسى عليه السلام، ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى أرسل إليه نبيين كريمين وأمرهما باللين معه فقال عز وجل: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]، فإذا كان هذا مع فرعون، فكيف بغيره؟!
وبعض الإخوة إذا أحسن خلقه مع الكافر يظن أنه مفرط في دينه، وأن هذا تنازل عن الإيمان وعن مقتضيات الإيمان، وهذا غير صحيح، فأنت لا تواليه بسبب كفره، بل أنت تعاديه وتبغضه، لكنك تعطيه حقه إذا كان قريباً أو جاراً أو إذا تعاملت معه؛ فحسن الخلق مع كل الناس مندوب إليه ومأمور به، وليس في ذلك ما يقدح في الدين.
وكان من خلق النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يذم أحداً ولا يعيبه صلى الله عليه وسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: (وخالق الناس بخلق حسن).
وأتذكر حادثة حصلت بسبب سوء فهم بعض الإخوة لهذا الأمر؛ لأنه كان يظن أن حسن الخلق مع الكافر تنازل في الدين أو ضعف في الإيمان، وذلك أني كنت في بريطانيا، فحكى لي بعض الإخوة الأفاضل قصة حصلت من شابين ضلا الطريق في منطقة معينة، وكانا يبحثان عن العنوان، والناس هناك فيهم صفة جيدة في موضوع دلالة الناس الذين يبحثون عن الطريق مثلاً، أو يحتاجون معرفة شيء معين.
المهم أنهما سألا رجلاً كبيراً في السن عن العنوان أو المكان الذي يبحثان عنه، فالرجل لم يكتف بأن شرح لهما خريطة المكان أو الموضع الذي يطلبانه، وإنما سار معهما مسافة كبيرة واصطحبهما حتى أوصلهما إلى المكان الذي يريدان، فوقف الرجل فإذا بالأخوين ينصرفان عمداً، فالرجل استنكر هذا الموقف جداً، فأراد أن يعاتبهما عتاباً يسيراً فقال لهما: عندنا نحن معشر الإنكليز أن من أدى إلينا معروفاً فإننا نقول له: نشكرك، وكأنه يريد أن يقول: فماذا عندكم فالأخ قال له: أنا أعرف هذا جيداً، وأنا متعمد ألا أقول لك: شكراً؛ لأنك كافر! إلى آخر هذا الأسلوب، وبلا شك أن هذا تنفير.
وأنا لا أريد أن أخرج عن الموضوع؛ لأننا حتى الآن لا نزال في المقدمة، ولكن بلا شك أن سوء الخلق بالذات يكون له تأثير ضار في الصد عند سبيل الله عز وجل، فلا تظن أنك إذا فعلت ذلك أنك في عافية، قال الله عز وجل في أواخر سورة النحل: وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل:94]، فهذه آية في غاية الروعة في الحث على حسن الخلق حتى مع الكفار، فقوله: (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ)، أي: إياكم أن تستغلوا الأيمان والحلف باسم الله سبحانه وتعالى وتجعلوها وسيلة لخداع الناس، فالناس حينما يرونكم تحلفون وتعظمون اسم الله عز وجل يثقون أنكم صادقون فيما تريدون، وأنكم ملتزمون بما تحلفون عليه، فإياكم أن تستغلوا الأيمان والحلف وتجعلوها سبيلاً للإفساد بينكم ونقض العهود والمواثيق.
وقوله: (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا)، أي: أن أول ضرر أنه تزل قدم بعد ثبوتها، فبعدما كنتم ثابتين على الصراط المستقيم تزلون وتنحرفون عنه، وهذا انحراف يخصكم أنتم في أنفسكم، وليس هذا فحسب، بل تفقدون اسم الإيمان والتقوى والاستقامة إلى الاعوجاج والزلل، وأيضاً تذوقون السوء، ولكم عقاب عند الله عز وجل؛ لأنكم بسوء خلقكم ونقضكم العهود واتخاذ الأيمان للإفساد وخداع الناس تنفرون عن الدين، فالكفار إذا رأوكم تفعلون ذلك قالوا: لو كان في دينهم خيراً لأدبهم، ولزجرهم عن هذا الشر الذي فعلوه وعن هذه الخديعة والخيانة، فهذا يترتب عليه تشويه الدين في نظر هؤلاء الناس الذين يفترض أنكم تدعونهم بسلوككم وأخلاقكم أكثر مما تدعونهم بأقوالكم، فيترتب على ذلك أن ينفر هؤلاء الناس عن الإسلام، وبالتالي ستبوءون أنتم بوزر صدهم عن سبيل الله؛ ولذلك يقول تبارك وتعالى: وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل:94] أي: بسوء الخلق.
وفي واقعة ثمامة بن أثال رضي الله تعالى عنه ما يدل على أثر حسن الخلق؛ فإنه كان شديد العداوة للإسلام وللنبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي عليه الصلاة والسلام خير معلم على وجه الأرض، فأتي بـثمامة بعد أن أسر، فأمر به أن يوثق ويقيد في سارية من سواري المسجد، وبقي على ذلك ثلاثة أيام.
إنها حكمة عظيمة من خير معلم وخير مربٍ في تاريخ البشر كلهم أجمعين عليه الصلاة والسلام، هذه الحكمة هي أن ثمامة بن أثال ربط في المسجد حتى يعلم أن المسجد هو مجلس الوزراء وهو مجلس الشعب ومجلس الشورى وغرفة العمليات ومكان العبادة ومكان التدريب على الجهاد، وكل شيء كان يتم في المسجد، فأراد أن يلقنه درساً في كيفية أخلاق المسلمين، وفي كيفية تعامل الصحابة مع بعضهم البعض، وكيف يعبدون الله؟ وكيف يحيي بعضهم بعضاً؟ وهكذا، فإنه إذا رأى هذا فسيكون سبيلاً إلى اقتناعه بالإسلام.
الشاهد من هذا: أنه لولا أنه عاش وانغمس في مجتمع الصحابة ورأى أخلاقهم وسلوكياتهم لما كان انجذب إلى الإسلام.
يقول عليه الصلاة والسلام: (وخالق الناس بخلق حسن) أي: كل الناس، وليس فقط المسلمين؛ فحسن خلق المسلم -كما سنتناوله إن شاء الله تعالى- يتعدى حتى يشمل البهائم والحيوانات.
فلا شك أن أعظم حقوق المسلم على الإطلاق هي صيانة عرضه ورعاية حرمته، فإن تحريم النيل من عرض المسلم أصل شرعي متين واجب بالضرورة من دين الإسلام، وحفظ العرض واحد من الضرورات الخمس التي جاءت من أجلها الشرائع.
خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعظم حشد تم في الإسلام على الإطلاق، وكان يزيد عن مائة ألف نفس من الصحابة الكرام رضي الله عنهم في حجة الوداع فقال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟).
والأعراض: جمع عرض، والعرض هو كل موضع يقبل المدح أو الذم في الإنسان، فأي شيء من صفات الإنسان يمكن أن يمدح أو يذم سواء كان في نفسه أو في سلفه من آبائه وأجداده أو من يلزمه أمره، أو هيئة مشيته أو طريقة كلامه أو ملابسه أو أي شيء يخص المسلم مما إذا ذكر فيه بسوء يسوءه ذلك، فهذا هو عرضه.
وقيل: هو جانبه الذي يصونه من نفسه وحسبه، ويحامي عنه أن ينتقص ويثلم.
قال صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه).
وقال صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) ويده تشمل أشياء كثيرة: تشمل الضرب، وتشمل الكتابة، وتشمل كل شيء يمكن أن يترتب عليه أذية مسلم.
قال سفيان بن حصين : كنت جالساً عند إياس بن معاوية ، فمر رجل فنلت منه، فقال لي: اسكت، ثم قال لي: يا سفيان ! هل غزوت الروم؟ قلت: لا، قال: غزوت الترك؟ قلت: لا، قال: سلم منك الروم وسلم منك الترك ولم يسلم منك أخوك المسلم؟! قال: فما عدت إلى ذلك بعد.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين فخذيه أضمن له الجنة)، ومثل هذه الضمانة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تعلق إلا على أمر عظيم جسيم.
ونظر عبد الله بن عمر يوماً إلى الكعبة فقال: (ما أعظمك وأعظم حرمتك! والمؤمن أعظم حرمة منك). أي: أن حرمة المؤمن عند الله سبحانه وتعالى أعظم من حرمة الكعبة المشرفة.
وقال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات:11-12] يعني: هل منكم من يطيق ذلك من الناحية الطبيعية؟ وطبع الإنسان هل يقبل أن يكون أخوه المسلم ميتاً وهو يأتي بسكين ويقطع من لحم أخيه ويأكله؟! فأنتم لا تحبون ذلك، وأنتم تكرهونه طبعاً، فكما كرهتموه طبعاً فاكرهوه شرعاً.
وبعض الناس يلبس الشيطان عليهم؛ لأن الشيطان واقف لهم بالمرصاد، وكل باب من أبواب الخير يريد أن يغلقه عليهم، وكل باب من أبواب الشر يريد أن يفتحه ويوسعه لهم بالتبريرات والتسويغات والمعاذير، فمثلاً تسمع واحداً يتكلم على واحد فتقول له: اتق الله! فهذه غيبة، فيقول لك: أنا مستعد أن أقول هذا الكلام أمامه!
فيقال لهذا المسكين: حتى لو كنت مستعداً أن تقوله أمامه فهذه هي الغيبة التي حرمها الله، وإنما الفارق أنك إذا قلته أمامه وقعت في خطأ آخر وهو أذية أخيك المسلم ومواجهته بما يكره، وإذا كان أمام ناس فتكون قد فضحته وأسأت إليه أكثر ولم تستر عليه، وإذا كان في غيبته فهذه هي الغيبة، فإنه لم يستثن الرسول عليه الصلاة والسلام شئياً، ولم يقل مثلاً: الغيبة أن تذكر الرجل بما فيه من خلفه إلا إذا كنت تقوى على أن تواجهه بذلك، فحتى لو كنت تزعم أن هذه من الشجاعة وأنك تستطيع أن تواجهه بذلك فهي غيبة، وليس لها اسم آخر غير الغيبة، وهي الذنب المحرم الذي أجمع العلماء على تحريمه، فحد الغيبة: أن تذكر الرجل بما فيه من خلفه.
والفرق بين الغيبة والبهتان هو كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له الصحابي: (أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)، أي هذا هو البهتان.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أنهم ذكروا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً فقالوا: لا يأكل حتى يُطعم، ولا يرحل حتى يرحل له) قوله: (لا يأكل) يعني: ليس هو الذي يعد طعامه، فإنه لا يأكل حتى يُعد له الطعام، وقوله: (ولا يرحل حتى يرحل له) أي: وإذا أراد أن يركب الدابة فإن غيره يضع الرحل الذي يوضع على الدابة، ويقوم بخدمته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اغتبتموه)، فالمفروض أنك أيها الإنسان! تكون منتبهاً في أي مجلس تجلسه، وإذا كان سيقع من أحد غيبة فعليك أن تنصحه وتبين له أنها غيبة، وقد يقع بينك وبينه نوع من الوحشة في أول جلسة، لكنه سوف يعرف أنك لست ممن يحب المشاركة في أكل لحوم الناس، فعلى الأقل سيكفيك شره إن لم يتب إلى الأبد؛ لأنه إذا وجد في كل مجلس فيه غيبة من يزجره وينبهه إلى خطورة هذه المعصية فسيراجع نفسه بلا شك، أو يكف عن أعراض الناس، لكن الذي يحصل أنها توافق أهواء الجالسين، وقد يسوغونها في مصلحة الدعوة، وهذه من الأبواب الشيطانية، وبالتالي يحصل تمكن من هذه الآفة في هذا المجتمع، قالوا: (لا يأكل حتى يُطعم، ولا يرحل حتى يرحل له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اغتبتموه، فقالوا: يا رسول الله! حدثنا بما فيه؟ فقال: حسبك إذا ذكرت أخاك بما فيه) أي: حسبك من الشر أن تغتابه بأن تذكر ما فيه، فهل تريد كذلك أن تبهته، وتفتري عليه الكذب أيضاً؟ بل يكفيك حظاً من الإثم أن تذكر أخاك بما فيه، وأن تغتابه.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: (حسبك من صفية كذا وكذا)، قال بعض الرواة: تعني: أنها قصيرة، مع أن عائشة ضرتها، وقد يقع من التحاسد والتنافس بين الضرائر ما يغتفر، لكن مع ذلك ما سكت؛ رعاية لحرمة المسلمة، فقال عليه الصلاة والسلام: (لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته!) أي: لو أن هذه الكلمة تجسدت وخلطت بماء البحر لعكرت ماء البحر وأفسدته، إنها كلمة واحدة، لكنها غيبة.
والحقيقة أن حكاية الإجماع في هذا فيه نظر.
لكن هنا تعبير آخر أكثر دقه، وهو أن علماء الشافعية نصوا على أن الغيبة إذا كانت في أهل العلم وحملة القرآن الكريم فهي كبيرة وإلا فصغيرة.
