إسلام ويب

مقدمات في العلوم الشرعية [47]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من المزالق التي وقع فيها المتصوفة أنهم عندما رأو طول طريق الحق بحثوا عما هو أيسر من ذلك وأقصر طريق لرياضة النفوس، فترجموا بعض علوم الهنود كاليوجا واليازجا وغيرها، واشتغل كثير منهم بالسيمياء والكيمياء وأسرار الحروف، وخلطة الجن والتنجيم والكهانة؛ ليظهروا مخارق وخوارق العادات. ومن مزالقهم أنهم يرون أن النبي صلى الله عليه وسلم هو مفتاح الكون كله فمنه يستمد كل التصرف وكل خير في الأرض. ومن مزالقهم ما يروجونه بوضع أحاديث وأسانيد باطلة واهية لا أساس لها مثل الخرقة، والأوراد فكل شيخ يستحسن ورداً وطريقة ومع ذلك ينسبه بالسلسلة والإسناد إلى أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهي أسانيد باطلة كلها.

    1.   

    تابع مزالق المتصوفة وبيان ضلالتهم

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فلا زلنا عند ذكر بعض المزالق التي يقع فيها المتصوفة، فنذكر هنا أن من المزالق العظيمة أن كثيراً منهم استعجلوا في الطريق فرأوا أن هذه العبادة والتمسك بالسنة والسير على طريق الحق ربما يحتاج إلى وقت طويل وجهد وعناء؛ فبحثوا عما هو أيسر من ذلك وأقصر طريقاً لرياضة النفوس فترجموا بعض علوم الهنود كاليوجا واليازجا وغيرها، واشتغل كثير منهم بالسيمياء والكيمياء وأسرار الحروف، وخلطة الجن والتنجيم والكهانة؛ ليظهروا مخارق وخوارق العادات، ويخبروا بمغيبات عن طريق الجن أو التنجيم أو الكهانة أو العرافة أو غير ذلك مباشرة دون أن يجهدوا أنفسهم في العناء في العبادة والمجاهدة، وقد كثر ذلك منهم؛ ففي الأزمنة المتأخرة يندر أن ترى شيخاً من شيوخ التصوف ليس لديه شيء من السحر أو من الدجل والكهانة، أو على الأقل من أسرار الحروف وعلم السيمياء والطلسمات، هذا لا يمكن أن يوجد لدى متأخرة المتصوفة من وصل إلى مقام الشيخ وليس لديه شيء من هذه العلوم.

    ولذلك انتقد عليهم كثير من المشايخ في هذه الوجهة فيقول الشيخ بابا ابن الشيخ سيدي رحمه الله:

    آكل مال الناس بالباطل مزخرف القول بلا طائل

    وميلهم عن سنة المصطفى إلى سبيل البدعة المائل

    محصل المال بلا فترة في جمعه المانع للحاصل

    عجلان في حظ له عاجل كسلان في منفعة الآجل

    هذا هو المعروف في دهرنا بين الورى بالعارف الكامل

    يزهو إلى زخرفه عاقل كأنه من ليس بالعاقل

    ووقعة العالم في فخه شبيهة بوقعة الجاهل

    اتسع الخرق على راقع واختلط الحابل بالنابل

    هذا وبالتوحيد عنوانه إسناده الفعل إلى الفاعل

    ويقول أيضاً، وهو النشيد الوطني لموريتانيا:

    كن للإله ناصراً وأنكر المناكرا

    وكن مع الحق الذي يرضاه منك دائراً

    ولا تعد نافعاً سواءه أو ضائراً

    واسلك سبيل المصطفى ومت عليه سائراً

    فما كفى أولنا أليس يكفي الآخر

    وكن لقوم أحدثوا في أمره مهاجراً

    وزعموا مزاعماً وسودوا دفاتراً

    واحتنكوا أهل الفلا واحتنكوا الحواضر

    وإن دعا مجادل في أمرهم إلى مرا

    فلا تمار فيهم إلا مراءً ظاهراً

    وكذلك يقول:

    آمن أخي واستقم ونهج أحمد التزم

    واجتنب الطرق لا تغررك أضغاث الحلم

    لا خير في دين لدى خير القرون قد عدم

    حدثه من لم يجئ قطع بأنه عصم

    من بعد ما قد أنزلت اليوم أكملت لكم

    وبعد ما صح لدى جمع على غدير خم

    وادع إلى سبيله وخص في الناس وعم

    وقل إذا ما أعرضوا عليكم أنفسكم

    ويقول جدي محمد مولود رحمه الله:

    فعد وسل الهم عنها فإنما حمى السنة البيضاء همي ومقصدي

    تفسخ منها أهلها وتواكلوا رعايتها فاغتالها كل معتد

    تسمى لنا باسم الولي جهالة وإن تتفقد وصفه فيه تفقد

    غوي مبين يأتلي لعلى هدىً أما والهدايا إنه غير مهتد

    وأي ولي كان أطيب كسبه رشا نزوات بين آمٍ وأعبد

    يروح ويغدو في المحارم دائباً دءوب مغذ في الغواية مسئد

    يدور به ما يشتهي من نواعم ميامس وقح بين عون ونهد

    تمتع قليلاً ويك إنك مجرم فما لك من لذواء لدى المضجع الردي

    أفسقاً بواحاً وادعاء ولاية ألست ترى أن قد أتيت بمؤيد

    ألم يعلموا أن الولي هو الذي تولاه مولاه بنصر مؤيد

    فقام بأمر الله يحمي ويحتمي ويهدي إلى قصد السبيل ويهتدي

    ولم يتخذ لهواً مدى الدهر دينه ولا لعباً بل عارف الحق من دد

    فباطنه سر مصون عن الورى وظاهره نور مبين لمقتد

    ولا كالأولى يغنيك إن جئت لحظهم عن اللفظ فانظر واصدق القصد تسعد

    وهم أصفياء الله من أصفيائه وهم جلساء الله في كل مقعد

    ألا وا أمير المؤمنين لأمة على أمة ليست بأمة أحمد

    هم وضعوا فيها أحاديث لم ترد عن الرسل إلا عن سجاح وأسود

    فليس ابن مسعود لهم بمساعد عليها ولا سهل بن سعد بمسعد

    وقد فرق الفاروق في الدين فرقه فأية دعوى يدعي الجاهل الردي

    فأغووا بها غوغاء تحسب غيهم من الرشد ما إن تعرف الأمس من غد

    خداعاً لهم عن مالهم فتفوقوا بها ما لديهم من طريف ومتلد

    وأيدهم من ليس يخشى من الذي بناها بأيد فوقه بطش أيد

    يريد وأنى للدني مرامه ليغلب دين اللات دين محمد

    أماني عند الزاهرات تسوقهم إلى الحتف فاردي شيعة الغي وابعدي

    وتبدي إليهم بالمودة فرقة رجاء لنصر منهم لم يؤيد

    وأدهن أهل الرشد أو غاب عنهم هداهم فهم في حيرة وتردد

    فذو الرشد يهديهم إليه كمبصر مع العمي أو مستيقظ بين هجد

    فلم تر منهم زاجراً عن غواية ولا مكفهر الوجه في وجه ملحد

    دعوت وغربت الدعاء لو أنني دعوت سميعاً أو مصيخاً لمرشد

    وأنذرتكم صماء إن لم تصبكم تحل قريباً منكم وكأن قد

    وقد كنت والمستغفر الله مدهناً فقدني من الإدهان في غيهم قد

    هم الرجس فاحذرهم مقالة معرب فصوب بها ما شئت عني وصعد

    وهبكم مجيريهم وبالعز جاره عزيز عزيزاً جاركم لم يصرد

    أترضون أن يلقى أخ الغي ضارباً لديكم بأعطان الخنا لم يقرد

    وما حقه إلا نكالاً ومن يزغ عن الرشد من أوزاغكم لا يفند

    وأن تجزروا المفتون عن هفواته ويطرد من باحاتكم كل مطرد

    فلو أدركوا خير الورى لأبادهم بضرب طلفح أو بطعن مشرد

    ولو أدركوا أصحابه لتجللوا سلاسل حدبار من الشر أنكد

    وأقسم براً ايمناً لو تنالهم يدي لأقرت عين أعدائهم يدي

    فمعذرة مني إلى الله إذ يرى هواني وعند الله غيبي ومشهدي

    وإني وربي ناصري إن نصرته على كل من يبغي علي ويعتدي

    لآوي إلى ركن شديد وإصرة فلا تحسبن الله مخلف موعد

    هذا لـمحمد بن عبد الودود بن أحمد بن عبد الله الحاج، الجد الرابع لي.