وقال الفقيه ابن حجر الهيتمي رحمه الله: كل منهما -أي: الغيبة والنميمة- حرام بالإجماع، وإنما الخلاف في الغيبة، هل هي كبيرة أم صغيرة؟
وقال آخرون: إن كانت في طلبة العلم وحملة القرآن فهي كبيرة وإلا كانت صغيرة.
وعن أبي برزة الأسلمي والبراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته)، والجزاء من جنس العمل.
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الربا اثنان وسبعون باباً؛ أدناها مثل إتيان الرجل أمه، وإن أربا الربا استطالة الرجل في عرض أخيه).
بل إن بعض السلف كان إذا أراد التنفير من هذه المعصية أمر فاعلها بالطهارة الحقيقية، فيأمره بالمضمضة وبالوضوء تشبيهاً لها بالنجاسة الحسية، وإرشاداً إلى التحرز منها، كما يتحرز من النجاسات.
فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: يتوضأ أحدكم من الطعام الطيب، ولا يتوضأ من الكلمة الخبيثة يقولها؟ وهذه العبارة من أم المؤمنين تحتمل أكثر من معنى، فإذا كانت على حقيقتها فربما كانت تقصد الوضوء من أكل ما مسته النار قبل أن ينسخ، كأنها تقول لهم: أنتم تتوضئون من هذه الكلمة قبل أن ينسخ الوضوء ما مسته النار، وتحتمل الوضوء من أكل لحم الإبل، فكأنها تقول لهم: إذا توضأ أحدكم من الطعام الطيب الحلال سواء كان مما مسته النار قبل أن ينسخ أو من أكل لحم الإبل ولا يتوضأ من الكلمة الخبيثة يقولها، وهي أولى أنك تمضمض فمك بعدها. فإذا ما ابتليت بالغيبة فهذا أولى من أن تتمضمض من أكل لحم الإبل أو غيره.
ومثله قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (لأن أتوضأ من كلمة خبيثة أحب إلي من أن أتوضأ من طعام طيب).
وعن إبراهيم قال: الوضوء من الحدث وأذى المسلم، أي: كما تتوضأ من الحدث توضأ من أذى المسلم.
ويحمل هنا الوضوء على غسل الفم وتطهير اللسان.
وعن محمد بن سيرين قال: كان رجل من الأنصار يمر بمجلس لهم فيقول: توضئوا فإن بعض ما تقولون شر من الحدث.
يعني: اغسلوا وطهروا ألسنتكم، فإن بعض ما تقولون من الغيبة والنميمة شر من الحدث ومن النجاسة.
وجاء حديث في هذا، لكنه مرسل وإن كان رجاله ثقات، أخرجه ابن سعد ، وهو ما رواه معن عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم : (أن نبي الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفي فيه، قالت
فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (جاء
فأول شيء نسب الوزر إليهما جميعاً، مع أن الذي تكلم هو واحد؛ كان يحدث الذي بجواره، والذي بجواره سكت، فمعناه أنه صار شريكاً له في الإثم؛ لأن السكوت علامة الرضا.
فلو قلت للمغتاب: اتق الله، فستكون قد برئت من المعصية، لكن حين تسكت أو تستحي فأنت شريك في الوزر، ومثلك مثله ولا فرق، ولذلك قال لهما: (كلا من جيفة هذا الحمار!)، وقال لهما: (ما نلتما من عرض هذا الرجل آنفاً أشد من أكل هذه الجيفة)، يعني: أن الأكل من الجيفة أخف؛ لأن الإنسان لو أكل من جيفة الحمار المنتن لم يؤذ مسلم، ولم ينتهك عرض مسلماً، ولم تتعلق بذمته حقوق العباد، فلا شك أن أكل لحوم الحمر المتجيفة والمنتنة خير من أكل لحوم البشر؛ لأن أكل لحوم البشر يترتب عليه هذه الأشياء التي ذكرنا.
فالإنسان إن كان لابد مصراً أن يعصي الله سبحانه وتعالى فليختر معصية يسهل عليه أن يتوب منها، لكن عند أن تختار معصية تتعلق بحق الغير فمعنى ذلك أنه لن تبرأ ذمتك إلا أن يسامحك هذا الشخص، وإذا لم يسامحك فسترد القيامة وفي عنقك حق العباد؛ لأن المعصية إذا كانت بينك وبين الله فإذا تبت إلى الله فالله يقبل التوبة عن عباده، أما إذا كانت المعصية في حق من حقوق العباد فلابد أن تستحل من صاحبها، وإما أن يستوفي حقه منك، والعملة هناك في الآخرة ليست الدينار ولا الدرهم، إنما هي الحسنات والسيئات، فيأخذ من حسناتك حتى يقضي عليها، فإذا لم يبق معك حسنات يؤخذ من سيئاته فتطرح عليك، فلماذا الإنسان يتعب في العبادة ويتعب في الحفظ والصيام والأعمال الصالحة ثم يجدها في ميزان الآخرين؟! فلذلك سماه النبي صلى الله عليه وسلم: المفلس.
الشاهد أيضاً من هذا الحديث قول النبي عليه الصلاة والسلام: (قد ائتدما) والخطاب موجه إلى الاثنين، مع أن واحداً منهما هو الذي تكلم، فنسب الوزر إليهما جميعاً.
إذاً: القاعدة: أن مستمع الغيبة والمغتاب شريكان في الإثم والوزر.
يقول الشاعر:
وسمعك صن عن سماع القبيح كصون اللسان عن النطق به
فإنك عند سماع القبيح شريك لقائله فانتبه
وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: {بينما أنا أماشي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيدي، ورجل على يساره، فإذا نحن بقبرين أمامنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، بلى إنه لكبير، فأيكم يأتيني بجريدة؟ فاستبقنا، فسبقته، فأتيت بجريدة، فكسرها نصفين، فألقى على ذا القبر قطعة وعلى ذا القبر قطعة، وقال: إنه يهون عليهما ما كانتا رطبتين، وما يعذبان إلا في الغيبة والبول}.
وعن قتادة رضي الله عنه قال: ذكر لنا أن عذاب القبر ثلاثة أثلاث: ثلث من الغيبة، وثلث من البول، وثلث من النميمة.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم} يعني: يعذبون أنفسهم بأيديهم، وفيها أظافر من نحاس، وبها يخمشون الوجوه، {فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟! قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم}.
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه مر على بغل ميت فقال لبعض أصحابه: لأن يأكل الرجل من هذا حتى يملأ بطنه خير له من أن يأكل لحم رجل مسلم.
فالغيبة ضيافة الفساق، والفساق هم الذين لا يبالون بحرمة الله سبحانه وتعالى، ولا يبالون أن يأكلوا لحوم الناس.