    وقد أنكر عليه كثير من معاصريه، بل رأى أحدهم إباحة دمه، وأفتى بذلك فرد عليهم بقصيدة مشهورة يقول فيها:

    نح عن مدرج الشباب المشيب وتجنب بها الصباء والنسيب

    وتعلم أن الصبابة والقهوة واللهو والغزال الربيب

    سبل سددت عليك إذا ما رحت من بردة الشباب سليباً

    يا عذيري من العذاراى دعتني عنها قد سمعت شيئاً عجيباً

    بل عذيري أمام من خصم سوء لا يراني إذا أصبت مصيباً

    عاب من غيه وأنكر أنا أنكرت مستنكراً وعبت معيباً

    خالني خلت مثله الخزز الضيغم ذا المحك والزئير الضغيب

    وأحاجيك والأريب يحاجى وعسى إن سئلت أن لا تجيب

    أي دين به بريت لنحري أسهم الطعن مشهداً ومغيباً

    إن تهيبتهم ترى ذاك حزناً فليكن حزم أن أكون مهيباً

    أو جهلت الصواب فاسأل حكيماً لب من لا يزال يقف لبيبا

    أو تفرست فالفراسات منها لو تأملت ما يكون كذوبا

    عبدت أمة بها الشمس والأوثان أخرى بها وأخرى الصليب

    كلهم إذ تفرسوا لم يصيبوا وتفرست تخشى أن لا تصيب

    فاحترس أن تصاب مني بداء لو تريه الطبيب أعيا الطبيب

    لا ترى للذي أروح وأغدوا فيه من محمل الصواب نصيب

    ورأيت الذين يسعون في الأرض فساداً يخادعون الرقيب

    كل طرد به عليهم تجلى ذو الجلال ادعوا به التقريب

    فرأوا قبحه جمالاً وشموا نتنة والعياذ بالله طيبا

    فتأولت واحترست وكنت الحازم الجند والأديب الأريب

    طلب الحق غربة لا أراني إن طلبت الصواب إلا غريب

    كذلك من مزالقهم الخطيرة أنهم يرون أن النبي صلى الله عليه وسلم هو مفتاح الكون كله فمنه يستمد كل التصرف وكل خير في الأرض، وهذا على نظير ما كان لدى المجوس الأقدمين فكانوا يرون من عهد ماني أن العالم ينقسم إلى مرجعيتين إحداهما مرجعية الخير ويسمون إله الخير بالنور، والأخرى مرجعية الشر ويسمون إله الشر بالظلمة، وقد قال أبي الطيب المتنبي:

    وكم لظلام الليل عندي من يد تخبر أن المانوية تكذب

    فهم يزعمون هذا في النبي صلى الله عليه وسلم ويغلون في شخصه، ويكثر شعراءهم من الغلو فيه الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أشهر القصائد التي فيها بعض الغلو قصيدة البوصيري الميمية، فـالبوصيري من أكابر الشعراء النوادر في العالم الإسلامي، وهو مبدع جداً من الناحية الشعرية، وأيضاً مستواه اللغوي والعلمي حتى في علوم الشريعة مستوىً راق ولكنه مع ذلك أصيب بهذه اللوثة فحصل منه بعض الغلو في بعض الجوانب، وقد اشتهرت قصيدته هذه الميمية، التي تسمى بالبردة، فغيرت من مسار المدائح النبوية، فقد كان الناس في كل عصر يمدحون رسول الله صلى الله عليه وسلم، الصحابة والتابعون وأتباعهم، كل عصر اشتهر فيه عدد من الشعراء الذين يثنون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الشريعة الإسلامية، لكن لما جاء البوصيري أخذت المدائح منحىً آخر كان فيها كثير من الغلو، وتتفاوت قصائده هو في هذا الغلو لكنه اشتهر هو به، وتبعه عليه أبو مدين الجزائري الذي يشتهر عند الصوفية بـأبي مدين الغوث، والبرعي اليمني الذي اشتهر بذلك أيضاً، ومن أشهر قصائد أبي مدين الغوث في هذا المجال قصيدته التي يقول فيها:

    لا أرسل الرحمن أو يرسل من رحمة تصعد أو تنزل

    في ملكوت الله أو ملكه من كل ما يختص أو يشمل

    إلا وطه المصطفى عبده نبيه مختاره المرسل

    واسطة فيها وأصل لها يعلم هذا كل من يعقل

    ونظير هذا كثير في أشعارهم وأقوالهم؛ فهذا من مزالقهم العظيمة.

    وعموماً فإن الناس بعد أن حصل هذا الغلو في جانب، وأيضاً الخير الكثير في الجانب الآخر بقيت المواقف من التصوف ذات تجاذب؛ فمن رافض له مطلقاً أدى به رفضه إلى تعطيل جانب من جوانب الدين لا غنى للمسلم عنه، وهو جانب التزكية ومجاهدة النفس ومصابرتها على الحق؛ ولذلك فأصحاب هذه المنهج دائماً أهل قسوة وغلظة، وفي المقابل أيضاً الذي يريد أخذ التصوف بحذافيره بكل ما فيه من الصدق والكذب والحق والباطل سينزلق في هذه المتاهات العقدية العظيمة التي ذكرناها، وكلها باطلة فلابد من التوسط إذاً بين الجانبين، بأن يعرف أن هذا العلم الكبير الضخم والتراث العظيم فيه ما هو صواب وفيه ما هو خطأ ولابد من تنقية، وتصفية، فما كان موافقاً للشرع مقبولاً فيه فهو منه، وما كان مخالفاً له فهو مردود على صاحبه؛ ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ).

    كذلك من مزالقهم التي هي دون ما سبق ما يتعلق بالبدع العملية، وهي غير البدع العقدية، وهذه أقسام؛ فمنها ما يروجونه بوضع أحاديث وأسانيد باطلة واهية لا أساس لها مثل الخرقة، التي يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم ألبسها علياً وأن علياً ألبسها الحسن البصري والواقع أن الحسن البصري ما روى بالاتصال عن علي أي شيء، ثم لا يزال مشايخهم يتناقلونها فيما بينهم بالإسناد.

    ومنها كذلك الطرق نفسها والأوراد فكل شيخ يستحسن ورداً وطريقة ومع ذلك ينسبه بالسلسلة والإسناد إلى أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهي أسانيد باطلة كلها، وإن كانت هذه الأذكار في أصلها في جمهورها وأغلبها كانت مقبولة شرعاً، فالورد القادري والورد الشاذلي، حتى الورد التيجاني وغيرها من الأوراد أغلبها أذكار مقبولة شرعاً، ليس فيها ما لا يفهم، مثلاً الورد الشاذلي هو أن يبدأ الإنسان فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا [نوح:10]، ثلاثاً ثم يقول: لبيك اللهم وسعديك ثلاثاً، ثم يقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله إلى يأتي بمائة، ثم يقول: إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56] ثلاثاً، ثم يقول: لبيك اللهم، وسعديك ثلاثاً، ثم يقول: اللهم صل على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مائة، ثم يقول بعد ذلك: اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب:41] ثلاثاً، ثم يقول: لبيك اللهم وسعديك ثلاثاً، ثم يقول: لا إله إلا الله حتى يكمل مائة فيقول: سيدنا محمد رسول الله إلى أن يكمل الألف، هذه هو أصل الورد الشاذلي، وقد زاده كثير من المشايخ بتحسينات وإضافات مثل لا إله إلا الله الملك الحق المبين مائة، (سبحان الله وبحمده) مائة، (يا باقي) مائة، (يا لطيف) مائة وتسعة وعشرين، على حساب جمل كلمة (لطيف) وهكذا.

    وهذه الأوراد يزيدها بعض المشايخ مما شاء مثل قراءة بعض السور من القرآن، عدد من الركعات كذلك، وكثيراً ما تؤتى تعتمد على أحاديث موضوعة، أو واهية ضعيفة جداً، ومع ذلك فهذا الجانب أقل ضرراً من سابقه، وإن كان فيه بدعة، لكنها بدعة إضافية في أغلبها، لا تصل إلى حد البدعة الحقيقية.

    1.   