والمنكر قد شاع في المجتمع جداً وذاع، وقلَّ من ينكره، ونحن لا نكاد نبالي به، ولا نشعر، وقلوبنا لا تحس ناحيته بكراهية إلا من رحم الله، فحن محتاجون إلى تجديد العهد بهذه النصوص، وأن نعطي الأمور حجمها، فالأمر كما قال تعالى: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15]، وكما قال تعالى: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات:12]، فالغيبة ضيافة الفساق الذين لا يتقون الله سبحانه وتعالى، كما قال بعض السلف.
وعن إبراهيم بن أدهم رحمه الله: أنه أضاف ناساً، فلما قعدوا على الطعام جعلوا يتناولون رجلاً، فقال إبراهيم : إن الذين كانوا قبلنا كانوا يأكلون الخبز قبل اللحم، وأنتم بدأتم باللحم قبل الخبز. يعني: بدأتم بلحم هذا المسلم الذي اغتبتموه قبل الخبز.
وعن موسى السيلاني أنه سأل سفيان الثوري رحمه الله تعالى فقال: يا أبا عبد الله ! إن الله يبغض بيت اللحميين؟ يعني: يقول له: هل ربنا سبحانه وتعالى يبغض بيت اللحميين؟ يقصد: الناس الذين يأكلون لحماً كثيراً، فنسبهم إلى اللحم، فقال له سفيان : ليس هم الذين يأكلون اللحم، ولكنهم الذين يأكلون لحوم الناس.
فاللحميون هم الذين هم مغرمون بأكل لحوم الناس، لكن أن تأكل لحم البقر والغنم فهذا حلال لم يحرمه الله سبحانه وتعالى عليك مادمت تشكر نعمته، لكن المهم ألا تأكل لحوم الناس.
قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: ذكر عيب أخيك باللسان إنما حرم لأن فيه تفهيم الغير نقصان أخيك، وتعريفه بما يكره، فالتعريض به كالتصريح، والفعل فيه كالقول والإشارة والإيماء والغمز والهمز والكتابة والحركة، وكل ما يفهم المقصود فهو داخل في الغيبة، وهو حرام.
وقال النووي : وكذا سائر ما يتوصل به إلى فهم المقصود، كأن يمشي مشيته، فهو غيبة، بل هو أعظم من الغيبة، كما قال الغزالي؛ لأنه أبلغ في التصوير والتفهيم، وأنكر للقلب.
ومن صور الغيبة أن يأتي ذكر واحد في مجلس من المجالس، فيأتي آخر من الجالسين فيقول: الحمد لله الذي لم يبتلنا بالدخول على السلطان.. الحمد لله الذي عافانا من فتنة الدنيا، فهذه غيبة، وصاحبها جمع بين أمرين: بين ذم أخيه وبين مدح نفسه، وأنه رجل زاهد ومخلص، وقد يقول: الحمد لله الذي عافانا من الرياء، وهذه غيبة، فمهما قلت: الحمد لله فلا تظن أن قولها يعفيك من الغيبة، بل هي غيبة.
وقد يأتي ذكر رجل فيقول آخر: الحمد الله الذي عافانا من فتنة الدنيا، أو الحمد لله الذي عافانا من كذا وكذا، أو الحمد لله الذي عافانا من عبودية المال، فهو بهذا يزكي نفسه ويذم أخاه.
كذلك بعض الناس يتكلم في مجلس ويكون الحاضرون في المجلس يعرفون أن الذي يتكلم عليه هو فلان ابن فلان بعينه، كأن يقول: قال بعض الفقهاء، أو قال بعض من رأينا، أو فعل بعض من نعرفه من أصحابنا، أو قال بعض الجيران، فإذا كان الجالسون يعرفون من الذي يقصده فهذه أيضاً غيبة؛ لأنهم يعرفون، وبالتالي فإن المتكلم ذكر أخاه بما يكره من خلفه؛ لأن المخاطب يفهمه بعينه؛ لحصول التفهيم بهذه الصيغة.
وربما سئل شخص عن حال أخيه فيقول مثلاً: ربنا يهدينا! والظاهر أن الشيطان يسول له أنه نفسه ما فعل شيئاً خطأً؛ لأنه يقصد بقوله: ربنا يهدينا، وصفه بالضلال مثلاً، أو يسأل عنه فيقول: ربنا يصلحنا ويصلح أحوالنا، الله يصلحه، أو نسأل الله العافية، أو نعوذ بالله من الشر، أو أي عبارة يفهم منها تنقص المسلم؛ فهي غيبة.
وهنا إشارة حمراء فيها الإنذار الشديد؛ لأن بعض الإخوة أحياناً يلقون ببعض المعلومات إلى من لا يحسن فهمها ولا تطبيقها، والرسول عليه الصلاة والسلام سئل: (أفلا أخبر بها الناس؟ -في تبشير من قال: لا إله إلا الله- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذاً يتكلوا. ) يعني: لا. حتى لا يسيئوا فهم هذا الكلام؛ لأنهم إذا أساءوا فهمه سيتكلون على هذا الكلام، ويقصرون في العمل؛ فلا تخبرهم؛ لأنهم لن يضعوا الكلام في موضعه المناسب.
ومن ثمَّ قال ابن مسعود: ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة، ففي بعض الأشياء المفروض أن الإنسان إذا شك أن ناساً يفهمونها على غير وجهها فيكتم هذا العلم؛ لأنه سيساء فهمه، ويكون باباً إلى الشر.
مثلاً: إذا علم واحد أن السنة أن تؤدى السنن والرواتب في البيت، وحاله أنه إذا أخرها إلى البيت لم يصلها، فهذا إذا كنت تعرف من حاله أنه لن يصليها في البيت فلا تعلمه هذه المسألة، وهكذا، فالإنسان لابد أن يكون عنده بصر وتلمح للأمور، وأكثر الآفات التي دخلت في مجتمعنا في موضوع الغيبة ناشئة من أننا دائماً نقرن الكلام بالغيبة بالكلام على الرخص التي أبيحت فيها الغيبة، فبالتالي نجد المجتمع في نوع من التسيب وعدم الانضباط إلى أقصى غاية ممكنة، ونجد الإخوة يحفظون المبررات والمسوغات كما يحفظون الفاتحة و(قل هو الله أحد)! وتقول لأحدهم: يا أخي! اتق الله فإن هذه غيبة، فيقول لك: العلماء قالوا: يجوز هذا للجرح والتعديل، ويجوز لكذا، ويجوز لكذا، فنقول: إذا كان مستواك العلمي والإيماني ومستوى الورع عندك يؤهلك أنك تضبط نفسك ضبطاً متيناً محكماً حيث تحاسب نفسك بمنتهى الدقة وتتحكم فيها جيداً فلك أن تفعل، أما إن لم يحصل فهي غيبة، وهي سيف في يد ناس لا يحسنون استعمالها؛ فيذبحون به الناس وينتهكون أعراضهم، وهذا هو الواقع، ونحن نعترف بهذا الواقع.