    مصطلحات التصوف

    أما مصطلحات التصوف فحدث ولا حرج فهي كثيرة جداً، وتختلف باختلاف العصور والأزمنة، وقد وصلت مستوىً من الكثرة أدت إلى التعارض في تفسير كل مصطلح منها فيندر الاتفاق على شرح مصطلح واحد؛ ولذلك فمن أهم ما يرجع إليه في تفسير أصول مصطلحات القوم الرسالة للقشيري، فقد قسمها إلى قسمين: القسم الأول لمصطلحات القوم، والقسم الثاني لتراجم سادة القوم، وكذلك شرح شيخ الإسلام ابن تيمية بعض المصطلحات التي يكثر دورانها بينهم، وابن القيم كذلك شرح عدداً منها، أما المتأخرون فقد كثرت شروحهم لها كثيراً، كالشيخ زروق في كتابه (عدة المريد) شرح كثيراً من مصطلحات التصوف، وكذلك في القواعد قواعد التصوف.

    وعموماً فالمصطلحات تتبعها مشكل؛ لأنها قد تكون شخصية لدى بعض المؤلفين مثل مصطلحات الغزالي ثم بعدها مصطلحات الهروي، ثم مصطلحات القشيري، ثم مصطلحات آخرين، وفي كل طريقة بعض المصطلحات المتخصصة، وتكثر تلك المصطلحات جداً وتتضارب، وأغلبها لا إشكال فيه؛ لأنه من باب الاصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاح، لكن بعضها قد يكون غير مقبول شرعاً، المصطلح نفسه غير مقبول شرعاً، أو على الأقل موهم لما ليس مقبولاً شرعاً، مثل ما ذكرنا في وحدة الشهود، أو مقام المشاهدة، هذه يوهم أن المقصود به مشاهدة العيان، وهذا لا شك مردود شرعاً، ونحو هذا.

    1.   

    الأسئلة

    الفرق بين مصطلح الوجد والتواجد

    السؤال: السؤال الآن عن مصطلح الوجد ومصطلح التواجد، الفرق بينهما؟

    الجواب: أما مصطلح الوجد فهو مصطلح يحاذي الذوق، فالذوق هو ما يمكن أن يصل إليه الإنسان من الفهم، وما يجري على لسانه من الحكمة، وإدراكه لأسرار الشريعة ومعانيها، ومثله الوجد: ما يجده الإنسان في نفسه من تجربته الخاصة، ومن أحاسيسه فيما يتعلق بحال التقريب، وحال الأنس بالله، أما التواجد فالمقصود به الطرب الذي يعتري الإنسان من أجل سماعه لشيء يذكره بأمر ما، مثل ما يزعمونه فيما يحصل لكثير منهم عندما يسمع إنشاداً فيهيجه ذلك النشيد فيتذكر هو عبادة أو محبة لله أو حالاً جرى عليه بسماعه لذلك النشيد، مثل الأبيات المشهورة:

    رب ورقى هتوف في الدجى حركت غصناً فهاجت شجني

    فبكائي ربما أرقها وبكاها ربما أرقني

    ولقد تبكي فما أسمعها ولقد أشكو فما تسمعني

    غير أني بالهوى أعرفها وهي أيضاً بالهوى تعرفني

    ومثل قول الآخر:

    ولم أنس ذاك الوصل والقوم هجع ونحن ضيوف والقِرى متنوع

    وعشاق ليلى بين باك وصارخ وآخر مشغول بوصل ممتع

    وآخر قرت نفسه فميزت معارفه فيما يروم ويدفع

    وآخر بذكر الإله متيم تزعزعه الأمواج طوراً وترفع

    .. إلى آخره، كثير جداً في المواجيد في أشعارهم، وابن القيم رحمه الله يورد منها كثيراً وغيره أيضاً، وبالأخص أن أهل التصوف يكثر في أشعارهم ذكر ليلى، وعندما سئل أحدهم فقيل: أليلى هذه التي تذكرونها هي الليلى التي يذكرها قيس بن الملوح؟ قال: كل وليلاه! فاشتهرت مثلاً، فليلى عندهم حالة النشوة بسبب إحساس الإنسان بالعبادة، والتقريب.. إلى آخره.

    مقامات العبادة ودوافعها

    السؤال: فهذا السؤال يتعلق بمقامات العبادة ودوافعها؟

    الجواب: فمن المعلوم من النصوص الشرعية أن الله سبحانه وتعالى أمر عباده بعبادته، وبين أن العابدين له والداعين له يفعلون ذلك خوفاً ورجاءً ومحبة؛ كما قال تعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90]، وكما قال تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16]، فهذا لا إشكال فيه.