فأحسن شيء أن ننسى تماماً موضوع الاستثناءات التي هي للغيبة؛ لأن هذا أسلم شيء إلا لمن وجد من نفسه ثقة، كما سنحكي عن الإمام البخاري وغيره من الأئمة، لكن اجعل الأصل أن ننسى موضوع الاستثناءات؛ إذ لا توجد سلامة في غير هذا الآن، ولن تكون لك سلامة من هذه الفتنة إلا بإنسان يكف لسانه عن الشر وعن الخوض في إخوانه المسلمين.
فاعتبروا أنه لا توجد أصلاً استثناءات في الغيبة؛ لأن باب الاستثناء هو الذي فتح لنا هذه الأبواب العظمى من الشر التي تهلكنا وتهلك إخواننا.
والإمام النووي رحمه الله تعالى لما نقل عن الغزالي المواضع الستة المعروفة في جواز الغيبة لم يقرهم بعض العلماء على ذلك.
والإمام الشوكاني رحمه الله تعالى ألف كتاباً استدرك فيه على النووي ، واستدرك فيه على الإمام الغزالي رحمهم الله تعالى أجمعين، وبيَّن أن الكلام ليس على إطلاقه في هذه الصور، وذلك في كتابة المعروف: (رفع الريبة عما يجوز وما لا يجوز من الغيبة).
ولا نريد أن نفصل الآن، ولكن أنصح إخواني نصيحة لوجه الله أن ينسوا وجود استثناءات في الغيبة، وأن يؤسسوا الأساس وبعدما يصلون إلى مستوى من الورع كمثل ورع البخاري ومثل ورع السلف الصالح رحمهم الله تعالى، فحينئذٍ لهم أن يعملوا بهذه الاستثناءات.
فإن كنت أيها الأخ! ضابطاً نفسك كحال السلف الذين نتكلم عنهم فلك أن تأخذ هذه الرخصة وتتكلم، لكن أعتقد أن الأمر يحتاج لكثير من الضبط.
فالنصيحة التي أشدد فيها هي: أن تنسوا تماماً أن هناك استثناءات في الغيبة، وتعاملوا على الأصل، وهو أن الغيبة كلها حرام؛ لأننا في زمن لو فتح فيه هذا الباب فالناس ستتوسع فيه توسعاً شديداً جداً.
فهذا الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى يقول: منذ أربعين سنة ما تكلمت بكلمة إلا أعددت لها جواباً بين يدي الله عز وجل.
فمنذ أربعين سنة لم يتكلم بكلمة واحدة إلا وهو واثق وجازم وقد أعد لها جواباً، فلما يسأله الله عز وجل يوم القيامة على هذه الكلمة فعنده الجواب حاضر.
فهل أنت في هذا المستوى حتى تقول: أنا أغتاب من أجل مصلحة الدعوة؟!
ومصلحة الدعوة تكاد أن تكون وثناً يعبد من دون الله، وكل من وقع في معصية حتى يخرج من الحرج يقول: لمصلحة الدعوة! فأي دعوة هذه التي تنحرف بك عن مثل هذه الثوابت في المنهج الإسلامي؟! وهل هذه دعوة الله سبحانه وتعالى؟! وهل هذه أخلاق الصحابة؟! وهل هذا هو ما علمنا إياه الرسول عليه الصلاة والسلام؟!
وعلق الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى على كلام البخاري قائلاً: صدق رحمه الله؛ ومن نظر في كلامه في الجرح والتعديل علم ورعه في الكلام في الناس وإنصافه فيمن يضعفه؛ فإنه أكثر ما يقول: منكر الحديث.. سكتوا عنه.. فيه نظر.. ونحو هذا، وقل أن يقول: فلان كذاب أو كان يضع الحديث، حتى إنه قال: إذا قلت: فلان في حديثه نظر فهو متهم واهٍ. وهذا هو معنى قوله: لا يحاسبني الله أني اغتبت أحداً. وهذا والله غاية الورع.
قال محمد بن أبي حاتم الوراق سمعته -يعني: الإمام البخاري - يقول: لا يكون لي خصم في الآخرة -أي: أنه لم يقع في مسلم بحيث يقف يوم القيامة أمامه خصماً بين يدي الله عز وجل- فقلت: إن بعض الناس ينقمون عليك في كتاب التاريخ، ويقولون: فيه اغتياب الناس، فقال: إنما روينا ذلك رواية لم نقله من عند أنفسنا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بئس مولى العشيرة) يعني: حديث عائشة. وسمعته يقول: ما اغتبت أحداً قط منذ علمت أن الغيبة تضر أهلها.
فكانوا إذا اختاروا الصراط المستقيم يبقون على استقامة، ولا يوجد عندهم روغان الثعالب ولا التحايل والتلاعب في حدود الله عز وجل.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه وينسى الجذع في عينه) وفي بعض الروايات: (وينسى الجذل) أي: جذل الشجرة، والقذاة هي ما يقع في الماء من تراب أو تبن أو أي شيء من القاذورات التي تأتي على الماء، والجذع هو: واحد جذوع النخل، وقوله: (وينسى الجذع في عينه)؛ أي: لأنه لنقص نفسه وحبه لها يتوفر على تدقيق النظر في عيب أخيه؛ فيدركه مع خفائه، فيعمى عن عيب في نفسه ظاهر لا خفاء به.
يقول الشاعر:
عجبت لمن يبكي على موت غيره دموعاً ولا يبكي على موته دما
وأعجب من ذا أن يرى عيب غيره عظيماً وفي عينيه عن عيبه عمى
لقي زاهد زاهداً فقال له: يا أخي! إني لأحبك في الله، فقال الآخر: لو علمت مني ما أعلم من نفسي لأبغضتني في الله، فقال له الأول: لو علمت منك ما تعلم من نفسك لكان لي فيما أعلم من نفسي شغل عن بغضك.
فانظر كيف كان الصحابة والسلف يصدقون قول الرسول عليه السلام: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، وكثيراً من الكلام الذي نخوضه لا يعنينا ولا يخصنا في شيء.
لما توفي منصور بن زاذان رحمه الله تعالى وكان من العابدين المجتهدين حتى قالوا: لو أن منصور بن زاذان هذا قيل له: إن ملك الموت على الباب أو أنك تموت غداً لما استطاع أن يزيد في عمله؛ لأنه قد أتى بأقصى ما يستطيع في كل الأحوال، ولم يملك على أن يزيد شيئاً في عمله الصالح، فلما توفي قالت ابنة واحد من جيرانه من العلماء لأبيها: يا أبت! الخشبة التي كانت على سطح البيت الذي بجوارنا ما نراها! أي: أنها تعودت أن ترى بالليل بالذات دائماً خشبة موجودة على سطح بيت منصور ، فقال لها: يا ابنتي إن هذا منصور كان يقوم الليل يصلي ويقرأ القرآن، وقد مات رحمه الله. أي: أنه كان من بعيد يبدو كالخشبة، فالبنت لما فقدت رؤيته قالت: أين ذهبت الخشبة؟ فقال لها أبوها: هذا منصور كان يقوم الليل وقد مات رحمه الله تعالى.
الشاهد: أنهم كانوا جيراناً، ومع هذا فانظر كيف أن هذا العالم ربى نفسه وربى أهله وربى ابنته على أنه لا يتكلم على الناس، وما انشغلوا بالجيران ولا تكلموا حتى ولو بكلام على أن منصوراً يقوم طول الليل، وما عرفت البنت أنه كان منصوراً ؛ لأنها قالت: أين الخشبة التي كانت على السطح.
فالسلف كان كل واحد يركز على نفسه، وينشغل بعيوب نفسه، ولا ينشغل بغيره.
قال الشاعر:
المرء إن كان عاقلاً ورعاً أشغله عن عيوب غيره ورعه
كما العليل السقيم أشغله عن وجع الناس كلهم وجعه
وعن بكر قال: تساب رجلان فسب أحدهما الآخر، فقال أحدهما: حلمني عنك ما أعرف من نفسي.
أي: أنا أستطيع أن أرد عليك، لكن الذي يجعلني أحلم وأصبر عليك هو ما أعلم من نفسي من العيوب.
وقيل للربيع بن خثيم رحمه الله تعالى: ما نراك تغتاب أحداً؟ فقال: لست عن حالي راضياً حتى أتفرغ لذم الناس، ثم أنشد:
لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها لنفسي من نفسي عن الناس شاغل
وعن أبي راشد قال: جاء رجل من أهل البصرة إلى عبيد الله بن عمر فقال: إني رسول إخوانك من أهل البصرة إليك، فإنهم يقرئونك السلام، ويسألونك عن أمر هذين الرجلين: علي وعثمان ، وما قولك فيهما؟ فقال: هل غير، أي: هل عندك حاجة أخرى؟ قال: لا، قال: جهزوا الرجل، يعني: أن الجواب سيأخذه بسرعة، فأحضروا له متاعه من أجل أنه سيعود، فلما فرغ من جهازه قال: اقرأ عليهم السلام، وأخبرهم أن قولي فيهما: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134].
وقال الشافعي : قيل لـعمر بن عبد العزيز : ما تقول في أهل صفين، فقال: تلك دماء طهر الله يدي منها فلا أحب أن أخضب بها لساني.
يقول الشاعر في هذا المعنى:
لعمرك إن في ذنبي لشغلاً عن ذنوب بني أمية
على ربي حسابهم إليه تناهى علم ذلك لا إلي
وليس بضائري ما قد جنوه إذا ما الله أصلح ما لدي
فربنا سيحاسبك على ذنوبك أنت، لا على ذنوب بني أمية؛ فلا تنشغل بذم الناس.
وهذا الكلام الذي يقوله السلف الآن كأنهم يتفاخرون في العلوم النفسية الحديثة بأنهم هم الذين وضعوا هذه الأسس وهذه الأشياء.
والشخص الذي يرى صورة نفسه صغيرة جداً تجده دائماً يضخم عيوب الآخرين، ولذا تبرز شخصية الإنسان من خلال نصيبه من هذه القضية، فإذا عُرف بأنه مشغول بتضخيم عيوب الآخرين والطعن في الناس، فهذه مرآة تعكس أنه يشعر بضآلة نفسه وبحقارتها وأن حجم نفسه صغير؛ لأنه يعتقد أنه لن ينفتح إلا على أنقاض الآخرين، فدائماً يحاول أن يحطم الآخرين، ولذا يكثر نقد الناس وذكر عيوبهم، وهذه مرآة تعكس أن إحساسه وثقته بنفسه ضعيفة، وأنه في داخل نفسه يحس أنه صغير وحقير، فلذلك يشتغل بعيوب الآخرين.
يقول عون بن عبد الله رحمه الله: لا أحسب الرجل ينظر في عيوب الناس إلا من غفلة قد غفلها عن نفسه.
وعن محمد بن سيرين رحمه الله تعالى قال: كنا نحدث أن أكثر الناس خطايا أفرغهم لذكر خطايا الناس.
وكان مالك بن دينار رحمه الله تعالى يقول: كفى بالمرء إثماً ألا يكون صالحاً، ثم يجلس في المجالس ويقع في عرض الصالحين.
وقال أبو عاصم النبيل : لا يذكر الناس فيما يكرهون إلا سفلة لا دين لهم.
يقول الشاعر:
لا تكشفن مساوي الناس ما ستروا فيهتك الله ستراً عن مساويك
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ولا تعب أحداً منهم بما فيك
سمع أعرابي رجلاً يقع في الناس، فقال: قد استدللت على عيوبك بكثرة ذكرك لعيوب الناس؛ لأن الطالب لها يطلبها بقدر ما فيه منها.
وأجرأ من رأيت لظهر غيب على عيب الرجال أخو العيوب
لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك عورات وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك مساوئاً فصنها وقل يا عين للناس أعين
ففي الحقيقة أن اللسان من الأعضاء الخطيرة الشديدة الخطر، ومن يعرف تشريح اللسان يجد أن بعض الألياف طويلة وبعض الأحيان تكون عرضية أو مائلة، فاللسان فيه كل أنواع العضلات، فيه عضلات بالطول والعرض والمائلة والمستعرضة وغيرها، واللسان هي العضلة الوحيدة التي لا تتعب من كثرة الحركة، فممكن أن الإنسان يتكلم خمس ساعات ولا يشعر بمشقة في كثرة الكلام، وهي خطيرة جداً، فبالتالي يحتاج الإنسان إلى أن يلزم جانب الأمان.
فالأفضل للإنسان أن يعتاد الصمت، كما نصح العلماء: إذا استوت المصلحة والمفسدة في الكلام فلا تتكلم، أما إذا رجحت المصلحة فنعم، وإذا غلبت المفسدة فيكون أولى ألا تتكلم، يقول الله عز وجل: هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:29] وقال عز وجل -وهي آية في الحقيقة فيها أعظم زجر عن إطلاق اللسان-: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18] فلا توجد كلمة تخرج منك إلا وتسجل وتكتب.