    انفصال دوافع العبادة الخوف والرجاء والحب

    السؤال: لكن هل يمكن أن الانفصال بين هذه الأمور الثلاثة، الدوافع الثلاثة للعبادة، دافع الخوف ودافع الرجاء ودافع المحبة؟

    الجواب: أن الإنسان إذا وصل إلى مقام التزكية لا تنفصل عنده هذه الجوانب الثلاثة، أما قبل الوصول إلى مقام التزكية، فيمكن أن تنفصل ودليل ذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث نعيمان قال: ( لا تفعل فإنه يحب الله ورسوله )، ويحب الله ورسوله يشرب الخمر، ويكثر شرب الخمر..

    ونعيمان، رجل من الأنصار كان يشرب الخمر فيؤتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجلده، فقال رجل: ( لعنه الله لطالما أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجلده في الخمر، فقال: لا تفعل فإنه يحب الله ورسوله )، فأثبت له المحبة مع الفجور والفسق، فإذاً يمكن أن تقع المحبة بدون البقية، بدون مقام الخوف أو مقام الرجاء، كذلك يمكن أن يترسخ الخوف دون الوصول إلى المحبة التي تقتضي استكانة وأدباً، فيمكن أن يعبد الإنسان الله، يعبد الله لكن بتدلل وجفوة في تلك العبادة؛ كحال كثير من أصحاب قسوة القلوب يؤدون الصلوات، يؤدون الزكوات، يتصدقون ويجاهدون لكن مع القسوة دون أدب في المعاملة؛ لذلك لابد من الجمع بين هذه المقامات كلها، وما يذكره بعض المتصوفة من المراتب كقولهم: إن العبادة من أجل الخوف فقط هي عبادة العبيد؛ لأن العبد..

    لا تشتري العبد إلا والعصا معه إن العبيد لأرجاس مناكيد

    وعبادة الإنسان من أجل الطمع فقط هي عبادة التجار، وعبادة الإنسان من أجل المحبة بمعنى الانتساب لله سبحانه وتعالى هذه طبعاً لا توجد إلا مع مخرجين: مع الخوف والرجاء، هذه في أعلى المقامات، لا يقصدون به الانفصال المطلق بينها، وهذا الذي أشار إليه ابن فكري رحمه الله بقوله:

    عبادة المرء لنيله الثواب نازلة كذا لخوفه العقاب

    وطلب النسبة ذاك أولى ولجلال الله ذاك أعلى

    فهنا لا يقصد انفصال المحبة عن الخوف والرجاء بل المقصود فعلاً أن يحب الإنسان ربه؛ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ [البقرة:165]، ويكون مع ذلك على خوف منه وطمع فيه في نفس الوقت، ولا ينفصل ذلك لديه أصلاً، لا ينفصل الخوف والرجاء عن المحبة والأدب، هذا الذي لابد منه، لابد أن يعود الإنسان نفسه عليه حتى يتعرض لنفحات لله.

    بالنسبة للتصفية داخل التصوف ظهر منها نماذج كثيرة من المربين الذين ينكرون بعض مزالق التصوف، وينكرون على بعض المتصوفة بعض أخطائهم ويأتون بالبديل الصحيح الشرعي، ومن مشاهر هؤلاء الشيخ زروق رحمه الله، فقد أنكر حتى على بعض مشايخه وذكر أن كتاب "الإحياء" فيه علم كثير ولا يستغني عنه طالب علم مع أنه حذر من مواقع منه.

    وكذلك عدد من الذين كانوا على هذا المستوى من علماء الدين؛ فإنهم كانوا لا يخرجون أنفسهم من دائرة التصوف، يعتبرون أنفسهم من شيوخ التصوف، لكنهم يردون المردود منه المذموم، ويبقون على الصواب منه، وهم كثر جداً في كل العصور..

    مداخلة: يا شيخ!

    الشيخ: نعم؟

    مداخلة: من مشاهيرهم؟

    الشيخ: مشاهيرهم كما ذكرنا الشيخ أحمد زروق، والشيخ عبد السلام ابن مشيش، والشيخ سهل بن عبد الله التستري، وكذلك في يمكن أن يعد منهم أيضاً ابن القيم، وعدد من الذين نقوا الطريقة، وحتى في المتأخرين كثير، في المتأخرين كثير من الذي سلكوا هذا الطريق، طريق التنقية، عدم أخذ التصوف بحذافيره.. أقصد من المتأخرين حتى من المعاصرين، والذين في القرن الذين قبلنا كثير جداً، ومن مشاهريهم المحب الطبري المكي، وتلامذته مثل ابن حجر الهيتمي، وأتباعه مثل السقاف اليمني، وغيرهم..

    وهناك علاقة -لا شك- وتشابه بين مشايخ التصوف ومشايخ الشيعة، لكن أنا لا أدري أي الطائفتين تأثرت بالأخرى، وأظن أن القضية متبادلة، تأثر بعضهم ببعض، أما بالنسبة لتأثرهم بالنصارى وأهل الكتاب فإن ذلك قديم، وقد ذكرنا أن ذا النون المصري كان في الأصل نصرانياً ثم أسلم، وقد كان رجل دين في المسيحية، فبقي لديه بعض الأمور التي كان مقتنعاً بها في نصرانيته.

    دور المتصوفة في الحفاظ على الدين ونشره والجهاد

    السؤال: بالنسبة للتصوف.. دور المتصوفة في الحفاظ على الدين أو نشره، أو الجهاد في سبيل الله في مناطق مختلفة من العالم؟

    الجواب: أن لهم دوراً لا يخفى فقد كان كثير منهم سبباً في دخول كثير من الهنود في الإسلام، فكثير من الشعوب في الهند ما دخلوا الإسلام إلا عند الطرق الصوفية، وكذلك في إندونيسيا، وكذلك في كثير من البلدان الأفريقية، بل أكثر أفريقيا لم يعرفوا الإسلام إلا عن طريق الطرق الصوفية، وكذلك في بعض المناطق الأوروبية الآن، فلذلك لهم دور في هذا الباب، لكن في المقابل أيضاً نجد لآخرين دوراً في الاستعمار وتأييده، فكثير من المتصوفة كانوا من أنصار المستعمر وأعوانه، وقليل منهم الذين جاهدوا المستعمر، مثل الشيخ ماء العينين في منطقة المغرب العربي، مثل محمد علي السنوسي، مثل المهدي، ... هؤلاء الذين جاهدوا المستعمر قليل في مقابل الذين أيدوه وناصروه، كثير من الشيوخ حتى من شيوخ التصوف يرون أن الطرق التي أصبح التعصب على أساس المشايخ والانتماءات ومدارس مخصوصة؛ هي مخالفة للمنهج الصوفي بمعناه العام، فالصوفية في أصل انتمائها لم تكن طرقية في أيام الجنيد وتلامذته لم تكن لهم طرق، فلذلك يرفض كثير منهم هذا التطرف الموجود اليوم، ولذلك يقول أحدهم:

    لكنما طريقة التصوف دخلها نوع من التكلف

    ومن دعاوٍ كاذبات وبدع مخالفات للذي الله شرع

    وكثير منهم مع الأسف اليوم يقول: لا يمكن أن توجد طريقة اليوم تخلو من هذه البدع العقدية، فلذلك إذا أراد الإنسان أن يسلك هذا الطريق لا يمكن أن يدخل من باب الطرق الموجودة جميعاً، بل إذا أراد هذه التربية يمكن أن يستفيد من كتب السابقين منهم، ويحذر مواطن الزلات منهم، ويأخذ هو كتاباً يجعله منهجاً لنفسه، ولذلك قد أثنينا من قبل على عمل الشيخ عبد المنعم العلي في تهذيب مدارج السالكين، ومثل ذلك اختصار منهاج القاصدين، ونحو هذا من الكتب التي فيها تنقية وتخلية عن كثير مما أتوا به، ولا يستغنى عن المطالعة في مثل هذه الكتب، فكثير من المربين الإسلاميين اليوم يجدون الراحة وزيادة السكينة والطمأنينة بدراسة بعض كتب السابقين مثل رسالة القشيري، مثل عوالف في المعارف، ومثل رسائل ابن رجب التي فيها هذا المنحى، هي كثيرة جداً، وكتب ابن الجوزي وكتب ابن القيم .

    أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756537898