فاللسان له أبواب متخصصة به: منها القذف والردة والأيمان والنذور والشهادات والإقرار، وكذلك في باب التوحيد؛ فكم من كلمة ردة أوجبت قتلاً! وكم من كلمة أوجبت قذفاً فجلداً! أو أوجبت كفارات، أو نزعت بسببها حقوق من أهلها، أو كان فيها إفراط أوجب بمفرده حكماً، ولذلك قالوا: إقرار المرء على نفسه أقوى البينات، ولذلك تكاثرت نصوص الشريعة الإسلامية في تعظيم شأن اللسان ترغيباً وترهيباً، وأفرد العلماء في كثير من مفرداته المؤلفات في الترغيب وفي الترهيب عن آفات اللسان.
وعن شقيق قال: لبى عبد الله رضي الله عنه على الصفا، ثم قال: يا لسان! قل خيراً تغنم، واسكت تسلم من قبل أن تندم، قالوا: يا أبا عبد الرحمن ! هذا شيء أنت تقوله أم سمعته؟ قال: لا، بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أكثر خطايا ابن آدم في لسانه).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة على ميقاتها، قلت: ثم ماذا يا رسول الله؟! قال: أن يسلم الناس من لسانك)، فهذا الترك سماه عملاً؛ لأن في السؤال: (أي الأعمال أفضل؟)، فقال في الثانية: (أن يسلم الناس من لسانك).
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ( ما النجاة في الفتن؟ قال: املك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها سبعين خريفاً في النار).
وعنه رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب).
وفي حديث معاذ الطويل المعروف أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ -العاصم من هذه الأشياء- فأخذ بلسانه وقال: كف عنك هذا أو كف عليك هذا، فقلت: يا نبي الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا
وعن معاذ رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! أوصني، قال: اعبد الله كأنك تراه، واعدد نفسك في الموتى، وإن شئت أنبأتك بما هو أملك على الناس من هذا كله، قال: هذا، وأشار بيده إلى لسانه).
وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً لمن استوصاه: (أجمع اليأس مما في أيدي الناس، ولا تكلم بكلام تعتذر منه غداً).
وقال في الحديث الآخر: (إياك وكل ما يعتذر منه).
وعن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! حدثني بأمر أعتصم به، قال: قل ربي الله ثم استقم، قلت: يا رسول الله! ما أخوف ما تخاف عليه؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال: هذا) يعني: إن أكثر القوادح في الاستقامة هو اعوجاج أو انحراف اللسان.
أخرج الإمام مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد أن عيسى بن مريم عليه السلام لقي خنزيراً بالطريق فقال له: انفذ بسلام، فقيل: تقول هذا لخنزير؟ فقال عيسى: إني أخاف أن أعود لساني النطق بالسوء.
وعن أبي حيان التيمي عن أبيه قال: رأيت ابنة الربيع بن خثيم أتته فقالت: يا أبتاه! أذهب ألعب؟ فقال: يا بنيتي! اذهبي قولي خيراً. أي: أنه خشي أن تكتب في صحيفته كلمة (اذهبي فالعبي)، فتحرز من أن يقول لها: العبي، لكن قال: يا بنيتي! اذهبي قولي خيراً.
والحقيقة أن الدوافع على الغيبة غالباً ما تكون الرغبة في شفاء الغيظ، فالإنسان قد يكون حاسداً لشخص أو بينه وبينه خصومة أو أي عامل من هذه العوامل، فيريد أن يشفي غيظه وينفس عن هذه المشاعر عن طريق الغيبة، فالإنسان إذا جاهد نفسه إزاء ما يجد من هذه المشاعر المقيتة فإنه يثاب على ذلك، وهذا من أفضل الجهاد، كما سنبين إن شاء الله تعالى، فإذا كظم غيظه فله بذلك ثواب عظيم؛ لأن معنى ذلك أن عنده تحكماً وضبطاً لنفسه، يقول عليه الصلاة والسلام: (من كظم غيظاً وهو قادر أن ينفذه دعاه الله عز وجل على رءوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور ما شاء).
ومن ثمّ قال أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: التقي ملجم لا يفعل كل ما يريد، يعني: يكون في فمه مثل لجام الفرس الذي يوضع في الفكين، وهو لجام التقوى على لسانه، فليس كل ما يريده الإنسان يفعله؛ لأن معه لجام التقوى، وهو اللجام الذي يحبسه عن أن يفعل كل ما يريد أو كل ما يقدر عليه.
وعن عبد العزيز بن الماجشون قال: قال: أبو حازم لبعض الأمراء -ويبدو أن هذا الأمير آذاه-: والله لولا تبعة لساني لأشفيت منكم اليوم صدري. يعني بالكلام فيكم.
وعن أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل كلام ابن آدم عليه لا له، إلا أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر لله).
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنك لم تزل سالماً ما سكت، فإذا تكلمت كتب لك أو عليك)، فالأصل الذي هو السلامة أن الإنسان لا يتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام على مصلحة السكوت.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صمت نجا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم طويل الصمت قليل الضحك).
وعن شيخ من قريش قال: قيل لبعض العلماء: إنك تطيل الصمت، فقال: إني رأيت لساني سبعاً عقوراً أخاف أن أخلي عنه فيعقرني:
ما إن ندمت على سكوتي مرة ولقد ندمت على الكلام مرارا
وعن أرطأة بن المنذر قال: تعلم رجل الصمت أربعين سنة بحصاة يضعها في فيه، يعني: مكث أربعين سنة يجاهد نفسه في تعلم الصمت، فلذلك فإن هذا الكلام ليس موضوعاً نظرياً، بل ينبغي أن يكون انطلاقاً إلى المجاهدة العملية للنفس في التحكم في اللسان. وقوله: بحصاة يضعها في فيه، يعني كان يأتي بحصى ويضعها تحت لسانه لا ينزعها إلا عند طعام أو شراب أو نوم.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: والذي لا إله غيره، ما على ظهر الأرض من شيء أحوج إلى طول سجن من لسان.
ولذلك مد الله سبحانه وتعالى اللسان بكثير من الحواجز، وجعل لنا أذنين ولساناً واحداً، حتى نسمع أكثر مما نتكلم، ولهذا تجد الأذنين ليس عليهما غطاء، وتجد العين عليها غطاء من أجل رد البصر، وهكذا اللسان جعل الله له باباً من عظم وباباً من لحم، حتى لا يتساهل الإنسان في الكلام.
وقال الليث بن سعد وغيره: كتب رجل إلى ابن عمر أن اكتب إلي بالعلم كله، فكتب إليه: إن العلم كثير، ولكن إن استطعت أن تلقى الله خفيف الظهر من دماء الناس، خميص البطن من أموالهم، كاف اللسان عن أعراضهم، لازماً لأمر جماعتهم فافعل.
وعن الحسن قال: ابن آدم! وكل بك ملكان كريمان: ريقك مدادهما، ولسانك قلمهما. يعني: أنه وكل بك ملكان كريمان يكتبان عليك الأعمال، والمداد الذي يكتبان به هو الريق، والقلم هو اللسان.
وعن شفي بن نافع الأصبحي قال: من كثر كلامه كثرت خطيئته.
وكان المدرسون في موضوعات التعبير سواء العربي أو الإنجليزي يقولون لنا: كلما تتكلم كثيراً كلما كانت احتمالات الغلط أكثر، فتكون عليك، فالإنسان عليه أن يتكلم بما قل ودل، فكلما تكلم أكثر كلما كانت احتمالات الخطأ أكثر.
وقال سفيان الثوري: لأن أرمي رجلاً بسهم أحب إلي من أن أرميه بلساني. أي: لأن رمي اللسان لا يخطئ، لكن السهم قد يخطئ.
وعن يعلى بن عبيد قال: قال سفيان : لو كان معكم من يرفع حديثكم إلى السلطان أكنتم تتكلمون بشيء؟ قلنا: لا، قال: فإن معكم الملائكة ترفع الحديث إلى الله سبحانه وتعالى.
وقال أبو علي الدقاق : لو كنتم تشترون الكاغد للحفظة -أي: الورق- لسكتم عن كثير من الكلام.
يعني: لو كان الله سبحانه وتعالى كلفكم بأن تشتروا الورق للكرام الكاتبين ليسجلوا فيها أعمالكم لسكتم عن كثير من الكلام، ولذلك كانت عائشة رضي الله عنها تبعث إلى أخواتها بعد صلاة العشاء تقول لهن: ألا ترحن الكتَّاب؟
ولا مانع أننا نحاول أن نطبق هذا الكلام كنوع من التأديب العملي حتى نعطي الأمور حجمها الحقيقي، فالأمر خطير جداً؛ فتخيل أنك تحاسب لسانك على كل كلمة قلتها كان ينبغي ألا تقولها، وكلما زللت وضعت طوبة في الغرفة، وبقيت هكذا لمدة أسبوع أو أيام قليلة، فستجد أننا نتساهل في أمر هو في غاية الخطورة.
وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان)، يعني: تذل وتخضع، ومنه التكفير في الصلاة، والتكفير: هو وضع اليدين على الصدر عند النحر؛ لأنها علامة التذلل، فمن أراد أن يتذلل غاية التذلل فليعمل هكذا، فكل الأعضاء كما يقول الصادق المصدوق في كل صباح تخضع وتتذلل للسان كأنها تتحايل على اللسان: (وتقول: اتق الله فينا فإنما نحن بك؛ فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا) ولذلك يستدل على استقامة الرجل باستقامة لسانه، فانظر إلى لسانه؛ فإذا كان يتحكم في لسانه فمعناه أن كل أحواله جيدة، وكل أحواله مستقيمة غالباً.
وعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس شيء من الجسد إلا يشكو ذرب اللسان على حدته) يعني: حدة اللسان.
يعني: أن كل أحواله تكون مستقيمة، فيكون محافظاً على الصلاة، ذاكراً لله عز وجل، محافظاً على العبادات، وعلى الطاعات والواجبات، وعلى الاستقامة في كل أحواله.
وعن يحيى بن أبي كثير رحمه الله تعالى قال: خصلتان إذا رأيتهما في الرجل فاعلم أن ما وراءهما خير منهما: إذا كان حابساً للسانه، يحافظ على صلاته.
يعني: إنسان تجد فيه هاتين العلامتين فاعرف أن ما خفي عليك منه أفضل مما ظهر.
وعن الأوزاعي عن يحيى رحمه الله قال: أثنى رجل على رجل، فقال له بعض السلف: وما علمك به؟ قال: رأيته يتحفظ في منطقه. يعني: يتحكم في اللسان، فكان هذا هو العمدة في أنه أثنى عليه ثناءً عاماً طيباً.
فمن حافظ على لسانه فهو لما سواه أحفظ، كما قيل في الصلاة.
وعن جرير بن حازم قال: ذكر ابن سيرين رجلاً فقال: ذاك الرجل الأسود -يريد أن يعرفه بصفة يمتاز بها- ثم قال: أستغفر الله؛ ما أراني إلا قد اغتبته.
فما دام الإنسان يستطيع أن يميز الشخص بصفة أخرى غير الصفة التي تؤذيه فعليه أن يلجأ إليها، ولا يلجأ إلى الصفة التي فيها نقص أو إساءة أو عيب فيه، إلا إذا لم يجد غيرها وكان لابد من ذكرها.
وعن ثابت البناني رحمه الله تعالى قال: قال شداد بن أوس رضي الله عنه لغلامه: ائتنا بسفرتنا فنعبث ببعض ما فيها، -يعني: نأكل ما فيها- فقال له رجل من أصحابه: ما سمعت منك كلمة منذ صاحبتك أرى أن يكون فيها شيء غيره هذه، قال: صدقت؛ ما تكلمت بكلمة مذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أحكمها وأفطنها إلا هذه، وايم الله لا تذهب مني هكذا، فجعل يسبح ويكبر ويحمد الله عز وجل! يعني: مقابل أنه قال هذه الكلمة أراد أن يجبرها ويكفرها بذكر الله عز وجل.
وعن حسان بن عطية قال: كان شداد بن أوس في سفر، فنزل منزلاً، فقال لغلامه: ائتنا بالسفرة نعبث بها، فأنكرت عليه فقال: ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أختمها وأحكمها إلا كلمتي هذه، فلا تحفظوها عليَّ.
وعن محمد بن سيرين رحمه الله تعالى قال: قال فلان -وسمى رجلاً-: ما رأيت رجلاً من الناس إلا لابد أن يتكلم ببعض ما لا يريد غير عاصم بن عمر .
وعن أبي عبيد قال: ما رأيت رجلاً قط أشد تحفظاً في منطقه من عمر بن عبد العزيز .
وكان الربيع بن خيثم إذا أصبح وضع دواة وقرطاساً وقلماً، فكل ما تكلم به كتبه، ثم يحاسب نفسه عند المساء. يعني: أن كل الكلام الذي يتكلم به يسجله، ثم يأتي في المساء فيحاسب نفسه على ما قاله.
وعن إبراهيم التيمي قال: أخبرني من صحب الربيع بن خثيم عشرين سنة فلم يتكلم بكلام لا يصعد، أي: أن كل كلامه في حق؛ بحيث يصعد إلى الله، كما قال تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:10].
وقال خارجة بن مصعب : صحبت ابن عون ثنتي عشرة سنة، فما رأيته تكلم بكلمة كتبها عليه الكرام الكاتبون.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر